لكاتبنا الكبير عبدالفتاح كيليطو اهتمام كبير بالترجمة واعتباراتها الثقافية والحضارية، من وإلى العربية، بالأمس واليوم. وفي إحدى صفحات كتابته ذات الصلة بما تقدم، ومن باب الملاحظة الموجَّهة إلى هذا الجانب، يقول ( من يستطيع اليوم أن يقرأ شاعراً أو روائياً عربياً دون أن يقيم علاقة بينه وبين أنداده الأوروبيين ؟ لقد أبدعنا، نحن العرب، طريقة خاصة من القراءة: نقرأ نصاً عربياً وفي ذهننا احتمال نقله أو تحويله إلى لغة أوروبية، في ذهننا نصوص من الأدب الفرنسي أو الانجليزي أو الإيطالي. إن ما تغيَّر جوهرياً عندنا في العصر الحديث هو أن عملية القراءة " والكتابة " مصحوبة حتماً بترجمة محتملة، بمحاولة نقل إلى آداب أخرى، وهو ما لم يكن يدور إطلاقاً بخلد القدماء الذين لم يكونوا يرون الترجمة إلى داخل الأدب العربي ) " 1 "
لقد أصاب الكاتب ثنائي اللغة والكتابة " كونه يكتب ويقرأ بالعربية والفرنسية "، مثل كوكبة معروفة من الكتاب المغاربة في هذا السياق، على طريق ما سمّاه الكاتب الكبير الراحل عبدالكبير الخطيبي " عشْق اللسانين "، فيما ذهب إليه، ولم يصب في تحديده تاريخياً وثقافياً، ولعل إنارة النقطة الثانية تعلِم بحقيقة الأولى.
قارىء كيليطو، في مختلف كتاباته، التي يسهل النظر فيها إجمالاً،على أنها كتبت بأسلوب المقالات، حتى في تلك المكتوبة أطاريحَ جامعية، كما في حال " المقامات : السرد والأنساق الثقافية "، من اليسير جداً هنا، قراءة عناوين هذا الكتاب، كما لو أنها كتِبت في أزمنة متباعدة، أو يكون لكل عنوانه حضور قائم بذاته، دون إخلال بمحتواه، إن اُستبقيَ بمفرده " 2 "، أو كتبت لتقرأ بوصفها عناوين موضوعات مستقلة عن بعضها بعضاً، وهذه من أولى الملاحظات الموجَّهة إليه، والتي تضيء صفحة قوله بالمقابل، وتقارب ساحته وطبيعتها الفكرية، أي إنه هو نفسه يعتمد أسلوب كتابة تحيله إلى الغرب الذي لا يخفي أسفه تألمه، جرّاء طريقة القراءة والكتابة بالعربية، وفي متخيل القارىء أو الكاتب الموسوم صورة الغرب المنمذجة .
هذا يحيلنا إلى ما اعترف به هو نفسه، أي ما كان لكيليطو أن يعرَف باسمه وموقعه، لولا هذا الغرب الذي عرِف فيه، ومن خلال لغته " الاستعمارية " لغة المتبوع وليس التابع كثيراً هنا، وأنه هو نفسه من أكَّد هذا النوع من الارتحال الضروري لنفسه، كي يكون له شأنه هناك، كآخرين وما أكثرهم من نظرائه من الكتاب: قبله ومعه، وبعده، سيستمرون هكذا، ما دامت الحالة الثقافية هي هكذا بالمقابل، وأن ارتباطه بالعربية وطريقة تعامله بها ومعها، ومن ثم قراءة أدبيات هذه اللغة يستحيل على أي قارىء إقامة علاقة معها، بغية تبيّن مؤثراتها الثقافية، وتناصياتها دون هذه الإحالة المرجعية مباشرة.
أما عن الاعتراف، فهو ما يتقدم باكورة أعماله " كمؤلفات بحثية "، وكما هو مؤرخ لها " الأدب والغرابة- 1982 "، في توضيحه لهذا الموقف من طريقة تناول الأدب وخلافه، والفعل المهمازي الذي نقله بزاوية كاملة من القراءة التقليدية لتراثه العربي- الإسلامي، أو العربي، كما يُسمّيه هو غالباً، إلى القراءة ذات الإمضاءة الحداثية الغربية، والفرنسية أساساً، لغته إلى العالم الخارجي، لا بل وإلى محيطه المجتمعي الثقافي الذي ينتمي إليه، وكما ورد في نهاية هذا التقديم ذي الدلالة للكتاب ( في ذلك الجو ومع مرور الأيام، تغيَّرت نظرتي إلى الأدب: لم أعد أقرأ كما كنت أفعل في السابق، وعندما تتغير الكتابة لا محالة. ولعل القارىء يلمس ذلك عندما يتصفح هذا الكتاب ) " 3 ".
أعتقد أن داخل كيليطو جرح تاريخي عميق لا يندمل، ولن يندمل، كما هو معايَن، في ضوء كتاباته مختلفة، وهو يستدعي كثيراً، أسماء كتاب من " شرقه " و" غربه " ويتحرك بينهما، سندباداً متوسطياً، دون المتوسط، لأن حكاياته هنا تستمد قوة حضورها، وميكانيزم الحركة الأسلوبية، وأفق الرؤية فيها، من هذا الآخر الذي لا يفارق متخيله: الغرب، الفرنسي.
ولعله في نطاق وطأة هذا النموذج، وانهمامه بموضوعات تنتمي إلى تاريخه الثقافي، ومن خلال كم لافت من الأسماء التي " استحدثها "، حيث لا الجاحظ، لا المعرّي، لا ابن حزم، لا الجرجاني، لا الهمذاني أو الحريري، لا ابن رشد، لا ابن عربي،لا ابن خلدون، ولا ابن بطوطة...الخ، بمقدورهم جميعاً، أن يطرحوا أنفسهم موضوعات إشكالية من الزاوية الثقافية التي اعتمدها الكاتب، على قارئه، لا بل وعليه نفسه، بصفته القارىء الأول، قبل أن يغدو الكاتب هنا، دون قراءة الآخر واستعارة الكثير من أدوات القراءة، واستشراف ما كان في ضوء ما هو كائن ثقافياً .
ما كان في مقدور كيليطو، أن يحقق مثل هذه المكانة " النجومية " دون أن " يسلخ " جلده القديم، كما يفيدنا بذلك تقديمه لكتابه المقالاتيّ المعمَّد بحضور الآخر ذي الجاذبية، وأن يؤكد نسَبه الثقافي، أن يكون كما هو اسمه، ليكون مقروءاً ومسموعاً كيليطو المغربي في لغة الفرنسي، والسندباد المغربي، حمّال حكايات ثقافية، ارتحالاتية، مغامراتية في الصميم، إن استحضرنا بعض صيَغه في الكتابة المقارناتية، وقد امتلاً بأكثر من معنى، بثقافة الآخر، ونهل منها، وحمل من مأثرتها الجمالية، الفنية، القيمية، رؤية العالم أبعد من حدود مغربه وثقافته الماضية، الكثير ، وهو يسردها طي كتابته، وقد أصبح ليس ناطقاً بالفرنسبة فحسب، وإنما كاتباً بها أيضاً: السندباد المتوسطي المعاصر، في مواجهة السندباد المغربي الذي يهتم بأمره، أو وهو يصغي إلى صوته الذي يريده له كيليطو، تعبيراً عن هذا التقويم الحضاري لثقافة الآخر.
مقصد القول، أن كيليطو، هو نفسه من خرق القول هذا، وهو في تأسفه لما يحدث تجاه الآخر، لحظة الكتابة باللغة " الأم "، وأي أم هي هذه، وثمة أم أخرى أكثر إدراراً للحليب " الثقافي " والقاعدي لتأكيد الذات وفراهة الحضور فيها.
إنه لم يطعّم ثقافته، أو يمارس هجنة ثقافية فيها، عبر رفْدها بمؤثرات ثقافية خارجية، وإنما أبصر في الخارج " الثقافي " ما يشبه الإكسير الحياتي، لمنح الثقافة التي ينتمي إليها، ويرمم جوانب اعتبارية مختلفة فيها، امتياز استمرارية، وتقبُّل من قبل الآخر نفسه، أي ما يجعل الفرنسي، كنموّج حي له، أن يصغي إليه، وأن يقرأه، معترفاً به، لأنه التلميذ النجيب في مدرسته، الضليع في لغته، والبارع في استعمال لغته الكتابية، والفالح في استثمار مناهج كتابته، في قراءة تاريخه ، ليكون كيليطو الآخر، بالنسبة إلى كيليطو الذي كان، وكيليطو خلاف ما كان، أو ما يُعرَف في وسطه الذي خرج منه .
إنه النقد الذي يوجَّه إليه، قبل أن يوجَّه إلى أي كان، لا بد أنه تخيل هؤلاء الذين يقرأون ويكتبون بالطريقة التي تصورها تابعية تماماً، واستغرابه المقدَّر من ذلك، وليس من استثناء في أي عمل له، مهما كانت محدوديته، مقالاً، أو قصة، أو رواية: من " الأدب والغرابة " إلى " العين والإبرة " عن " ألف ليلة وليلة " إلى قصة " منّانة" فـروايته" أنبئوني بالرؤيا "... ...الخ .
هذا يوسّع ساحة المكاشفة النقدية، ومقاربة الثغرة الأخرى الأكثر تصدعية في نصه، وفي واجهة رؤيته النقدية هذه، وأعني بذلك: العلاقة مع الآخر، الأبعد من كونه تكافؤية، وتلك بداهة، والتي يوضّحها التاريخ هنا وهناك. حيث نتذكر كيفية تبعية المغلوب للغالب في أمور شتى!
أما عن الثغرة الواسعة والجلية فهي في لاجدوى المقارنة بين ما كان وما هو كائن الآن، بمقدار ما يتطلب التعامل بالعكس، أي قلب العلاقة، بأكثر من معنى .
في الأنفة النفسية التي يستشعر بها كيليطو، كما يبدو في بنية كتابته، وهو يسمّي ما كان، من قبل رموز الكتابة العربية- الإسلامية " وأشدد على هذه الثنائية لدقتها أكثر "، واعتبارهم ينتمون إلى امبرطورية امتد نفوذها في قارات ثلاث، وهذه الحدود الإمبرطورية التي قامت بالقوة، قبل كل شيء، وفرضت نفسها تالياً، كانت مركزية، ثمة ما يموقع القول، إذ من الطبيعي ، أن يحيل كاتب الإمبراطورية ذاك، كل شيء إلى هذه المركزية " المتروبول " اللافت قوةَ حضور ، أن يكون هو المرجع، حتى في النهل من ثقافة الآخر: اليونانية، الهندية، والفارسية...الخ، يقيناً منه، أنه هو من يبعثها من " قبرها " أو يمنحها شرف انتشار وتداول من خلال لغته ، وكما هو الممكن تبينه في جملة الأدبيات العربية- الإسلامية على مدى قرون .
راهناً، كما هي حكمة التاريخ، ومفارقات الزمن المجسَّم والحي، ثمة انزياحات لمراكز القوى، لمفهوم الثقافة، ورؤية الآخر، حيث تصبح ثقافات سادت طويلاً، في عهدة أخرى، تتولى زمام المبادرة في قراءتها، والنبش في جسدها الآثاري، الحضاري، والثقافي...الخ، وتلك مفارقات كبرى في التاريخ، وبالتالاي، تنتفي صفة الغرابة، لحظة أخذ ما هو قائم في الحسبان، وهو أن القارىء العربي، أو الكاتب العربي، حين يقرأ أو يكتب، يفكّر في الترجمة المحتملة لدى الآخر، وفي ضوء ذلك، ربما يتصرف، أو يتصرف ولو بهبّة لاشعورية، اعترافاً منه، أنه لن يعترَف به في موطنه، إلا إذا قرىء بالأجنبية، لن يكون له شأن، إلا إذا أشير إليه بالأجنبية، في مسار واحد وليس العكس. ألمن يكن كاتبنا كيليطو، كما تقدَّم، متحركاً في هذا المضمار المرئي، وبمعايير أجنبية: فرنسية ؟ كيليطو الفرنسي أكثر من كونه كيليطو المغربي اعتباراً!؟
إشارات:
1-كيليطو، عبدالفتاح: الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، منشورات توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2018، ص131.
2-كيليطو، عبدالفتاح:الأعمال، الجزء الثالث، جذور السرد، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2015، المقامات...في البداية، كما في كل من هذه العناوين " السفر- المضحك- الترابط- الكذاب المحترف...الخ " وهي العناوين الفرعية والداخلية لهذا الكتاب .
3- كيليطو، عبدالفتاح:الأعمال، الجزء الثاني، الماضي حاضراً، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2015،ص8.
وفي ضوء المشار إليه، يخضع العنوان " الخطاطة " : الماضي حاضراً، للمساءلة: أي حضور، مثلاً، يكون لهذا الماضي، وأي ماض يكون في حضوره، في ضوء ما استهل به كيليطو كتابه ؟
لقد أصاب الكاتب ثنائي اللغة والكتابة " كونه يكتب ويقرأ بالعربية والفرنسية "، مثل كوكبة معروفة من الكتاب المغاربة في هذا السياق، على طريق ما سمّاه الكاتب الكبير الراحل عبدالكبير الخطيبي " عشْق اللسانين "، فيما ذهب إليه، ولم يصب في تحديده تاريخياً وثقافياً، ولعل إنارة النقطة الثانية تعلِم بحقيقة الأولى.
قارىء كيليطو، في مختلف كتاباته، التي يسهل النظر فيها إجمالاً،على أنها كتبت بأسلوب المقالات، حتى في تلك المكتوبة أطاريحَ جامعية، كما في حال " المقامات : السرد والأنساق الثقافية "، من اليسير جداً هنا، قراءة عناوين هذا الكتاب، كما لو أنها كتِبت في أزمنة متباعدة، أو يكون لكل عنوانه حضور قائم بذاته، دون إخلال بمحتواه، إن اُستبقيَ بمفرده " 2 "، أو كتبت لتقرأ بوصفها عناوين موضوعات مستقلة عن بعضها بعضاً، وهذه من أولى الملاحظات الموجَّهة إليه، والتي تضيء صفحة قوله بالمقابل، وتقارب ساحته وطبيعتها الفكرية، أي إنه هو نفسه يعتمد أسلوب كتابة تحيله إلى الغرب الذي لا يخفي أسفه تألمه، جرّاء طريقة القراءة والكتابة بالعربية، وفي متخيل القارىء أو الكاتب الموسوم صورة الغرب المنمذجة .
هذا يحيلنا إلى ما اعترف به هو نفسه، أي ما كان لكيليطو أن يعرَف باسمه وموقعه، لولا هذا الغرب الذي عرِف فيه، ومن خلال لغته " الاستعمارية " لغة المتبوع وليس التابع كثيراً هنا، وأنه هو نفسه من أكَّد هذا النوع من الارتحال الضروري لنفسه، كي يكون له شأنه هناك، كآخرين وما أكثرهم من نظرائه من الكتاب: قبله ومعه، وبعده، سيستمرون هكذا، ما دامت الحالة الثقافية هي هكذا بالمقابل، وأن ارتباطه بالعربية وطريقة تعامله بها ومعها، ومن ثم قراءة أدبيات هذه اللغة يستحيل على أي قارىء إقامة علاقة معها، بغية تبيّن مؤثراتها الثقافية، وتناصياتها دون هذه الإحالة المرجعية مباشرة.
أما عن الاعتراف، فهو ما يتقدم باكورة أعماله " كمؤلفات بحثية "، وكما هو مؤرخ لها " الأدب والغرابة- 1982 "، في توضيحه لهذا الموقف من طريقة تناول الأدب وخلافه، والفعل المهمازي الذي نقله بزاوية كاملة من القراءة التقليدية لتراثه العربي- الإسلامي، أو العربي، كما يُسمّيه هو غالباً، إلى القراءة ذات الإمضاءة الحداثية الغربية، والفرنسية أساساً، لغته إلى العالم الخارجي، لا بل وإلى محيطه المجتمعي الثقافي الذي ينتمي إليه، وكما ورد في نهاية هذا التقديم ذي الدلالة للكتاب ( في ذلك الجو ومع مرور الأيام، تغيَّرت نظرتي إلى الأدب: لم أعد أقرأ كما كنت أفعل في السابق، وعندما تتغير الكتابة لا محالة. ولعل القارىء يلمس ذلك عندما يتصفح هذا الكتاب ) " 3 ".
أعتقد أن داخل كيليطو جرح تاريخي عميق لا يندمل، ولن يندمل، كما هو معايَن، في ضوء كتاباته مختلفة، وهو يستدعي كثيراً، أسماء كتاب من " شرقه " و" غربه " ويتحرك بينهما، سندباداً متوسطياً، دون المتوسط، لأن حكاياته هنا تستمد قوة حضورها، وميكانيزم الحركة الأسلوبية، وأفق الرؤية فيها، من هذا الآخر الذي لا يفارق متخيله: الغرب، الفرنسي.
ولعله في نطاق وطأة هذا النموذج، وانهمامه بموضوعات تنتمي إلى تاريخه الثقافي، ومن خلال كم لافت من الأسماء التي " استحدثها "، حيث لا الجاحظ، لا المعرّي، لا ابن حزم، لا الجرجاني، لا الهمذاني أو الحريري، لا ابن رشد، لا ابن عربي،لا ابن خلدون، ولا ابن بطوطة...الخ، بمقدورهم جميعاً، أن يطرحوا أنفسهم موضوعات إشكالية من الزاوية الثقافية التي اعتمدها الكاتب، على قارئه، لا بل وعليه نفسه، بصفته القارىء الأول، قبل أن يغدو الكاتب هنا، دون قراءة الآخر واستعارة الكثير من أدوات القراءة، واستشراف ما كان في ضوء ما هو كائن ثقافياً .
ما كان في مقدور كيليطو، أن يحقق مثل هذه المكانة " النجومية " دون أن " يسلخ " جلده القديم، كما يفيدنا بذلك تقديمه لكتابه المقالاتيّ المعمَّد بحضور الآخر ذي الجاذبية، وأن يؤكد نسَبه الثقافي، أن يكون كما هو اسمه، ليكون مقروءاً ومسموعاً كيليطو المغربي في لغة الفرنسي، والسندباد المغربي، حمّال حكايات ثقافية، ارتحالاتية، مغامراتية في الصميم، إن استحضرنا بعض صيَغه في الكتابة المقارناتية، وقد امتلاً بأكثر من معنى، بثقافة الآخر، ونهل منها، وحمل من مأثرتها الجمالية، الفنية، القيمية، رؤية العالم أبعد من حدود مغربه وثقافته الماضية، الكثير ، وهو يسردها طي كتابته، وقد أصبح ليس ناطقاً بالفرنسبة فحسب، وإنما كاتباً بها أيضاً: السندباد المتوسطي المعاصر، في مواجهة السندباد المغربي الذي يهتم بأمره، أو وهو يصغي إلى صوته الذي يريده له كيليطو، تعبيراً عن هذا التقويم الحضاري لثقافة الآخر.
مقصد القول، أن كيليطو، هو نفسه من خرق القول هذا، وهو في تأسفه لما يحدث تجاه الآخر، لحظة الكتابة باللغة " الأم "، وأي أم هي هذه، وثمة أم أخرى أكثر إدراراً للحليب " الثقافي " والقاعدي لتأكيد الذات وفراهة الحضور فيها.
إنه لم يطعّم ثقافته، أو يمارس هجنة ثقافية فيها، عبر رفْدها بمؤثرات ثقافية خارجية، وإنما أبصر في الخارج " الثقافي " ما يشبه الإكسير الحياتي، لمنح الثقافة التي ينتمي إليها، ويرمم جوانب اعتبارية مختلفة فيها، امتياز استمرارية، وتقبُّل من قبل الآخر نفسه، أي ما يجعل الفرنسي، كنموّج حي له، أن يصغي إليه، وأن يقرأه، معترفاً به، لأنه التلميذ النجيب في مدرسته، الضليع في لغته، والبارع في استعمال لغته الكتابية، والفالح في استثمار مناهج كتابته، في قراءة تاريخه ، ليكون كيليطو الآخر، بالنسبة إلى كيليطو الذي كان، وكيليطو خلاف ما كان، أو ما يُعرَف في وسطه الذي خرج منه .
إنه النقد الذي يوجَّه إليه، قبل أن يوجَّه إلى أي كان، لا بد أنه تخيل هؤلاء الذين يقرأون ويكتبون بالطريقة التي تصورها تابعية تماماً، واستغرابه المقدَّر من ذلك، وليس من استثناء في أي عمل له، مهما كانت محدوديته، مقالاً، أو قصة، أو رواية: من " الأدب والغرابة " إلى " العين والإبرة " عن " ألف ليلة وليلة " إلى قصة " منّانة" فـروايته" أنبئوني بالرؤيا "... ...الخ .
هذا يوسّع ساحة المكاشفة النقدية، ومقاربة الثغرة الأخرى الأكثر تصدعية في نصه، وفي واجهة رؤيته النقدية هذه، وأعني بذلك: العلاقة مع الآخر، الأبعد من كونه تكافؤية، وتلك بداهة، والتي يوضّحها التاريخ هنا وهناك. حيث نتذكر كيفية تبعية المغلوب للغالب في أمور شتى!
أما عن الثغرة الواسعة والجلية فهي في لاجدوى المقارنة بين ما كان وما هو كائن الآن، بمقدار ما يتطلب التعامل بالعكس، أي قلب العلاقة، بأكثر من معنى .
في الأنفة النفسية التي يستشعر بها كيليطو، كما يبدو في بنية كتابته، وهو يسمّي ما كان، من قبل رموز الكتابة العربية- الإسلامية " وأشدد على هذه الثنائية لدقتها أكثر "، واعتبارهم ينتمون إلى امبرطورية امتد نفوذها في قارات ثلاث، وهذه الحدود الإمبرطورية التي قامت بالقوة، قبل كل شيء، وفرضت نفسها تالياً، كانت مركزية، ثمة ما يموقع القول، إذ من الطبيعي ، أن يحيل كاتب الإمبراطورية ذاك، كل شيء إلى هذه المركزية " المتروبول " اللافت قوةَ حضور ، أن يكون هو المرجع، حتى في النهل من ثقافة الآخر: اليونانية، الهندية، والفارسية...الخ، يقيناً منه، أنه هو من يبعثها من " قبرها " أو يمنحها شرف انتشار وتداول من خلال لغته ، وكما هو الممكن تبينه في جملة الأدبيات العربية- الإسلامية على مدى قرون .
راهناً، كما هي حكمة التاريخ، ومفارقات الزمن المجسَّم والحي، ثمة انزياحات لمراكز القوى، لمفهوم الثقافة، ورؤية الآخر، حيث تصبح ثقافات سادت طويلاً، في عهدة أخرى، تتولى زمام المبادرة في قراءتها، والنبش في جسدها الآثاري، الحضاري، والثقافي...الخ، وتلك مفارقات كبرى في التاريخ، وبالتالاي، تنتفي صفة الغرابة، لحظة أخذ ما هو قائم في الحسبان، وهو أن القارىء العربي، أو الكاتب العربي، حين يقرأ أو يكتب، يفكّر في الترجمة المحتملة لدى الآخر، وفي ضوء ذلك، ربما يتصرف، أو يتصرف ولو بهبّة لاشعورية، اعترافاً منه، أنه لن يعترَف به في موطنه، إلا إذا قرىء بالأجنبية، لن يكون له شأن، إلا إذا أشير إليه بالأجنبية، في مسار واحد وليس العكس. ألمن يكن كاتبنا كيليطو، كما تقدَّم، متحركاً في هذا المضمار المرئي، وبمعايير أجنبية: فرنسية ؟ كيليطو الفرنسي أكثر من كونه كيليطو المغربي اعتباراً!؟
إشارات:
1-كيليطو، عبدالفتاح: الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، منشورات توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2018، ص131.
2-كيليطو، عبدالفتاح:الأعمال، الجزء الثالث، جذور السرد، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2015، المقامات...في البداية، كما في كل من هذه العناوين " السفر- المضحك- الترابط- الكذاب المحترف...الخ " وهي العناوين الفرعية والداخلية لهذا الكتاب .
3- كيليطو، عبدالفتاح:الأعمال، الجزء الثاني، الماضي حاضراً، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2015،ص8.
وفي ضوء المشار إليه، يخضع العنوان " الخطاطة " : الماضي حاضراً، للمساءلة: أي حضور، مثلاً، يكون لهذا الماضي، وأي ماض يكون في حضوره، في ضوء ما استهل به كيليطو كتابه ؟