طلحة محمد - رحلة التهمتها النّار

ليس علينا أن نتعاتب اليوم ولا نجزع من بعضنا . إنّه لفراق أليم .. أكيد .
لا ..... لا أريد المُضي وأنا حزين ، لا أريد مفارقة الحياة بدون رصيد .
كانت علاقتنا دوما جميلة لا تدعو للقلق ، لم تريدين البعد ؟
لم تريدين أن نكون غير مدركين لبعضنا ؟ كالقمر والشّمس ، كاللّيل والنّهار .
فلتصبّ عليك كلّ لعنات البشر.
هكذا استيقظ العجوز من تخاريف حمّى المرض بوجه شاحب يعكس صفار بشرته أضواء القاعة ويتكدّس أسفل عينيه سواد محشو بزرقة غامقة مستلقيا على سرير ذو عجلات غير قابلة للحركة، امتلكت روحه أجهزة طبّية كان قد راهن على فشلها وكأنّه يتمنّى حتفه.
لم تجد نفعا معه النّصائح المتتالية والتّوبيخ اليومي من تأنيب الظّمير . فكّر قليلا قبل أن يلقي بكلّ ذلك الشّريط الذي أرهقه وراء ظهره وهمّ بالبحث والتّفتيش في جيوبه وأكوام قشّه مسرعا في ذلك وكأنّه يخاف أن يكتشف أمره أحد ، ما يبحث عنه شي ثمين ويعني له الكثير .
استغرق وقتا قليلا في بحثه حتى عثر على علبة نحاسية و ما ان شرع في فتحها حتى دخل أحدهم فأخفاها تحت الوسادة وسكن إلى سريره مرّة أخرى .
بدأ في مخاطبة نفسه يؤنّبها ويذكّرها بطعم الخيبة والألم ، لقد هجرتني رفيقتي التي بذلت الكثير لأجلها آه كم كنت ساذجا .
أمعن التفكير بها ثم استحضر صورتها وكانّه بها تخاطبه : أنا من آنست وحشتك في أحلك الظّروف أنا من صنع كبريائك حين طأطأت رأسك في المقاهي وعلى طاولات القمار .
أنا من رددت لك شخصيتك حين خيّم الحياء عليك .
يجيبها بتثاقل : أنا أعترف لقد كنت رفيقة دربي و ملأت صدري خيبة وخذلانا .
أنا لست لئيما لكنّك أوديت بحياتي وتقاسمت معي عمري .
لقد عقدت قراني بك عقودا من الزّمن دون شروط ودون شهود ولا حتّى عقد مدني ، كلّ هذا سببه أنّني لم أكن مسؤولا في قراراتي فقد أحببتك بصدق ونلت من نفسي من أجلك إلا أنك خدعتني وتخلّيت عنّي في آخر لحظات عمري بل وقد كنت السّبب في عجزي ، دعيني وحيدا كما كنت قبل أن ألتقيك بمحاذاة الرّصيف ملقاة على طاولة مفتوحة تبسط ذراعيها للمارّة والمسافرين، هناك أشفقت عليك ، كم كنت ساذجا حينها وها أنا أدفع فاتورة جبني وقبحي أفلا تستسلمين؟
هدّأ قليلا من روعه واستدار بجسده نحو النّافذة بصعوبة، أغمض عينيه وسافر للحظة إلى عالمه المليء بالأوهام ليعيش في بحر الحياة قليلا تتقاذفه أمواج الموت لتعلو به تارة إلى عنان السماء ثم تعيده إلى قعر البحر تارة أخرى .
بقي في صراع مرير طيلة هاته اللحظات القاسية تشكّل له هاجسا وخوفا من الانتقال الى عالم آخر .
تمادى في كوابيسه كثيرا حتى أيقضته صفعات الأخصائية النفسيّة تزعجه بمناداته باسمه الذي لا يحبّه وطرح الكثير من الأسئلة التي لم يجد لها ترجمة في قاموسه ولا أجوبة في عقله الباطن .
يستمر في صمته و يضع يديه على أذنيه كي لا يسمع النّقاش الذي يدور عند رأسه ، يغمض عينيه مرّة أخرى ليسرح في خياله المعتاد .
يستعيد ذكريات طفولته القاسيّة عندما كان يضع طاولة فاتحة ذراعيها على الرّصيف لبيع السّجائر ، ينتشل بها عائلته من بطش الزّمان ويعيلها من الفقر .
يتذكّر أيضا كهولته الجافية التي لم يرافقه فيها أحد غير المسامير والأحذية التي استبدلها بطاولة السّجائر مُنَمِّياً تجارته ومغيرّا نشاطه .
استعاد وعيه لبرهة، لم يتذكّر غير رفيقته الدّائمة. علم أنها اللّحظات الأخيرة ، أدخل يده تحت وسادته وجلب علبته ثم أخرج منها سيجارة تقليديّة وعلّقها على فمه وفتح عليها النّار فامتزجت روحه بروحها ولقي حتفه .

تعليقات

ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...