كان عائدا من المنزل ، بعد أن شارك في ( التيمينة ) في الاحتفال الكبير بختم صديقه حامد للقران الكريم ، وأصبح قادرا على أن يقرأ القران كله ... وسار في طريقه إلى البيت يتذكر هذه التيمينة ويتغنى بها :
لله فضل دائم علينا ......... نشكره حمدا كما بدأنا
من نطف أو مضغن سوانا ... من آدم خلقا ومن سوانا
علمنا من فضله القرآن ... هو يمين ... هو يمين
وما كاد يصل إلى المنزل وقد أنهكه السير بسبب تحول الموكب من حي إلى حي ، حتى أسلم نفسه لزاوية من ردهة البيت وأغمض عينيه مستسلما إلى سبات عميق .... ولكن أمه لم تتركه وشأنه بل أيقضته متسائلة : ((هل صّليت الظهر يا خلفان ؟ ... الظهر خلصت وأنت ما صليت. قوم يا خلفان . قوم)) انتبه خلفان وقام متثاقلا وأحلام الوسن تداعب عينيه الشاحبتين وكاد أن يصدمه باب الحمام وهو يتجه إلى الوضوء .
وتراءى لخياله في هذه اللحظة ذلك الحلم الرهيب الذي شغله منذ شهر ، وصرخ وآي.. وآي .. وأسرعت أمه إلى الحمام وسمعته يقول وهو يجحظ بعينيه فزعا :
(( المغلغل يا أمي المغلغل ))
_ أي مغلغل يا ابني ؟ حتى في الحمام المغلغل ؟
_ نعم يا أمي المغلغل في كل مكان ، شوفي .. شوفي ... المغلغل .
ونسيت الأم الصلاة وقررت أن تأخذ ابنها إلى (المطوّع) يكتب له تعويذه عن المغلغل ، أما خلفان فرغم ذلك أكمل وضوءه وأدى صلاته وأسلم جفنيه لنوم عميق .. ولكنه في هذه المرة التحف واخذ وسادة له وعلا صوت شخيره .
عاد أبو خلفان من المسجد ودلف إلى المنزل حيث كشفت له زوجته عن هواجس ابنه وأخبرته أنها كتمت ذلك عنه منذ أكثر من شهر ولكنها لا تستطيع الآن أن تكتم وأنها تؤكد إصابة ولدها بمس من الجان .
قال الأب : كيف تكتمين ذلك عني ؟ كيف ترضين أن يبقى أثر الجان على ابنك بما ينيف على الشهر دون علاج .
- يا راشد : أنا صحيح امرأة , ولكني لا أستطيع أن أصدق أن مخلوقا يدخل في مخلوق .
- إيه ، النساء مرة ومرة يكن أعقل من الرجال .
- زين تعترفوا مرة ومرة .
- لا يا راية في كثير من الأحيان أنت أعقل
- ولكن الأحسن أن تأخذ الولد إلى المطوعّ .
- قلنا لك أنك أعقل .
- إذن سوف تسمع نصيحتي .
- مرة ومرة نعم أنكن أعقل ..... مرة ومرة
- يا راشد حس بالولد ، خلينا نسأل ونشوف .
- لا نسأل ولا غيره ، الولد سيسمع أحاديثكن في جلساتكن بعد المغرب ... تجيئكم سلوّم وتقص على الولد مع الأولاد الأخبار التي جمعتها من ( المعصرات ) اللاتي يجمعن حكايات الحارة ويناقشنها بينهم وتتقرب إليكم ( سلوّم ) أيضا فتجمع أخبار الخرافات من لف ليلة وليلة وتخدر الأولاد بأحاديثها حتى يناموا ، من هنا يا راية جاء السبب ، فأعتقد ولدنا بالمغلغل ، كوني عاقلة يا راية .
- على رأيك يا راشد ، لكن نترك الولد يهذي ؟
- لا .. لا نتركه يهذي الولد في حاجة إلى راحة . وإلى تغيير جو وسنرسله إلى عمته ويبقى معها كم يوم ويرجع .
- والمدرسة .
- أي مدرسة يا راية ، مدرسة الأزهر ، خبريني مدرسة بغداد أو القاهرة ، مدرسة البحرين اليوم أو الكويت .. أي مدرسة يا أم خلفان ؟
- مدرسة المعلم ( حمد ) إنشاء الله .
- نريده يختم القرآن .
- ويوم يختم القرآن . ماذا بعد ذلك ؟
- وسكتت راية ولم تستطع أن تجيب وفكرت بعمق ( نعم ماذا بعد ذلك ) يبقى عند أبيه في الدكان الصغير يستمع إلى أحاديث السوق ؟ يذهب إلى أحد البساتين ويستأجر ويسقي بستانه ، ماذا بعد القرآن إن مشاعرها تقول سيعمل في الأرض ، ماذا بعد أن قرأ كتاب السماء ؟ قالت راية :-
- نعم يا راشد ماذا يعمل ؟ سؤال كبير ، طويل وعريض .
- العقل يا راية هو الذي أحبه فيك ، أكثر من كل شئ كنت أخشى أن تقولي لي سيعمل في الدكان ، أومعك في المزرعة ويعيد حياتنا نحن يا راية .
- الحمد لله يا راشد حياتنا طيبة بوجودك .
- وإن شاء الله تكون طيبة يا راية .
- وتبقى طيبة ، لكن سؤالك سيجعلني أفكر دائما ماذا سيعمل خلفان حتى يكبر ، ماذا سيعمل خلفان بعد أن يختم القرآن ؟
- سنرسله إلى ( نزوى ) يتعلم النحو والصرف والأديان .
- الله يبارك فيه لكن علينا الآن أن نفكر في حالته مع المغلغل .
- هذا وهم سيزول مع تغييره الهواء .
- والمدرسة ؟
- صحته أهم من المدرسة .
- وذهبت راية لتغرف الطعام وأيقظ الأب خلفان من نومه ، وهب مصافحا أباه ، وسأله عما تعلمه اليوم فأخذ خلفان يقص عليه قصة التيمينة التي تمت لصديقة واحتفال الطلاب جميعا بنين وبنات ، باليوم المشهود لصديقه حامد حتى حضر الغداء فذهبوا يأكلون ، ثم هب خلفان يحمل الآنية إلى المطبخ وأحضر القهوة .
- أخذ خلفان ( يغنم) على أبيه وبعدها قال الأب : ألا تحب يا خلفان أن تزور عمتك ؟
- خلفان : إني مشتاق إليها كثيراً .
- الوالد : لقد هيأت لك واسطة السفر إليها وستصل بعد يوم .
- شكرا جزيلا يا أبي ومن سيكون معي ؟
- لا أحد يعرف أن المكان قريب ستصل في مرحلتين فقط ، سيكون معك الحمّار ( سليم ) وتركب على حماره ست ساعات تستريحون بعدها وتنتشرون صباحا إلى القرية فخير لك أ ن ترى عمتك وأولادها في النهار .
- شكرا لك يا أبي هذا فضل كبير منك سأستريح من المغلغل .
- أي المغلغل يا ولدي ؟
- ألم تخبرك أمي ؟
- أبدا يا ولدي أمك ما تعتقد في هذه الأشياء ولذلك لم تخبرني .
- حدثتنا ( سلوّم ) عن أخباره مع الناس ، ألا ليت كنا ما نسمع أخباره ، وتعجب كيف تغلغل مخلوق طول عمره .
وضحك الأب ضحكة كبيرة ، توقفت فجأة ليقول ذلك بصوت خافت كيف يغلغل مخلوق طول عمره ؛؛ نعم كيف تغلغل مخلوق ؟
- مسكين أنت يا خلفان المغلغل أكثر من واحد أكثر من مائة , أكثر من ألف ومليون حتى الصغار يقذفون بالحكمة .. آه كلما كبرنا عرفنا أن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث يجدها ، نعم يا خلفان حديثي عن المغلغل .
- ولكن ماذا قلت يا أبي لم أفهم كلامك ؟
- ستعلمه لكن أقول لك لا نعتقد في مغلغل من الجان – نعم لا تصدق .
- كيف لا أصدق وهو يأتيني كلما نمت واليوم رأيته وأنا في الحمام .
- يا ولدي نحن نقّيد أنفسنا . نحن نتعدى على بعضنا بعضا الإنسان يغلغل الإنسان .
وخرج وقام الأب من مكانه وذهب إلى حجرته والتأثر باد عليه في حين ظل الصبي حائرا لم يفهم ما قاله أبوه ولكنه أخذ يردد : الإنسان يغلغل الناس ... وظل باهت اللون حائرا .
منذ ذلك اليوم أصبحت هذه العبارة ترافقه مثلما رافقه الشعور بالمغلغل .
في اليوم الثاني كان خلفان يركب حمارا متجها إلى قرية عمته ، بينما كان الإنسان صاحب الحمار يسير وراءه وكان أبوه يودعه وهو يقول : مسكين ولدنا لم يفهم أنه في هذا اليوم قد استعبد إنسانا مثله ، أنه أيضا شارك المغلغل بما ندفعه نحن من أجر للإنسان ، للإنسان صاحب الحمار الذي يمشي الآن بينما يركب الصغير ولا فرق بينهما سوى أن هذا يعطي القرشين وهذا يأخذ ( القرشين ) .
كان الركوب على الحمار شيئا جميلا أنس به خلفان ، فمرة يقول لصاحبه سوقه – يعني اضربه وهو لا يعلم معنى ذلك إن أخاه الإنسان سيركض وراء الحمار ، قال الحّمار : يعني تبغيه ينتقل – أي يقفز – يفرح الصبي ويضرب الحمار ضربة موجعة فيسير في طريقه على قفزات وصاحبه يضربه كلما خفف سيره ويركض وراءه لاهثا ... وعندما دخلوا إلى أحد الجبال افترقت الطريق بحيث كان من المتعذر على خلفان أن يظل راكبا على ظهر الحمار ، فاضطروا إلى النزول ، وأخذ يشمشي مه الحمّار عندئذ أدرك أن زميله يتعب , بل أخذ يشكو من الطريق ، لقد تعبت يا غانم .
- أنت لا تقدر أن تمشي يا خلفان لكني سأحملك وعندما تعدوا الجبل أمر خلفان غانم أن ( يرادفه ).. فقال غانم : الحقيقة هذه كانت وصية أبيك لكي لا تسقط من ظهر الحمار ولكني وجدتك جريئا وماهرا في الركوب ففضلت أن تبقى لوحدك .
وترادف خلفان وغانم وبدأ الحمار متباطئا في سيره وانهالت عليه العصا ولكن التعب كان أقوى من العصا فسار على تباطئه حتى وصلا إلى المرحلة الأولى فتناولوا عشاءهم على مقربة من النبع , ثم فرشوا فراشهم على الوادي وناموا حتى أقبل الفجر فواصلا سيرهم من جديد .
بلغت الرحلة نهايتها بعد ظهر اليوم التالي والتقى خلفان بعمته وبقى معها ومع أبناءها وكسب أشياء كثيرة من وجوده بينهم وخسر أشياء كثيرة من وجوده بينهم فما خسره هو مواصلة تعلم القرآن واعتماده في الغذاء على الموجود فلا لحم دائم ولا سمك دائم الغذاء الموفـّر هو السمك المجفف والعدس وكسب أكل ( الغراميل ) مع السكر أو العسل في الصباح . وفي بعض الأحيان أكله خفيفة في الغذاء ووجبة ثقيلة في العشاء .. ولا يعد على الرز المصحوب كالعادة بالتمر .
ولكن الشيء الوحيـد الذي لم يفقده خلفان هو المغلغل ، المغلغل الذي أخبرته عنه ( سلوم ) والمغلغل الذي ورد على لسان أبيه ، وبدأت عمته تسمع عنه ذلك , وكان يحلو له أن ينام ويختم بالمغلغل ، يقول أنه رآه في الحارة .... لا – لا الولد على وشك أن يأخذه السحر ، ربما دخله جان أنه يوم ينام يقول أيضا ( الإنسان يغلغل الناس ) كلا يا خلفان لن يغلغلك أحد... سآخذك إلى المعلم .
وسارت به إلى المعلم ، ونثر كنانته .
- أبصر له – وبدأ باسم نجمه ، نجمة الأسد ، لا أحد يغلبه في النهاية هو المنتصر ، من هنا جاءه الحسد ، أسألك يا خلفان : تسير ( الفلج ) وحدك .
- هنا نعم ، ولكن عند أبي لا يوجد فلج عندنا طوى نزجرها .
- ولكن تذهب إلى ( الطوي ) وحدك .
- نعم .
- من هناك جاءك الخطف ، اهتموا بولدكم ، اعتنـوا به ، يوجد جـان صغير أسمه " قبقب " ليس به سحر ، لازم ( نعزم عليه ) حتى يخرج .
- طيب يا معلم ؟ عليك بشغلك ولكن ما ستعمل ؟
- سأعطيه ( حرزا ) وإذا لم يطلع الجان بسهولة فسنخرجه بالعصا .
- وكتبا المعلم الحرز ، وطلب ماء ورد وزعفران وكتب لهما على ورقة وبخـّره بالعود وطلب منهم أن يطووا التعويذة في جلد الوعل ويعلقها خلفان على رأسه أو صدره .
وكتب له آخر ليضعوه على وسادته ، وبعد أسبوع تمرن خلفان وارتفعت درجة حرارته ، وتصبب العرق منه ، فتتركه الحمى صباح ، وتعود إليه بعد الظهر لترافقه حتى الصباح ، ويأخذه الهذيان فيهذي بكلمات ليس لها معنى وهو عندما يصحو يصر على العودة إلى منزله الجميل .
أما المعلم فكان يسخر عندما يخبرونه أن خلفان يحب أن يعود إلى البيت ، وكان يعلل ذلك بالخوف من النتيجة مخافة أن يخرج الجن لأنه وجد من يخرجه ، وكان يعلل المرض الذي بخلفان هو معركة جديدة يخوضها مع الجان ، فالمرض تحايل من الجني كي لا يلبس الحرز وبدأت المعركة تشتد حتى حان وقت العصا واخراج الجني . واستطرد المعلم قائلا :
- قبقب ، ترجع عند أهلك أو ما ترجع ؟
- أرجع أسير عند أهلي .
- يالله أخرج .
- ما أقدر أخرج أمشي .
- لازم تخرج وإلا ؟ .....
- ما أقدر أمشي .
- أخرج هكذا .
- ما أقدر أوصل الباب – لازم تمشي بسلام .
- كيف أخرج خبروني – أخرج من أصابعه حتى ما تؤذيه مثلا . لا تخرج من عينه وبعدين ( يتعور ) .
- وإذا خرج من إصبعه ما تنجرح .
- لا ما يصيبها شئ لكن العين تتأثر .
وقال خلفان :؟ أرسلوا إلى خلفان يرجعني إلى أهلي .
قال المعلم : أسمعوا الحيلة أنه لا يحب يخرج أنه يتظاهر أنه خلفان الحقيقي ... أين العصا ويجئ بالعصا وانهال المعلم على خلفان ضربا موجعا ، وهو يصرخ : أخرج ، أخرج واستمر الضرب على المريض بشدة وأخذ خلفان يصيح صياحا خافتا لكثرة الألم الذي به وقال المعلم : لقد خرج قبقب لقد خرج الخبيث هيا دعوا الولد ينام قليلا .... وغط خلفان في نوم عميق .
وصمم خلفان منذ هذه الحادثة أن لا يذكر المغلغل ، هب من نومه ولكن المرض لم يزل به ، والتعب قد بلغ أشده ، وآلام العصا تكاد تفتت جسمه ومع ذلك فقد صمم ألا يذكر المغلغل في لسانه حتى يكفوا عن ضربه ولكن خلفان وقف يفكر ، أين المغلغل حقا ؟ .. لماذا لا يأتيهم وقد أتوا من يخاف منه ؟ و أسرع خلفان يصرخ تعال يا مغلغل أينك ؟ ولكن لا بأس سأعطيهم مهلة يومين أو ثلاثة حتى أرى هل سينتقم المغلغل ؟؟
وشفي خلفان من مرضه ولم ينتقم المغلغل وعاد خلفان إلى أهله وعمته المسكينة تعتقد أن المعلم أخرج المغلغل من جسمه وكاد أبوه أيضا أن يصدق فالذي يحدث فعلا أمر يدعو إلى الشك ولكن خلفان جلس مع أبيه يحدثه أن الضرب كان يوجعه وأنه بنفسه صمم أنه ليس هناك مغلغل وعليه أن ينتقم من المعلم وعمته وعادت إلى ذاكرة خلفان عبارة أبيه (( الإنسان يغلغل الناس )) وسأل أباه توضيح ذلك واكتفى الوالد أن أجابه: (( يا ولدي تكبر وتشوف )) .
رفعت الأعلام على منزل خلفان وأقبلت النساء يهنئن أم خلفان على ختمه القرآن الكريم وشاهد الناس موكب ( التيمينة ) وهو يطوف المدينة ... كانت سعادة الوالدين كبيرة حينما خطى خلفان خطوته الأولى للزواج ، هكذا قالت والدته وهو يبلغ من العمر تسع سنوات وخطر لأبيه أن يفكر ، أجل ماذا بعد القرآن ، لا بد أن يعرف من أمر دينه وعن لغته العربية فلا يحسن أن يذهب إلى المدرسة ... ولكن هل يرسله إلى المدرسة الوحيدة في مسقط ، هنالك أحد نسبائهم ولكن لماذا يكلف الناس ، هل يرسله إلى( نزوى ) أو( سمائل ) ليتعلم اللغة والأديان والأحكام ؟ أيضا مع من ؟ سؤال كبير ... لا مدارس هنا ، ليكن نصيبه كنصيب أبناء مدينته فيزرع الزرع ويساعدني في الدكان ويدير فنجان القهوة على الضيف ، وليكن تحت حاجز أهل البيت يرسلونه أينما كانت من الحاجة .
وهكذا أصبح خلفان رفيق أبيه الدائم ولكنه لم يحرم نفسه من قراءة ما يقع بين يديه ... سمع من شعر الاستنهاض ( لأبي مسلم )... سمع عن قصائده في وحشة الليل وشاعر الجلسة يتغنى بمقصورته .
تلك الرفات طيبة صالحة .. لحارث وغارس ومن بنى
أتبحثون بينها عن عزة .. أوفى لعل فرجا أوفى عسا
سمع قصائد ابن شيخان وملاحمه وسمع مفاخر ( سليمان بن سعيد ) وغزل ( الكيذاوي ) ومرثاة ( المنتفكى ) و ( ناصر بن مرشد ) ، أدرك خلفان أنه فرع من أصل عريق وكأن حي بن يقظان بطل أسطورة ( ابن الطفيل ) يسال عن إنسانيته فبدأ خلفان يسأل عن كرامته . كرامة بلاده وشعبه واشتعلت الجذوة وتوهجت الجمرة وأخذ بصيص من النور أو النار إلى نفس خلفان وسأل نفسه لماذا يقول ناصر بن سالم هذا الشعر بلادي اسمها عمان وشعبي العمانيون والأجر عظيم كيف نحن ؟ أسعداء أم أشقياء .
ودلف يسأل والدة فوجد عند والده التغذية لهذه الأحاسيس . وأخذ يقص عليه قصة تاريخ عمان أخذ يسرد عليه وصايا ( البارونى ) ونشأة حرب زنجبار وخلفان يستمع ، يسمع فيعي ولكنه مسمع العاطفة إذن فهو يسمع ويتحمس ولكن كيف يقذف بهذا الحماس وكيف يستفيد منه .
كان خلفان على بعد تسعين كيلو مترا من مدينة مسقط وكان بين حماسة للعلم وتردد أهله جسر يوصله إلى المدرسة السعيدية بمسقط هناك ولكن كيف السبيل ؟ هل يرضى والده أن يعيش مع شقيقة والده في مسقط ومطرح ؟ والسؤال أمام نفسه وكان الجواب لماذا لا يتعرف على هؤلاء الأهل لماذا لا يزورهم .. وبعد العشاء وفد على أبيه باقتراح زيارته إلى مسقط ولكن الأب عارض الفكرة في سفرة وأيدته الأم بحجة التكاليف وصعوبة معيشته مع أقاربه على أنه اقنع والديه بزيارته مسقط ليومين أو ثلاثة وأخذ معه بعض الهدايا كالسمن العربي ، وخل البكر وطاقة نسيج ( خضرنجي ) وبعض ( الورس ) وقطعة من نسيج ( التيل النسائي ) ، وغادر منزله أيضا على حمار وأيضا مع غانم وبعد مسيرة يومين أو ثلاثة وصل إلى مسقط ، كان خلفان وهو يقترب من ( البندر ) متبل الوجه مندفع الملامح يلبس حزاما فضيا وربطة في وسطه ويلف حول رأسه قطعة صوفية تسمى ( المصرّ ) يحمل بيده اليمنى عصا صغيرة من أخشاب الزيتون ، وعندما وصل إلى ( روي ) قال له غانم : كبرّ يا خلفان ( الله أكبر )
- لماذا أكبر ؟
- كي لا يؤذينا ( موظف الفرضة ) الله أكبر منهم .
وكبر خلفان وصولهم بعد الفجر وهناك تنتظر قوافل الإبل ومجموعات الحمير والناس يتذمرون من كل هذا الانتظار وبدأ دخول المسافرين إلى مدخل الجمرك واحدا واحدا . وبدأ التفتيش ، وفتح الحقائب ، وجنى الضرائب الجمركية وابتداء من قناني السمن و ( أوقار الحطب ) و ( العوسج ) وانتهاء بالتمر والفواكه وامتعة المسافرين .. وجاء دور خلفان فسأل عن حقيبته وقال غانم : هذا الحمار موجود فقال الشرطي فك أحزمة الحمار لا بدأ التفتيش وفك غانم ( الجواد ) من ظهر الحمار بينما كان الموظف يدخل يده في جوانبه ثم اتجه إلى ( الخرج ) وأمعن ما بين جانبيه تفتيشا, وانتهى الأمر بأن طلب منهم خمس قروش دفعها خلفان وهو يقول " لقد نصحني والدي أن أؤخر السفر للهند وما رضيت .
وساق غانم حماره إلى السوق حتى وصل إلى ( الغريفة ) أو مطرح ، فعاد التفتيش من جديد , وعندما وصلوا إلى سوق مطرح غير غانم طريقه خشية أن يمر على الجمرك أيضا فيحصل ما حصل وسار بالحمار متوجها إلى مسقط وفي قرية( ريام ) سمعه خلفان يكبر فعاد خلفان للتكبير , وهناك وجدهم عسكري سألهم عما يحملون فأروه وصل الخمس قروش وواصلوا طريقهم فصعدوا عقبة ريام وعندما بلغوا القمة أطلت عليهم مسقط بأبنيتها البيضاء وقلاعها المتناثرة في قمم الجبال وهيبتها الصامتة التي كانت تثير كثيرا من التساؤل وسار الصبي والرجل والحمار في طريقهم حتى وصلوا ( حارة ميابين ) حيث تسكن عمة خلفان ، كان زوج عمته قائما بإحدى المساجد يتعهده ويؤديه ويصلي بالناس وكان في نفس الوقت يعلم الأولاد القرآن الكريم في الصباح وعندما طرق خلفان مجلس عمته أسرعت تفتح له فعرفت غانم وسألته من هذا الصبي الذي معك هل هو خلفان فقال غانم : نعم إنه ابن أخيك أصر إلا أن يأتي لزيارتكم واقتربت العمة وضمته وحملته إلى داخل البيت قائلة لأولادها هذا هو ابن خالكم اقبلوا للسلام عليه ... واقبل الصبية فرحين فقال أكبرهم .
- هل هو الذي حدثنا عنه غانم .
- نعم يا ولدي هو الذي يسأل عنكم أباه دائما , وهذا هو قد أتى لزيارتنا وزاد الترحيب بخلفان وعندما رآه عمه ازداد فرح الجميع .
تجول خلفان في شوارع مسقط ولعب مع إأخوته بحيث أصبح قائد فريق ( التوفه ) يوزع أفراد الفريق , ويأمر أحد أعضاء الفريق ليلقف الكرة ويوافق على ( المهوب ) . و ( المهوب ) وتلقيف الكرة جزآن مهمان من هذه اللعبة التي تتكون من فريقين يتبادلان رمى الكرة بالمضرب وهي مرتفعة عن الأرض , في حين يحاول أحد أفراد الملعب أن يركض إلى الهدف مسرعا دون أن تصيبه الكرة ، فإن أصابته الكرة خسر الجولة واستلم الفريق الآخر ضرب الكرة وحسبت إصابة على الفريق الأول ..... كان خلفان في هذه ماهرا كلما تخطئ ضربته ولذا فقد تغير مجرى اللعب في الحي وأصبحت كل الفرق راغبة في كسب ود خلفان وارتفعت معنويات أبناء عمته وأقاربه وصار لهم نجم .
لم يخسر خلفان تعليمه , فقد أمرته عمته بمواصلة تعليم القرآن مع أبى أولادها ومن هنا فقد وافق والدية على بقائه في مسقط وكانوا مسرورين به نتيجة محافظته على تعليمه .
وكان يوم ختم القرآن الكريم يوما مشهودا في حارة ( ميابين ) بحضور والديه وآأخوته الصغار وزعت خلاله الحلوى الممزوجة بالذرة المقلية , ولبس أثوابا جديدة وعاش يوما من أيام عمرة لايمكن أن ينساه وواظب في مدرسة عمه يتعلم الخط حتى أقبل الصيف فعاد إلى والديه ولكن ما أن حلّ شهر سبتمبر حتى قدم إلى مسقط لينضم إلى المدرسة السعيدية فقبل في الصف الثاني بعد (الشافع والنافع) كما عبرّ لابن عمته القادم من الكويت وكان ابن عمته في الثانية والعشرين من عمره يعمل فراشا لإحدى المؤسسات ويتعهده أحد موظفي التعليم بالعلم فهو تلميذ مسائي في السنة الثالثة إعدادي وقد ألح على ابن خاله أن يسافر معه للتعليم فلا مجال له في هذه المدرسة وأوضح له أنه الآن في العاشرة طالب في الثاني تمهيدي لا بد ّ له من سبع سنوات حتى ينهي التعليم الابتدائي ولكنه يربح (عمره) في الكويت فيدرس شيئا من الحساب ويتقدم في الامتحان لقبوله في الصف الرابع الابتدائي ووعده حمد_ وهذا هو اسم ابن عمته _ أن يدّرسه قبل السفر وخلاله ، وهكذا اتفق الاثنان وبقي أن يقنعا والد خلفان فقصداه للزيارة وفرح الخال كثيرا ولكن عندما فاجأه باقتراح سفر خلفان تردد طويلا , وماطل وهما يقنعانه ، ولكن تردده ما لبث أن زال عندما اطمأن إلى حمد وسمعته في الغربة , واقنع الوالدة ...
وفي أواخر سبتمبر من عام 1954م كان حمد وخلفان من نسيج الخط الطويل على أبواب شركة الملاحة التي يهمها أن تملأ سطح السفينة بركاب الدرجة الثالثة وقوفا كان أو جلوسا أو نياما .
وفي أمسية يوم صائف كانت الباخرة _(دواركا ) تمخض عباب البحر العماني متجهة إلى الخليج العربي وعلى ظهرها المئات من المهاجرين الذين تتهلل أساريرهم بالآمال بالحصول على العمل والقوت والعيش الجديد في عالم جديد .
وكانت الباخرة تخفف منهم كلما قدمت على ميناء جديد وفي أحد الموانئ شاهد أول مظهر آثار انتباهه من نكبة الشعب العماني , رأى أكداسا من الناس تتجمع على النافذة الصغيرة بصالون الباخرة يحمل كل منهم جوازه ليحصل على توقيع الموظف المختص بالنزول وشرطة الميناء تطوّقهم بالعصي ( والعريف ) يخفف الازدحام بعصاه الطويلة التي يهوي بها بين الدقيقة والأخرى على ظهور هؤلاء الناس الذين كان أجدادهم سادة هذا البحر ومصدر إشعاعه ، والتفت خلفان إلى حمد يقول له : هيا يا أخي فأنا لا أستطيع أن أرى هذا المنظر ، لقد صدق خالك يا حمد حين قال : (( الإنسان يغلغل الإنسان )) .
- يا خلفان قبل أن تلوم أهل هذا الميناء وشرطتهم عليك أن تسأل نفسك لماذا أخرج هؤلاء الناس ؟
- مثلما خرجت أنا وأنت كي نشتغل ونتعلم .
- أليس من الممكن أن نتعلم ببلدك .
- بلى وكذلك يمكن أن أشتغل ببلدي .
- إذن لماذا خرجت ؟
- لأني لم أجد مدرسة أتعلم فيها .
- عندك مدرسة .
- لكنها في غير مدينتي ، هي في العاصمة مسقط فقط .
- أجل إنها مظهر للزوار كي يخرجوا بفكرة تعليمية حسنة مع أنكم تؤخرون سنتين . وهذا أنت عليك لكي تنال الشهادة الابتدائية أن تمضي سبع سنوات فتتخرج وعمرك ثماني عشر سنة .
وقطع الحوار صوت جهوري مرددا : ولسنا حميرا ؟ إذا كنتم لا ترغبون في دخولنا إلى بلادكم فلا داعي لضربنا ؟
وأقبل ضابط الجوازات بعد أن وصل إلى سمعه أصوات المتخاصمين فاستدعى العماني وسأله فأخبره عن سبب ضرب الشرطي وأنه فعلا مستعد أن يواصل سيره على ظهر الباخرة وأن يعود إلى مسقط .. وكان الضابط شابا عاقلا يبدو عليه أنه يعرف ويحس بآلام هؤلاء المهاجرين فأخذ جوازه , وأشر عليه بالدخول والتفت إلى الشرطي يهمس في أذنه وعلى أثر ذلك عاد الهدوء إلى الباخرة أو بالأحرى على فتحة الصالون وألقى الشرطي بعصاه .
كان خلفان وحمد من ضمن الذين بقوا في الباخرة ليواصلوا سيرهم ، أما الذين انهوا معاملاتهم فقد غادروا الباخرة مع العشرات من القادمين وكثيرا منهم يحمل حمولته على كتفه ويسير بها في شوارع المدينة يبحث عن ملجأ بين إخوانه المهاجرين .
وواصلت الباخرة سيرها وعندما وصلت الكويت آن الآوان لحمد وخلفان أن ينهيا أيام البحر وأيام المنظر اليومي الذي عاشاه خمس أيام ..
لم يكونا بحاجة إلى التفتيش عن مكان فلحمد بالكويت منزل يمكن أن يشاركه فيه خلفان . وفي الصباح انشغل حمد بالتفتيش عن عمل لخلفان وكان الحظ حليفهم هذه المرة فقد طلب صاحب المحل من حمد أن يعمل أخوه معه وأضاف بأن أمره بتسجيله في التعليم المسائي وهكذا أصبح خلفان طالبا في السنة الأولى إعدادي بعد امتحان أجرته له مدرسة ( النجاح المسائية ) وعاملا في النهار في إحدى المحلات التجارية .
ترى ما الذي دفع صاحب المحل إلى أن يوافق أن يتبنى حمد وخلفان , وأن يدرك أن مصير خلفان هو المدرسة ؟؟ ذلك هو الوعي الذي غرسه العمانيون في نفوس الناس عن قضيتهم والواقع الذي ساعد على غرس هذا الوعي هما اللذان جعلا صاحب المحل يفكر في أمر هذين المخلوقين قبل أن يخبراه ...
ما أن بدأت الشمس في حالة الغروب حتى كان حمد وخلفان يسيران إلى المدرسة بمنطقة الكويت " شرق " مسكن صقر الشبيب الشاعر الكويتي الفذ وكأنما كانا يعبران عن المعنى الذي صاغه هذا الشاعر ( في كثير من قصائده )
دخلا المدرسة وهناك وجدا عشرات من العمانيين يتلقون دروسهم وهناك أيضا تلقاهم المسؤول عن التعليم المسائي برغبة صادقة وتشجيع كبير . كانوا شبابا ما حضروا للعمل المسائي ؟ إلا لينالوا التعليم كسائر أبناء الخليج العربي وتسهيل أمورهم ، كانوا شبابا لم تعقدّهم السياسة ولم تطرق أبوابهم الفجاجة . آمنوا بواجبهم ففتحوا للطلبة العمانيين أنديتهم واستأجروا لهم المنازل لإيوائهم وأنشأوا الجمعيات لتعليمهم إنهم أجل من أن نذكر أسماءهم ... ولكن خلفان أدرك أنهم حقيقة وانهم ليسوا مجرد سمعه وفهم أيضا أن صاحب المحل واحد منهم فاخذ يقبل ابن عمته ويعانقه عناقا ممتزجا بعبارات التهنئة بأنه يعيش مع هذا الإنسان وانه لا يستغرب إذ يرى فيه الرجل الصالح وأجابه أخاه :
- أنك يا خلفان تتكلم وكأن عمرك خمسة عشر سنة .
- نعم إن عمري خمسة عشر سنة ولكن المصائب كبرتني .
- هذه عبارة أعلى من مستوى سنك فعلا .. ولكن يا خلفان هل تتذكر الآن عبارتك المألوفة ( الإنسان يغلغل الإنسان ) .
- الآن يا أخي آن أن أقول : أن الإنسان يحس بالإنسان .. لا أعرف لماذا .؟
- هل تعتقد أن أباك على خطأ ؟
- إذا نظرت إلى أخي الكويتي أقول أبي على خطأ .
- ولكن أباك ليس على خطأ ؟
- أليس صاحب المحل إنسانا ؟
- نعم إنسان محسن , ولكن هناك أيضا إنسان مسيء .
- صدقت ولكن حتى الصبيان سيسيرون في طريقنا سمعت فئة تعيرني بأني عماني واستغربت لماذا يكرهون العمانيين ؟
- لأنه شخص مسيء يعني أنت فقير ، أنت مسكين أنت محتاج لهم أنت من بلاد متأخرة .
- لماذا تأخرت بلادي ؟
- لأن الإنسان الكبير فينا مسيء .
- نعم الإنسان صاحب المحل محسن ، وحاكمهم كذلك محسن.حاكمنا مسيء .
- نعم هذا هو الصحيح .
- عبدالله السالم يبني لهم المدارس والمستشفيات والطرق كأنها ملعوقة باللسان ، الأعمال موجودة لأهل البلد والأطفال يعلمون ويقدمون لهم لباسا وغذاء صحيا .
سعيد بن تيمور لم يبن مدارسا ولم يوفر علاجا في عمان إلا الكي بالنار.. شوارعنا مليئة بالحجارة وأشواك السمر وحلوى البيدار . أنا طفل ، أنا هنا تركت أمي وأبي ، أنا في الكويت ، لماذا ؟
- إن الإنسان الكبير مسيء
- إنه يغلغل الناس .
- نعم يا حمد هل تصدق إننا نخافه ، نحن لا نحبه لكننا نخافه هنا يحبون عبدالله السالم ن ولكن نحن نخاف حاكمنا كما نخاف المغلغل الذي حدثتنا عنه ( حبوه سلوّم ) الله حاكمنا نحن مغلغلون نخاف منه يا حمد هل المغلغل الذي حدثنا عنه سلوّم هو الحاكم ؟
- حبوه سلوّم قالت لنا أن المغلغل جني , وليس من البشر والمغلغل أيضا مقيد بسلاسل من حديد لا يقدر أن يتعدى على الناس فهم يخافون لمجرد رؤيته يمكن الحاكم الظالم أيضا مغلغل ؟ من يدري ؟ لكن يا خلفان أنا أكبر منك لا أعرف لماذا هو مغلغل ؟ ..أنا أخاف منه كما تخاف أنت ولا أحبه كما لا تحبه أنت إذن دعنا نسميه المغلغل ولا حاجه بنا أن نتذكر اسمه نقول المغلغل لعلنا من بعد نكشف المعنى الحقيقي للمغلغل .
- مسكينة حبوه سلوّم لو تسمع أن أخبار الليل نحن نتكلم عنها في النهار .
- أجب يا خلفان أرجو أن تكبر وتخدم بلادك .
- نعم إن شاء الله سأتعلم وأكبر وأخدم بلادي ولن أخاف من المغلغل .
- بارك الله فيك .
وسارت حياة خلفان في نمو وفي استعداد هو وأبن عمته ليعيشا بعد ذلك ,وقد مرّت فصول من حياة عمان الحبيبة في الخمسينات .
الهجرة مستمرة ، المحل الذي أهلك الزرع والنسل الثورة التي قامت على تقسيم الوطن التشجيع على ذلك من بعض الدول العربية ... الانتهازية تلعب دورها والحاكم يقرب الحاكم الظالم ويناصره على أذى الفقير ، القادة يهربون ويبذرون الألغام لقتل الأبرياء المساكين والحيوانات ، فضائح القادة في المهاجر عندما اقتتلوا على الغنائم رؤوس السمك تتساقط على رؤوس العمانيين وظهورهم .
الصبية العمانيون يغسلون الصحون في البيوت ، أبناء القبائل والشيوخ المعروفة يعملون بالأعمال الوضيعة .
كل هذا مرّ وخلفان ينمو ويأخذ منه بقدر ما يملأ فكره ولكنه كان دائما أكبر مما يستطيع ، كان يأخذ من الألم جزءا وفيرا ولهذا فقد خلط طعامه وشرابه ودراسته وقال له حمد مرة :
- أنت تحمل هم شعبك يا خلفان .
- نعم يا حمد أنت علمتني ذلك عندما كنت في الصف الأول الإعدادي المسائي , وأنت تطعمني هم العمانيين ووطنهم الحبيب ، فسّرت لي المغلغل ؟ وجعلتني أصل إلى الحقيقة الكبرى .
- شكرا لك يا خلفان فلا تكلمني وأنت حزين .. إن هذا الحزن مملؤ بالأمل.
- إنني المح تفسير هذا المعنى ، ألمحه قريبا وليس بعيداً لا بد أن يقيض الله لهذا الشعب من يأخذ بيده ، تاريخنا مليء بالدلائل يا أحمد .
- بل وما في ذلك شك أبدا , فلقد جاءنا البرتغال فأنقذنا ناصر بن مرشد ، طغوا وبغوا ولكن الله أرسل لنا ناصر بن مرشد وتبعه سلطان بن سيف .
- واحتل بلادنا الفرس وأصبح الحكم تحت تصرفهم , فقيض الله لنا أحمد بن سعيد وكن على ثقة بأن الطاغية زائل وان البدر قد بدت ملامحه أما سمعت أن ابن عمه يعلوا صوته اليوم مطالباً بحقوق الشعب وزوال الظلم .
- أما قرأت كتاب سلطان واستعمار .
- إيه يا أحمد ألم أقل لك أنك أستاذي دائما .
- سأقدمه لك .
- أجل هناك أمل ولكن علينا أن نعمل .
- وكيف نعمل يا خلفان ؟
- نكـّتل الناس في هذه المهاجر .
- لا يا أخي تفرغ لدروسك الآن فانك على أبواب التوجيهية, وعليك أن تدرس هذا العام .
- شكرا يا أستاذي ... يا ابن عمتي ... ما اسعد ذلك اليوم الذي ختمت فيه القرآن وجئت إلى منزلكم الأراك يا حمد ..
( وعندما دخل عليهما صاحب المحل – كانا في أوج حديثهما وفاجأهما ضاحكا) .
- لقد استمعنا إلى حديثكما يا ولدي
- شكرا يا عم .. أنت ومن سمعتم ؟ .
- أنا والعيال ولقد فهمت اليوم أن تربيتي قد نجحت فيكما لم تثرني غيرتكم على وطنكم عمان فأنا أعرف ذلك وقد ربيتكم عليها ولكن أثارتني رزانتكم , وقول حمد لخلفان (عليك أن تتفرغ لدراستك . وان شاء الله ستنجحان وتحققان آمالكما .
- وستزورنا يا عم في عمان .
- سأزوركم ولكن ارفعوا كلمة (عم) عني .
- لا يا عم لن نرفعها .
- إن كلمة عم عندنا غير التي عنكم فعندنا أن العم أخ الأب أو صديقه.
- إذن مرحبا بهذا المعنى ، لم أر أباكم ما رأيكما أن تحضروه .
- إنها فرصة سعيدة .. إن أبي سيساعدك في مزرعتك الجديدة , وابا حمد سيفيدكم في تعليم القرآن .
- ومن سيعلم القرآن هناك . فهناك لا توجد عندكم مدارس فالأولى أن يبقى حتى يبصر الناس ويتعلمون قرأن ربهم .
- إذن فسيظل والدي .
- اجل وسأرسل مبلغا لتذكرة السفر الطائرة .
- لا .. لا طائرة .
- ممنوع ؟
- نعم عندنا الآن .. ممنوع .
- نعم اعرف .... ولكن كيف يمنع من ركوب الطائرة .
- ممنوع وكفى نحن نسميه المغلغل ، يا عم هل تعرف معنى المغلغل؟
- لا .
- المغلغل جان شديد الأذى استكبر حتى الجان إيذاءه , فقيدوه بالسلاسل وسمّوه (مغلغل) .
- عدنا إلى بلادكم وما تتصف به من سحر ولا تصدق يا خلفان هذه خرافات .
- خرافات من الجان ولكن هذه من الأنس .
- هل رأى مغلغلا ؟ .
- نحن نسمي حاكمنا مغلغل .
- صدقت لكثرة ما تخافون منه .
- نعم ولكن فهمنا الآن ومن حوارنا الذي سمعته إنه لا بد أن يغلغل في يوم من الأيام , لا بد أن ننتصر عليه يوما ما ونلقي به خارج البلاد .
- الله ينصركم على كل حال سأقدم لك قيمة التذكرة وعند وصولها تكونون قد تخلصتم من المغلغل فيجيء والدكم .
- عند ذلك يجيء الوالد يقصد خلفان ؛ لأنه سعيد بالمشاركة في خدمة الوطن .
- أبدا.. خلفان قبل كل شيء سيكمل الجامعة وسيدرس مع أولادي – العلم قبل كل شيء .
وهب خلفان يقبل يدي صاحب المحل ، وبعد أن خرج عمهما أخذا يتشاوران في مجيء الوالد فشجع حمد على ذلك وكتب رسالة الى أهله وبعد شهر كا ن والد خلفان في الكويت يدير مزرعة العم في (الفنطاس ) ولازال هو يفيض إخلاصا في العمل كما فاضت نعمة (صاحب المحل) .
صارت عادة خلفان أن يذهب إلى أبيه كل جمعه في ( الفنطاس ) وكثيرا ما تأتيهم عائلة عمه بعد الظهر . أما أحمد فكثيرا ما تخلف ويتعلل بالذهاب إلى ألا حمدي أو إلى ( الفحيحيل ) ولكنه كان يقضي صباح يوم الجمعة في إحدى البيوت القديمة ( بالمرقاب ) استأجرها أصدقاء له وكان يجلس في غرفة معينه ويجتمع فيها برهط معين يتداولون فيها أخبار الوطن, ويتلقون دروسا في التنظيم وفي العقائد . وكان حمد يرى نفسه مندفعا إلى هذا التنظيم فلا يمكن أن تقوم عمان من كبوتها لمجرد كلام وآمال ويلتفت حمد ويسأل المتعلمين فيجدهم لا يجيبون سوى عن منافعهم ويجد حولهم قوما من المتذمرين وقفوا في صفهم وأيدوهم في سبيل قضية بلادهم , ويلتفت إلى داخل الوطن فيجد مخططا رهيبا لتخلفه ، وكان لا بد له أن يلاقي هذه الخلايا التي انتشرت بين العمانيين وإلى أي من ينتمي ، واتخذ طريقه ومدّ يده إلى إحداها, وقرر أن يكون عضوا عاملا وهذا ما كان ......
ولكن شيئا واحدا لم يكن ، ذلك أن مصير خلفان لا يحدّه الآن فجاء إليه يفاتحه , فقال خلفان : يا أخي أنت علمتني وربيتني ولكن غير مرتاح لما تقوله هذه زفرة من زفرات السخط ، لماذا أعلق نفسي بزعامة خارجية
- إنها ليست خارجية ، إنها عربية .
- ولكن دعنا نجرّب أن نصلح هذه (الخلية) بلادنا عنا بعيدة دعنا نجرب إنها مكيدة هذا الزعيم مصلحه لبلاده وعند ذلك نعرف أن تعليماته حسنه نحن لا نعرف إننا أجزاء من وطن عربي واحد فهل يتحقق هذا بين قطرين عربيين ؟ .
- سيتحقق .
- تحقق وفشل لماذا؟
- أنا غير مستعد ، أقول أولا نصلح عمان وبعد ذلك نتجه للعرب فإذا كانوا صالحين سرنا معهم , وإلا قمنا بالإصلاح هذا رأيي ولست متعصبا لعمان ولكن انصح كل عربي أن يبدأ ببلاده إذا كان غير راض عما يجري في بلاده أما أن نبذر الانشقاق والتقلص ونكيل الشتائم ونعلن السخط ونحن ليس بيدنا إلا جريده وكأننا أصوات الطبول فهذا مالا أريده لك أبدا , ويجب أن تعلم أن ذلك أضعافا لك ولعروبتك .
- ثم سكت وسكت خلفان 0 عن ماذا ؟ لا أستطيع أن أقول ..... أحيانا تضطر إلى السكوت ولكن تذكر من تدعوني إليهم من الزعماء يا خلفان ثم ماذا؟
- ثم لا لقاء بيني وبينك ، أ،ا يا حمد مدين لك ولكني سآخذ بكلام عمي وصاحب المحل أكمل الجامعة أولا وأنت اليوم في الثانوية معي وسنكون على أبواب الجامعة آخر العام . أنصحك أن تتفرغ للعلم والرأي لك .
- سننجح سويا إنشاء الله وانقطع الحديث وأوى كل منهما إلى فراشه واقبلت الجمعة فافترقا كل في طريقه ذلك غربا إلى (المرقاب ) وهذا شرقا إلى ( الفنطاس ) .
ما أسعد خلفان وهو يتجه إلى ( الفنطاس ) فهو يفكر فيما حققه في حياته ويسترجع ذكريات عهد الطفولة المغلغل ورقة أمه ......... خروجه من بلاده ولطف الله به وصاحب المحل وعطفه عليه .. تذكر حمد وأثره في توجيهه ، وعندما وصل إلى المزرعة وجد أباه في انتظاره وقد فرش ( بطانية صوف ) واحضر دله القهوة ينتظر ولده الذي عوده بزيارته كل جمعه وكان بيده مغلف قدمه لولده ، فتحه خلفان وأخذ يقرأها وعندما انتهى خلفان من قراءة بيان سياسي موجه إلى العمانيين سأل أباه ( من أين حصلت على هذا البيان ) .
- انه يا ولدي قد وزع علينا مطبوعا كما ترى ولكن ما رأيك في هذا البيان ؟
- انه بيان طالما انتظرناه يا أبي ، أن عمان محتاجة الى عقلية حديثة وإلى تفكير واسع وقيادة محكمة وأنا لا أعرف (طارق) ولكن المح من عباراته هذه كل خير .
- وهل ترى سيرضي العمانيون على هذا البيان ويوافقون طارق على حركته .
- حتى الآن لا أعرف وأنت تعرف اكثر مني .
- يا ولدي : أنت اليوم متعلم وأنا اليوم جاهل ليس عندي شي من العلم وهذه بلادنا ويهمنا أن نعرف نتيجتها .
- لا بد للقيد أن ينكسر يا سيدي الوالد ، نعم أنا متعلم
- اني أقول أن كل شيء يزيح هذا الإنسان نوافق عليه .
- كلامك انه حال دون الإصلاح ، انه صخرة تعترض مجرى الماء ولكن يا والدي ليس كل شيء ، ولكن قد نقبل الصبر على الظلم ولا نقبل شيئا آخر .
- معك حق يا ولدي ولكن أولا يجب أن يزاح الظلم .
- هذا لا يحصل ، عنصر الزمن يقف ضد ذلك وبالنسبة إلى طارق فقد عرفناه محسناً على الناس وخالك كان يحدثنا عنه بالجميل عندما كان رئيسا للبلدية , والعمانيون الذين اتصل بهم أثناء الثورة العمانية يمدحونه ، كان يطلق سراحهم ، كان يسهل السفر للمتسللين منهم ، كان يقف ضد أخيه سعيد حتى أقاله وحرمه من كل شيء ، ثم خرج غاضبا على الوضع وصرح بذلك وهو اليوم يؤكد .
- أنا لا أقصد أن الوضع سيكون أرداء ... لا أنا يا أبي من المؤمنين أن التطور على مراحل ، وأعرف أن طارق لو أراد لحصل على العيش السعيد وأعرف أنه شاب مثقف ومتصل بأناس أعرفهم من شبابنا ومن خلال هذا البيان تظهر نواياه الحسنه وآراؤه الثاقبة .
- المهم أن تتخلص من هذا الطاغية وأنا حسب مسايرتي للزمن أن عمان ستسير إلى أحسن حال ولا تنسى يا ولدي أن النفط قد ظهر عندكم وأن النفط دائما يأتي بحاكم جديد وأفكار جديدة وتطوّر جديد فنبدأ من الكويت في عهد أحمد – ولكن الذي استفاد منه وأفاد هو عبدالله السالم الصباح . لقد أسس الكويت الحديثة.. , وفي البحرين نجد حمد بن عيسى وبعده جاء سلمان بن حمد حاملا ظهر النفط .., وفي قطر بدأ خلف أحمد بن علي آل ثاني .. وسأخبرك بعد أن شخبوطا زائل من أبو ظبي , وعلى هذا فإنه كلما بدأ استخراج النفط بدأ التغيير تمهيدا للتطور... إنها إرادة الله يا ولدي .
- شكرا على أرائك وتجاوبك معي وإن هناك حقيقة واضحة تقضي بوجوب ايجاد منطلق ليتحرر شعبنا مما يعانيه .
- إن طارقا يا ولدي ليس وحده فلا بد أن يكون له عقلاء من العمانيين , ولكن المح أن الرجل سينجح , وأن أهدافه طيبة , ولذا أوصيك وأوصى بالحكمة في خدمه الوطن وتخليصه من الطغيان .
- إن الطغيان يا والدي قد أوقع الوطن في مشاكل عديدة و أشبه ما تمثل به عمان اليوم عمارة ساقطة على ساكنيها فهم ما يزالون تحت التراب وبسبب ذلك تجمعت عليهم المشاكل داخلية وخارجية , إن علينا أولا أن نرفع التراب والحجارة عن سكان العمارة , ثم علينا أن ننطلق بهم إلى المكان الرحب نعالج الجريح ونوقف الدعم ونحفظهم من اللصوص .. الخ .
- هذا منطق العلم يا ولدي بارك الله فيك نحن فقط نبحث عن تفاصيل ما قرأناه وأنت عليك بالعلم فهو وحده السلاح وأنا فقير وسوف لا اخلف لك شيئا والفضل الذي أنت فيه لا أخيك حمد وللتاجر الكويتي بعد الله .
- يا سيدي ، حتى أبناء الأغنياء لا يستفيدون اليوم من الأموال إذا فقدوا العلم حتى المال يا والدي يحتاج إلى العلم .
- بارك الله فيك ، واصل تعليمك لتقابل الحياة وتواجه تطوير وطنك .
واستمر الأب والابن في حوار طويل حتى المساء عاد بعدها خلفان إلى المنزل مودعا أباه, وفي الجمعة التالية اقبل مع حمد الذي جاء ليبلغ عمه انه مسافر إلى مسقط بعد أن ينهي امتحان الثانوية العامة , ولكن العم مانع في سفره وأصر على أن لا يعود خشية أن يحرم من تعليمه قال العم :-
- ربما يا ولدي أن الشدة تزداد على الناس والممنوعات تكاثرت ولا أنصحك أن تخسر علمك .
- ولكن إلى متى يا أبي ، لا أرى أبي وأمي. قال خلفان : ولكنها مغامرة يا حمد ، أنت دائما لا تقبل إلا رأيك لست أنت الوحيد الذي فارق أباه , وأمه لست أنت المشرد الوحيد يا حمد .
- صحيح ولكن لا أعتقد أنهم يمنعوني من السفر.
- سيمنعونك ... أنا واثق .
- يا خلفان إن ما يشير إليه لا يؤكد معنى أن جهازهم مقفل ، إني سأذهب للقاء أبي وسأعود إليكم .
- لا ننصحك .
- قال العم : وآمرك أن لا تذهب .
- ولكن يا عمي أنا لست ابن شيخ قبيلة فيمنعوني؟؟
- العلم عنده جريمة وأنت قد وصلت إلى الثانوية .
- ادعوا لي بالخير فأنا سأذهب بعد أداء الامتحان .
- الله ينجحك ونحن علينا النصح .
أدى حمد الامتحان وكذلك خلفان وأكمل الاثنان دراسة الثانوية ونفذ حمد رغبته وسافر إلى مسقط وذهب إلى أم خلفان يطمئنها على ولدها وكان ذهابه إلى أم خلفان حجه لإنشاء خلايا في بعض المدن العمانية والتمهيد لحركة انتفاضه تقوم بها المنظمة التي ينتمي إليها خلال مدة معينه وسمح له بالسفر في حين منع الكثير من الطلبة .
وفي طريقه للعودة إلى الكويت مرّ بأبوظبي بعد أن سمع بخلع( شخبوط ) وتولى( الشيخ زايد ) مقاليد الحكم وسمع كذلك عن تشجيع زايد للعمانيين في الوظائف والتعليم والإقامة بأبوظبي واتجه إلى هناك لقبوله وخلفان في البعثة وهكذا عاد إلى الكويت ناجحا في مهمته مؤكداً تعليمه وابن خاله ما يحقق لهما الاستقرار ، خلفان أن يقبل في الاقتصاد وقبل حمد كليه الحقوق ، وكان من مصادفات القدر أن تقبل حصة بنت التاجر المحسن الذين تعهدهما وحثهما على العلم في كليه الاقتصاد أيضا وكم كانت سعادة خلفان أن يجد معه حصة في معهد واحد وكم كان عزمه أن يقبل في الاقتصاد وقبل حمد في كلية الحقوق ، وكان من مصادفات القدر أن تقبل حصة بنت التاجر المحسن في كلية الاقتصاد أيضا وكم كانت سعادة خلفان أن يجد معه حصة في معهد واحد وكم كان عزمه أن يؤدي شيئا من الجميل إلى المنزل الذي خدمه خدمة حسنه وحثه على طلب العلم ، وخلال فترة الدراسة وجد له صديقه يتبادل وإياها وجهات النظر في براءة وتعقل واحتشام وكان خلفان يطلعها على أخبار وطنه وحصة ما فتئت تتابع هذه الأخبار وترغب في معرفة المزيد .
عمان
لله فضل دائم علينا ......... نشكره حمدا كما بدأنا
من نطف أو مضغن سوانا ... من آدم خلقا ومن سوانا
علمنا من فضله القرآن ... هو يمين ... هو يمين
وما كاد يصل إلى المنزل وقد أنهكه السير بسبب تحول الموكب من حي إلى حي ، حتى أسلم نفسه لزاوية من ردهة البيت وأغمض عينيه مستسلما إلى سبات عميق .... ولكن أمه لم تتركه وشأنه بل أيقضته متسائلة : ((هل صّليت الظهر يا خلفان ؟ ... الظهر خلصت وأنت ما صليت. قوم يا خلفان . قوم)) انتبه خلفان وقام متثاقلا وأحلام الوسن تداعب عينيه الشاحبتين وكاد أن يصدمه باب الحمام وهو يتجه إلى الوضوء .
وتراءى لخياله في هذه اللحظة ذلك الحلم الرهيب الذي شغله منذ شهر ، وصرخ وآي.. وآي .. وأسرعت أمه إلى الحمام وسمعته يقول وهو يجحظ بعينيه فزعا :
(( المغلغل يا أمي المغلغل ))
_ أي مغلغل يا ابني ؟ حتى في الحمام المغلغل ؟
_ نعم يا أمي المغلغل في كل مكان ، شوفي .. شوفي ... المغلغل .
ونسيت الأم الصلاة وقررت أن تأخذ ابنها إلى (المطوّع) يكتب له تعويذه عن المغلغل ، أما خلفان فرغم ذلك أكمل وضوءه وأدى صلاته وأسلم جفنيه لنوم عميق .. ولكنه في هذه المرة التحف واخذ وسادة له وعلا صوت شخيره .
عاد أبو خلفان من المسجد ودلف إلى المنزل حيث كشفت له زوجته عن هواجس ابنه وأخبرته أنها كتمت ذلك عنه منذ أكثر من شهر ولكنها لا تستطيع الآن أن تكتم وأنها تؤكد إصابة ولدها بمس من الجان .
قال الأب : كيف تكتمين ذلك عني ؟ كيف ترضين أن يبقى أثر الجان على ابنك بما ينيف على الشهر دون علاج .
- يا راشد : أنا صحيح امرأة , ولكني لا أستطيع أن أصدق أن مخلوقا يدخل في مخلوق .
- إيه ، النساء مرة ومرة يكن أعقل من الرجال .
- زين تعترفوا مرة ومرة .
- لا يا راية في كثير من الأحيان أنت أعقل
- ولكن الأحسن أن تأخذ الولد إلى المطوعّ .
- قلنا لك أنك أعقل .
- إذن سوف تسمع نصيحتي .
- مرة ومرة نعم أنكن أعقل ..... مرة ومرة
- يا راشد حس بالولد ، خلينا نسأل ونشوف .
- لا نسأل ولا غيره ، الولد سيسمع أحاديثكن في جلساتكن بعد المغرب ... تجيئكم سلوّم وتقص على الولد مع الأولاد الأخبار التي جمعتها من ( المعصرات ) اللاتي يجمعن حكايات الحارة ويناقشنها بينهم وتتقرب إليكم ( سلوّم ) أيضا فتجمع أخبار الخرافات من لف ليلة وليلة وتخدر الأولاد بأحاديثها حتى يناموا ، من هنا يا راية جاء السبب ، فأعتقد ولدنا بالمغلغل ، كوني عاقلة يا راية .
- على رأيك يا راشد ، لكن نترك الولد يهذي ؟
- لا .. لا نتركه يهذي الولد في حاجة إلى راحة . وإلى تغيير جو وسنرسله إلى عمته ويبقى معها كم يوم ويرجع .
- والمدرسة .
- أي مدرسة يا راية ، مدرسة الأزهر ، خبريني مدرسة بغداد أو القاهرة ، مدرسة البحرين اليوم أو الكويت .. أي مدرسة يا أم خلفان ؟
- مدرسة المعلم ( حمد ) إنشاء الله .
- نريده يختم القرآن .
- ويوم يختم القرآن . ماذا بعد ذلك ؟
- وسكتت راية ولم تستطع أن تجيب وفكرت بعمق ( نعم ماذا بعد ذلك ) يبقى عند أبيه في الدكان الصغير يستمع إلى أحاديث السوق ؟ يذهب إلى أحد البساتين ويستأجر ويسقي بستانه ، ماذا بعد القرآن إن مشاعرها تقول سيعمل في الأرض ، ماذا بعد أن قرأ كتاب السماء ؟ قالت راية :-
- نعم يا راشد ماذا يعمل ؟ سؤال كبير ، طويل وعريض .
- العقل يا راية هو الذي أحبه فيك ، أكثر من كل شئ كنت أخشى أن تقولي لي سيعمل في الدكان ، أومعك في المزرعة ويعيد حياتنا نحن يا راية .
- الحمد لله يا راشد حياتنا طيبة بوجودك .
- وإن شاء الله تكون طيبة يا راية .
- وتبقى طيبة ، لكن سؤالك سيجعلني أفكر دائما ماذا سيعمل خلفان حتى يكبر ، ماذا سيعمل خلفان بعد أن يختم القرآن ؟
- سنرسله إلى ( نزوى ) يتعلم النحو والصرف والأديان .
- الله يبارك فيه لكن علينا الآن أن نفكر في حالته مع المغلغل .
- هذا وهم سيزول مع تغييره الهواء .
- والمدرسة ؟
- صحته أهم من المدرسة .
- وذهبت راية لتغرف الطعام وأيقظ الأب خلفان من نومه ، وهب مصافحا أباه ، وسأله عما تعلمه اليوم فأخذ خلفان يقص عليه قصة التيمينة التي تمت لصديقة واحتفال الطلاب جميعا بنين وبنات ، باليوم المشهود لصديقه حامد حتى حضر الغداء فذهبوا يأكلون ، ثم هب خلفان يحمل الآنية إلى المطبخ وأحضر القهوة .
- أخذ خلفان ( يغنم) على أبيه وبعدها قال الأب : ألا تحب يا خلفان أن تزور عمتك ؟
- خلفان : إني مشتاق إليها كثيراً .
- الوالد : لقد هيأت لك واسطة السفر إليها وستصل بعد يوم .
- شكرا جزيلا يا أبي ومن سيكون معي ؟
- لا أحد يعرف أن المكان قريب ستصل في مرحلتين فقط ، سيكون معك الحمّار ( سليم ) وتركب على حماره ست ساعات تستريحون بعدها وتنتشرون صباحا إلى القرية فخير لك أ ن ترى عمتك وأولادها في النهار .
- شكرا لك يا أبي هذا فضل كبير منك سأستريح من المغلغل .
- أي المغلغل يا ولدي ؟
- ألم تخبرك أمي ؟
- أبدا يا ولدي أمك ما تعتقد في هذه الأشياء ولذلك لم تخبرني .
- حدثتنا ( سلوّم ) عن أخباره مع الناس ، ألا ليت كنا ما نسمع أخباره ، وتعجب كيف تغلغل مخلوق طول عمره .
وضحك الأب ضحكة كبيرة ، توقفت فجأة ليقول ذلك بصوت خافت كيف يغلغل مخلوق طول عمره ؛؛ نعم كيف تغلغل مخلوق ؟
- مسكين أنت يا خلفان المغلغل أكثر من واحد أكثر من مائة , أكثر من ألف ومليون حتى الصغار يقذفون بالحكمة .. آه كلما كبرنا عرفنا أن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث يجدها ، نعم يا خلفان حديثي عن المغلغل .
- ولكن ماذا قلت يا أبي لم أفهم كلامك ؟
- ستعلمه لكن أقول لك لا نعتقد في مغلغل من الجان – نعم لا تصدق .
- كيف لا أصدق وهو يأتيني كلما نمت واليوم رأيته وأنا في الحمام .
- يا ولدي نحن نقّيد أنفسنا . نحن نتعدى على بعضنا بعضا الإنسان يغلغل الإنسان .
وخرج وقام الأب من مكانه وذهب إلى حجرته والتأثر باد عليه في حين ظل الصبي حائرا لم يفهم ما قاله أبوه ولكنه أخذ يردد : الإنسان يغلغل الناس ... وظل باهت اللون حائرا .
منذ ذلك اليوم أصبحت هذه العبارة ترافقه مثلما رافقه الشعور بالمغلغل .
في اليوم الثاني كان خلفان يركب حمارا متجها إلى قرية عمته ، بينما كان الإنسان صاحب الحمار يسير وراءه وكان أبوه يودعه وهو يقول : مسكين ولدنا لم يفهم أنه في هذا اليوم قد استعبد إنسانا مثله ، أنه أيضا شارك المغلغل بما ندفعه نحن من أجر للإنسان ، للإنسان صاحب الحمار الذي يمشي الآن بينما يركب الصغير ولا فرق بينهما سوى أن هذا يعطي القرشين وهذا يأخذ ( القرشين ) .
كان الركوب على الحمار شيئا جميلا أنس به خلفان ، فمرة يقول لصاحبه سوقه – يعني اضربه وهو لا يعلم معنى ذلك إن أخاه الإنسان سيركض وراء الحمار ، قال الحّمار : يعني تبغيه ينتقل – أي يقفز – يفرح الصبي ويضرب الحمار ضربة موجعة فيسير في طريقه على قفزات وصاحبه يضربه كلما خفف سيره ويركض وراءه لاهثا ... وعندما دخلوا إلى أحد الجبال افترقت الطريق بحيث كان من المتعذر على خلفان أن يظل راكبا على ظهر الحمار ، فاضطروا إلى النزول ، وأخذ يشمشي مه الحمّار عندئذ أدرك أن زميله يتعب , بل أخذ يشكو من الطريق ، لقد تعبت يا غانم .
- أنت لا تقدر أن تمشي يا خلفان لكني سأحملك وعندما تعدوا الجبل أمر خلفان غانم أن ( يرادفه ).. فقال غانم : الحقيقة هذه كانت وصية أبيك لكي لا تسقط من ظهر الحمار ولكني وجدتك جريئا وماهرا في الركوب ففضلت أن تبقى لوحدك .
وترادف خلفان وغانم وبدأ الحمار متباطئا في سيره وانهالت عليه العصا ولكن التعب كان أقوى من العصا فسار على تباطئه حتى وصلا إلى المرحلة الأولى فتناولوا عشاءهم على مقربة من النبع , ثم فرشوا فراشهم على الوادي وناموا حتى أقبل الفجر فواصلا سيرهم من جديد .
بلغت الرحلة نهايتها بعد ظهر اليوم التالي والتقى خلفان بعمته وبقى معها ومع أبناءها وكسب أشياء كثيرة من وجوده بينهم وخسر أشياء كثيرة من وجوده بينهم فما خسره هو مواصلة تعلم القرآن واعتماده في الغذاء على الموجود فلا لحم دائم ولا سمك دائم الغذاء الموفـّر هو السمك المجفف والعدس وكسب أكل ( الغراميل ) مع السكر أو العسل في الصباح . وفي بعض الأحيان أكله خفيفة في الغذاء ووجبة ثقيلة في العشاء .. ولا يعد على الرز المصحوب كالعادة بالتمر .
ولكن الشيء الوحيـد الذي لم يفقده خلفان هو المغلغل ، المغلغل الذي أخبرته عنه ( سلوم ) والمغلغل الذي ورد على لسان أبيه ، وبدأت عمته تسمع عنه ذلك , وكان يحلو له أن ينام ويختم بالمغلغل ، يقول أنه رآه في الحارة .... لا – لا الولد على وشك أن يأخذه السحر ، ربما دخله جان أنه يوم ينام يقول أيضا ( الإنسان يغلغل الناس ) كلا يا خلفان لن يغلغلك أحد... سآخذك إلى المعلم .
وسارت به إلى المعلم ، ونثر كنانته .
- أبصر له – وبدأ باسم نجمه ، نجمة الأسد ، لا أحد يغلبه في النهاية هو المنتصر ، من هنا جاءه الحسد ، أسألك يا خلفان : تسير ( الفلج ) وحدك .
- هنا نعم ، ولكن عند أبي لا يوجد فلج عندنا طوى نزجرها .
- ولكن تذهب إلى ( الطوي ) وحدك .
- نعم .
- من هناك جاءك الخطف ، اهتموا بولدكم ، اعتنـوا به ، يوجد جـان صغير أسمه " قبقب " ليس به سحر ، لازم ( نعزم عليه ) حتى يخرج .
- طيب يا معلم ؟ عليك بشغلك ولكن ما ستعمل ؟
- سأعطيه ( حرزا ) وإذا لم يطلع الجان بسهولة فسنخرجه بالعصا .
- وكتبا المعلم الحرز ، وطلب ماء ورد وزعفران وكتب لهما على ورقة وبخـّره بالعود وطلب منهم أن يطووا التعويذة في جلد الوعل ويعلقها خلفان على رأسه أو صدره .
وكتب له آخر ليضعوه على وسادته ، وبعد أسبوع تمرن خلفان وارتفعت درجة حرارته ، وتصبب العرق منه ، فتتركه الحمى صباح ، وتعود إليه بعد الظهر لترافقه حتى الصباح ، ويأخذه الهذيان فيهذي بكلمات ليس لها معنى وهو عندما يصحو يصر على العودة إلى منزله الجميل .
أما المعلم فكان يسخر عندما يخبرونه أن خلفان يحب أن يعود إلى البيت ، وكان يعلل ذلك بالخوف من النتيجة مخافة أن يخرج الجن لأنه وجد من يخرجه ، وكان يعلل المرض الذي بخلفان هو معركة جديدة يخوضها مع الجان ، فالمرض تحايل من الجني كي لا يلبس الحرز وبدأت المعركة تشتد حتى حان وقت العصا واخراج الجني . واستطرد المعلم قائلا :
- قبقب ، ترجع عند أهلك أو ما ترجع ؟
- أرجع أسير عند أهلي .
- يالله أخرج .
- ما أقدر أخرج أمشي .
- لازم تخرج وإلا ؟ .....
- ما أقدر أمشي .
- أخرج هكذا .
- ما أقدر أوصل الباب – لازم تمشي بسلام .
- كيف أخرج خبروني – أخرج من أصابعه حتى ما تؤذيه مثلا . لا تخرج من عينه وبعدين ( يتعور ) .
- وإذا خرج من إصبعه ما تنجرح .
- لا ما يصيبها شئ لكن العين تتأثر .
وقال خلفان :؟ أرسلوا إلى خلفان يرجعني إلى أهلي .
قال المعلم : أسمعوا الحيلة أنه لا يحب يخرج أنه يتظاهر أنه خلفان الحقيقي ... أين العصا ويجئ بالعصا وانهال المعلم على خلفان ضربا موجعا ، وهو يصرخ : أخرج ، أخرج واستمر الضرب على المريض بشدة وأخذ خلفان يصيح صياحا خافتا لكثرة الألم الذي به وقال المعلم : لقد خرج قبقب لقد خرج الخبيث هيا دعوا الولد ينام قليلا .... وغط خلفان في نوم عميق .
وصمم خلفان منذ هذه الحادثة أن لا يذكر المغلغل ، هب من نومه ولكن المرض لم يزل به ، والتعب قد بلغ أشده ، وآلام العصا تكاد تفتت جسمه ومع ذلك فقد صمم ألا يذكر المغلغل في لسانه حتى يكفوا عن ضربه ولكن خلفان وقف يفكر ، أين المغلغل حقا ؟ .. لماذا لا يأتيهم وقد أتوا من يخاف منه ؟ و أسرع خلفان يصرخ تعال يا مغلغل أينك ؟ ولكن لا بأس سأعطيهم مهلة يومين أو ثلاثة حتى أرى هل سينتقم المغلغل ؟؟
وشفي خلفان من مرضه ولم ينتقم المغلغل وعاد خلفان إلى أهله وعمته المسكينة تعتقد أن المعلم أخرج المغلغل من جسمه وكاد أبوه أيضا أن يصدق فالذي يحدث فعلا أمر يدعو إلى الشك ولكن خلفان جلس مع أبيه يحدثه أن الضرب كان يوجعه وأنه بنفسه صمم أنه ليس هناك مغلغل وعليه أن ينتقم من المعلم وعمته وعادت إلى ذاكرة خلفان عبارة أبيه (( الإنسان يغلغل الناس )) وسأل أباه توضيح ذلك واكتفى الوالد أن أجابه: (( يا ولدي تكبر وتشوف )) .
رفعت الأعلام على منزل خلفان وأقبلت النساء يهنئن أم خلفان على ختمه القرآن الكريم وشاهد الناس موكب ( التيمينة ) وهو يطوف المدينة ... كانت سعادة الوالدين كبيرة حينما خطى خلفان خطوته الأولى للزواج ، هكذا قالت والدته وهو يبلغ من العمر تسع سنوات وخطر لأبيه أن يفكر ، أجل ماذا بعد القرآن ، لا بد أن يعرف من أمر دينه وعن لغته العربية فلا يحسن أن يذهب إلى المدرسة ... ولكن هل يرسله إلى المدرسة الوحيدة في مسقط ، هنالك أحد نسبائهم ولكن لماذا يكلف الناس ، هل يرسله إلى( نزوى ) أو( سمائل ) ليتعلم اللغة والأديان والأحكام ؟ أيضا مع من ؟ سؤال كبير ... لا مدارس هنا ، ليكن نصيبه كنصيب أبناء مدينته فيزرع الزرع ويساعدني في الدكان ويدير فنجان القهوة على الضيف ، وليكن تحت حاجز أهل البيت يرسلونه أينما كانت من الحاجة .
وهكذا أصبح خلفان رفيق أبيه الدائم ولكنه لم يحرم نفسه من قراءة ما يقع بين يديه ... سمع من شعر الاستنهاض ( لأبي مسلم )... سمع عن قصائده في وحشة الليل وشاعر الجلسة يتغنى بمقصورته .
تلك الرفات طيبة صالحة .. لحارث وغارس ومن بنى
أتبحثون بينها عن عزة .. أوفى لعل فرجا أوفى عسا
سمع قصائد ابن شيخان وملاحمه وسمع مفاخر ( سليمان بن سعيد ) وغزل ( الكيذاوي ) ومرثاة ( المنتفكى ) و ( ناصر بن مرشد ) ، أدرك خلفان أنه فرع من أصل عريق وكأن حي بن يقظان بطل أسطورة ( ابن الطفيل ) يسال عن إنسانيته فبدأ خلفان يسأل عن كرامته . كرامة بلاده وشعبه واشتعلت الجذوة وتوهجت الجمرة وأخذ بصيص من النور أو النار إلى نفس خلفان وسأل نفسه لماذا يقول ناصر بن سالم هذا الشعر بلادي اسمها عمان وشعبي العمانيون والأجر عظيم كيف نحن ؟ أسعداء أم أشقياء .
ودلف يسأل والدة فوجد عند والده التغذية لهذه الأحاسيس . وأخذ يقص عليه قصة تاريخ عمان أخذ يسرد عليه وصايا ( البارونى ) ونشأة حرب زنجبار وخلفان يستمع ، يسمع فيعي ولكنه مسمع العاطفة إذن فهو يسمع ويتحمس ولكن كيف يقذف بهذا الحماس وكيف يستفيد منه .
كان خلفان على بعد تسعين كيلو مترا من مدينة مسقط وكان بين حماسة للعلم وتردد أهله جسر يوصله إلى المدرسة السعيدية بمسقط هناك ولكن كيف السبيل ؟ هل يرضى والده أن يعيش مع شقيقة والده في مسقط ومطرح ؟ والسؤال أمام نفسه وكان الجواب لماذا لا يتعرف على هؤلاء الأهل لماذا لا يزورهم .. وبعد العشاء وفد على أبيه باقتراح زيارته إلى مسقط ولكن الأب عارض الفكرة في سفرة وأيدته الأم بحجة التكاليف وصعوبة معيشته مع أقاربه على أنه اقنع والديه بزيارته مسقط ليومين أو ثلاثة وأخذ معه بعض الهدايا كالسمن العربي ، وخل البكر وطاقة نسيج ( خضرنجي ) وبعض ( الورس ) وقطعة من نسيج ( التيل النسائي ) ، وغادر منزله أيضا على حمار وأيضا مع غانم وبعد مسيرة يومين أو ثلاثة وصل إلى مسقط ، كان خلفان وهو يقترب من ( البندر ) متبل الوجه مندفع الملامح يلبس حزاما فضيا وربطة في وسطه ويلف حول رأسه قطعة صوفية تسمى ( المصرّ ) يحمل بيده اليمنى عصا صغيرة من أخشاب الزيتون ، وعندما وصل إلى ( روي ) قال له غانم : كبرّ يا خلفان ( الله أكبر )
- لماذا أكبر ؟
- كي لا يؤذينا ( موظف الفرضة ) الله أكبر منهم .
وكبر خلفان وصولهم بعد الفجر وهناك تنتظر قوافل الإبل ومجموعات الحمير والناس يتذمرون من كل هذا الانتظار وبدأ دخول المسافرين إلى مدخل الجمرك واحدا واحدا . وبدأ التفتيش ، وفتح الحقائب ، وجنى الضرائب الجمركية وابتداء من قناني السمن و ( أوقار الحطب ) و ( العوسج ) وانتهاء بالتمر والفواكه وامتعة المسافرين .. وجاء دور خلفان فسأل عن حقيبته وقال غانم : هذا الحمار موجود فقال الشرطي فك أحزمة الحمار لا بدأ التفتيش وفك غانم ( الجواد ) من ظهر الحمار بينما كان الموظف يدخل يده في جوانبه ثم اتجه إلى ( الخرج ) وأمعن ما بين جانبيه تفتيشا, وانتهى الأمر بأن طلب منهم خمس قروش دفعها خلفان وهو يقول " لقد نصحني والدي أن أؤخر السفر للهند وما رضيت .
وساق غانم حماره إلى السوق حتى وصل إلى ( الغريفة ) أو مطرح ، فعاد التفتيش من جديد , وعندما وصلوا إلى سوق مطرح غير غانم طريقه خشية أن يمر على الجمرك أيضا فيحصل ما حصل وسار بالحمار متوجها إلى مسقط وفي قرية( ريام ) سمعه خلفان يكبر فعاد خلفان للتكبير , وهناك وجدهم عسكري سألهم عما يحملون فأروه وصل الخمس قروش وواصلوا طريقهم فصعدوا عقبة ريام وعندما بلغوا القمة أطلت عليهم مسقط بأبنيتها البيضاء وقلاعها المتناثرة في قمم الجبال وهيبتها الصامتة التي كانت تثير كثيرا من التساؤل وسار الصبي والرجل والحمار في طريقهم حتى وصلوا ( حارة ميابين ) حيث تسكن عمة خلفان ، كان زوج عمته قائما بإحدى المساجد يتعهده ويؤديه ويصلي بالناس وكان في نفس الوقت يعلم الأولاد القرآن الكريم في الصباح وعندما طرق خلفان مجلس عمته أسرعت تفتح له فعرفت غانم وسألته من هذا الصبي الذي معك هل هو خلفان فقال غانم : نعم إنه ابن أخيك أصر إلا أن يأتي لزيارتكم واقتربت العمة وضمته وحملته إلى داخل البيت قائلة لأولادها هذا هو ابن خالكم اقبلوا للسلام عليه ... واقبل الصبية فرحين فقال أكبرهم .
- هل هو الذي حدثنا عنه غانم .
- نعم يا ولدي هو الذي يسأل عنكم أباه دائما , وهذا هو قد أتى لزيارتنا وزاد الترحيب بخلفان وعندما رآه عمه ازداد فرح الجميع .
تجول خلفان في شوارع مسقط ولعب مع إأخوته بحيث أصبح قائد فريق ( التوفه ) يوزع أفراد الفريق , ويأمر أحد أعضاء الفريق ليلقف الكرة ويوافق على ( المهوب ) . و ( المهوب ) وتلقيف الكرة جزآن مهمان من هذه اللعبة التي تتكون من فريقين يتبادلان رمى الكرة بالمضرب وهي مرتفعة عن الأرض , في حين يحاول أحد أفراد الملعب أن يركض إلى الهدف مسرعا دون أن تصيبه الكرة ، فإن أصابته الكرة خسر الجولة واستلم الفريق الآخر ضرب الكرة وحسبت إصابة على الفريق الأول ..... كان خلفان في هذه ماهرا كلما تخطئ ضربته ولذا فقد تغير مجرى اللعب في الحي وأصبحت كل الفرق راغبة في كسب ود خلفان وارتفعت معنويات أبناء عمته وأقاربه وصار لهم نجم .
لم يخسر خلفان تعليمه , فقد أمرته عمته بمواصلة تعليم القرآن مع أبى أولادها ومن هنا فقد وافق والدية على بقائه في مسقط وكانوا مسرورين به نتيجة محافظته على تعليمه .
وكان يوم ختم القرآن الكريم يوما مشهودا في حارة ( ميابين ) بحضور والديه وآأخوته الصغار وزعت خلاله الحلوى الممزوجة بالذرة المقلية , ولبس أثوابا جديدة وعاش يوما من أيام عمرة لايمكن أن ينساه وواظب في مدرسة عمه يتعلم الخط حتى أقبل الصيف فعاد إلى والديه ولكن ما أن حلّ شهر سبتمبر حتى قدم إلى مسقط لينضم إلى المدرسة السعيدية فقبل في الصف الثاني بعد (الشافع والنافع) كما عبرّ لابن عمته القادم من الكويت وكان ابن عمته في الثانية والعشرين من عمره يعمل فراشا لإحدى المؤسسات ويتعهده أحد موظفي التعليم بالعلم فهو تلميذ مسائي في السنة الثالثة إعدادي وقد ألح على ابن خاله أن يسافر معه للتعليم فلا مجال له في هذه المدرسة وأوضح له أنه الآن في العاشرة طالب في الثاني تمهيدي لا بد ّ له من سبع سنوات حتى ينهي التعليم الابتدائي ولكنه يربح (عمره) في الكويت فيدرس شيئا من الحساب ويتقدم في الامتحان لقبوله في الصف الرابع الابتدائي ووعده حمد_ وهذا هو اسم ابن عمته _ أن يدّرسه قبل السفر وخلاله ، وهكذا اتفق الاثنان وبقي أن يقنعا والد خلفان فقصداه للزيارة وفرح الخال كثيرا ولكن عندما فاجأه باقتراح سفر خلفان تردد طويلا , وماطل وهما يقنعانه ، ولكن تردده ما لبث أن زال عندما اطمأن إلى حمد وسمعته في الغربة , واقنع الوالدة ...
وفي أواخر سبتمبر من عام 1954م كان حمد وخلفان من نسيج الخط الطويل على أبواب شركة الملاحة التي يهمها أن تملأ سطح السفينة بركاب الدرجة الثالثة وقوفا كان أو جلوسا أو نياما .
وفي أمسية يوم صائف كانت الباخرة _(دواركا ) تمخض عباب البحر العماني متجهة إلى الخليج العربي وعلى ظهرها المئات من المهاجرين الذين تتهلل أساريرهم بالآمال بالحصول على العمل والقوت والعيش الجديد في عالم جديد .
وكانت الباخرة تخفف منهم كلما قدمت على ميناء جديد وفي أحد الموانئ شاهد أول مظهر آثار انتباهه من نكبة الشعب العماني , رأى أكداسا من الناس تتجمع على النافذة الصغيرة بصالون الباخرة يحمل كل منهم جوازه ليحصل على توقيع الموظف المختص بالنزول وشرطة الميناء تطوّقهم بالعصي ( والعريف ) يخفف الازدحام بعصاه الطويلة التي يهوي بها بين الدقيقة والأخرى على ظهور هؤلاء الناس الذين كان أجدادهم سادة هذا البحر ومصدر إشعاعه ، والتفت خلفان إلى حمد يقول له : هيا يا أخي فأنا لا أستطيع أن أرى هذا المنظر ، لقد صدق خالك يا حمد حين قال : (( الإنسان يغلغل الإنسان )) .
- يا خلفان قبل أن تلوم أهل هذا الميناء وشرطتهم عليك أن تسأل نفسك لماذا أخرج هؤلاء الناس ؟
- مثلما خرجت أنا وأنت كي نشتغل ونتعلم .
- أليس من الممكن أن نتعلم ببلدك .
- بلى وكذلك يمكن أن أشتغل ببلدي .
- إذن لماذا خرجت ؟
- لأني لم أجد مدرسة أتعلم فيها .
- عندك مدرسة .
- لكنها في غير مدينتي ، هي في العاصمة مسقط فقط .
- أجل إنها مظهر للزوار كي يخرجوا بفكرة تعليمية حسنة مع أنكم تؤخرون سنتين . وهذا أنت عليك لكي تنال الشهادة الابتدائية أن تمضي سبع سنوات فتتخرج وعمرك ثماني عشر سنة .
وقطع الحوار صوت جهوري مرددا : ولسنا حميرا ؟ إذا كنتم لا ترغبون في دخولنا إلى بلادكم فلا داعي لضربنا ؟
وأقبل ضابط الجوازات بعد أن وصل إلى سمعه أصوات المتخاصمين فاستدعى العماني وسأله فأخبره عن سبب ضرب الشرطي وأنه فعلا مستعد أن يواصل سيره على ظهر الباخرة وأن يعود إلى مسقط .. وكان الضابط شابا عاقلا يبدو عليه أنه يعرف ويحس بآلام هؤلاء المهاجرين فأخذ جوازه , وأشر عليه بالدخول والتفت إلى الشرطي يهمس في أذنه وعلى أثر ذلك عاد الهدوء إلى الباخرة أو بالأحرى على فتحة الصالون وألقى الشرطي بعصاه .
كان خلفان وحمد من ضمن الذين بقوا في الباخرة ليواصلوا سيرهم ، أما الذين انهوا معاملاتهم فقد غادروا الباخرة مع العشرات من القادمين وكثيرا منهم يحمل حمولته على كتفه ويسير بها في شوارع المدينة يبحث عن ملجأ بين إخوانه المهاجرين .
وواصلت الباخرة سيرها وعندما وصلت الكويت آن الآوان لحمد وخلفان أن ينهيا أيام البحر وأيام المنظر اليومي الذي عاشاه خمس أيام ..
لم يكونا بحاجة إلى التفتيش عن مكان فلحمد بالكويت منزل يمكن أن يشاركه فيه خلفان . وفي الصباح انشغل حمد بالتفتيش عن عمل لخلفان وكان الحظ حليفهم هذه المرة فقد طلب صاحب المحل من حمد أن يعمل أخوه معه وأضاف بأن أمره بتسجيله في التعليم المسائي وهكذا أصبح خلفان طالبا في السنة الأولى إعدادي بعد امتحان أجرته له مدرسة ( النجاح المسائية ) وعاملا في النهار في إحدى المحلات التجارية .
ترى ما الذي دفع صاحب المحل إلى أن يوافق أن يتبنى حمد وخلفان , وأن يدرك أن مصير خلفان هو المدرسة ؟؟ ذلك هو الوعي الذي غرسه العمانيون في نفوس الناس عن قضيتهم والواقع الذي ساعد على غرس هذا الوعي هما اللذان جعلا صاحب المحل يفكر في أمر هذين المخلوقين قبل أن يخبراه ...
ما أن بدأت الشمس في حالة الغروب حتى كان حمد وخلفان يسيران إلى المدرسة بمنطقة الكويت " شرق " مسكن صقر الشبيب الشاعر الكويتي الفذ وكأنما كانا يعبران عن المعنى الذي صاغه هذا الشاعر ( في كثير من قصائده )
دخلا المدرسة وهناك وجدا عشرات من العمانيين يتلقون دروسهم وهناك أيضا تلقاهم المسؤول عن التعليم المسائي برغبة صادقة وتشجيع كبير . كانوا شبابا ما حضروا للعمل المسائي ؟ إلا لينالوا التعليم كسائر أبناء الخليج العربي وتسهيل أمورهم ، كانوا شبابا لم تعقدّهم السياسة ولم تطرق أبوابهم الفجاجة . آمنوا بواجبهم ففتحوا للطلبة العمانيين أنديتهم واستأجروا لهم المنازل لإيوائهم وأنشأوا الجمعيات لتعليمهم إنهم أجل من أن نذكر أسماءهم ... ولكن خلفان أدرك أنهم حقيقة وانهم ليسوا مجرد سمعه وفهم أيضا أن صاحب المحل واحد منهم فاخذ يقبل ابن عمته ويعانقه عناقا ممتزجا بعبارات التهنئة بأنه يعيش مع هذا الإنسان وانه لا يستغرب إذ يرى فيه الرجل الصالح وأجابه أخاه :
- أنك يا خلفان تتكلم وكأن عمرك خمسة عشر سنة .
- نعم إن عمري خمسة عشر سنة ولكن المصائب كبرتني .
- هذه عبارة أعلى من مستوى سنك فعلا .. ولكن يا خلفان هل تتذكر الآن عبارتك المألوفة ( الإنسان يغلغل الإنسان ) .
- الآن يا أخي آن أن أقول : أن الإنسان يحس بالإنسان .. لا أعرف لماذا .؟
- هل تعتقد أن أباك على خطأ ؟
- إذا نظرت إلى أخي الكويتي أقول أبي على خطأ .
- ولكن أباك ليس على خطأ ؟
- أليس صاحب المحل إنسانا ؟
- نعم إنسان محسن , ولكن هناك أيضا إنسان مسيء .
- صدقت ولكن حتى الصبيان سيسيرون في طريقنا سمعت فئة تعيرني بأني عماني واستغربت لماذا يكرهون العمانيين ؟
- لأنه شخص مسيء يعني أنت فقير ، أنت مسكين أنت محتاج لهم أنت من بلاد متأخرة .
- لماذا تأخرت بلادي ؟
- لأن الإنسان الكبير فينا مسيء .
- نعم الإنسان صاحب المحل محسن ، وحاكمهم كذلك محسن.حاكمنا مسيء .
- نعم هذا هو الصحيح .
- عبدالله السالم يبني لهم المدارس والمستشفيات والطرق كأنها ملعوقة باللسان ، الأعمال موجودة لأهل البلد والأطفال يعلمون ويقدمون لهم لباسا وغذاء صحيا .
سعيد بن تيمور لم يبن مدارسا ولم يوفر علاجا في عمان إلا الكي بالنار.. شوارعنا مليئة بالحجارة وأشواك السمر وحلوى البيدار . أنا طفل ، أنا هنا تركت أمي وأبي ، أنا في الكويت ، لماذا ؟
- إن الإنسان الكبير مسيء
- إنه يغلغل الناس .
- نعم يا حمد هل تصدق إننا نخافه ، نحن لا نحبه لكننا نخافه هنا يحبون عبدالله السالم ن ولكن نحن نخاف حاكمنا كما نخاف المغلغل الذي حدثتنا عنه ( حبوه سلوّم ) الله حاكمنا نحن مغلغلون نخاف منه يا حمد هل المغلغل الذي حدثنا عنه سلوّم هو الحاكم ؟
- حبوه سلوّم قالت لنا أن المغلغل جني , وليس من البشر والمغلغل أيضا مقيد بسلاسل من حديد لا يقدر أن يتعدى على الناس فهم يخافون لمجرد رؤيته يمكن الحاكم الظالم أيضا مغلغل ؟ من يدري ؟ لكن يا خلفان أنا أكبر منك لا أعرف لماذا هو مغلغل ؟ ..أنا أخاف منه كما تخاف أنت ولا أحبه كما لا تحبه أنت إذن دعنا نسميه المغلغل ولا حاجه بنا أن نتذكر اسمه نقول المغلغل لعلنا من بعد نكشف المعنى الحقيقي للمغلغل .
- مسكينة حبوه سلوّم لو تسمع أن أخبار الليل نحن نتكلم عنها في النهار .
- أجب يا خلفان أرجو أن تكبر وتخدم بلادك .
- نعم إن شاء الله سأتعلم وأكبر وأخدم بلادي ولن أخاف من المغلغل .
- بارك الله فيك .
وسارت حياة خلفان في نمو وفي استعداد هو وأبن عمته ليعيشا بعد ذلك ,وقد مرّت فصول من حياة عمان الحبيبة في الخمسينات .
الهجرة مستمرة ، المحل الذي أهلك الزرع والنسل الثورة التي قامت على تقسيم الوطن التشجيع على ذلك من بعض الدول العربية ... الانتهازية تلعب دورها والحاكم يقرب الحاكم الظالم ويناصره على أذى الفقير ، القادة يهربون ويبذرون الألغام لقتل الأبرياء المساكين والحيوانات ، فضائح القادة في المهاجر عندما اقتتلوا على الغنائم رؤوس السمك تتساقط على رؤوس العمانيين وظهورهم .
الصبية العمانيون يغسلون الصحون في البيوت ، أبناء القبائل والشيوخ المعروفة يعملون بالأعمال الوضيعة .
كل هذا مرّ وخلفان ينمو ويأخذ منه بقدر ما يملأ فكره ولكنه كان دائما أكبر مما يستطيع ، كان يأخذ من الألم جزءا وفيرا ولهذا فقد خلط طعامه وشرابه ودراسته وقال له حمد مرة :
- أنت تحمل هم شعبك يا خلفان .
- نعم يا حمد أنت علمتني ذلك عندما كنت في الصف الأول الإعدادي المسائي , وأنت تطعمني هم العمانيين ووطنهم الحبيب ، فسّرت لي المغلغل ؟ وجعلتني أصل إلى الحقيقة الكبرى .
- شكرا لك يا خلفان فلا تكلمني وأنت حزين .. إن هذا الحزن مملؤ بالأمل.
- إنني المح تفسير هذا المعنى ، ألمحه قريبا وليس بعيداً لا بد أن يقيض الله لهذا الشعب من يأخذ بيده ، تاريخنا مليء بالدلائل يا أحمد .
- بل وما في ذلك شك أبدا , فلقد جاءنا البرتغال فأنقذنا ناصر بن مرشد ، طغوا وبغوا ولكن الله أرسل لنا ناصر بن مرشد وتبعه سلطان بن سيف .
- واحتل بلادنا الفرس وأصبح الحكم تحت تصرفهم , فقيض الله لنا أحمد بن سعيد وكن على ثقة بأن الطاغية زائل وان البدر قد بدت ملامحه أما سمعت أن ابن عمه يعلوا صوته اليوم مطالباً بحقوق الشعب وزوال الظلم .
- أما قرأت كتاب سلطان واستعمار .
- إيه يا أحمد ألم أقل لك أنك أستاذي دائما .
- سأقدمه لك .
- أجل هناك أمل ولكن علينا أن نعمل .
- وكيف نعمل يا خلفان ؟
- نكـّتل الناس في هذه المهاجر .
- لا يا أخي تفرغ لدروسك الآن فانك على أبواب التوجيهية, وعليك أن تدرس هذا العام .
- شكرا يا أستاذي ... يا ابن عمتي ... ما اسعد ذلك اليوم الذي ختمت فيه القرآن وجئت إلى منزلكم الأراك يا حمد ..
( وعندما دخل عليهما صاحب المحل – كانا في أوج حديثهما وفاجأهما ضاحكا) .
- لقد استمعنا إلى حديثكما يا ولدي
- شكرا يا عم .. أنت ومن سمعتم ؟ .
- أنا والعيال ولقد فهمت اليوم أن تربيتي قد نجحت فيكما لم تثرني غيرتكم على وطنكم عمان فأنا أعرف ذلك وقد ربيتكم عليها ولكن أثارتني رزانتكم , وقول حمد لخلفان (عليك أن تتفرغ لدراستك . وان شاء الله ستنجحان وتحققان آمالكما .
- وستزورنا يا عم في عمان .
- سأزوركم ولكن ارفعوا كلمة (عم) عني .
- لا يا عم لن نرفعها .
- إن كلمة عم عندنا غير التي عنكم فعندنا أن العم أخ الأب أو صديقه.
- إذن مرحبا بهذا المعنى ، لم أر أباكم ما رأيكما أن تحضروه .
- إنها فرصة سعيدة .. إن أبي سيساعدك في مزرعتك الجديدة , وابا حمد سيفيدكم في تعليم القرآن .
- ومن سيعلم القرآن هناك . فهناك لا توجد عندكم مدارس فالأولى أن يبقى حتى يبصر الناس ويتعلمون قرأن ربهم .
- إذن فسيظل والدي .
- اجل وسأرسل مبلغا لتذكرة السفر الطائرة .
- لا .. لا طائرة .
- ممنوع ؟
- نعم عندنا الآن .. ممنوع .
- نعم اعرف .... ولكن كيف يمنع من ركوب الطائرة .
- ممنوع وكفى نحن نسميه المغلغل ، يا عم هل تعرف معنى المغلغل؟
- لا .
- المغلغل جان شديد الأذى استكبر حتى الجان إيذاءه , فقيدوه بالسلاسل وسمّوه (مغلغل) .
- عدنا إلى بلادكم وما تتصف به من سحر ولا تصدق يا خلفان هذه خرافات .
- خرافات من الجان ولكن هذه من الأنس .
- هل رأى مغلغلا ؟ .
- نحن نسمي حاكمنا مغلغل .
- صدقت لكثرة ما تخافون منه .
- نعم ولكن فهمنا الآن ومن حوارنا الذي سمعته إنه لا بد أن يغلغل في يوم من الأيام , لا بد أن ننتصر عليه يوما ما ونلقي به خارج البلاد .
- الله ينصركم على كل حال سأقدم لك قيمة التذكرة وعند وصولها تكونون قد تخلصتم من المغلغل فيجيء والدكم .
- عند ذلك يجيء الوالد يقصد خلفان ؛ لأنه سعيد بالمشاركة في خدمة الوطن .
- أبدا.. خلفان قبل كل شيء سيكمل الجامعة وسيدرس مع أولادي – العلم قبل كل شيء .
وهب خلفان يقبل يدي صاحب المحل ، وبعد أن خرج عمهما أخذا يتشاوران في مجيء الوالد فشجع حمد على ذلك وكتب رسالة الى أهله وبعد شهر كا ن والد خلفان في الكويت يدير مزرعة العم في (الفنطاس ) ولازال هو يفيض إخلاصا في العمل كما فاضت نعمة (صاحب المحل) .
صارت عادة خلفان أن يذهب إلى أبيه كل جمعه في ( الفنطاس ) وكثيرا ما تأتيهم عائلة عمه بعد الظهر . أما أحمد فكثيرا ما تخلف ويتعلل بالذهاب إلى ألا حمدي أو إلى ( الفحيحيل ) ولكنه كان يقضي صباح يوم الجمعة في إحدى البيوت القديمة ( بالمرقاب ) استأجرها أصدقاء له وكان يجلس في غرفة معينه ويجتمع فيها برهط معين يتداولون فيها أخبار الوطن, ويتلقون دروسا في التنظيم وفي العقائد . وكان حمد يرى نفسه مندفعا إلى هذا التنظيم فلا يمكن أن تقوم عمان من كبوتها لمجرد كلام وآمال ويلتفت حمد ويسأل المتعلمين فيجدهم لا يجيبون سوى عن منافعهم ويجد حولهم قوما من المتذمرين وقفوا في صفهم وأيدوهم في سبيل قضية بلادهم , ويلتفت إلى داخل الوطن فيجد مخططا رهيبا لتخلفه ، وكان لا بد له أن يلاقي هذه الخلايا التي انتشرت بين العمانيين وإلى أي من ينتمي ، واتخذ طريقه ومدّ يده إلى إحداها, وقرر أن يكون عضوا عاملا وهذا ما كان ......
ولكن شيئا واحدا لم يكن ، ذلك أن مصير خلفان لا يحدّه الآن فجاء إليه يفاتحه , فقال خلفان : يا أخي أنت علمتني وربيتني ولكن غير مرتاح لما تقوله هذه زفرة من زفرات السخط ، لماذا أعلق نفسي بزعامة خارجية
- إنها ليست خارجية ، إنها عربية .
- ولكن دعنا نجرّب أن نصلح هذه (الخلية) بلادنا عنا بعيدة دعنا نجرب إنها مكيدة هذا الزعيم مصلحه لبلاده وعند ذلك نعرف أن تعليماته حسنه نحن لا نعرف إننا أجزاء من وطن عربي واحد فهل يتحقق هذا بين قطرين عربيين ؟ .
- سيتحقق .
- تحقق وفشل لماذا؟
- أنا غير مستعد ، أقول أولا نصلح عمان وبعد ذلك نتجه للعرب فإذا كانوا صالحين سرنا معهم , وإلا قمنا بالإصلاح هذا رأيي ولست متعصبا لعمان ولكن انصح كل عربي أن يبدأ ببلاده إذا كان غير راض عما يجري في بلاده أما أن نبذر الانشقاق والتقلص ونكيل الشتائم ونعلن السخط ونحن ليس بيدنا إلا جريده وكأننا أصوات الطبول فهذا مالا أريده لك أبدا , ويجب أن تعلم أن ذلك أضعافا لك ولعروبتك .
- ثم سكت وسكت خلفان 0 عن ماذا ؟ لا أستطيع أن أقول ..... أحيانا تضطر إلى السكوت ولكن تذكر من تدعوني إليهم من الزعماء يا خلفان ثم ماذا؟
- ثم لا لقاء بيني وبينك ، أ،ا يا حمد مدين لك ولكني سآخذ بكلام عمي وصاحب المحل أكمل الجامعة أولا وأنت اليوم في الثانوية معي وسنكون على أبواب الجامعة آخر العام . أنصحك أن تتفرغ للعلم والرأي لك .
- سننجح سويا إنشاء الله وانقطع الحديث وأوى كل منهما إلى فراشه واقبلت الجمعة فافترقا كل في طريقه ذلك غربا إلى (المرقاب ) وهذا شرقا إلى ( الفنطاس ) .
ما أسعد خلفان وهو يتجه إلى ( الفنطاس ) فهو يفكر فيما حققه في حياته ويسترجع ذكريات عهد الطفولة المغلغل ورقة أمه ......... خروجه من بلاده ولطف الله به وصاحب المحل وعطفه عليه .. تذكر حمد وأثره في توجيهه ، وعندما وصل إلى المزرعة وجد أباه في انتظاره وقد فرش ( بطانية صوف ) واحضر دله القهوة ينتظر ولده الذي عوده بزيارته كل جمعه وكان بيده مغلف قدمه لولده ، فتحه خلفان وأخذ يقرأها وعندما انتهى خلفان من قراءة بيان سياسي موجه إلى العمانيين سأل أباه ( من أين حصلت على هذا البيان ) .
- انه يا ولدي قد وزع علينا مطبوعا كما ترى ولكن ما رأيك في هذا البيان ؟
- انه بيان طالما انتظرناه يا أبي ، أن عمان محتاجة الى عقلية حديثة وإلى تفكير واسع وقيادة محكمة وأنا لا أعرف (طارق) ولكن المح من عباراته هذه كل خير .
- وهل ترى سيرضي العمانيون على هذا البيان ويوافقون طارق على حركته .
- حتى الآن لا أعرف وأنت تعرف اكثر مني .
- يا ولدي : أنت اليوم متعلم وأنا اليوم جاهل ليس عندي شي من العلم وهذه بلادنا ويهمنا أن نعرف نتيجتها .
- لا بد للقيد أن ينكسر يا سيدي الوالد ، نعم أنا متعلم
- اني أقول أن كل شيء يزيح هذا الإنسان نوافق عليه .
- كلامك انه حال دون الإصلاح ، انه صخرة تعترض مجرى الماء ولكن يا والدي ليس كل شيء ، ولكن قد نقبل الصبر على الظلم ولا نقبل شيئا آخر .
- معك حق يا ولدي ولكن أولا يجب أن يزاح الظلم .
- هذا لا يحصل ، عنصر الزمن يقف ضد ذلك وبالنسبة إلى طارق فقد عرفناه محسناً على الناس وخالك كان يحدثنا عنه بالجميل عندما كان رئيسا للبلدية , والعمانيون الذين اتصل بهم أثناء الثورة العمانية يمدحونه ، كان يطلق سراحهم ، كان يسهل السفر للمتسللين منهم ، كان يقف ضد أخيه سعيد حتى أقاله وحرمه من كل شيء ، ثم خرج غاضبا على الوضع وصرح بذلك وهو اليوم يؤكد .
- أنا لا أقصد أن الوضع سيكون أرداء ... لا أنا يا أبي من المؤمنين أن التطور على مراحل ، وأعرف أن طارق لو أراد لحصل على العيش السعيد وأعرف أنه شاب مثقف ومتصل بأناس أعرفهم من شبابنا ومن خلال هذا البيان تظهر نواياه الحسنه وآراؤه الثاقبة .
- المهم أن تتخلص من هذا الطاغية وأنا حسب مسايرتي للزمن أن عمان ستسير إلى أحسن حال ولا تنسى يا ولدي أن النفط قد ظهر عندكم وأن النفط دائما يأتي بحاكم جديد وأفكار جديدة وتطوّر جديد فنبدأ من الكويت في عهد أحمد – ولكن الذي استفاد منه وأفاد هو عبدالله السالم الصباح . لقد أسس الكويت الحديثة.. , وفي البحرين نجد حمد بن عيسى وبعده جاء سلمان بن حمد حاملا ظهر النفط .., وفي قطر بدأ خلف أحمد بن علي آل ثاني .. وسأخبرك بعد أن شخبوطا زائل من أبو ظبي , وعلى هذا فإنه كلما بدأ استخراج النفط بدأ التغيير تمهيدا للتطور... إنها إرادة الله يا ولدي .
- شكرا على أرائك وتجاوبك معي وإن هناك حقيقة واضحة تقضي بوجوب ايجاد منطلق ليتحرر شعبنا مما يعانيه .
- إن طارقا يا ولدي ليس وحده فلا بد أن يكون له عقلاء من العمانيين , ولكن المح أن الرجل سينجح , وأن أهدافه طيبة , ولذا أوصيك وأوصى بالحكمة في خدمه الوطن وتخليصه من الطغيان .
- إن الطغيان يا والدي قد أوقع الوطن في مشاكل عديدة و أشبه ما تمثل به عمان اليوم عمارة ساقطة على ساكنيها فهم ما يزالون تحت التراب وبسبب ذلك تجمعت عليهم المشاكل داخلية وخارجية , إن علينا أولا أن نرفع التراب والحجارة عن سكان العمارة , ثم علينا أن ننطلق بهم إلى المكان الرحب نعالج الجريح ونوقف الدعم ونحفظهم من اللصوص .. الخ .
- هذا منطق العلم يا ولدي بارك الله فيك نحن فقط نبحث عن تفاصيل ما قرأناه وأنت عليك بالعلم فهو وحده السلاح وأنا فقير وسوف لا اخلف لك شيئا والفضل الذي أنت فيه لا أخيك حمد وللتاجر الكويتي بعد الله .
- يا سيدي ، حتى أبناء الأغنياء لا يستفيدون اليوم من الأموال إذا فقدوا العلم حتى المال يا والدي يحتاج إلى العلم .
- بارك الله فيك ، واصل تعليمك لتقابل الحياة وتواجه تطوير وطنك .
واستمر الأب والابن في حوار طويل حتى المساء عاد بعدها خلفان إلى المنزل مودعا أباه, وفي الجمعة التالية اقبل مع حمد الذي جاء ليبلغ عمه انه مسافر إلى مسقط بعد أن ينهي امتحان الثانوية العامة , ولكن العم مانع في سفره وأصر على أن لا يعود خشية أن يحرم من تعليمه قال العم :-
- ربما يا ولدي أن الشدة تزداد على الناس والممنوعات تكاثرت ولا أنصحك أن تخسر علمك .
- ولكن إلى متى يا أبي ، لا أرى أبي وأمي. قال خلفان : ولكنها مغامرة يا حمد ، أنت دائما لا تقبل إلا رأيك لست أنت الوحيد الذي فارق أباه , وأمه لست أنت المشرد الوحيد يا حمد .
- صحيح ولكن لا أعتقد أنهم يمنعوني من السفر.
- سيمنعونك ... أنا واثق .
- يا خلفان إن ما يشير إليه لا يؤكد معنى أن جهازهم مقفل ، إني سأذهب للقاء أبي وسأعود إليكم .
- لا ننصحك .
- قال العم : وآمرك أن لا تذهب .
- ولكن يا عمي أنا لست ابن شيخ قبيلة فيمنعوني؟؟
- العلم عنده جريمة وأنت قد وصلت إلى الثانوية .
- ادعوا لي بالخير فأنا سأذهب بعد أداء الامتحان .
- الله ينجحك ونحن علينا النصح .
أدى حمد الامتحان وكذلك خلفان وأكمل الاثنان دراسة الثانوية ونفذ حمد رغبته وسافر إلى مسقط وذهب إلى أم خلفان يطمئنها على ولدها وكان ذهابه إلى أم خلفان حجه لإنشاء خلايا في بعض المدن العمانية والتمهيد لحركة انتفاضه تقوم بها المنظمة التي ينتمي إليها خلال مدة معينه وسمح له بالسفر في حين منع الكثير من الطلبة .
وفي طريقه للعودة إلى الكويت مرّ بأبوظبي بعد أن سمع بخلع( شخبوط ) وتولى( الشيخ زايد ) مقاليد الحكم وسمع كذلك عن تشجيع زايد للعمانيين في الوظائف والتعليم والإقامة بأبوظبي واتجه إلى هناك لقبوله وخلفان في البعثة وهكذا عاد إلى الكويت ناجحا في مهمته مؤكداً تعليمه وابن خاله ما يحقق لهما الاستقرار ، خلفان أن يقبل في الاقتصاد وقبل حمد كليه الحقوق ، وكان من مصادفات القدر أن تقبل حصة بنت التاجر المحسن الذين تعهدهما وحثهما على العلم في كليه الاقتصاد أيضا وكم كانت سعادة خلفان أن يجد معه حصة في معهد واحد وكم كان عزمه أن يقبل في الاقتصاد وقبل حمد في كلية الحقوق ، وكان من مصادفات القدر أن تقبل حصة بنت التاجر المحسن في كلية الاقتصاد أيضا وكم كانت سعادة خلفان أن يجد معه حصة في معهد واحد وكم كان عزمه أن يؤدي شيئا من الجميل إلى المنزل الذي خدمه خدمة حسنه وحثه على طلب العلم ، وخلال فترة الدراسة وجد له صديقه يتبادل وإياها وجهات النظر في براءة وتعقل واحتشام وكان خلفان يطلعها على أخبار وطنه وحصة ما فتئت تتابع هذه الأخبار وترغب في معرفة المزيد .
عمان