أحمد الرحبي - رؤيا عامل المحطة

لا أحد يعرف تمام المعرفة ما الذي حدث في تلك اللحظة. هل توقف الزمن أم أنه انحرف قليلا عن مساره المعتاد وسوف يعود إلى سابق عهده؟ هل زاد من سرعته وتدفق إلى الأمام بقوة سيل عارم، أم أنه نكص إلى الخلف وعاد إلى ينابيعه الأولى كما تفعل أسماك السلمون المتلهفة لأوطانها. لا أحد يعرف على وجه الدقة ولكن شيئا ما حدث لعامل محطة البنزين سليمان أحمد. شعور جديد لم يجربه منذ أن وطئت قدماه مسقط قبل عشرة أعوام، كانت خلالها السيارات تقف أمامه ليسقيها البنزين عبر خرطوم الآلة ذي الطرف المعقوف كقضيب متصلب. سيارات صغيرة لا تأخذ الكثير من وقته السائل سيلان الضوء والظلمة. سيارات أكبر وأخرى كبيرة جدا يبدو بجوارها كزعنفة في جسم حوت. توقفت السيارة الفارهة الحمراء التي تقودها الفتاة المتبرجة فائقة الجمال. وعلى غير عادة الناس هنا، لم تغلق الفتاة نافذة سيارتها بعد أن طلبت منه ملء خزانها. تركت شعرها يسرح ويطير إلى الخارج بخصلات مضمومة تارة ومتفرقة تارة أخرى. “لماذا لا تغلق نافذتها كما يفعل الجميع تحاشيا لرائحة البنزين، ألا يزعجها ذلك”.. فكر سليمان أحمد وهو يقف عند فتحة البنزين في السيارة، ماسكا بالخرطوم ومسترقا النظر إلى وجه الفتاة الذي انعكس دائريا في المرآة الجانبية.
تحدث سليمان أحمد في سريرته: “لو كنت أنا داخل السيارة لما شعرت برائحة البنزين ولما احتجت إلى إغلاق النافذة.. أما هذه الحسناء فلماذا تفعل ذلك؟”.. ولكنه تفاجأ من فكرته ومن جنوح خياله، وفكر أن ما ملكته سلالته كلها منذ احتلال المغول الهند وحتى يومنا هذا لا يكفي لشراء مثل هذه السيارة، وكومضة ضوء، طارت به ذاكرته إلى “كيرلا” ورأى جده جالسا تحت شجرة جوز الهند في بيتهم واضعا مدوخه الخشبي في فمه الأدرد. أطلق في داخله ضحكة مكتومة حتى اهتز الخرطوم بيده.
تذكر أيضا زميله العماني راشد الذي علمه عند اول لقاء به كيف يستخدم الخرطوم لمآرب أخرى. كيف يقاتل به أصحاب السيارات الفخمة والأنوف العالية بأن يطعنهم به في ثقوب سياراتهم حتى يسيل البنزين على جوانبها، وكيف يدخل القضيب المعقوف ويخرجه بتؤدة من الفوهة حين تكون السائقات من الفتيات المتبرجات: “شغل راسك سليمان أحمد واستمتع بحياتك”.
كانت رائحة عطرها تنبثق من كابينة السيارة، رائحة مفعمة بالأنوثة جعلته يمد يده ويمسح على طرف الخرطوم بعد أن استرق نظرة طويلة إلى الوجه الساطع في المرآة.. وتملكته رعشة شهوانية كاد فؤاده أن يغص بها.
“تعال… هل تريد ان تركب بجواري” – بهت حين سمع صوتها قادما من خلف النافذة المفتوحة. وكأن أحدا لطمه على رأسه أو كأن موجة عارمة سحبته إلى جوفها، جعل يحدق في المرآة الجانبية حيث وجه الفتاة الدائري وشعرها البني الناعم ونظارة سوداء تغطي العينين وحاجبان كهلالين أسودين برزا من فوق النظارة. “تعال.. هيا تقدم.. اترك خرطومك المطاطي وطرفه الفولاذي وتعال إلى جانبي.. تعال”. توالت الضربات على رأسه وظهره وكامل جسده وشعر بطعنات في قلبه. حينها حدث ما لا قدرة لأحد على فهمه. أطرق برأسه ونظر إلى يده وإلى الخرطوم الذي ظل ممسكا به طوال الأعوام العشرة الماضية. كان عليه أن يفعل شيئا قبل أن يجتاحه ما لا يدرك، وشعر ببرودة وسخونة تعتري جسمه الضئيل وتنوي أن ترديه أرضا.
ألقى إلى المرآة نظرة أخيرة، ولمح حركة من رأس الفتاة وكأنها تحضه على الركوب وتحذره من أن الوقت يمضي وقد ترحل بدونه. وهكذا أفلت سليمان أحمد الخرطوم من يده واستدار خلف السيارة. خطواته قصيرة ولكنه شعر بها تقطع الزمان وتطوي المكان، تعبر به البلدان وتجتاز القارات. وفي منتصف الطريق إلى الباب الجانبي للسيارة الحمراء وجد جناحان وقد نبتا مكان قدميه فشعر بأنه يطير ويحلق بعيدا عن محطة البنزين التي شفطت عشر سنوات من عمره وأحالته إلى ما يشبه خرطوم مطاطي برأس حديدي معقوف. وحينما دخل السيارة وجلس بجوار الفتاة، ثملا بحالته التي لم يختبرها من قبل، أحس بلطم على وجهه وشاهد أقداما تركله وأياد تتقاذفه… وظل على هذه الحال السرمدية حتى سقط من قمة أحلامه وارتطم رأسه برصيف المحطة.



*مجلة نزوى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...