أخيرا امتلكت غرفة خاصة بعد أن كنت أنام مع إخوتي في غرفة واحدة وأتى الصيف بحره اللذيذ – لأنني أحب الحر وأحقد على البرد – وغزانا البعوض وهكذا بدأت الحرب معه ومن منا لا يدخل في حرب مع البعوض وهكذا فإنني كل مساء أتقاتل معه وتكاد أصوات المعارك تخرج إلى بقية غرف البيت، فأحيانا يسمع إخواني صوت التصفيق وتارة يسمعون أصوات ضرب يدي على الجدار وتارة صوت قطعة قماش أرميها على السقف ثم أنام بعد نصف ساعة من المعارك أخرج فيها منتصراً ويأخذني العُجب حين أمتد على فراشي مزهواً بانتصاري أُزيح الغطاء جانبا لإحساسي بالأمان، لأنه لا توجد بعوضة واحدة بل وأضع كلتا يدي تحت رأسي وأتنفس الصعداء لأنني تغلبت على البعوض وهكذا كنت كل ليلة أقاتل ساعة أو نصف ساعة ثم أنام قرير العين حتى كان أحد الأيام التي بدأت فيها القتال وانتصرت على الكل ثم دققت البحث وأرهفت السمع فلم أجد ولا بعوضة فأطفأت النور وتمددت ككل ليلة مزهوا ومزيحاً للغطاء عني وبدأت النوم الجميل ولكن فجأة (زززززززززز) سمعت صوتا أستطيع تمييزه جيداً إنه صوت بعوضة, من أين أتت؟ وكيف لم أجدها؟ فقمت مسرعا وأضأت النور وبحثت جيدا عن مصدر الصوت ولمحتها على إحدى الستائر وتسللت نحوها تسلل الواثق, إن يدي ستسحقها بكل بساطة وانقضضت عليها بكلتا يدي وتلاقت يديّ وقد سحقتا بعضاً من الستارة فتأكدت أنها بين يديّ وفتحت يديّ بهدوء محرراً أجزاء الستارة من راحتيَّ ولكنني لم أجد البعوضة فأطلقت صرخة دهشة صغيرة (هه) كيف أفلتت مني فنظرت بسرعة إلى أرجاء الغرفة علّي أجدها فلم أجدها, أين ذهبت؟ لا بد أن أقضي عليها بكلتا يديّ وأن أسحقها وإلا لن أستطيع النوم وأنا أعرف نفسي فعاودت البحث وتسللت وانبطحت في الأرض علّي أجدها تحلق في مستوى منخفض وتعبت ولم أجدها ففكرت قليلا وأطفأت النور دقيقتين وظللت واقفا أنتظر ظهورها لأنني متأكد أن البعوض لا يتحرك إلا في الظلام وسمعت صوتها أخيرا فتحققت من مصدر الصوت وعرفت أنها في الجهة اليمنى من الغرفة وأضأت النور وأجبرت عينيّ على أن تتعودا على الضوء بسرعة ونظرت ووجدتها هناك على الحائط فتسللت في هدوء وفي حذر خوفا من أن تضيع مني هذه المرة وجهزت راحتي اليمنى لتنقض عليها وتنفست قليلا وهدأت وركزت لأتأكد أن البعوضة لن تفلت مني هذه المرة ورفعت يدي و(طاخ) ضربت بقوة على الحائط ولكنها طارت فحاولت أن ألحق بها بسرعة وأسحقها بيدي ولكنها أيضا أفلتت وأسرعت عاليا فأسرعت نحوها وأعدت الكرة ولم أستطع سحقها واستمرت في ارتفاعها ولم تصل إليها يدي فصعدت على إحدى الوسائد كي تعطيني مزيدا من الطول والنفوذ فاقتربت قليلا منها وحاولت سحقها ولكنها أيضا أفلتت مني وارتفعت وحاولت الوصول إليها مجددا ولكنني فقدت توازني وسقطت على الأرض وتألمت وزاد حقدي على البعوضة ولكن ما أن قمت حتى اختفت البعوضة من جديد.
زاد حنقي وغيظي منها وحقدي عليها, فكرت بهدوء لأنني أعرف أن الغضب لن يفيد ما لم أنتصر على البعوضة لأنني لن أستطيع أن أنام وهي تطير و(تزن) على رأسي فبحثت عنها في هدوء دون أن أتنفس حتى أستطيع سماع طيرانها وكنت أتسلل في بحثي لها كأنني أحد أفراد عصابة تريد سرقة بيت ولا يريد أن ينكشف أمره فتارة أنزل بهدوء حتى يكاد يصل وجهي إلى مستوى الأرض بحثا عنها، فلربما كانت تطير في مستوى منخفض وتارة يتقدم رأسي على جسدي كي تصل عيناي فقط إلى ما وراء (دولاب الملابس) ولكن المحاولات كلها باءت بالفشل.
وبدأ الإرهاق يغزوني وكنت في أمس الحاجة إلى النوم لأنني سأصحو باكرا فمللت هذه الطريقة وفكرت في جدوى أن أذهب لأنام في إحدى غرف إخوتي ولكن للأسف أنا أعرف أنهم لا يحافظون على غرفهم مغلقة كما أفعل فقررت أن أعيد البحث بالطريقة الأخرى بان أطفئ النور ثم أنتظر فأطفأت الأنوار وظللت واقفا منتظرا بجانب مفتاح النور ولكن لم أسمع شيئا وبدأ الظلام يغريني بالنوم فأسندت رأسي على الحائط علّه يعطيني من صلابته بعض الصلابة أو الجلد ولكن لا الحائط أعطاني بعضا من صلابته ولا البعوضة أعطتني صوتها فأتبعه, فاتخذت قراري من فرط تعبي وأضأت النور ورتبت فراشي وقررت أن أنام مهما يكن، ثم أطفأت النور مقررا أنها ستكون آخر مرة ولن أنير الغرفة مهما كانت النتائج واستلقيت وبدأت أعصابي تتراخى وبدأ رأسي يثقل في لذة جميلة, لذة النوم، لكن ... وآه من كلمة لكن... لقد سمعت صوت البعوضة المخيف في أرجاء الغرفة ولثقل رأسي وتعبي الشديد لم أميز من أي مكان يصدر الصوت فرفعت الغطاء الى وجهي لاتقي شر البعوضة ولكن الحرارة كانت قاتلة أكثر من البعوضة فأبعدت الغطاء عن وجهي وأنا أتنهد فاقترب الصوت (زززززز) أكثر وأكثر مني فتوقفت عن التنفس ظنا مني أن البعوضة لن تعرفني ولكن هيهات لقد اقتربت مني وسمعت الصوت يقترب أكثر من أذني حتى بدأ الصوت كأنه مهرجان إزعاج شديد وأحسست بالبعوضة تحط في وجهي فحركت رأسي بسرعة فابتعد الصوت المقزز قليلا ثم عاود الكرة وحطّ في جانب وجهي الآخر فقررت بسرعة أن أسحقه على وجهي حتى لو أتألم فرفعت يدي في الظلام ودققت عن مصدر الصوت ولطمت وجهي بشدة ولكنني سمعت صوت البعوضة يبتعد، أي أنها نجت من اللطمة التي لم أنج منها أنا.
فأخذني اليأس وهدني التعب فاسترخيت كفاقد الوعي وأحسست أني أموت من الإعياء فاقتربت البعوضة بأزيزها المقزز والمذل وأعلنت استسلامي لها وحطت في إحدى وجنتي فتركتها تمص لها القليل من دمي وذلك لاشتري راحتي, فغرزت إبرتها في هدوء وشعرت بالذل منها وهي تمص دمي رغما عني وعن إرادتي وكرامتي ونمت وربما فقدت الوعي وصحوت الصباح ولا أدري متى انتهت البعوضة من مصها لدمي ولا كم مقدار ما مصته مني.
المهم أنني عندما صحوت كنت أشعر بإعياء شديد بعد معركة البارحة التي خرجت فيها مهزوماً, اتجهت إلى المرآة ورأيت آثار الوخزة على وجنتي كأنها لطمة ذل وهوان وقضيت يومي بشيء من الملل وانتهى اليوم وذهبت إلى غرفتي للنوم وكالعادة بدأت حربي مع البعوض مقررا ألا أترك أية بعوضة وأن أنتقم من تلك البعوضة.
انتهيت وتأكدت من أنني أنهيت الكل بمن فيهن تلك البعوضة ولكنني بعد أن أطفأت النور سمعت صوت بعوضة, إنها هي أنا أعرف صوتها فقمت كالمجنون أضرب في الجدار وفي الهواء كأنني في معركة مع الجن حتى تعبت وهدتني قواي فسقطت في الأرض متعبا و سقطت معي عنجهيتي وغروري واستسلمت لها لمعرفتي ألا فائدة من مقاومتي وأن معركتي ستكون خاسرة أمامها, فتركت البعوضة تهتك عرضي وكرامتي وتمص دمي وفي الصباح كانت آثار الإهانة تلطخ وجهي.
وهكذا كان حالي كل ليلة بعد أن قضي على البعوض وأطفئ النور تظهر هذه البعوضة من شرفات المجهول كأنها قدري الذي لا مفر منه, تظهر كعربيد جائع يأتي نحوي كأنني فتاة عذراء في خدرها فيهتك عرضها ويستبيحها وهي لا تجرؤ على الكلام.
.