ينادونني الحمار.
لا أسمح لأحد أن يناديني بهذا الاسم، كنت حمارا قبل أكثر من عشرين سنة، أما الآن لست كما قالوا.
ينهق حمار جار أختي، وجارها رجل مات منذ عشر سنوات، يقفز جارها من الذاكرة دائما، يعيش بن رميدان في لسان أمي وأختي، يصفنه بأنه رجل طيب.
ما ركب سيارة إلى بهلاء إلا وسأل أمي: "كان تريدي حاجة يرد لسانك"
تسكت أمي مفكرة عن ما ستوصيه به، لم تجد حاجة ناقصة من مطبخها المقابل حظيرة البقر، ثم تقول له: أحسنت بن رميدان.
بن رميدان أول رجل يملك حمارا في قريتنا، حماره مربوط تحت غافة كبيرة تتوسط الحارة القديمة، الحارة القديمة خلف سبلة(1) العزاء، السبلة هي سبلة "الحارة" بعضهم يسميها سبلة "العرابة"(2) وهي سبلة كبيرة تليق بمقام هؤلاء الذين يسمون العرابة.
كان الفلج يمشي أمام سبلتهم، يمر في ثقب المسجد، جنب المسجد شجرة كبيرة، وأمامه بيوت طين متراصة فوق بعضها.
في ظهيرات طفولتنا نخرج بعد قيلولة الآباء والأمهات، نتجمع تحت شجرة الحارة، نتقرب من الحمار محاولين ركوبه، يأبى الحمار، نصر على فك الحبل من حديد معكوف فوق إحدى فتحات الفلج المغطاة بالأسمنت، نبدأ في محاولة سرقة الحمار، يوزع رجليه أمام وجوهنا، يتكئ على ساقيه الأماميتين، ثم ينهق نهقة تؤكد لصاحبه أنه في أذى. ما أن يخرج بن رميدان ليرى ما هناك، لا يجد إلا غبار أقدامنا وصوتا خافتا ينبعث من حوش السبلة.
قبل سنتين كنت في السابعة من عمري، يصطحبني أبي للمسجد دائما، في أول مرة عندما مررنا جنب الحمار، سألني أبي:
- ما هذا؟
- كبش كبير.
- هذا حمار يا حمار.
- لست.....
أصدر الحمار صوتا، قبل أن ينهي صوته كان أبي قد قال "الحمار يؤكد أنك مثله". منذ ذلك اليوم لم أحب أبي بعد أن تفوه بهذا الكلام.
عندما عدت من المدرسة، توقفت جنب الحمار، فتحت حقيبتي، أخرجت خبزتين وجبنة" أدخلت الجبنة بين الخبزتين، أعطيت الحمار وجبتي المدرسية، شمّها ولم يأكلها، بعد ذلك أخرج لي أفعى حمراء طويلة من بين رجليه، خفت وركضت إلى حضن أمي، أخبرتها أن أفعى حمراء طويلة يخرجها الحمار من بطنه ويتركها معلقة بين رجليه، لطمتني أمي في وجهي قائلة "عيب يا حمار هذا الكلام"، ومن ظهر ذاك اليوم لم أحب أمي.
غيّر الحمار علاقته معي، بدأت أسرق له أعواد الذرة من مزرعة جدي، أتعذر لأمي بعد أن أمسك دفتر المدرسة لساعة واحدة في الظهر قائلا:
- سأذهب في مساعدة جدي.
يقضي جدي وقته بعد الغداء يسقي مزرعته، وهي كبيرة، فيها طعام وذرة وحشائش كثيرة، أغافله، أخرج بالذرة، أركض إلى حيث الحمار. بدأ الحمار يتقرب مني، صار يحبني، فككت الحبل وسرت به إلى "شريعة البسياني" (3)هناك تجمعت الفتيات حولي، كن يغسلن أواني طعام الغداء، وكنت مزهوا بنفسي، نزلت بالحمار إلى حيث يمر الفلج، أنزل فمه في الماء، شرب ونفض رأسه، جاءتني فتاة كانت أكبر مني سنا، مسحت بيديها في فخذي، كنت أرتدي"هافا" (4) أحمر، ثم قبلتني في خدي، تركت قبلتها حرارة في وجهي، نمت خائفا ذاك اليوم، ولم أخبر أحدا بما فعلت بي تلك الفتاة.
خرج بن رميدان إلى حماره، لم يجده في مربطه، تبع أثره، سار ماشيا، وجدني عائدا به، الحمار يمشي وأنا على ظهره، ما إن رأى الحمار صاحبه حتى ركض بي، أنزلني بن رميدان من ظهره، تركت عصاه خطا أحمر في ظهري، قال لي بعد أن ركضت "حمار" لم أحبه أبدا بعد أن قال لي تلك الكلمة.
لا أحد في قريتنا يذكر أين ذهب الحمار؟ بعد أن مات صاحبه، أو أي من الورثة كان الحمار نصيبه؟
انتقلنا إلى البيت الجديد، يقع بيتنا في الوسط بين الظبي وبسياء. كان أبي أول من سكن الظاهر، وهي مكان مرتفع تأتي عند المدخل الغربي للقرية. في العصر يأتي عمي خلفان من الظبي على ظهر حماره الأسود، أنتظره أمام باب بيتنا الصغير، قبل أن يدخل إلى المكان الذي يربط فيه حماره أكون قد ركضت إليه، أسلم عليه بيدي الاثنتين، يطلب مني ماء، عندما أعود بالماء أجده قد ربط حماره. يشرب ثم يذهب إلى بيت أخيه خلف، أرافقه إلى أن يدخل إلى بيت عمي خلف، أعود إلى حيث الحمار. رأيت الحمار يحاول إسقاط "حزمة الطعام" من ظهره، قررت مساعدته، أنزلت الحزمتين المتدليتين من بطانية ملفوفة على ظهره وبطنه، فككت الطعام، أنزلته أمام الحمار، أكل، ونهق، ثم بعّر كثيرا. عاد عمي ووجد الحمار قد أكل ما في ظهره، كنت قد خرجت من " المجازة "(5) التي يسير تحتها ماء " الطوي " (6) وفي يدي صحلة كبيرة مملوءة بالماء، وقفت أمام الحمار وشرب، رآني عمي، وقال لي: صحيح إنك حمار، ومنذ ذلك اليوم لم أحب عمي أبدا.
أخي علي يكبرني بأربع سنوات، لم يسبق أن وصفه أحد بأنه حمار، وله صديق يسمى محمد عبيد، وهو من عائلة فقيرة، أخوانه الكبار يتعاطون الكيف، قرر أخي أن نزور صديقه محمد، وأبناء عبيد في قرية تبعد عنا ثلاثة كيلومترات، استلف أخي حمار عمه خلفان، أخبره أنه يريد أن يذهب به إلى سلوت، كنت على ظهر الحمار، وأخي يمشي، عند منتصف الطريق أشر بيده على جبل مرتفع، وقال :
- هناك قبر محمد بور، كان قد حارب العمانيين، قتلوه، ثم دفنوه فوق الجبل؛ قبل أن يسكت أخي قلت له: "حمار محمد بور".
عند العاشرة صباحا وصلنا إلى مزرعة أبناء عبيد، قدم لنا محمد قهوة وتمر فرض، مررنا على أخيه "يدخن المدوخ ويشرب الكولونيا"(7 ) هكذا قال محمد عبيد عن أخيه، سلمنا عليه، ثم قلت له: "حمار" تبعني، أراد أن يضربني، ركضت، وركض خلفي، توقف بعد أن اقتنع أنه حمار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1- مجلس العزاء
2- أعلى الطبقات الاجتماعية مرتبة، وهي عكس الخدم والعبيد.
3- الشريعة هي المكان المفتوح من ساقية الفلج. البسياني هو العلامة الجليل محمد بن علي البسيوي، ومؤلفاته: مختصر البسيوي، وجامع البسيوي.
4- الهاف ما يلبسه الأطفال في الصغر، وهو بنطلون قصير جدا.
5- المجازة مكان مغلق، يمر فيه الماء وتستخدمه النساء كمكان للاستحمام.
6- الطوي: حفرة البئر.
7- أداة لتدخين التبغ، smoking pipe . الكولونيا سائل يستخدم كمادة معطرة، وتشرب كسائل مسكر.
* قصة " رحلة الحمار " التي يحاكم بسببها القاص حمود الشكيلي