آمناً قليلاً، تجلس في قرفصة قديمة للنسيان، ثانياً ذيل خطوك إلى حافة مقعدك الخشبي حتى تمر الكائنات كما ينبغي لها أن تمر، دون أن تحدث رتوشاً في صباحك، وحتى لا تحدث أنت أثراً قد يدل عليك يوماً ما، أو تترك آن سهو وقت شاغر لمداهمة غفلتك بأشياء لا تبدو محببة، كأن يتمسح بك ذيل قطة ليشعل في قلبك مواءً قديماً، أو تغافلك نظرة أحد الأصدقاء لتطمرك شفقة مضاعفة لشخصك النتن، فتنكمش أكثر في جسدك بحيث تبدو ضئيلاً وغير متاح للمشاهدة.
إذن، عليك ألاَّ تعتكر، فهذا الصباح صباحك.
"مداعة حارة كقلبك
أشعلها حتى رأسها.. حتى ذلك العلو المدبب في سقف الكون".
ثم اجلس متفرداً في وقتك ككائن طفيلي عديم الأهمية لكنه ذو وقار قديم، كائن مجاني في توصيف أقل حدة، جاء إلى هنا ليبدد الكثير من الحزن على هذه المقاعد والقليل من الدخان، وليقلم الذكريات جيداً بحيث لا يتسنى لها البروز بتلك الوقاحة التي تثير جنونك. مطها الآن كرصيف وابصق.
ستسعدك الزاوية الناشبة في حلق الفراغ كوجهك، لأنها ملائمة للاختباء، وملائمة للتفكير بهذا اليوم الذي هو أول يوم من بقية أيام حياتك، ستهنئك المقاعد والطاولات والجدران وصورة جمال عبد الناصر وابراهيم الحمدي وأعمدة مأرب وباب اليمن على هذا اليوم المجيد، ستتضاءل قامتك قليلاً من الخجل ملوحاً لهم بأمل الصمود في وجه أمزجتك السيئة ونظامك الغذائي المعقد وتضاريس المدينة ووجه أمك.
ثم ستنظر ملياً كرجل وقور لهذا المقهى. وبشيء من الاعتزاز، الاعتزاز الذي يفرضه طرف آخر دخل في معادلة المكان فجأة، ستهز رأسك منتشياً وسترى أنه مكان جدير باحتفاء حضورك اليومي لثلاثة عقود كرستها أنت للرؤية من هنا، ومطالعة الأزمنة التي مرت محاذية للرصيف: خصومات كثيرة جرت على شرف الوطن، حروب القبائل، وثارات الأعراب، ثم ستومض في أفق رمادي مشوش سيوف حادة ارتمت هناك على بعد خطوتين ولم تصبك، ثم سترتفع أفواه مدججة بشعارات: "الله، الوطن، الثورة". حينها سيمر "الوطن للجميع" في صيف قائظ، سيمر من أمامك سريعاً كقطار، ولن توقفه، لأنك لم تكن حينها هناك، ولكن هذا المقهى لا بأس به حتى لو أن مقاعده بدت قذرة وقديمة لأول وهلة بحيث أن العابر لن يفكر مطلقاً بانتزاع مقعد من جوفه والجلوس هكذا كشخص معتوه، لكنك بشكل ما لا تستطيع تفسيره، ترى أن هذا المكان مناسب لجولتك الصباحية؛ مكان وعر يليق بك، ويجعلك فريداً في هذا الهباء اليومي المنفرط من حبل مكوثك كشيء باهت ومتيقظ.
ستروم أصابعك أن تحط في خاصرة الضوء المنبعث من حدقة الطين أعلاك، لتشاغل هماً ثقيلاً على القلب، أو تعبث بماكينة مائلة للقلق وتصوبها قليلاً صوب كل العابرين، محدقاً في ما تعكر من بهي الخطى، لتجس هذه الحركة الدؤوبة للزمن، الحركة التي لا تمل ولا تكل من الحدوث بالتصميم الإيقاعي المنسجم والمتعالي نفسه، بالوزن واللون وحتى الرائحة نفسها، شيء عصي على انتباهك أن تدرك كنهه ولكنه يربكك كثيراً كتقنية حديثة تصيبك بالوجوم لا التسلية، لأنها تجعلك مشدوهاً إليها طويلا، وممغنطاً كأبله، فتبتسم لكل هذه الجلبة الوافرة التي تحدثها الأشياء على نحو محبب في محيطك المكاني، إذ تتنازع على إرضائك وإبقائك مبهوتاً ومرتخياً في هذه المقاعد كرجل محترم، إذ تجتهد باختراع ألف وسيلة لإدخال شيء من السعادة إلى قلبك.
ثم ستنتظرك هي، صديقة الأوقات الضائعة، متأهبة لاعتلائك متأهباً لدخولها، هاهي رفيقة أمكنتك مواتية لامتلائك، فقط عليك أن تشهر منخريك في اتجاهها فتأتي.
"المداعة ستنتظرك حالما تلتفت".
هي لعنة أوقاتك الضالة، أوقاتك التي لا يحسبها عليك أحد، أوقاتك الخاصة جداً، المبللة بقيظ انتظارك، هاهي تأتي بعد أن تغيبت عنها طويلاً، وابتعدت عنها في محطات أقل سعادة ومتعة حتى لا تقتلك يوماً ببهائها، لكنها "اللعينة" مجدداً ترمقك بابتسامة زهو، ابتسامة طرية وشغوفة بالمداعبة، فهي تصر على الاحتفاظ بك كمراهقة: لن تتركك تتعقب أثرها، ولن تدعك وحدك، ستباغتك بين حين وحين بالتفاتة مدوخة فتفرد قامتها اللولبية شاهرة أنوثتها المتعبة في وجهك، وقبل أن تشهق أنت كعاشق أداخته ابتسامة حبيبته، فتستبد بك رغبات متنوعة بحيث تبدو روحك خفيفة ونفسك ثقيلاً ومتعباً بحكم الإجهاد والانتظار المشبوب بأمل مـا، ستباغتك هي في زقاق آخر للمتعة، تصدك بصلف ولامبالاة مدهشة بأن ما بدر منها كان لا يعنيك تماماً، في حين تفكر أنت بالاقتراب وبأن الفرصة سانحة لتبادل تماسات بسيطة وحميمية ستحدث عنها الأصدقاء لاحقاً لكنها تتسرب منك وتختفي...
هذه المداعة اللعينة ستريها الآن كرجل شرقي فنون الإيذاء الجميل، ستمسكها جيداً وتملؤها بالتتن الحار، وتبدأ أنت بالقرقرة. "ترى كم ستقرقر، وتنفخ دخاناً احتفاءً بهذا اليوم الذي هو أول يوم من بقية أيام حياتك؟! كم مداعة تلزمك لكل الذكريات المطالب أنت بتبديدها على سفح المقاهي؟! كم مداعة لكل ذلك الحزن الذي يعتصر أزمنتك؟! كم من مداعة تلزمك إذن للوصول إلى كف السماء؟!..".
سيتعالى الدخان: مــدد... مدد...
وستمد عينيك إلى الهناك، تدحرجهما بألم وصعوبة، تدحرجهما كشيء تفعله دائماً رغما عنك، فقط للنظر دون متعة أو أذى، فقط لتعطي الآخرين نكهة الاهتمام، أو حتى لتقنعهم بأنك ما زلت ترى وتسمع وتتغوط، في حين أن عينيك قد تحرجانك ببصق هذا الاهتمام لا إرادياً كازدراء مشذب بشبح ابتسامة باهتة، وعندما تهم بالاعتذار لهما بأن ذلك التصرف لا يخصك كشخص طبيعيي لا يبدر كل ذلك الحقد منه، تكون عيناك مرة أخرى قد بدأتا بالتدحرج، لترى الرجل المائل على جذع المقعد وهو يخوضك سلاماً فاتراً، أبيض كنصل، لامعاً في حدقة انتباهك كأنما ليبقر الهواء، سلاماً تعرفه لكنه لا يخصك الآن، سلاماً محايداً ربما لكل الكائنات عداك، دون مصافحة أو ذكرى جمعتكما يوما ما، أو لاحتكاك الهواء المشذب بينكما، ستفرك قامتك في العراء كشجرة عجوز من أبد وهي هنا، من أبد وهي تحتضن الريح دون أمل في الملاقحة، ستميل عمامتك إليه كشيء لائق ومهذب لصعلوك قديم مثلك يرتاد المقاهي، ستمد ذيل خطاك مجدداً إلى أسفل تماماً، وتصافحه من هذا العلو متمتماً:
«كيف حالك يا عبده؟».
حينها ستقهقه عالياً لأنك تعرف أن الـ"عبده" هذا يعني جميع الكائنات في هذه المدينة.
ثم لاحقاً، لاحقاً كزمن بعيد، كمد خطوتين إلى الأمام قليلاً، أو كتكاثف غيمة متعالية للدخان فوق رأسك، أو كزمن آخر كضبط العمامة المائلة في اتجاه القبلة، لاحقاً مرة أخرى لم تعرف كم مر من الوقت وأنت هنا حين أسمعتك شفاه تبغية لم تعرف مصدر جذبها نصائح وطنية لما يجب أن يكون عليه يومك في عيد وطني كهذا. ولأنك لم تعد تحصي أعياد الوطن من أعوام قديمة، ولم يعد يهمك كل ذلك الهراء، وكيف أن حبة اسبرين واحدة لا تكفي لكل هذا العراء الناشب فيك، ونكاية بعطالتك، وصحتك ووجه أمك وصديق قديم ستفترض نسيانك له؛ ستلقم جوفك: بذاخة شاي معتق بالجوز، سحابة دخان متكاثفة في الحلق، ثم قصيدة بهية لوجوم صباحك، وقرار جمهوري جديد يمنع العاطلين من ارتياد المقاهي، ثم على نحو لاحق ستنشب في جوفك محاكمة.
لكنك مرة أخرى ستقرقر، وتقرقر عالياً، كأنما لتحدث ثقباً.
قاصة من اليمن.
.