وجدي الأهدل - حلاوة الحب

شيء واحد يثير تحفظي بشأن الحرب: إنها تُصدر الكثير من الأصوات والاهتزازات وصفق النوافذ والأبواب ما يقلقُ نومي ويجعله متقطعاً، وغير ذلك لم تكن لدي أية أسباب للتذمر أو الشكوى. لستُ حريصاً على أن يطول عمري، لذا فإن أزيز الصواريخ لا يرعبني، والطائرات الحربية التي تكسر حاجز الصوت فوق رأسي لا تزعجني، ولكن شيئاً واحداً يحز في نفسي إذا أدركني الموت ولم أذقه: حلاوة الحب.


في فوديَّ شعيرات بيضاء، يشاع أنهن يجذبن الغواني، ولكن هذا لم يحدث معي، فأنا ما زلت حتى الآن بتولاً. أمنيتي الأخيرة هي أن تحبني فتاة، أية فتاة، من شغاف قلبها، وبعد ذلك سأذهب مرتاحاً إلى قبري.

حين وصلتُ إلى مقر عملي في المصنع، غمرني إحساس بالشجاعة، ورغبتُ بشدة في تجريب حظي مع الجنس اللطيف. وخطرت ببالي (أشجان) العاملة في قسم آلات فحص البطاطس، فمنذ وقعتْ عيناي عليها لأول مرة وأنا مفتون بها، إلا أنني لم أمتلك الجرأة لمخاطبتها قط.

قطفتُ وردة من باحة المصنع، وغسلتها في دورة المياه، ثم ذهبت إليها وقلبي يكاد ينفطر خشية الصد وكسر الخاطر. لم أجد صعوبة في إقناع رئيسة القسم بأن تعطي إذناً مدته نصف ساعة لـ(أشجان).

أتت (أشجان) وعيناها قد توسعتا من الدهشة، صبَّحتُ عليها وناولتها الوردة فأخذتها خطفاً، وفرحتْ بها كثيراً كطفلة محرومة من الحنان والحب، وتضرجتْ وجنتاها باحمرار الخجل. سألتها إن كانت تقبل دعوتي لها على مشروب المانجو، فوافقتْ دون تردد.

(أشجان) بشرتها بيضاء كنور القمر، نحيلة الخصر، وافرة الكفل، أُقدر عمرها بثلاثين عاماً. ورغم جمالها وميزاتها الأخرى مثل كونها تحمل شهادة جامعية وموظفة براتب شهري، فإنها لم تتزوج بعد.. والسبب أن اليمنيين عندهم “عقدة” من الزواج بالجامعيات.. ويعتقدون أن المرأة كلما كان مستواها التعليمي أدنى كلما كانت زوجة أفضل!

كان مزاجها في أفضل حالاته، وربما كانت وردتي لها دور في ذلك، أو ربما رائحة العطر الثمين الذي يفوح شذاه من ثيابي قد جعلها تلين وتبدي الكثير من البشاشة في وجهي.


طلبتُ من صاحب البوفيه كوبي عصير مانجو، وبغتة لكزني أحدهم بمرفقه ونادى طالباً لنفسه كوباً ثالثاً على حسابي! لم أتوقع أن (عبدالسميع) الذي التوى فمه بابتسامة خبيثة كان خلفنا يتنصتُ على حديثنا البريء. لا أشعر بالارتياح لهذا الشخص، فهو ثقيل الظل يدَّعي العته، ويستظرف ببلاهته، وليس لديه عمل محدد.. ويقولون إن مدير المصنع وظفه شفقة بأمه! حصلنا ثلاثتنا على المانجو، ومشيتُ ومشت معي (أشجان) وكان هذا العذول يتعقبنا. لم تعره (أشجان) اهتماماً، ولكنني تضايقتُ من حضوره، وحينما أنهى شرب عصيره، انتزعتُ منه الكوب البلاستيكي ووقفتُ بإزائه وحدَّقتُ في عينيه مباشرة وأنذرته: “نحن لا نتكلم في السياسة ونريد أن نبقى على انفراد”. فتح فمه على آخره متغرغراً بابتسامة لزجة وأراد أن يتخطاني، فدفعته بقسوة وصرختُ في وجهه هاتكاً سره.. جحظتْ عيناه وأطلق ضحكة وقحة عالية جداً تُسببُ ضرراً عصبياً لمن يسمعها، ثم انسحب بتثاقل وهو يُغني لأم كلثوم!


عاتبتني (أشجان) على معاملتي الفظة لـ(عبدالسميع) وقالت عنه إنه طفل كبير ومن المستحيل أن يكون “مخبراً”. لم أر فائدة تُرجى من مجادلتها، فأمنتُ على صحة كلامها، وسألتها مُغيّراً الموضوع إن كانت تحب الأطفال؟ فتنهدتْ وردتْ بـ”نعم”. جازفتُ باقتحام خصوصيتها وسألتها لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ ابتسمتْ متلفتة خشية أن يسمعها أحد: “كل الرجال الذين طلبوني للزواج لم يناسبوني”. قلتُ وأنا أُداري اضطرابي بتعديل نظارتي: “كيف؟ أقصد ما أسباب رفضكِ لهم؟”. مصَّت المانجو حتى صدرت تلك الحشرجة المزعجة في قعر الكوب، ثم طوحت به في سلة طافحة بالمخلفات: “بعضهم أثرياء كبار في السن، وبعضهم يريدونني زوجة ثانية.. يعني.. حتى الآن لم يتقدم لي الشخص المناسب هاها”. جاريتها في الضحك مع أنني مُدرك أنها تغطي على ألمها بتلك الضحكة. سألتني بنبرة هامسة وهي تنظر إلى الأرض: “وأنت لماذا لم تتزوج؟”. جاء دوري لتصعيد الزفرات، وحكيتُ لها ما مضى عليّ متحسراً: “آه.. أول محاولة كانت في الريف وأنا في السادسة عشرة من عمري، هي ابنة عمي، اسمها صفية، أحببنا بعضنا منذ الصغر، ولم يكن هناك أيّ عائق أمام زواجنا. كنت محبوباً من عمي وزوجته وجميع أولاده، وكنت أُعتبر فرداً من العائلة، وما كانوا يحشمونها عني، فكنت أراها متى عنَّ لي ذلك. تقدمنا لخطبتها، وتكفل أبي بدفع المهر وكافة تكاليف العرس. أخذت أسرة عمي المال من والدي وسافروا جميعاً إلى صنعاء لشراء كسوة العروس وذهبها، وفي طريق العودة هوت بهم السيارة من شاهق وماتوا جميعهم رحمهم الله”. تابعتُ وقد نكستُ رأسي لكيلا ترى الدموع تترقرقُ في عينيَّ: “الثانية تعتبر زوجتي، لأنني عقدتُ عليها، وهي بنت من المدينة، من بنات صنعاء القديمة، كان فيها جمال سبحان الله، ومشى كل شيء على ما يرام، وقبل موعد العرس بيوم كان أخوها يتفقد المسدس فانطلقتْ منه رصاصة بالخطأ واستقرت في رأسها، فتوفيتْ على الفور رحمها الله”. وضعتْ لاشعورياً يدها على صدغها ثم أنزلتها بسرعة: “ألهذا قررت الإضراب عن الزواج؟”. تنهدتُ وانزعجتُ من نفسي لأنها سمعتني أتنهد: “ماذا أفعل.. وكأن عزرائيل قد حلف يميناً أن يأخذ روح أية بنت أفكر في الزواج بها”. ضحكتْ (أشجان) بطريقة غير وقورة، لا تشبه مطلقاً ضحكاتها الرقيقة المكتومة: “يا أستاذ ربيع هذه مصادفات، قضاء وقدر، ليس لك يد فيها، الأعمار بيد الله، تريد نصيحتي.. ابحث عن فتاة طيبة وإن شاء الله لن يحدث لها إلا كل خير”. قلتُ ونظرتي تبحث عن نظرتها: “يعني أنا لست مشئوماً؟؟”. “لا لا.. أنا لا أؤمن بالخرافات”. أكملتْ جملتها وضحكتْ بخفر. أنا أيضاً ضحكتُ من فرط السرور، فقد أدرك كلانا أنها زلة لسان رائعة جعلتنا متفاهمين وراضيين.. لقد وافقتْ ضمنياً على الزواج بي!


فكرتُ أن أتجاسر وأشبك كفي بكفها، لأن التلامس بالأصابع أبلغ من ملايين الكلمات، هممتُ أن أفعل فإذا بي أسمع صوتاً يكاد يمزق طبلة الأذن، ويشبه قطع لوح زجاجي بموسي حادة، أدركتُ على الفور أنه صوت صاروخ يثب في السماء، ومن خلال خبرتي في القصف الذي نتعرض له ليل نهار، فإن هذه هي اللحظات الأكثر رعباً في الحرب بأسرها، والتي تتمنى فيها أن يهوي الصاروخ بعيداً عنك، ثم رأيتُ هناجر المصنع الضخمة ترتفع في الجو وكأنها مناديل من ورق ثم انخفضت في أقل من ثانية واحدة، تلا ذلك موجة هواء ساخنة ضاغطة دفعتني مسافة للأمام، فجعلتني أُهرول رغماً عني، وعقب ذلك دوى صوت الانفجار الذي لم أسمع له مثيلاً من قبل، حتى ظننتُ أن الصاروخ قد وقع في الشارع المجاور! نظرتُ خلفي فإذا بي أرى عفريتاً على هيئة دخان أبيض يكبر ويتمدد ويتوالد أضعافاً من ثانية لأخرى ناطحاً برأسه الكروي طبقات الجو العليا، فبدا وكأننا قد ضربنا بقنبلة ذرية.


تذكرتُ أنني كنت برفقة (أشجان). بحثتُ عنها فوجدتها رابضة على الأرض في وضع جنيني وهي ترتجف. عدتُ إليها ومددتُ يدي لأساعدها على النهوض، فنهرتني وقد تجمع في عينيها النجلاوين رعب جميع سكان المدينة: “لا تلمسني، ابتعد عني يا قاتل النساء!”. تجمدتُ في مكاني مصدوماً من ردة فعلها العدائية. انشقت الأرض وظهر ذلك الأبله (عبدالسميع) ودون استئذان أدخل يده تحت إبطها ورفعها من على الأرض وهو يرشقني بنظرات ماكرة منتصرة. أعادها إلى الداخل وهي تتساند عليه وتذكر الله طمعاً في النجاة وخوفاً من الموت.

سيطر عليَّ إحساس بالذنب، وقلت في نفسي”جيد أنني لم أطلب رقم هاتفها، وإلا لكانت الآن في عداد المتوفين!”.


غادرتُ المصنع ورحتُ أخبط في الشوارع دون هدف وقد أظلمت الدنيا في عينيّ، وقد ازداد يقيني بأني الشخص الأكثر شؤماً على النساء في كل أنحاء العالم.


عرَّجتُ على بقالة واشتريتُ أكلاً معلباً: تونة وزيتوناً وزبادي ومشروباً غازياً. والشيء الوحيد الطازج الذي أخذته هو الخبز.

عدتُ إلى زنزانتي راجلاً متحملاً ألم كآبتي السوداء. بعد أن أكلتُ طعامي المعلب نمتُ نوماً عميقاً. ولكن وفي جوف الليل أيقظني زوار الليل بقصفهم المعهود. شغلتُ التلفاز متابعاً نشرات الأخبار، فعلمتُ أن قنبلة عطان التي رجت المدينة من أقصاها إلى أقصاها لم تحصد سوى 84 قتيلاً و800 جريح فقط. قلت في نفسي “لم يكن الأمر يستحق كل تلك الجلبة.. فإما أن يبيدونا عن بكرة أبينا وإلا فليوفروا على أنفسهم العناء”! ودون أن أفهم ما الذي يحدث لي، تصدَّع وجهي الحجري، وانخرطتُ في البكاء.
التفاعلات: محمد احمد شمروخ

تعليقات

وجدي الاهدل ..محبتكم في الجينات الوراثية، يظل وشعبه مكون اساسي لنا نحن سكان جنوب، مصر ونتشابه في كثير من الاشياء، متعة ان يفتتح الصباح بابداعك..صباحك ابداع وبهجة. محمد احمد شمروخ..مصر.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...