ابتعث من مرقده ، وعاد بعد عقود ليضىء الأفق الثقافي ويبعث الحياة في تجارة راكدة منْحسرة هي ثمرة جهد جهيد لا تكسب منه يد الصانع التقليدي إلا الأجر الزهيد .ذاك هو موسم طانطان الثقافي والتجاري والسياحي الذي توجت اليونسكو ناصيته بِشارة الاعتراف ، ووشحت صدره بنياشين علامة التصنيف العالمي منذ 2004، فما جديد إنجازات الموسم هذا العام.
أولا : موسم أو أمكار الطنطان: توطئة عامة
الطنطان مدينة وادعة شيدت على العُدوة العليا لنهر درعة الذي يخترق معظم مدن شمال الصحراء بالمغرب ، عرفت بموسمها الشهير الذي توقف عن الانعقاد منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي ، وبقي نِسيا منسيا إلى أن أزفت ساعة ابتعاثه وإحيائه ثم تصنيفه من لدن اليونسكو ضمن التراث العالمي الشفهي اللامادي الذي تعمل المنظمة على حفظه من الاندراس والانطماس ثم تثمينه وإعلاء قيمته .ومادام الشيء بالشيء يذكر ، فان الكلام عن موسم الطنطان يذكّر بأمرين هامين هما:
*أولهما :القوافل التجارية التي كانت تجوب الصحراء وتحط الرحال في المواسم والأسواق الشهيرة من واد نون إلى تمبوكتو.
*ثانيهما : ان انعقاد المواسم بالصحراء ليس حديث النشأة ، فقد تحدثت المدونات والحوليات والكتابات الاستعمارية عن المواسم التي كانت تؤثث فضاء الصحراء الفسيح ، وتمثل ملتقيات شعبية تجارية ودينية ، ومن هذا المنطلق لاحظ فانسان منصور مونطاي في كتابه Notes sur les Tekna
أنه خلافا لمدن الشمال المغربي التي تطلق على هذه الملتقيات التجارية اسم " مواسم " ، فان قبائل الجنوب المغربي تُسميها " أمكاكير " ، ومفرده " أمكار " ، وهو لفظ مشتق بحسب رأي الكاتب من كلمة أمازيغية " Nmugur "أي نلتقي ، se rencontrer ، ومن أشهر تلك المواسم " أمكاكير " التي شهدها مونطاي بالجنوب إبان عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب نذكر:
- أمكار القصابي تكاوست : وينعقد في منصف يونيو.
- أمكار سيدي الغازي بكلميم : وينعقد في منتصف يوليوز.
- امكار أسرير الثاني المسمى لمعيليل أي المُعاد : وينعقد في متم شهر يوليوز.
و يلاحظ أن انعقاد هذه المواسم بالصحراء غالبا ما يتزامن مع الصيف ، والصيف تمَّام الربيع عند العرب ، خلافا لموسم الطنطان الذي شهد تذبذبا في تاريخ انعقاده منذ إحيائه إذ انعقدت دورته الأولى في شهر سبتمبر2004 ، بينما لم تنعقد دورته الأخيرة إلا في أواخر مارس 2012 יִ
ثانيا : موسم الطنطان : من المحلية الى العالمية
توج السعي لتثمين موسم الطنطان بتصنيف اليونسكو له ضمن قائمة التراث العالمي الشفهي اللامادي عام 2004 ، وبهذا التصنيف ، يكون الموسم المغمور الذي رأى النور عام 1963 ، قد خرج من حيز المحلية والجهوية إلى فضاء العالمية ، وذلك بفضل جهود عدد من المهتمين يتقدمهم عالم الاجتماع والمؤرخ الاسباني كيت مونيوث بالكارثيل ، سفير النوايا الحسنة لدى اليونسكو المزداد بمنطقة افني المستعمرة الاسبانية السابقة عام 1958، وهو صاحب كتاب : " موسم طانطان : رائعة التراث الشفهي ا للامادي للبشرية " الذي توخى من خلاله توثيق جانب من التراث الصحراوي اللامادي الدال على غنى الثقافة الحسانية بمختلف مشاربها وصورها . ولا يرقى الشك إلى كون هذا السِّفر الفخم يعد أبرز وثيقة تؤرخ وتوثق هذا الإرث الثقافي الجدير بالعناية والرعاية وتجاوز منطق التعاطي معه من زاوية احتفالية فُرجوية الى آفاق التثمين وتسويق المنتجات التراثية ، وجعلها مادة مغرية تسُر الناظرين إليها من السياح والزائرين.
ثالثا : موسم الطنطان 2012: لوحة تراثية بِريشة أكثر من فنان
تتعدد زوايا النظر إلى الموروث الشعبي الحساني المعروض بالطنطان لحماً على وضم تعددا يفضي إلى اختلاف في التقييم يختزله المثل الحساني المشبع بالمعاني القائل : " العين شَكّْتْها وَحْدَه وْ نَظْرْتْهَا مَاهِي وَحْدَه " أي أن العين شُقت وخلقت بطريقة واحدة ، لكن نظرتها ورؤيتها للأمور والأشياء ليست واحدة יִ، ومهما اختلفت الرؤى فإن كثرة العرض بموسم الطنطان دليل غنى التراث والثقافة الحسانية شفهيا وبصريا وجماليا ، بدءا من الخيام ومكوناتها مرورا بالألبسة التقليدية وأنواعها وانتهاء بالمأثورات الشعبية حكاية وألغازا وشعرا وأمثالا فضلا عن الألعاب الشعبية وفنون الرقص والغناء .
1- الخيمة : بيت الشعَر والوبر .
لعل أول ما يطالع الزائر لهذه الرائعة التراثية ، ذلك المخيم الذي يتراءى من بعيد محاكيا مساكن أهل الصحراء ومضارب خيامهم المتراصة على نحوٍ يجسد تلاحم المجتمع الصحراوي المشكِّل نسيجا متواشجا بعُرى القرابة والولاء للعشيرة ، لدرجة أنهم لا يُسمُّون تجمُّع وتجاور خيامهم إلا تسمية دالة على الجماعة (لْفْريك) أي الفريق.
وانسجاما مع حالة الترحُّل التي لا يبرحها بدْو الصحراء تتبعا لمواقع القٍِطْر وانتجاعا بمواطن الكلإ ، فان الخيام تظل أنسب سقف ُيستظل به عند الظعن ويُطوى ويُحْمل على المطايا حال التنقل ، وقد قال الحسانيون : " الرحيل خيمة". وفي مخيم الطنطان المنصوب على ضفة وادي ابن خليل نقلٌ حي للصورة الذهنية لحياة البدو الذين لا يحطُّون الرحال في بطون الأودية ، وإنما يلتمسون ربوة على حافة النهر في مأْمَن من السيل الذي قد يأتي بغتةً.
و استلهاما لروح الجماعة التي تمثل النسغ الساري في أوصال المجتمع الحساني ، فان نسْج الخيام لا يتم إلا بتعاون بين نساء لْفْريك اللاتي يشتركن في النسج ، وتقتسمن التضحيات والعمل اليدوي الشاق بدءا من جمع الشعر والصوف مرورا بفرزه وتنقيته باستعمال " الغرشال " مرورا بغزله بالمغزل وانتهاء بالنسج . ومن وحي هذا العمل الجماعي انبثق المثل الحاضُّ على العمل الجماعي واستبعاد غير المشارك فيه :" الِّلي مَا لُو خَيْط فيها يْمْرْكْهَا " ، أي لم لم يشارك ولو بخيط ، فليبتعد، و من قبيل قولهم : " لا تنْزْزْ للِّي ما سدَّى لَكْ أي لا تنسج لمن لم يشاركك في السَّدى ، ومعلوم أن السَّدى والنسيج متلازمان ، وهما قوامُ إعداد الخيمة المكونة من الأجزاء الآتية:
• الفْلْجَة : ج. افْليج ، وهو شريط منسوج من شَعر الماعز أو صوف الظأن الأسود أو وبر الابل . ومن جُماع "الفلجة " تؤلف رقعة الخيمة.
• لْمْطَنْبَة : عبارة عن افليج صغير يستعمل للجهة الأمامية وكذا الخلفية للخيمة ، فهي بمثابة أطنا الخيمة.
• لْخْوَالْف :مفردها خالفة ، وهي سبب أو حبل منسوج من الشعر وتسمى لَحكاب ، أو مصنوعة من جلد الابل ، وتسمى انْسع.
• الركايْز : مفردها ركيزة ، وهي عبارة أعمدة خشبية ، وترتفع الخيمة بواسطة ركيزتين تتوسطانها ،وتُعصمان أو تشدَّان بواسطة حبل جلدي غليظ يسمى "لْعْصام " ، كما يوضع عمود قبالة " الركايز " يسمى " السمْك " أي السماك ، بينما يوضع عمودان آخران في الجهة الأمامية من الخيمة بمثابة " بابيَْن ".
• لَخْراب : ج. خرب ، وهي عبارة عن حلقات من الخشب تستعمل للربط بين الخيمة والاوتاد.
• الْخْلاّلات : ج. خلالة ، وهي مسامير يُشَد بها " أسودار " - وهو الغطاء الداخلي للخيمة – بباقي أجزاء الخيمة
•
.
وملاك الأمر ، ان أهل الصحراء يعِرفون ويعرِّفون الخيمة بكل أجزائها وتفاصيلها كما يعرفون أبناءهم ، وقد سموا كل الأشياء بأسمائها وعلموها أبناءهم ، فتناقلتها الأجيال شفاهة من فمٍ لأذن ، وتلك ميزة الثقافة الصحراوية التي لم تشب بعدُ عن طور الشفاهية لتنتقل إلى طور الكتابية والتدوين.
2- اللباس والحلي :
مثَّل موسم الطنطان معرضا مفتوحا عامرا شاملا للأزياء أو الحُلَى والحِلي الحساني التراثي ، سواء منها المنقرضة التليدة أو المستحدثة الجديدة ، ورغم لمسات التحديث التي مست اللباس الصحراوي شكلا ، فان الجوهر- المائز له و المعبّر عن هوية مزاٍيلة لغيرها- بقي قائما ، يشهد لذلك أن إطلاق اسم " دراعة الفلوجة " و"ملحفة الانتفاضة " لم يغير من مسمى الدراعة والملحفة شيئا مسترعيا للانتباه ، فقد تفننت يد الصانع الصحراوي في إضفاء مُسح جمالية على الملابس المعروفة المتوارثة دون أن تفسد أو تغير من أصالتها شيئا ، ولا تزال تلك الأردية عنوانا مؤسِّسا للمعرفة بأهل الصحراء مائزاً لهويتهم الثقافية ، إذ لا تخفى دراريعهم و ملاحف نسائهم ، و كما عرف المرابطون باللثام فسُمّوا بالملثمين ، فقد أطلق بعضهم على سكان الصحراء الرجال الزُّرق إيماء الى زرقة بعض دراريعهم ، إذ يغلب على ذوق أهل الصحراء اختيار اللون الأبيض والأزرق للدراعة ،وقد يرتدون دراعة من لونين مختلفين أيضا كالأبيض والأسود ، وتسمى دراعة جهْتين أو دراعة باخة ، وكما يتطلع الرجال لاتخاذ زينتهم عند كل حفل تعطُّرا و تدثّرا بأبهى وأغلى الحُلل "دراريع بازان "، فان نساء الصحراء يتنافسن في إظهار الزينة لبسا للخلاخل والدمالج والقلائد كقلادة أبغداد وامزرَّد وغيرهما من الحلي والمجوهرات التقليدية.
3 – الفنون والالعاب الشعبية :
فضلا عما سلف ذكره ، تنبع القيمة الجمالية لموسم الطّنطان من تعدد فنون القول والأداء ، شعراً وحكاية وغناء ورقصاً وهلمَّ جرّا، ومن اللافت للانتباه نصب خيمة للشعراء والمطربين ،حيث تجود قرائح هؤلاء بقصائد ( طلعات و كيفان ) ، و تبدع حناجر أولئك في التغني بها إمتاعا وانقشاعا لسُحُب الكرب والكدَر التي تغشى النفوس الكالَّة منها والكَسول . والشعر الحساني مرتع خصب ومنبع ثرٌّ للأحاسيس والمشاعر والقيم حبّاً وفخرا وفروسية وشحذاً للهمم ، تزيده شاعرية المكان (الخيمة ) وحسن جمال الزمان ( الليل) رونقاً وإمتاعاً، خاصة حين ينبري المطربون إلى الإنشاد والتغني سٍراعا ، عُدَّتهم في ذلك آلات أصيلة لا تفارق أهل الصحراء – والمطربون منهم خاصة- حلاّ وترحالا وانتجاعا ، ومنها الكدرة والطبل والتيدينيت والنيفارة عند القدامى والقيثارة وما سواها من الآلات عند المحدثين . وليس خافيا أن معظم الفنون الأدائية عند أهل الصحراء لا تؤدى إلا جماعة تناسقا مع طبيعة المجتمع البدوي المؤسس على التعاون والتضامن والاجتماع في السراء والضراء ، إذ المبدأ عندهم أن " حِمل الجماعة ريش " .ولا شك أن سباق الهجن المسمى محليا ب : لَزْ لْبْلْ " ، يمثل صورة حية للعمل الجماعي القائم على التنافس.
4 -الطب والأدوية الشعبية :
إزدانت بعض جنبات موسم الطنطان بخيمة كتب على بابها " الطب الشعبي الصحراوي " ، عرضت فيها بعض الأعشاب والمستحضرات الطبية الشعبية التي تفنن في إعدادها بعض من خَبروا الأعشاب البرية وتأثيراتها ، ومن الشائع في الصحراء أن كل سدرة في الصحراء تحمل دواء ، الأمر الذي يفيد أن الصحراء بأشجارها وسهوبها تعدّ صيدلية مفتوحة إذا أحسِن استغلالها.
خاتمة :
على سبيل الختم أقول ، إن موسم الطنطان بطاقة تعريف متجددة بتراث ولغة وثقافة أهل الصحراء ، وقد مثلت زيارة شخصيات من منطقة حائل بالعربية السعودية للموسم فرصة لتأسيس عمل تعارُفي تمهيدا لعمل تعاوني في المستقبل مع الأشقاء في المشرق العربي.
https://www.facebook.com/laghla.bouzid/posts/3137449356309834
أولا : موسم أو أمكار الطنطان: توطئة عامة
الطنطان مدينة وادعة شيدت على العُدوة العليا لنهر درعة الذي يخترق معظم مدن شمال الصحراء بالمغرب ، عرفت بموسمها الشهير الذي توقف عن الانعقاد منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي ، وبقي نِسيا منسيا إلى أن أزفت ساعة ابتعاثه وإحيائه ثم تصنيفه من لدن اليونسكو ضمن التراث العالمي الشفهي اللامادي الذي تعمل المنظمة على حفظه من الاندراس والانطماس ثم تثمينه وإعلاء قيمته .ومادام الشيء بالشيء يذكر ، فان الكلام عن موسم الطنطان يذكّر بأمرين هامين هما:
*أولهما :القوافل التجارية التي كانت تجوب الصحراء وتحط الرحال في المواسم والأسواق الشهيرة من واد نون إلى تمبوكتو.
*ثانيهما : ان انعقاد المواسم بالصحراء ليس حديث النشأة ، فقد تحدثت المدونات والحوليات والكتابات الاستعمارية عن المواسم التي كانت تؤثث فضاء الصحراء الفسيح ، وتمثل ملتقيات شعبية تجارية ودينية ، ومن هذا المنطلق لاحظ فانسان منصور مونطاي في كتابه Notes sur les Tekna
أنه خلافا لمدن الشمال المغربي التي تطلق على هذه الملتقيات التجارية اسم " مواسم " ، فان قبائل الجنوب المغربي تُسميها " أمكاكير " ، ومفرده " أمكار " ، وهو لفظ مشتق بحسب رأي الكاتب من كلمة أمازيغية " Nmugur "أي نلتقي ، se rencontrer ، ومن أشهر تلك المواسم " أمكاكير " التي شهدها مونطاي بالجنوب إبان عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب نذكر:
- أمكار القصابي تكاوست : وينعقد في منصف يونيو.
- أمكار سيدي الغازي بكلميم : وينعقد في منتصف يوليوز.
- امكار أسرير الثاني المسمى لمعيليل أي المُعاد : وينعقد في متم شهر يوليوز.
و يلاحظ أن انعقاد هذه المواسم بالصحراء غالبا ما يتزامن مع الصيف ، والصيف تمَّام الربيع عند العرب ، خلافا لموسم الطنطان الذي شهد تذبذبا في تاريخ انعقاده منذ إحيائه إذ انعقدت دورته الأولى في شهر سبتمبر2004 ، بينما لم تنعقد دورته الأخيرة إلا في أواخر مارس 2012 יִ
ثانيا : موسم الطنطان : من المحلية الى العالمية
توج السعي لتثمين موسم الطنطان بتصنيف اليونسكو له ضمن قائمة التراث العالمي الشفهي اللامادي عام 2004 ، وبهذا التصنيف ، يكون الموسم المغمور الذي رأى النور عام 1963 ، قد خرج من حيز المحلية والجهوية إلى فضاء العالمية ، وذلك بفضل جهود عدد من المهتمين يتقدمهم عالم الاجتماع والمؤرخ الاسباني كيت مونيوث بالكارثيل ، سفير النوايا الحسنة لدى اليونسكو المزداد بمنطقة افني المستعمرة الاسبانية السابقة عام 1958، وهو صاحب كتاب : " موسم طانطان : رائعة التراث الشفهي ا للامادي للبشرية " الذي توخى من خلاله توثيق جانب من التراث الصحراوي اللامادي الدال على غنى الثقافة الحسانية بمختلف مشاربها وصورها . ولا يرقى الشك إلى كون هذا السِّفر الفخم يعد أبرز وثيقة تؤرخ وتوثق هذا الإرث الثقافي الجدير بالعناية والرعاية وتجاوز منطق التعاطي معه من زاوية احتفالية فُرجوية الى آفاق التثمين وتسويق المنتجات التراثية ، وجعلها مادة مغرية تسُر الناظرين إليها من السياح والزائرين.
ثالثا : موسم الطنطان 2012: لوحة تراثية بِريشة أكثر من فنان
تتعدد زوايا النظر إلى الموروث الشعبي الحساني المعروض بالطنطان لحماً على وضم تعددا يفضي إلى اختلاف في التقييم يختزله المثل الحساني المشبع بالمعاني القائل : " العين شَكّْتْها وَحْدَه وْ نَظْرْتْهَا مَاهِي وَحْدَه " أي أن العين شُقت وخلقت بطريقة واحدة ، لكن نظرتها ورؤيتها للأمور والأشياء ليست واحدة יִ، ومهما اختلفت الرؤى فإن كثرة العرض بموسم الطنطان دليل غنى التراث والثقافة الحسانية شفهيا وبصريا وجماليا ، بدءا من الخيام ومكوناتها مرورا بالألبسة التقليدية وأنواعها وانتهاء بالمأثورات الشعبية حكاية وألغازا وشعرا وأمثالا فضلا عن الألعاب الشعبية وفنون الرقص والغناء .
1- الخيمة : بيت الشعَر والوبر .
لعل أول ما يطالع الزائر لهذه الرائعة التراثية ، ذلك المخيم الذي يتراءى من بعيد محاكيا مساكن أهل الصحراء ومضارب خيامهم المتراصة على نحوٍ يجسد تلاحم المجتمع الصحراوي المشكِّل نسيجا متواشجا بعُرى القرابة والولاء للعشيرة ، لدرجة أنهم لا يُسمُّون تجمُّع وتجاور خيامهم إلا تسمية دالة على الجماعة (لْفْريك) أي الفريق.
وانسجاما مع حالة الترحُّل التي لا يبرحها بدْو الصحراء تتبعا لمواقع القٍِطْر وانتجاعا بمواطن الكلإ ، فان الخيام تظل أنسب سقف ُيستظل به عند الظعن ويُطوى ويُحْمل على المطايا حال التنقل ، وقد قال الحسانيون : " الرحيل خيمة". وفي مخيم الطنطان المنصوب على ضفة وادي ابن خليل نقلٌ حي للصورة الذهنية لحياة البدو الذين لا يحطُّون الرحال في بطون الأودية ، وإنما يلتمسون ربوة على حافة النهر في مأْمَن من السيل الذي قد يأتي بغتةً.
و استلهاما لروح الجماعة التي تمثل النسغ الساري في أوصال المجتمع الحساني ، فان نسْج الخيام لا يتم إلا بتعاون بين نساء لْفْريك اللاتي يشتركن في النسج ، وتقتسمن التضحيات والعمل اليدوي الشاق بدءا من جمع الشعر والصوف مرورا بفرزه وتنقيته باستعمال " الغرشال " مرورا بغزله بالمغزل وانتهاء بالنسج . ومن وحي هذا العمل الجماعي انبثق المثل الحاضُّ على العمل الجماعي واستبعاد غير المشارك فيه :" الِّلي مَا لُو خَيْط فيها يْمْرْكْهَا " ، أي لم لم يشارك ولو بخيط ، فليبتعد، و من قبيل قولهم : " لا تنْزْزْ للِّي ما سدَّى لَكْ أي لا تنسج لمن لم يشاركك في السَّدى ، ومعلوم أن السَّدى والنسيج متلازمان ، وهما قوامُ إعداد الخيمة المكونة من الأجزاء الآتية:
• الفْلْجَة : ج. افْليج ، وهو شريط منسوج من شَعر الماعز أو صوف الظأن الأسود أو وبر الابل . ومن جُماع "الفلجة " تؤلف رقعة الخيمة.
• لْمْطَنْبَة : عبارة عن افليج صغير يستعمل للجهة الأمامية وكذا الخلفية للخيمة ، فهي بمثابة أطنا الخيمة.
• لْخْوَالْف :مفردها خالفة ، وهي سبب أو حبل منسوج من الشعر وتسمى لَحكاب ، أو مصنوعة من جلد الابل ، وتسمى انْسع.
• الركايْز : مفردها ركيزة ، وهي عبارة أعمدة خشبية ، وترتفع الخيمة بواسطة ركيزتين تتوسطانها ،وتُعصمان أو تشدَّان بواسطة حبل جلدي غليظ يسمى "لْعْصام " ، كما يوضع عمود قبالة " الركايز " يسمى " السمْك " أي السماك ، بينما يوضع عمودان آخران في الجهة الأمامية من الخيمة بمثابة " بابيَْن ".
• لَخْراب : ج. خرب ، وهي عبارة عن حلقات من الخشب تستعمل للربط بين الخيمة والاوتاد.
• الْخْلاّلات : ج. خلالة ، وهي مسامير يُشَد بها " أسودار " - وهو الغطاء الداخلي للخيمة – بباقي أجزاء الخيمة
•
.
وملاك الأمر ، ان أهل الصحراء يعِرفون ويعرِّفون الخيمة بكل أجزائها وتفاصيلها كما يعرفون أبناءهم ، وقد سموا كل الأشياء بأسمائها وعلموها أبناءهم ، فتناقلتها الأجيال شفاهة من فمٍ لأذن ، وتلك ميزة الثقافة الصحراوية التي لم تشب بعدُ عن طور الشفاهية لتنتقل إلى طور الكتابية والتدوين.
2- اللباس والحلي :
مثَّل موسم الطنطان معرضا مفتوحا عامرا شاملا للأزياء أو الحُلَى والحِلي الحساني التراثي ، سواء منها المنقرضة التليدة أو المستحدثة الجديدة ، ورغم لمسات التحديث التي مست اللباس الصحراوي شكلا ، فان الجوهر- المائز له و المعبّر عن هوية مزاٍيلة لغيرها- بقي قائما ، يشهد لذلك أن إطلاق اسم " دراعة الفلوجة " و"ملحفة الانتفاضة " لم يغير من مسمى الدراعة والملحفة شيئا مسترعيا للانتباه ، فقد تفننت يد الصانع الصحراوي في إضفاء مُسح جمالية على الملابس المعروفة المتوارثة دون أن تفسد أو تغير من أصالتها شيئا ، ولا تزال تلك الأردية عنوانا مؤسِّسا للمعرفة بأهل الصحراء مائزاً لهويتهم الثقافية ، إذ لا تخفى دراريعهم و ملاحف نسائهم ، و كما عرف المرابطون باللثام فسُمّوا بالملثمين ، فقد أطلق بعضهم على سكان الصحراء الرجال الزُّرق إيماء الى زرقة بعض دراريعهم ، إذ يغلب على ذوق أهل الصحراء اختيار اللون الأبيض والأزرق للدراعة ،وقد يرتدون دراعة من لونين مختلفين أيضا كالأبيض والأسود ، وتسمى دراعة جهْتين أو دراعة باخة ، وكما يتطلع الرجال لاتخاذ زينتهم عند كل حفل تعطُّرا و تدثّرا بأبهى وأغلى الحُلل "دراريع بازان "، فان نساء الصحراء يتنافسن في إظهار الزينة لبسا للخلاخل والدمالج والقلائد كقلادة أبغداد وامزرَّد وغيرهما من الحلي والمجوهرات التقليدية.
3 – الفنون والالعاب الشعبية :
فضلا عما سلف ذكره ، تنبع القيمة الجمالية لموسم الطّنطان من تعدد فنون القول والأداء ، شعراً وحكاية وغناء ورقصاً وهلمَّ جرّا، ومن اللافت للانتباه نصب خيمة للشعراء والمطربين ،حيث تجود قرائح هؤلاء بقصائد ( طلعات و كيفان ) ، و تبدع حناجر أولئك في التغني بها إمتاعا وانقشاعا لسُحُب الكرب والكدَر التي تغشى النفوس الكالَّة منها والكَسول . والشعر الحساني مرتع خصب ومنبع ثرٌّ للأحاسيس والمشاعر والقيم حبّاً وفخرا وفروسية وشحذاً للهمم ، تزيده شاعرية المكان (الخيمة ) وحسن جمال الزمان ( الليل) رونقاً وإمتاعاً، خاصة حين ينبري المطربون إلى الإنشاد والتغني سٍراعا ، عُدَّتهم في ذلك آلات أصيلة لا تفارق أهل الصحراء – والمطربون منهم خاصة- حلاّ وترحالا وانتجاعا ، ومنها الكدرة والطبل والتيدينيت والنيفارة عند القدامى والقيثارة وما سواها من الآلات عند المحدثين . وليس خافيا أن معظم الفنون الأدائية عند أهل الصحراء لا تؤدى إلا جماعة تناسقا مع طبيعة المجتمع البدوي المؤسس على التعاون والتضامن والاجتماع في السراء والضراء ، إذ المبدأ عندهم أن " حِمل الجماعة ريش " .ولا شك أن سباق الهجن المسمى محليا ب : لَزْ لْبْلْ " ، يمثل صورة حية للعمل الجماعي القائم على التنافس.
4 -الطب والأدوية الشعبية :
إزدانت بعض جنبات موسم الطنطان بخيمة كتب على بابها " الطب الشعبي الصحراوي " ، عرضت فيها بعض الأعشاب والمستحضرات الطبية الشعبية التي تفنن في إعدادها بعض من خَبروا الأعشاب البرية وتأثيراتها ، ومن الشائع في الصحراء أن كل سدرة في الصحراء تحمل دواء ، الأمر الذي يفيد أن الصحراء بأشجارها وسهوبها تعدّ صيدلية مفتوحة إذا أحسِن استغلالها.
خاتمة :
على سبيل الختم أقول ، إن موسم الطنطان بطاقة تعريف متجددة بتراث ولغة وثقافة أهل الصحراء ، وقد مثلت زيارة شخصيات من منطقة حائل بالعربية السعودية للموسم فرصة لتأسيس عمل تعارُفي تمهيدا لعمل تعاوني في المستقبل مع الأشقاء في المشرق العربي.
https://www.facebook.com/laghla.bouzid/posts/3137449356309834