ضياء الخالدي - عند الفجر..

إنها الأصوات ثانية. تأتي مع ساعات الفجر الأولى. تدخل شقوق النوافذ والجدران والأبواب، لتبعد النعاس عني، وتجعلني منشغلا بالتفكير في مصدرها. ربما تمهد للجنون، وربما لأشياء كبرى لا اعرفها...
انين خافت مزدحم بالنبرات، ومثقل بنغمة ناي حزين، يتصاعد حينا، ويخفت حينا آخر حسب سرعة الريح. يحمله الليل الذي نزل بسواده فوق بيوتنا السبعة، الهاربة من قبضة المدينة البعيدة. يناجي الانين الارض العارية التي لا تحوي غير العلب الفارغة والطابوق والاشواك، وهياكل اجهزة كهربائية، ثم ياتيني مرحبا بي، وربما مشمئزا مني. لا اعلم حقيقة الحزن الذي اكاد المسه...
فتحت النافذة رغم البرد لتبدو الاصوات نقية ونظيفة. ومحاولاً قدر الامكان استيعاب حجم ذلك العويل الباكي... ثلاث ليال هي عمر بيتي الجديد، وفيها سمعت هذه النداءات !! قلت لزوجتي عما حدث في الليلتين الماضيتين، فقالت انها هواجس سببها الاعياء في نقل اثاث البيت او الحزن لأبتعادنا عن بيتنا القديم . لكنني اعلم ان زوجتي بليدة في اشياء كهذه، ولا يمكنها اكتشاف حقيقة الاصوات التي تعني صوراً كبيرة، فبعضها كانت تطالب بالقصاص من اناس مجهولين لم استطع سماع اسمائهم بوضوح نظراً لتشابك النبرات ، واختلاط الحروف والمفردات. مما دفعني الى التخمين بان لغة غريبة تتسربل في الفجر البارد، وانها تشكلت لاجل قضية لا افهمها... نزلت من السرير تاركاً زوجتي تنعم بالدفء ، وخرجت من الحجرة صوب الممر الخلفي للبيت. كانت السماء مكسوة بالسواد، وثمة نجوم تجاهد للخروج من اسر الغيوم. انها الاصوات ثانية تزداد في جريانها الغريب. اسمعها وكأنها تناجي البشر لتنذرهم بكارثة قادمة.
حدقت من جدار البيت الخلفي الى فضاء الارض الخربة، وبلحظة، كأن يداً ما حملت جسدي تسلقت فيها الجدار، وتقدمت خطوتين، وثلاث، وكان المسير الى ذلك النداء الذي يود مصارحتي بحكايات لم يعرفها اناس هذه المنطقة السكنية غير المكتملة. بدت مسامات التربة رخوة وتتيح لقدمي صنع وشم عليها، فداهمني احساس بوجود مقبرة قديمة طمرها الزمن.
لماذا اتيت الى هنا؟ ربما يشاهدني شخص ما من تلك البيوت المتفرقة، ويظن بي الظنون.. لص محترف او رجل هارب من مشكلة عويصة، او مجنون يبحث عن مأوى. لكن، ربما سيتركونني لافك لغز تلك الاصوات التي يسمعونها.
كان تصميمي على السير كبيراً، لكن صرخة زوجتي اوقفتني. كانت تشير الي بساعدها من خلف البيت. مجنونة، باكية ، هذا ما ادركته حين اخذت شهقاتها تطرد الاصوات الغريبة وتحل مكانها في جمجمتي . عدت اليها ضارباً بقدمي اطار سيارة، كان يشكل حلقة سوداء على الارض!

* * * *
في الصباح اتى مجنون الى بيتنا. ضرب الباب بملعقة معدنية كان يحملها. بدت هيئته مثيرة للحزن والضحك. كان يرتدي بنطلوناً سميكاً، ومعطفاً كثير الجيوب.. قال لي: لماذا اتيت الى المنطقة؟ انها ليست للسكن! كانت مفرداته تعبر عن عقلية غير ممسوسة مما جعلني قلقاً جداً.. خرجت زوجتي لتشاهد اول زائر لبيتنا. ارتعبت لمنظره وهو لا يزال ممسكاً بملعقته الكبيرة. القت نظرة علينا، لترجع الى الوراء قائلة: سأجلب بعض النقود، فأكدت لها على ذلك. لكن الشحاذ او المجنون لم يقبل المال، لان نيته الحقيقية ابداء النصيحة باعتباره يعلم جيداً خبايا المنطقة واسرارها، وانه قام بدوره بابلاغ النصائح الى البيوت الستة المنتشرة هنا. لكنهم لم يمتثلوا لما يقوله، لانهم نعتوه بالمجنون، وظنوا ان النقود والطعام هو كل ما يريده.
وعند الظهر لم يكن الطارق مجنوناً او شحاذاً، بل كانت امرأة مسنة قصيرة القامة، وغارقة بعباءة سوداء، ووجهها يئن من التجاعيد ..طلبت مني الدخول في طارمة البيت والجلوس في بقعة الشمس الدافئة ، لكي تسرني بحديث يفيد السكان الجدد. ندهت على زوجتي لتشاركني الجلسة، فكانت كلماتها تشي بحكاية خرافية لا رأس لها ولا ذيل.. رجل احب امرأة وغرقا معاً في بئر قريبة من هنا، وبعد سنين استيقظ الحبيبان وحاولا الخروج حتى تيسر لهما ذلك في احد الصباحات الباردة. غير أنهما فضلا الرجوع الى البئر والغرق مرة ثانية لما شاهداه عند خروجهما. كانت اجساد بشرية ميتة، واصوات اطلاقات نارية في كل مكان، ورجال بوجوه متشنجة تقف على هيئة مجموعات، وهناك اطفال ونساء عزلوا في حفر غير عميقة..
قالت العجوز حكايتها ومضت نحو الباب، وقد دست نصيحة لنا بصوت واطيء: عليكما الا تخافا!
وفي المساء كان شيخ بلحية بيضاء يطلق ادعية وابتهالات في الشارع. انتبهت له قبل بلوغه البيت، فخرجت له مؤملاً تفسير دافعه. كان نظيفاً بدشداشة بنية ومسبحة طويلة، ويرفع بيديه اطراف ثوبه خوفاً من الاتساخ..وصل امامي ليقف محدقاً بي، ودون ان يقطع نبراته الرخيمة المؤثرة. هز رأسه دلالة على الرثاء وتركني قيد المخاوف والتساؤلات.
دخلت البيت مسرعاً حيث زوجتي، لأحدثها عن خطورة المكان الذي نسكنه. لكنها لم تتفق معي قائلة : ان الشحاذ والمرأة العجوز مجنونان وانك تتوهم اشياء غير موجودة، فاجبتها ان شيخاً لا يبدو عليه الجنون قد حذرني للتو، فازدادت في بلادتها المميتة وهي تجيبني: حتى لو وجدت هذه الاشياء فلا بديل لنا غير البقاء. انت تعرف ذلك جيداً!!
غرقت في سواد الليل، وفي محطات النهار الثلاث. كانت اصوات اخرى قد اندست في الجمجمة، لها رنين يشبه صوت نوابض حلزونية تسحب بقوة ثم تترك. ماذا يعني ان نترك مكاناً نظنه المرفأ الاخير بعد البيوت المستأجرة التي سكناها من قبل؟ هذا البيت ملك لنا. ليس ثمة احد يدق الباب بين اونة واخرى لزيادة الاجر الشهري، او يطلب الانتقال منا الى مكان آخر. جل ما جمعته من مال وضعته في بناء البيت، برغم درايتي ان الارض ليست ملكنا على الورق، بل تعود لنا عبر آلام زمنية عشناها!
بدا الليل مخيفاً وغارقاً في عتمة اشياء مغلقة بالاساطير اذ بعد دقائق ستعزف جوقة ضبابية عزفها السري.
كنت ارى هذه المنطقة من قبل جرداء تماماً، واثناء الالتحاقات العسكرية المتكررة. يوم كانت الحرب تطحن السعادة مع البارود، وقلت يومها ان هذه الارض ستمتلئ بالبيوت او بالقبور، وربما تختنق بالقصور الفارهة ذات الواجهات المرمرية. كان ذلك التصور يحيي الليالي المضيئة دائماً بالقذائف والرصاص والاماني التي لم تتحقق..
****************************************************
لقد بدأ البكاء بالتسلل من شقوق النوافذ والابواب كعادته، لكي يلون المخيلة بمآس حدثت في غفلة من الزمان..الان زوجتي نائمة، والبيوت الستة في المنطقة متفرقة عن بعضها البعض، فالكل يهرب من الآخر لسبب ايقظته الحرب الاخيرة. الا انها تستضيء معاً بمصابيح فلورنسية تعمل بفضل مولدات كهربائية خرساء. فلا اصوات غير انيني الخاص المسيطر على بقعتي، ويحفزني لترك السرير والخروج كليلة البارحة الى المكان المقدس. ذلك المكان المتناثرة جزيئاته، والمشبع بحكايات عاشرها عنوة...هل بدأت بالهذيان؟ ام ان الاصوات اخذت تحرك لساني وتدفع مخيلتي لنسج قصص غير حقيقية.
ابتعدت عن حجرة النوم، ودلفت في الممر المؤدي خلف البيت. كان الظلام يقتني حاجيات عسكرية وسكاكين واقنعة تحاول التأثير على الفانوس المستقر على درجة السلم، وثمة ظلال تزداد حركتها كلما خطوت الى الباب الخلفي. لابد لي من الاقتراب رويداً رويداً من اجساد تعذبت.. فتحت الباب الحديدي البارد، فكانت صرخة زوجتي تنثر مسحوقاً ابيض بوجه النجوم المتلألئة في السماء. كانت تصرخ وتصرخ حتى عدت اليها مغلقاً الباب بقوة، ومحملاً بمشاهد التوابيت الملفوفة بالبيارق. هكذا تصورت الصوت المنبعث من حنجرة زوجتي!!
* * * *
في الليلة الخامسة كان تصميمي كبيراً على التجول بحرية دون ازعاجات زوجتي، التي حاولت قبل ساعات من الفجر مداعبتي، وسحبي الى دائرة رغبتها عنوة. وجدت نفسي امام امتحان عسير. كيف لي ان اهشم ما اسسته من تركيز لتلك اللحظة؟ تمنعت عنها فغضبت، وادارت جسدها قائلة: هذا البيت مسكون بالجن!!
قبلتها من خدها مؤكداً ان الصباح سيشهد موقعة ربما لن تتحملها . زمت شفتيها. وبقى نظرها مستقراً على علب التجميل والعطور على تخت المرآة، التي بدت في ضوء الفانوس ارواحاً تحدق بنا.
الثالثة صباحاً، وزوجتي اسيرة نوم متقطع. تستيقظ فجأة، لتحدثني عن ظروف رصاصات فارغة في العراء ، وبكاء اطفال رضع، ومسنون يرتجفون من البرد، حتى اقنعتها بتناول قرص منوم يريحها من العناء، ويجعلني بعيداً عن ازعاجاتها عند الفجر.
لقد تجسدت الاشياء على هيئة رموز غريبة، تتجمع وتنفرط جزيئاتها كلما حاوت معرفة سبب قدومها، فانا ادرك تماماً ان زوجتي والجيران القليلين في المنطقة لا يعيرون للأيام الماضية اهمية،، عليهم فقط امتلاك منافع اللحظة الممسكة باليد، وان ما ذهب وما سيأتي غير موجود في اذهانهم المختنقة بمكاسب الحرب البسيطة مثل الحاجيات المنهوبة، او الاراضي المشاعة لأي يد تنثر الجص عليها لترسيمها!
ربما الاصوات التي بدأت التقطها تعبر عن ادانة للبيوت السبعة في المنطقة ، فالجميع نثر المساحيق البيض تحت ضغط السكن ودون الانتباه الى ما تختزنه الارض من ارواح عاشت قبلنا .. اننا نشيد ابنيتنا على مقبرة لا نعلم بالضبط تاريخ انشائها ، نضع الطابوق والحديد والابواب فوق ذكريات اشخاص تحدثوا وبكوا وضحكوا كثيراً، انها مقبرة حتماً، شيدت قبل مئات السنين، وربما قبل حشد قليل منها!!
ازداد الانين ودخل الذروة، فتحرك جسدي تلقائياً صوب باب البيت الخلفي، وقد حملت الفانوس الزيتي الذي وضعته على دكة السلم قبل قفزي الجدار .. لم يكن الظلام شديداً ، ولا الغيوم تستطيع اخماد نور القمر باكمله.. سرت الى الامام، والاصوات ترتفع في ندبها وحزنها وكذلك اطار السيارة التالف لا يزال يشكل حلقة سوداء على الارض. لقد ابتعدت عن بيتي كثيراً، وعن زوجتي وعن البيوت الستة ايضاً. كانت الارض تنحدر قليلاً واديمها يأخذ طابع الهشاشة . قدمي تغوص في اماكن تخيف لأول وهلة.. كان البكاء دامعاً واكثر من المعتاد، اطفال ونساء وشيوخ يولولون في الذاكرة، والبرد يدفعني الى احكام زر المعطف جيداً..
قد تكون الصورة التي شاهدتها حقيقية ، ثلاثة اشباح يجلسون في حفرة غير عميقة.. يتهامسون، ووجوههم معتمة بفعل انحناءة السائر الترابي الضيق.. بينما خطواتي لم تتوقف حتى دخلت في صحبتهم الفجرية، وزالت الرهبة عندما شع نور بقوة في المكان يشبه ضوء القمر، واثناء نهوضهم لتحيتي، فتوضحت قسماتهم التي شاهدتها نهار البارحة امام بيتي. الشحاذ والمرأة العجوز والشيخ... كانت هالة تلفهم، قداسة من نوع ما وجدتها بغتة قريبة مني. راح الثلاثة يباركونني على قداستي الجديدة التي تجسدت بالضوء المنطلق من جسدي، ومن الرصاصة الغريبة التي ازت بصوتها، واستقرت في جمجمتي...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...