1
شكل كل من لينين وبوخارين وستالين وتروتسكى بالنسبة إلى روسيا، وماو وتشو إن لاى ودنج سياو بنج بالنسبة إلى الصين، تاريخ الثورتين العظميين في القرن العشرين. وقد قام هؤلاء الزعماء بدورهم أولاً من خلال قيادة أحزاب ثورية ماركسية ثم قيادة الدولة الناشئة عن انتصار الثورة. فاضطروا لذلك إلى مراجعة (وأستخدم عمدًا هذا اللفظ الملعون في نظر العديد من الماركسييين) أطروحات الماركسية التاريخية الموروثة.
وخطا كل من لينين وبوخارين بخطوات واسعة تجاوزت آفاق التحليلات التي قدمها هوبسونHobson وهلفردنج Hilferding فيما يخص رأسمالية الاحتكارات وعصر الامبريالية. فاستخلصا خلاصة سياسية حاسمة ألا وهي أن الحرب العالمية الأولى – وهي حرب إمبريالية – قد خلقت ظروفا مناسبة لانتصار ثورة اجتماعية كبرى بقيادة البروليتاريا. وقد كاد لينين وبوخارين ينفردان بتوقع هذا الاحتمال. فكتب بوخارين ذلك عام 1915 ولينين عام 1916.
بيد أننا نستطيع اليوم، بالاستفادة من مرور الزمن، توضيح حدود أطروحات لينين وبوخارين اللذين اعتبرا الإمبريالية ظاهرة جديدة ناتجة عن تحول الرأسمالية بدخولها عصر الاحتكارات.
أما أنا فقد قمت بنقد هذه الرؤية. فأزعم أن الطابع الإمبريالى قد صاحب انتشار الرأسمالية منذ نشأتها؛ وأن الرأسمالية قبل عصر الاحتكارات قد شاركت هذا الطابع. وقلت إن هيمنة بريطانيا في القرن التاسع عشر قامت على سيادتها الكولونيالية على الهند.
يضاف الى ذلك أن لينين وبوخارين تصوّرا أنّ الثورة التي انطلقت من روسيا – “الحلقة الضعيفة في السلسلة” طبقاً لوصفهما – سوف تنتشر فورا حتى تحقق أهدافها الكبرى في المراكز الرأسمالية المتقدمة، لاسيما ألمانيا. وأعتقد أنّهما أخطآ في هذا التوقّع، وأن مصدر خطئهما يكمن في سوء تقييمهما لما ترتب من تأثير الإمبريالية على مجتمع الدول المركزية فألغى احتمال حدوث ثورة جذرية فيها.
يبد أن لينين وبوخارين قد استخلصا فورا الدرس من حدوث الثورة في روسيا المتخلفة وعزلتها بعد فشل محاولة الثورة في المانيا.
فقالا إن الثورة التي تحققت باسم الاشتراكية قد أصبحت في واقع أمرها شيئاً آخر: ثورة فلاحين بصفتها الأساسية. وبالتالي أثيرَ السؤالَ: ماهو العمل في هذه الظروف؟ كيف يمكن اشتراك المجتمع القروي في بناء الاشتراكية، ولو على مراحل؟ هل يتطلب ذلك قبول تنازلات لصالح ممارسة السوق واحترام الملكية الخاصة للأرض التي كسبها الفلاحون؟ وبالتالى قبول فكرة التقدم البطىء في سبيل التصنيع وبناء الاشتراكية؟
ثم جاءت السياسة الاقتصادية الجديدةNEP تنفيذًا لهذه الاستراتيجية خلال العشرينات.
ولكن لينين وبوخارين وستالين أدركوا من جانب آخر خطورة عداء الدول الامبريالية التي لم تقبل أبدًا حدوث ثورة باسم الاشتراكية، بل رفضت أيضاً مساندة السياسة الاقتصادية الجديدة NEP.
وذلك لأن روسيا الجديدة- بالرغم من عجزها عن إنجاز أهداف الاشتراكية – قد انعتقت من سيادة الإمبريالية ورفضت الخضوع للمطلوب منها. ففكّت روسيا الروابط مع المنظومة الرأسمالية العالمية السائدة. وتجلى عداء الغرب المتواصل في شكل حروب تدخلية حارّة خلال السنوات التي تلت الثورة، ثم ممارسة حرب باردة روت سياسة الغرب دون انقطاع من عام 1920 الى عام 1990، بل إلى ما بعد ذلك. فلم تقبل دول الغرب الديموقراطية، ثم دولة النازية فيما بعد، وجود الاتحاد السوفياتي في حدّ ذاته. وحاول لينين، ثم ستالين، إقناع هذه الدول- بكل الوسائل في حوزتهما- برغبة الاتحاد السوفياتي في التعايش السلمى والامتناع عن “تصدير الثورة”. ثم سعى ستالين خلال الثلاثينيات الى إبرام تحالف مع الغرب الديموقراطى في مواجهة خطر النازية. ولكن الدول الغربية لم تلبِ هذه الدعوة. بل على النقيض شجعت طموحات ألمانيا النازية في إلحاق الهزيمة العسكرية بالاتحاد السوفياتي.
يثبت إبرام اتفاقية ميونخ (عام 1937) بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا واقع أمل الدول الغربية في دفع مشروع هجوم هتلر على الاتحاد السوفياتي. كما أن تلك الدول رفضت في أعقاب إبرام الاتفاقية المذكورة المخزية اليد التي مدّها ستالين لها عام 1939. فاضطر ستالين، من أجل إفشال خطة الغرب الخبيثة، إلى عقد اتفاقية مع ألمانيا عشية فتح بولندا.
وفيما بعد، وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب، جدد ستالين دعوته لإنجاز تحالف دائم مع واشنطون ولندن، وإدارة الشؤون الدولية على أساسه. ولم يتنازل ستالين عن هذا الخط ولو لحظة. يبد أن واشنطون ولندن رفضتا التعايش السلمى من الأصل، وانفردتا بقرار فتح جبهة الحرب الباردة، في أعقاب مؤتمر بوتسدامPOTSDAM عام 1945، عندما أصبحت الولايات المتحدة تملك السلاح النووي الجديد.
ثم أقيمت منظمة الناتو (حلف شمال الأطلنطي) NATO في إطار خطة تسعى الى دحر(ROLL BACK) الاتحاد السوفياتي وذلك من عام 1946 الى 1990 (وبعده) دونما انقطاع. وتم تقديم دور الناتو للرأى العام الساذج في المجتمعات الغربية على أنه “تحالف دفاعي” ضد الطموحات التوسعية السوفياتية الوهمية التي ادّعاها أطراف الحلف الغربي لموسكو دون تقديم حتى أوهن البراهين على صحة ذلك.
واتضح كذب خطاب الناتو انطلاقاً من عام 1990 فظهرت حقيقة الطموحات التوسعية الغربية عندما أدخلت دول شرق اوروبا في تحالف الناتو. فخانت الكتلة الامبريالية وعودها لروسيا الجديدة بالامتناع عن هذا التوسع العسكري. ثم حدثت سلسلة من المبادرات الإمبريالية من خلال تدخلات حلف الناتو الموسع في الشرق الأدنى وليبيا والقوقاز وآسيا الوسطى وأخيرًا في أوكرانيا. ويستطع القارىء أن يرجع في هذه الامور الى كتاب جفرى روبرتس Geoffrey Roberts المعنون “حروب ستالين” والصادر عام 2006.
فما العمل في مواجهة هذا التحدى العسكري المتواصل؟ لقد سعى الاتحاد السوفياتي إلى إرساء نوع من التعايش السلمي، بل قَبِل من أجل ذلك الامتناع عن التدخل في مجالات عديدة من السياسة الدولية، تاركًا المبادرة في هذه الأمور للتكتل الإمبريالي.
ولكن في الوقت نفسه أدركت السلطة السوفياتية ضرورة التسلّح من أجل مواجهة خطر العدوان العسكري. وكان هذا هو خيار ستالين منذ الثلاثينيات عندما قرر إنهاء السياسة الاقتصادية الجديدة NEP والاستعجال في التصنيع الملازم لتحقيق التسليح. يبد أن هذا الخيار ضرب بدوره المجتمع القروي، وبالتالي أدّى إلى تحطيم التحالف بين العمال والفلاحين الذي قامت على أساسه إنجازات ثورة 1917.
وقد كرر ستالين نفس الخيار عام 1949، عندما تأكد من سوء نية الغرب ورفضه للتعايش السلمي وعودته إلى ممارسة الحرب الباردة المستمرة منذ عام 1917.
2
فمنذ عام 1947 أعلنت الولايات المتحدة، وهي القوة الإمبريالية المسيطرة في ذلك الوقت، انقسام العالم إلى معسكرين: “العالم الحر”، و”الشمولية الشيوعية”. وتجاهلت هذه النظرة “العالم الثالث” الذي اعتبرته تابعاً “للعالم الحر” نظراً لأنه “غير شيوعي”، واقتصرت هذه “الحرية” على حرية تَحرّك رأس المال متجاهلة الاستبداد الاستعماري أو شبه الاستعماري الذي يتعرض له العالم الثالث. وفي العام التالي صدر تقرير جدانوف الشهير (وهو في الواقع يعود لستالين)، والذي على أساسه جرى تأسيس الكومنفورم (وهو الصيغة المخففة للدولية الثالثة). وقسم هذا التقرير بدوره العالم إلى مجالين: العالم الاشتراكي (الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية)، والعالم الرأسمالي ( أي بقية العالم). وتجاهل هذا التقرير التناقضات في داخل المجال الرأسمالي بين المراكز الإمبريالية وبين شعوب وأمم التخوم التي تناضل من أجل التحرر.
وكان الهدف الأساسي لمبدأ جدانوف هو فرض التعايش السلمي وتخفيف التوجهات العدوانية للولايات المتحدة وحلفائها التابعين في أوروبا واليابان. وفي مقابل ذلك قبل الاتحاد السوفياتي أن يهدئ من حماسه، وأن يمتنع عن التدخل في شئون المستعمرات التي كانت القوى الإمبريالية تعتبرها من شؤونها الداخلية. بل إن حركات التحرر أيامها بما فيها الثورة الصينية، لم تحظ إلا بتأييد محدود من الاتحاد السوفياتي، وفرضت نفسها بجهودها الذاتية. وفرض نجاح هذه الحركات، وبالدرجة الأولى بالطبع، انتصار الثورة الصينية، تغيراً في علاقات القوى الدولية. ولم تقدّر موسكو هذه التغييرات حق قدرها إلا بعد باندونج، حيث أدّت مساعداتها للبلدان التي تناضل ضد الإمبريالية إلى كسر طوق العزلة حولها، وإلى تحولها إلى لاعب رئيسي في الشئون العالمية. وهكذا يمكن القول دون مبالغة، أن التحول الرئيسي في النظام العالمي قد جرى بفضل هذه “الصحوة الأولى للجنوب”، والتي بدونها لا يمكن تقدير عملية ظهور القوى الجديدة “البازغة”.
وقد تقبلت الأحزاب الشيوعية في أوروبا وأمريكا اللاتينية في ذلك الوقت تقرير جدانوف بلا تحفظ. وفي المقابل، تعرض التقرير لمعارضة مباشرة من الأحزاب الشيوعية في آسيا والشرق الأوسط، وكانت معارضة مستترة في خطاب تلك المرحلة حيث كانت تؤكد “وحدة المعسكر الاشتراكي” وتقف وراء الاتحاد السوفييتي. ولكن هذه المعارضة بدأت في الظهور مع تطور النضال من أجل الاستقلال، وخاصة بعد انتصار الثورة الصينية (عام 1949). وفيما أعلم، لم تجر كتابة تاريخ صياغة نظرية البدائل التي تبلورت في مؤتمر باندونج عام 1955، ثم في حركة عدم الانحياز ابتداءً من عام 1960 (وهي الحركة المسماة: آسيا وأفريقيا وكوبا). ويبقى هذا التاريخ مستتراً في أرشيفات بعض الأحزاب الشيوعية (في الصين والهند وإندونيسيا ومصر والعراق وإيران وغيرها).
ويمكنني على أية حال ذكر شهادتي الشخصية عن هذا التاريخ، فقد كان من حسن حظي أن شاركت في مجموعة للتأمل والتمحيص تضم بعض الشيوعيين المصريين والعراقيين والإيرانيين وآخرين في عام 1950. ولم تكن قد بلغتنا أنباء الجدل الذي أثاره تشو إن لاي في الصين إلا بعد ذلك بمدة طويلة في عام 1963 عن طريق الرفيق وانج (الذي كان يمثل حلقة الاتصال مع هيئة تحرير مجلة ريفوليسيون [الثورة] التي كنت عضواً بها). وكنا قد استمعنا إلى أصداء الجدل الهندي الذي أدى فيما بعد إلى الانقسام الذي انتهي بقيام الحزب الشيوعي الماركسي، كما كنا قد علمنا أن الجدل قائم في داخل الحزبين الشيوعيين في إندونيسيا والفلبين بنفس الشأن.
ويقتضي الأمر كتابة هذا التاريخ حتى يصحح الفكرة الخاطئة بأن باندونج قد نتجت عن اختمار الفكرة في رؤوس بعض الزعماء الوطتيين (خاصة نهرو وسوكارنو، وبدرجة أقل عبد الناصر). فالحقيقة هي أنها كانت نتيجة للنقد الراديكالي اليساري من جانب بعض الأحزاب الشيوعية. وقد انتهي تفكير هذه المجموعات إلى النتبجة التالية: إن النضال ضد الإمبريالية على الصعيد العالمي يجمع القوى الاجتماعية والسياسية التي سيؤدي انتصارها إلى فتح الطريق أمام التقدم نحو الاشتراكية في العالم المعاصر.
وتركت هذه النتيجة الباب مفتوحاً أمام التساؤل: من الذي “سيقود” هذه المعارك ضد الإمبريالية؟ أو بعبارة أخرى: هل ستقودها البرجوازية (المسماة أيامها بالوطنية) وبالتالي على الشيوعيين تأييدها، أو جبهة من الطبقات الشعبية “يقودها” الشيوعيون لا البرجوازية (المعادية للوطنية بالفعل)؟ وبقيت الإجابة على هذا السؤال متراوحة بل ملتبسة أحياناً. وفي عام 1945 انتظمت الأحزاب الشيوعية المعنية وراء النتيجة التي توصل إليها ستالين، وهي أن البرجوازية في جميع أنحاء العالم (في أوروبا المرتبطة بالولايات المتحدة، كما في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة – طبقاً للتعبير السائد أيامها) قد “ألقت بعلم الوطنية في الوحل” (طبقاً لتعبير ستالين)، وأن الشيوعيين وحدهم هم القادرون على تجميع جبهة متحدة من القوى التي ترفض الخضوع للنظام الأمريكي الإمبريالي/الرأسمالي. وكانت هذه النتيجة متفقة مع ما توصل إليه ماو في عام 1941، والتي لم نعرفها إلا بعد ترجمة كتابه “الديمقراطية الجديدة” إلى اللغات الأوروبية في عام 1952. وكان معنى هذه الأطروحة أن الطريق الطويل نحو الاشتراكية لأغلب شعوب العالم لا بد أن يمر عبر “ثورة وطنية ديمقراطية شعبية ضد الإقطاع وضد الإمبريالية (بنص العبارات السائدة وقتها) تحت قيادة الشيوعيين”. وكان ذلك يعني ضمناً أن التقدم نحو الاشتراكية غير وارد في المناطق الأخرى بما فيها المراكز الإمبريالية، فلا يمكن توقعها هناك إلا بعد أن تُوقع شعوب التخوم هزائم حاسمة بالإمبريالية.
وساهم انتصار الثورة الصينية في تأكيد هذه النتيجة. وبدأت الأحزاب الشيوعية في بلدان جنوب شرق آسيا، وخاصة في تايلاند وماليزيا والفيلبين حروباً تحررية مقتدية بالمثال الفيتنامي. وفي عام 1964، اقترح تشي جيفارا في إطار الروح نفسها قيام “فيتنام ثانية وثالثة ..”.
وكانت الاقتراحات الطليعية بمبادرات “لشعوب آسيا وأفريقيا” مستقلة ومعادية للاستعمار، التي قدمتها المجموعات الشيوعية المعنية مبكرة ودقيقة، وظهرت في برنامج باندونج وعدم الانحياز، والتي عبرت عنها في كتابي “صحوة الجنوب”. وتركزت هذه المقترحات حول ضرورة استعادة السيطرة على عملية التراكم (أي التنمية المرتكزة على الذات وفك الارتباط).
وما حدث هو أن هذه المقترحات قد جرى تبنيها، مع الكثير من التخفيف، في الأعوام 1955/60، من أغلبية الطبقات الحاكمة في القارتين، وفي الوقت ذاته، هُزمت جميع حروب التحر الوطني في بلدان جنوب شرق آسيا (فيما عدا فيتنام بالطبع)، وماذا بعد؟ كانت النتيجة التي بدت منطقية هي أن “البرجوازية الوطنية” لم تستنفذ بعد كل طاقتها للنضال ضد الإمبريالية. وتوصل الاتحاد السوفياتي هو أيضاً لذات النتيجة وقرر دعم جبهة عدم الانحياز في حين أعلن الثالوث الإمبريالي الحرب المفتوحة ضدها.
وهنا انقسم الشيوعيون في البلدان المعنية بين اتجاهين متعارضين وقامت بينهما معارك عنيفة ملتبسة في كثير من الأحيان. فالبعض استنتجوا ضرورة “تأييد” السلطات القائمة التي تناضل ضد الإمبريالية مع اتخاذ المواقف “الانتقادية”، ودعمت موسكو هذا التوجه باختراع نظرية “الطريق غير الرأسمالي”. أما الآخرون فتمسكوا بجوهر النظرية الماوية التي تقول بأن الطبقات الشعبية المستقلة عن البرجوازية هي وحدها القادرة على السير في النضال ضد الإميريالية. ودَعَم الصراع بين الحزب الشيوعي الصيني والاتحاد السوفياتي، الذي بدأ منذ عام 1957، ثم ظهر إلى العلن في عام 1960، هذا الاتجاه الثاني في صفوف الشيوعيين الآسيويين والأفريقيين.
ولكن بعد ما يقرب من خمسة عشر عاماً كان زخم باندونج قد قارب على الاختفاء دلالة على محدودية البرامج المعادية للإمبريالية “للبرجوازيات الوطنية”. وهكذا تحققت الشروط لنجاح الهجمة المضادة للإمبريالية، وتحويل اقتصاديات الجنوب مرة أخرى للكومبرادورية، بل في الحالات الهشة، إعادتها للأوضاع الاستعمارية.
ولكن، في تحول بدا كإنكار للرجوع إلى الأطروحة القائلة بأن “البرجوازيات الوطنية” قد تخلت تماماً عن التطلعات الوطنية – حيث كانت مرحلة باندونج مجرد مرحلة عابرة في إطار الحرب الباردة – ها هي بعض بلدان الجنوب تفرض وجودها كبلدان “بازغة” في إطار ذات العولمة التي تسودها الإمبريالية. ويبقى السؤال: “بازغة” بأي معنى؟ هل هي عبارة عن أسواق مفتوحة أمام احتكارات الثالوث في المراكز الإمبريالية، أو هي أمم بازغة قادرة على فرض مراجعات جادة لشروط العولمة الإمبريالية؟ وهل ستتمكن من الحد من سلطات الاحتكارات في داخل هذه العولمة، وتوجيه التراكم نحو التنمية الوطنية لبلدانها؟ وهكذا يعود التساؤل حول المضمون الطبقي للسلطات الحاكمة في البلدان البازغة (وفي غيرها من بلدان التخوم) للأولوية على جدول الأعمال للنقاش الحتمي حول ما سيكون عليه – أو قد يكون – العالم “بعد الأزمة”.
إن الأزمة المتأخرة للرأسمالية الإمبريالية للاحتكارات المعممة المأمولة والمعولمة باتت مفتوحة. ولكن حتى قبل أن تدخل المرحلة الجديدة التي أنتجها الانهيار المالي في عام 2008، كانت الشعوب قد بدأت تنفض عنها حالة السبات التي رزحت تحتها بعد استنفاد زخم الموجة الأولى من نضالها لتحرير العمال والشعوب.
وتبدو أمريكا اللاتينية (التي غابت عن مرحلة باندونج (رغم جهود كوبا وحركة القارات الثلاث) (Tricontinental) وقد حققت سبقاً ملحوظاً في هذا الاتجاه.
وتعود إلى جدول الأعمال، وإنما في ظروف مغايرة بشكل كبير، ذات الأسئلة التي كانت قائمة في أعوام الخمسينيات. فهل سيستطيع الجنوب (ببلدانه البازغة وغيرها) اتخاذ مبادرات استراتيجية مستقلة؟ وهل ستستطيع القوى الشعبية فرض التحولات في السلطات الحاكمة التي ستسمح دون غيرها بالتقدم الثابت في الاتجاه الصحيح؟ وهل سيمكن إقامة الجسور التي تربط بين النضال الشعبي للجنوب ضد الإمبريالية، وبين تقدم الوعي بحتمية الاشتراكية في الشمال؟
ولا أستطيع أن أتقدم هنا بإجابات متسرعة على هذه الأسئلة الصعبة التي لن يحسمها إلا النضال. وهنا لن نقلل من أهمية النقاش الذي يجب أن يخوضه المثقفون الراديكاليون المعاصرون والمقترحات التي قد تنتج عن هذا النقاش.
والنتائج التي توصلت إليها مجموعات النقاش في الخمسينيات، قد عبرت عن التحدي باستنتاجات لا تختلف كثيراً عن تلك الصحيحة اليوم، ألا وهي: على شعوب التخوم أن تقوم ببناء اقتصادها الوطني بالاعتماد على الذات مع فك الارتباط (مستندة إلى التجمعات الإقليمية وإلى الجنوب ككل)؛ وأنها لا يمكن أن تحقق ذلك إلا في إطار التوجه نحو الاشتراكية؛ وأنها في سبيل ذلك، عليها أن تتحرر من الوهم البديل وهو “اللحاق” في إطار النظام الرأسمالي المعولم. وقد جسدت باندونج اختيار الاستقلال في الحدود التي بينها تاريخ تلك الحقبة.
فهل سيكون الرد أفضل اليوم مع قيام “الصحوة الثانية للجنوب”؟ وخصوصاً هل سيمكن هذه المرة تحقيق الالتقاء بين نضالات الشمال والجنوب؟
والواقع أن هذا الالتقاء كان مفتقداً بشدة في مرحلة باندونج، فقد بقيت شعوب الشمال حينئذ سائرة وراء طبقاتها الحاكمة الإمبريالية. والبرنامج الاجتماعي الديمقراطي لتلك الحقبة لم يكن ممكناً دون الاستناد إلى الريع الإمبريالي الذي استفادت منه مجتمعات الشمال المرفهة. وكان يُنظر إلى باندونج في تلك الأيام على أنها مجرد حلقة في الحرب الباردة، بل ربما أنها من ألاعيب موسكو. أما أن البعد الحقيقي لهذه الموجة الأولى من حركات التحرر في آسيا وأفريقيا قد أقنعت موسكو بدعمها، فقد تعذّر فهمها.
ويبقى التحدي كاملاً، وهو تأسيس الدولية المعادية للإمبريالية للعمال والشعوب.
لا يصح إذن اعتبار ثورات الجنوب وتأسيس جبهة عدم الانحياز مرادفًا لفصل من فصول الحرب الباردة، نتج عن مناورات موسكو! أو النظر الى زعماء جبهة باندونج على أنهم حلفاء تابعون للروس على نفس نمط زعماء الدول الكومبرادورية الخاضعين لأوامر واشنطون.
وفي واقع الأمر يمثل ولوج الجنوب في المسرح الدولى حدثاً تاريخياً حاسماً، فقد أنتج عدم الانحياز نمطًا من العولمة الصحيحة متعددة الاطراف، مما فرض التفاوض والتنازلات المتبادلة بين أربع قوى دولية رئيسية: الغرب الإمبريالي تحت راية واشنطن وحلف الناتو، الاتحاد السوفياتي، الصين، كتله عدم الانحياز. من ثم لا يصح اختصار المرحلة التاريخية المعنية إلى “الثنائية القطبية” و”الحرب الباردة” كما يحلو لوسائل الدعاية الغربية المعاصرة أن تردد بلا ملل.
3
وبالعودة الى التحدي المزدوج المذكور في هذه الدراسة – أي إشراك المجتمع القروي في المشروع الاشتراكي من جانب، ومواجهة عجرفة وعداء الغرب الامبريالي من الجانب الآخر – وهو التحدي الذي تصدت له ثورة روسيا وثورة الصين، بل ونُظُم باندونج أيضاً إلى حد ما فقط– نستطيع أن ندرك أسباب ترددات لينين وبوخارين ثم ستالين واتخاذهم مواقف تميل أحياناً الى إعطاء الأولوية للوجه الاول من التحدي (المشكلة القروية) وتارة أخرى الى نقل مركز ثقل القرار في اتجاه معالجة الوجه الاخر من التحدي (عداء الغرب الامبريالي).
علماً بأن هذين الوجهين من التحدي قد دخلا في تناقض خطير. إذ يقتضي الخيار الاول السير ببطء نحو الاشتراكية بينما يقتضي الخيار الثاني استعجال التصنيع والتسليح. وتجلى واقع هذا التناقض في فجائية الانقلاب في الموقف من رؤية متطرفة الى رؤية مضادة لم تقل تطرفاً. فجرى تقديم نظريات مبسّطة من أجل تبرير هذه المواقف المتطرفة المتتالية والمتناقضة. إذ لجأت القيادات تارة إلى نظرية خطّية حتمية تدعو الى احترام التتابع التاريخي الذي لا مفر منه – وبالتالي ضرورة إتمام أهداف الثورة البرجوازية قبل الدخول في مرحلة الثورة الاشتراكية – وتارة أخرى لجأت الى نظرية إرادوية عكسية تقول إن القفز فوق مرحلة الثورة البورجوازية أصبح ممكناً بفضل حكم “ديكتاتورية البرولتياريا”.
واستمر التردد خلال عقد العشرينات إلى أن فرض ستالين خيار استعجال التصنيع والتسليح في الثلاثينيات. وصارت تصفية المجتمع القروي لصالح إقامة نظام الكولخوز نتاجاً لهذا الخيار. علماً بأن فكرة تفوّق نظام الكولخوز – وهو نظام أحلّ منشآت زراعية شاسعة محلّ المزارع العائلية الصغرى – لم تخرج من ذهن ستالين. فقد كانت هذه الفكرة المبسّطة سائدة لدى الجميع من مفكري الاشتراكية. ويقوم كتاب كاوتسكي Kautsky بهذا الصدد دليلاً على ذلك. وكذلك سادت نفس الفكرة لدى الفكر البورجوازي في هذا الزمن. ولم يظهر إدراك تفوق فعالية المنشأت الزراعية الصغيرة على منافستها الشاسعة إلا متأخرا. فقد اكتشف المهندسون الزراعيون هذه الحقيقة قبل أن يعترف بها علماء الاقتصاد. فاعتمد هؤلاء المهندسون (ولاسيما المدرسة الفرنسية) على ملاحظة أنّ تعدّد التكافؤ يفرض نفسه على عمل المزارعين، فيلغي ميزة تقسيم العمل على نمط ماهو عليه في الصناعة الحديثة الكبرى.
يبد أن القرار بتصفية المجتمع القروى قد أدى – كما سبق أن قلنا – الى تحطيم تحالف العمال والفلاحين وبالتالى شجع الانحراف إلى ممارسة الأتوقراطية في إدارة السياسة.
وهنا يطرح السؤال نفسه: لو قلنا بفرضية انتصار تروتسكي هل كانت مسيرة الاتحاد السوفياتي اللاحقة ستختلف عما حدث في عصر ستالين؟ إجابتي على السؤال بالنفي. فلم يختلف تروتسكي عن الآخرين من زعماء الشيوعية البلشفية. بدليل موقفه في مواجهة انتفاضة جنود البحرية في كرنشتات Kronstad عام 1919، وتردداته وانقلاب مواقفه في مجال مستقبل الزراعة السوفياتية، ومشاركته في الاقتناع بتفوق المنشأت الزراعية الشاسعة.
ولكن تروتسكي أخرج من الصورة عام 1927 وصار منفيًا بعيدًا عن مسئوليات إدارة الدولة. فصار يماثل الكثيرين من الماركسيين الأكاديميين الذين يفتخرون بإظهار احترامهم المطلق لمبادىء الاشتراكية دون مراعاة مقتضيات تنفيذها الشاقة على أرضية الواقع.
استفاد الشيوعيون الصينيون من التجربة السوفياتية السابقة على ظهورهم في مسرح التاريخ. فأدرك ماو أن الصين سوف تواجه نفس التحدي المزدوج: ضرورة إشراك الفلاحين في تجديد المجتمع، والتحسّب للعداء من جانب الدول الإمبريالية. ولكن ماو قد خطا خطوات خلاقة في مجال وسائل تجديد المجتمع القروي. فنسب إلى الثورة الصينية طابعاً معقّداً وتفادى إطلاق النعت السريع لطابعها بأنها “ثورة اشتراكية بروليتارية”. فجمع الطابع المعقد المطروح بين العداء للاستعمار، والعداء للإقطاع (وهو أسلوب للتعبير عن كونها ثورة الفلاحين) دون وصفها بالديموقراطية البورجوازية، بل بالديموقراطية الشعبية. ولهذا التمييز مغزى حاسم، إذ يقتضي تكريس التحالف مع الفلاحين والحفاظ علىيه في كل مرحلة من مراحل تحديث المجتمع في سبيله نحو الاشتراكية. وقد حالت هذه الفكرة الجديدة دون ارتكاب خطأ النظام السوفياتي. فشجع بذل الجهود من أجل إبداع طريق جديد يضمن إشراك الفلاحين في التحديث. واعتمد هذا الإبداع على فكرة تجديد المنشآت الزراعية العائلية الفلاحية دون تحويلها الى ملكيات صغيرة خاصة.
أى بعبارة اخرى: إبداع خط يسعى الى تكريس الإنتاج الصغير المجدَّد والفعّال دون تأسيسه على الملكية الخاصة الصغيرة. ويستطيع القارىء أن يلجأ – لمزيد من المعرفة حول المشروع المعني – إلى ما كتبته بعنوان “الصعود الناجح للصين” (الفصل الثانى من كتابى “ثورة مصر بعد 30 يونيو” _ الصادر عام 2014). وأعتقد أن هذه الوصفة تصلح من حيث المبدأ لجميع مجتمعات الجنوب المعاصر، ولو أن اختلاف الأوضاع السياسية الراهنة والموروثة يفرض تكيّف النمط لما تسمح به الظروف المحلية الملموسة.
لم تجد كل من الثورتين الروسية والصينية وضعًا يسيرًا يضمن استتباب النظام. وكذلك بالنسبة الى الثورات الاشتراكية الاخرى في فيتنام وكوبا. فظلت مضطرة إلى التوفيق بين مقتضيات التطلع الاشتراكى من جانب والتنازلات التي فرضتها الضغوط الرأسمالية من الداخل ومن الخارج من جانب آخر.
وبالتالى ليس من الصدفة أن جميع هذه الثورات لم تدخل في مرحلة الاستتباب النسبى إلا بعد مرور سنوات من الاضطراب وغياب الاستقرار. وقد أطلق على الحادث الذى فتح فصل الاستتباب النسبى للنظام اسم “ترميدور” Thermidor. وذلك بالإشارة الى ذلك الحادث الخاص بتاريخ الثورة الفرنسية الكبرى خلال شهر “ترميدور” لعام 1794. وقد استخدم تروتسكي هذا النعت بمناسبة قرار ستالين عام 1927 بإبعاده عن المشاركة في الحكم.
ولكن متى وقع حادث “ترميدور” في روسيا وفي الصين؟ أهو عام 1930 بقرار تصفية المجتمع القروى كما يزعم تروتسكى؟ أم عام 1920 بالردة عن مشروع “شيوعية الحرب” لصالح السياسة الاقتصادية الجديدة NEP؟ وبالنسبة إلى الصين ألم يحدث هذا “الترميدور” من الأصل عام 1950؟ أم عام 1980 عندما عاد دنج الى الحكم في أعقاب إنهاء الثورة الثقافية وبعد وفاة ماو؟
مرة أخرى: لقد حدث “ترميدور” في تاريخ جميع الثورات الكبرى – انطلاقاً من الفرنسية- وذلك لأسباب هيكلية متماثلة، ألا وهي ضرورة “استتباب النظام”. فاتسمت جميع الثورات الكبرى (الفرنسية، الروسية، الصينية) بأنها وضعت لنفسها أهدافا تتجاوز مطالب المجتمع الفورية. علما بأن هذا التطلع المستقبلي البعيد هو بالتحديد ما يضفي العظمة على هذة الثورات. فانتقلت الثورة الفرنسية الى مرحلة ثورة الفلاحين الشعبية بحكم التيار اليساري الجذري (“اليعقوبى” Jacobins) عام 1793، حتى أوقف حادث “ترميدور” تواصل الحركة وتجاوزها حدود الثورة البورجوازية. كما مثّل “ترميدور” في الاتحاد السوفياتي والصين وضع الحدّ لمواصلة تجذير الحركة. فأنتج نوعًا من الاستتباب النسبي المطلوب لمواجهة التحدي المذكور في هذه الدراسة.
ويجب عدم الخلط بين مفهوم حادث “ترميدور” (الذى يشير الى استتباب الحركة الثورية) وبين مفهوم العودة الى الماضي السابق على الثورة. علما بأن المصطلح المستخدم بهذا الصدد هو الآخر مستخرج من تاريخ فرنسا (كلمة الـ Restauration تشير الى هذا الهدف). فلم يحدث ذلك إلا بعد سقوط نظام نابليون عام 1815. علمًا أيضا بأن العودة الى الماضي السابق على الثورة قد أصبح في واقع الامر مستحيلاً. فلا يصح الخلط بين “الترميدور” الروسى وبين مشروع روسيا انطلاقاً من عام 1990 بالعودة الى “الرأسمالية”، أي نمط الانتاج السائد قبل الثورة. كما أن مثل هذا التطور لم يحدث بعد في الصين.
2015-07-26
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1368897793298693&id=100005354569213
شكل كل من لينين وبوخارين وستالين وتروتسكى بالنسبة إلى روسيا، وماو وتشو إن لاى ودنج سياو بنج بالنسبة إلى الصين، تاريخ الثورتين العظميين في القرن العشرين. وقد قام هؤلاء الزعماء بدورهم أولاً من خلال قيادة أحزاب ثورية ماركسية ثم قيادة الدولة الناشئة عن انتصار الثورة. فاضطروا لذلك إلى مراجعة (وأستخدم عمدًا هذا اللفظ الملعون في نظر العديد من الماركسييين) أطروحات الماركسية التاريخية الموروثة.
وخطا كل من لينين وبوخارين بخطوات واسعة تجاوزت آفاق التحليلات التي قدمها هوبسونHobson وهلفردنج Hilferding فيما يخص رأسمالية الاحتكارات وعصر الامبريالية. فاستخلصا خلاصة سياسية حاسمة ألا وهي أن الحرب العالمية الأولى – وهي حرب إمبريالية – قد خلقت ظروفا مناسبة لانتصار ثورة اجتماعية كبرى بقيادة البروليتاريا. وقد كاد لينين وبوخارين ينفردان بتوقع هذا الاحتمال. فكتب بوخارين ذلك عام 1915 ولينين عام 1916.
بيد أننا نستطيع اليوم، بالاستفادة من مرور الزمن، توضيح حدود أطروحات لينين وبوخارين اللذين اعتبرا الإمبريالية ظاهرة جديدة ناتجة عن تحول الرأسمالية بدخولها عصر الاحتكارات.
أما أنا فقد قمت بنقد هذه الرؤية. فأزعم أن الطابع الإمبريالى قد صاحب انتشار الرأسمالية منذ نشأتها؛ وأن الرأسمالية قبل عصر الاحتكارات قد شاركت هذا الطابع. وقلت إن هيمنة بريطانيا في القرن التاسع عشر قامت على سيادتها الكولونيالية على الهند.
يضاف الى ذلك أن لينين وبوخارين تصوّرا أنّ الثورة التي انطلقت من روسيا – “الحلقة الضعيفة في السلسلة” طبقاً لوصفهما – سوف تنتشر فورا حتى تحقق أهدافها الكبرى في المراكز الرأسمالية المتقدمة، لاسيما ألمانيا. وأعتقد أنّهما أخطآ في هذا التوقّع، وأن مصدر خطئهما يكمن في سوء تقييمهما لما ترتب من تأثير الإمبريالية على مجتمع الدول المركزية فألغى احتمال حدوث ثورة جذرية فيها.
يبد أن لينين وبوخارين قد استخلصا فورا الدرس من حدوث الثورة في روسيا المتخلفة وعزلتها بعد فشل محاولة الثورة في المانيا.
فقالا إن الثورة التي تحققت باسم الاشتراكية قد أصبحت في واقع أمرها شيئاً آخر: ثورة فلاحين بصفتها الأساسية. وبالتالي أثيرَ السؤالَ: ماهو العمل في هذه الظروف؟ كيف يمكن اشتراك المجتمع القروي في بناء الاشتراكية، ولو على مراحل؟ هل يتطلب ذلك قبول تنازلات لصالح ممارسة السوق واحترام الملكية الخاصة للأرض التي كسبها الفلاحون؟ وبالتالى قبول فكرة التقدم البطىء في سبيل التصنيع وبناء الاشتراكية؟
ثم جاءت السياسة الاقتصادية الجديدةNEP تنفيذًا لهذه الاستراتيجية خلال العشرينات.
ولكن لينين وبوخارين وستالين أدركوا من جانب آخر خطورة عداء الدول الامبريالية التي لم تقبل أبدًا حدوث ثورة باسم الاشتراكية، بل رفضت أيضاً مساندة السياسة الاقتصادية الجديدة NEP.
وذلك لأن روسيا الجديدة- بالرغم من عجزها عن إنجاز أهداف الاشتراكية – قد انعتقت من سيادة الإمبريالية ورفضت الخضوع للمطلوب منها. ففكّت روسيا الروابط مع المنظومة الرأسمالية العالمية السائدة. وتجلى عداء الغرب المتواصل في شكل حروب تدخلية حارّة خلال السنوات التي تلت الثورة، ثم ممارسة حرب باردة روت سياسة الغرب دون انقطاع من عام 1920 الى عام 1990، بل إلى ما بعد ذلك. فلم تقبل دول الغرب الديموقراطية، ثم دولة النازية فيما بعد، وجود الاتحاد السوفياتي في حدّ ذاته. وحاول لينين، ثم ستالين، إقناع هذه الدول- بكل الوسائل في حوزتهما- برغبة الاتحاد السوفياتي في التعايش السلمى والامتناع عن “تصدير الثورة”. ثم سعى ستالين خلال الثلاثينيات الى إبرام تحالف مع الغرب الديموقراطى في مواجهة خطر النازية. ولكن الدول الغربية لم تلبِ هذه الدعوة. بل على النقيض شجعت طموحات ألمانيا النازية في إلحاق الهزيمة العسكرية بالاتحاد السوفياتي.
يثبت إبرام اتفاقية ميونخ (عام 1937) بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا واقع أمل الدول الغربية في دفع مشروع هجوم هتلر على الاتحاد السوفياتي. كما أن تلك الدول رفضت في أعقاب إبرام الاتفاقية المذكورة المخزية اليد التي مدّها ستالين لها عام 1939. فاضطر ستالين، من أجل إفشال خطة الغرب الخبيثة، إلى عقد اتفاقية مع ألمانيا عشية فتح بولندا.
وفيما بعد، وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب، جدد ستالين دعوته لإنجاز تحالف دائم مع واشنطون ولندن، وإدارة الشؤون الدولية على أساسه. ولم يتنازل ستالين عن هذا الخط ولو لحظة. يبد أن واشنطون ولندن رفضتا التعايش السلمى من الأصل، وانفردتا بقرار فتح جبهة الحرب الباردة، في أعقاب مؤتمر بوتسدامPOTSDAM عام 1945، عندما أصبحت الولايات المتحدة تملك السلاح النووي الجديد.
ثم أقيمت منظمة الناتو (حلف شمال الأطلنطي) NATO في إطار خطة تسعى الى دحر(ROLL BACK) الاتحاد السوفياتي وذلك من عام 1946 الى 1990 (وبعده) دونما انقطاع. وتم تقديم دور الناتو للرأى العام الساذج في المجتمعات الغربية على أنه “تحالف دفاعي” ضد الطموحات التوسعية السوفياتية الوهمية التي ادّعاها أطراف الحلف الغربي لموسكو دون تقديم حتى أوهن البراهين على صحة ذلك.
واتضح كذب خطاب الناتو انطلاقاً من عام 1990 فظهرت حقيقة الطموحات التوسعية الغربية عندما أدخلت دول شرق اوروبا في تحالف الناتو. فخانت الكتلة الامبريالية وعودها لروسيا الجديدة بالامتناع عن هذا التوسع العسكري. ثم حدثت سلسلة من المبادرات الإمبريالية من خلال تدخلات حلف الناتو الموسع في الشرق الأدنى وليبيا والقوقاز وآسيا الوسطى وأخيرًا في أوكرانيا. ويستطع القارىء أن يرجع في هذه الامور الى كتاب جفرى روبرتس Geoffrey Roberts المعنون “حروب ستالين” والصادر عام 2006.
فما العمل في مواجهة هذا التحدى العسكري المتواصل؟ لقد سعى الاتحاد السوفياتي إلى إرساء نوع من التعايش السلمي، بل قَبِل من أجل ذلك الامتناع عن التدخل في مجالات عديدة من السياسة الدولية، تاركًا المبادرة في هذه الأمور للتكتل الإمبريالي.
ولكن في الوقت نفسه أدركت السلطة السوفياتية ضرورة التسلّح من أجل مواجهة خطر العدوان العسكري. وكان هذا هو خيار ستالين منذ الثلاثينيات عندما قرر إنهاء السياسة الاقتصادية الجديدة NEP والاستعجال في التصنيع الملازم لتحقيق التسليح. يبد أن هذا الخيار ضرب بدوره المجتمع القروي، وبالتالي أدّى إلى تحطيم التحالف بين العمال والفلاحين الذي قامت على أساسه إنجازات ثورة 1917.
وقد كرر ستالين نفس الخيار عام 1949، عندما تأكد من سوء نية الغرب ورفضه للتعايش السلمي وعودته إلى ممارسة الحرب الباردة المستمرة منذ عام 1917.
2
فمنذ عام 1947 أعلنت الولايات المتحدة، وهي القوة الإمبريالية المسيطرة في ذلك الوقت، انقسام العالم إلى معسكرين: “العالم الحر”، و”الشمولية الشيوعية”. وتجاهلت هذه النظرة “العالم الثالث” الذي اعتبرته تابعاً “للعالم الحر” نظراً لأنه “غير شيوعي”، واقتصرت هذه “الحرية” على حرية تَحرّك رأس المال متجاهلة الاستبداد الاستعماري أو شبه الاستعماري الذي يتعرض له العالم الثالث. وفي العام التالي صدر تقرير جدانوف الشهير (وهو في الواقع يعود لستالين)، والذي على أساسه جرى تأسيس الكومنفورم (وهو الصيغة المخففة للدولية الثالثة). وقسم هذا التقرير بدوره العالم إلى مجالين: العالم الاشتراكي (الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية)، والعالم الرأسمالي ( أي بقية العالم). وتجاهل هذا التقرير التناقضات في داخل المجال الرأسمالي بين المراكز الإمبريالية وبين شعوب وأمم التخوم التي تناضل من أجل التحرر.
وكان الهدف الأساسي لمبدأ جدانوف هو فرض التعايش السلمي وتخفيف التوجهات العدوانية للولايات المتحدة وحلفائها التابعين في أوروبا واليابان. وفي مقابل ذلك قبل الاتحاد السوفياتي أن يهدئ من حماسه، وأن يمتنع عن التدخل في شئون المستعمرات التي كانت القوى الإمبريالية تعتبرها من شؤونها الداخلية. بل إن حركات التحرر أيامها بما فيها الثورة الصينية، لم تحظ إلا بتأييد محدود من الاتحاد السوفياتي، وفرضت نفسها بجهودها الذاتية. وفرض نجاح هذه الحركات، وبالدرجة الأولى بالطبع، انتصار الثورة الصينية، تغيراً في علاقات القوى الدولية. ولم تقدّر موسكو هذه التغييرات حق قدرها إلا بعد باندونج، حيث أدّت مساعداتها للبلدان التي تناضل ضد الإمبريالية إلى كسر طوق العزلة حولها، وإلى تحولها إلى لاعب رئيسي في الشئون العالمية. وهكذا يمكن القول دون مبالغة، أن التحول الرئيسي في النظام العالمي قد جرى بفضل هذه “الصحوة الأولى للجنوب”، والتي بدونها لا يمكن تقدير عملية ظهور القوى الجديدة “البازغة”.
وقد تقبلت الأحزاب الشيوعية في أوروبا وأمريكا اللاتينية في ذلك الوقت تقرير جدانوف بلا تحفظ. وفي المقابل، تعرض التقرير لمعارضة مباشرة من الأحزاب الشيوعية في آسيا والشرق الأوسط، وكانت معارضة مستترة في خطاب تلك المرحلة حيث كانت تؤكد “وحدة المعسكر الاشتراكي” وتقف وراء الاتحاد السوفييتي. ولكن هذه المعارضة بدأت في الظهور مع تطور النضال من أجل الاستقلال، وخاصة بعد انتصار الثورة الصينية (عام 1949). وفيما أعلم، لم تجر كتابة تاريخ صياغة نظرية البدائل التي تبلورت في مؤتمر باندونج عام 1955، ثم في حركة عدم الانحياز ابتداءً من عام 1960 (وهي الحركة المسماة: آسيا وأفريقيا وكوبا). ويبقى هذا التاريخ مستتراً في أرشيفات بعض الأحزاب الشيوعية (في الصين والهند وإندونيسيا ومصر والعراق وإيران وغيرها).
ويمكنني على أية حال ذكر شهادتي الشخصية عن هذا التاريخ، فقد كان من حسن حظي أن شاركت في مجموعة للتأمل والتمحيص تضم بعض الشيوعيين المصريين والعراقيين والإيرانيين وآخرين في عام 1950. ولم تكن قد بلغتنا أنباء الجدل الذي أثاره تشو إن لاي في الصين إلا بعد ذلك بمدة طويلة في عام 1963 عن طريق الرفيق وانج (الذي كان يمثل حلقة الاتصال مع هيئة تحرير مجلة ريفوليسيون [الثورة] التي كنت عضواً بها). وكنا قد استمعنا إلى أصداء الجدل الهندي الذي أدى فيما بعد إلى الانقسام الذي انتهي بقيام الحزب الشيوعي الماركسي، كما كنا قد علمنا أن الجدل قائم في داخل الحزبين الشيوعيين في إندونيسيا والفلبين بنفس الشأن.
ويقتضي الأمر كتابة هذا التاريخ حتى يصحح الفكرة الخاطئة بأن باندونج قد نتجت عن اختمار الفكرة في رؤوس بعض الزعماء الوطتيين (خاصة نهرو وسوكارنو، وبدرجة أقل عبد الناصر). فالحقيقة هي أنها كانت نتيجة للنقد الراديكالي اليساري من جانب بعض الأحزاب الشيوعية. وقد انتهي تفكير هذه المجموعات إلى النتبجة التالية: إن النضال ضد الإمبريالية على الصعيد العالمي يجمع القوى الاجتماعية والسياسية التي سيؤدي انتصارها إلى فتح الطريق أمام التقدم نحو الاشتراكية في العالم المعاصر.
وتركت هذه النتيجة الباب مفتوحاً أمام التساؤل: من الذي “سيقود” هذه المعارك ضد الإمبريالية؟ أو بعبارة أخرى: هل ستقودها البرجوازية (المسماة أيامها بالوطنية) وبالتالي على الشيوعيين تأييدها، أو جبهة من الطبقات الشعبية “يقودها” الشيوعيون لا البرجوازية (المعادية للوطنية بالفعل)؟ وبقيت الإجابة على هذا السؤال متراوحة بل ملتبسة أحياناً. وفي عام 1945 انتظمت الأحزاب الشيوعية المعنية وراء النتيجة التي توصل إليها ستالين، وهي أن البرجوازية في جميع أنحاء العالم (في أوروبا المرتبطة بالولايات المتحدة، كما في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة – طبقاً للتعبير السائد أيامها) قد “ألقت بعلم الوطنية في الوحل” (طبقاً لتعبير ستالين)، وأن الشيوعيين وحدهم هم القادرون على تجميع جبهة متحدة من القوى التي ترفض الخضوع للنظام الأمريكي الإمبريالي/الرأسمالي. وكانت هذه النتيجة متفقة مع ما توصل إليه ماو في عام 1941، والتي لم نعرفها إلا بعد ترجمة كتابه “الديمقراطية الجديدة” إلى اللغات الأوروبية في عام 1952. وكان معنى هذه الأطروحة أن الطريق الطويل نحو الاشتراكية لأغلب شعوب العالم لا بد أن يمر عبر “ثورة وطنية ديمقراطية شعبية ضد الإقطاع وضد الإمبريالية (بنص العبارات السائدة وقتها) تحت قيادة الشيوعيين”. وكان ذلك يعني ضمناً أن التقدم نحو الاشتراكية غير وارد في المناطق الأخرى بما فيها المراكز الإمبريالية، فلا يمكن توقعها هناك إلا بعد أن تُوقع شعوب التخوم هزائم حاسمة بالإمبريالية.
وساهم انتصار الثورة الصينية في تأكيد هذه النتيجة. وبدأت الأحزاب الشيوعية في بلدان جنوب شرق آسيا، وخاصة في تايلاند وماليزيا والفيلبين حروباً تحررية مقتدية بالمثال الفيتنامي. وفي عام 1964، اقترح تشي جيفارا في إطار الروح نفسها قيام “فيتنام ثانية وثالثة ..”.
وكانت الاقتراحات الطليعية بمبادرات “لشعوب آسيا وأفريقيا” مستقلة ومعادية للاستعمار، التي قدمتها المجموعات الشيوعية المعنية مبكرة ودقيقة، وظهرت في برنامج باندونج وعدم الانحياز، والتي عبرت عنها في كتابي “صحوة الجنوب”. وتركزت هذه المقترحات حول ضرورة استعادة السيطرة على عملية التراكم (أي التنمية المرتكزة على الذات وفك الارتباط).
وما حدث هو أن هذه المقترحات قد جرى تبنيها، مع الكثير من التخفيف، في الأعوام 1955/60، من أغلبية الطبقات الحاكمة في القارتين، وفي الوقت ذاته، هُزمت جميع حروب التحر الوطني في بلدان جنوب شرق آسيا (فيما عدا فيتنام بالطبع)، وماذا بعد؟ كانت النتيجة التي بدت منطقية هي أن “البرجوازية الوطنية” لم تستنفذ بعد كل طاقتها للنضال ضد الإمبريالية. وتوصل الاتحاد السوفياتي هو أيضاً لذات النتيجة وقرر دعم جبهة عدم الانحياز في حين أعلن الثالوث الإمبريالي الحرب المفتوحة ضدها.
وهنا انقسم الشيوعيون في البلدان المعنية بين اتجاهين متعارضين وقامت بينهما معارك عنيفة ملتبسة في كثير من الأحيان. فالبعض استنتجوا ضرورة “تأييد” السلطات القائمة التي تناضل ضد الإمبريالية مع اتخاذ المواقف “الانتقادية”، ودعمت موسكو هذا التوجه باختراع نظرية “الطريق غير الرأسمالي”. أما الآخرون فتمسكوا بجوهر النظرية الماوية التي تقول بأن الطبقات الشعبية المستقلة عن البرجوازية هي وحدها القادرة على السير في النضال ضد الإميريالية. ودَعَم الصراع بين الحزب الشيوعي الصيني والاتحاد السوفياتي، الذي بدأ منذ عام 1957، ثم ظهر إلى العلن في عام 1960، هذا الاتجاه الثاني في صفوف الشيوعيين الآسيويين والأفريقيين.
ولكن بعد ما يقرب من خمسة عشر عاماً كان زخم باندونج قد قارب على الاختفاء دلالة على محدودية البرامج المعادية للإمبريالية “للبرجوازيات الوطنية”. وهكذا تحققت الشروط لنجاح الهجمة المضادة للإمبريالية، وتحويل اقتصاديات الجنوب مرة أخرى للكومبرادورية، بل في الحالات الهشة، إعادتها للأوضاع الاستعمارية.
ولكن، في تحول بدا كإنكار للرجوع إلى الأطروحة القائلة بأن “البرجوازيات الوطنية” قد تخلت تماماً عن التطلعات الوطنية – حيث كانت مرحلة باندونج مجرد مرحلة عابرة في إطار الحرب الباردة – ها هي بعض بلدان الجنوب تفرض وجودها كبلدان “بازغة” في إطار ذات العولمة التي تسودها الإمبريالية. ويبقى السؤال: “بازغة” بأي معنى؟ هل هي عبارة عن أسواق مفتوحة أمام احتكارات الثالوث في المراكز الإمبريالية، أو هي أمم بازغة قادرة على فرض مراجعات جادة لشروط العولمة الإمبريالية؟ وهل ستتمكن من الحد من سلطات الاحتكارات في داخل هذه العولمة، وتوجيه التراكم نحو التنمية الوطنية لبلدانها؟ وهكذا يعود التساؤل حول المضمون الطبقي للسلطات الحاكمة في البلدان البازغة (وفي غيرها من بلدان التخوم) للأولوية على جدول الأعمال للنقاش الحتمي حول ما سيكون عليه – أو قد يكون – العالم “بعد الأزمة”.
إن الأزمة المتأخرة للرأسمالية الإمبريالية للاحتكارات المعممة المأمولة والمعولمة باتت مفتوحة. ولكن حتى قبل أن تدخل المرحلة الجديدة التي أنتجها الانهيار المالي في عام 2008، كانت الشعوب قد بدأت تنفض عنها حالة السبات التي رزحت تحتها بعد استنفاد زخم الموجة الأولى من نضالها لتحرير العمال والشعوب.
وتبدو أمريكا اللاتينية (التي غابت عن مرحلة باندونج (رغم جهود كوبا وحركة القارات الثلاث) (Tricontinental) وقد حققت سبقاً ملحوظاً في هذا الاتجاه.
وتعود إلى جدول الأعمال، وإنما في ظروف مغايرة بشكل كبير، ذات الأسئلة التي كانت قائمة في أعوام الخمسينيات. فهل سيستطيع الجنوب (ببلدانه البازغة وغيرها) اتخاذ مبادرات استراتيجية مستقلة؟ وهل ستستطيع القوى الشعبية فرض التحولات في السلطات الحاكمة التي ستسمح دون غيرها بالتقدم الثابت في الاتجاه الصحيح؟ وهل سيمكن إقامة الجسور التي تربط بين النضال الشعبي للجنوب ضد الإمبريالية، وبين تقدم الوعي بحتمية الاشتراكية في الشمال؟
ولا أستطيع أن أتقدم هنا بإجابات متسرعة على هذه الأسئلة الصعبة التي لن يحسمها إلا النضال. وهنا لن نقلل من أهمية النقاش الذي يجب أن يخوضه المثقفون الراديكاليون المعاصرون والمقترحات التي قد تنتج عن هذا النقاش.
والنتائج التي توصلت إليها مجموعات النقاش في الخمسينيات، قد عبرت عن التحدي باستنتاجات لا تختلف كثيراً عن تلك الصحيحة اليوم، ألا وهي: على شعوب التخوم أن تقوم ببناء اقتصادها الوطني بالاعتماد على الذات مع فك الارتباط (مستندة إلى التجمعات الإقليمية وإلى الجنوب ككل)؛ وأنها لا يمكن أن تحقق ذلك إلا في إطار التوجه نحو الاشتراكية؛ وأنها في سبيل ذلك، عليها أن تتحرر من الوهم البديل وهو “اللحاق” في إطار النظام الرأسمالي المعولم. وقد جسدت باندونج اختيار الاستقلال في الحدود التي بينها تاريخ تلك الحقبة.
فهل سيكون الرد أفضل اليوم مع قيام “الصحوة الثانية للجنوب”؟ وخصوصاً هل سيمكن هذه المرة تحقيق الالتقاء بين نضالات الشمال والجنوب؟
والواقع أن هذا الالتقاء كان مفتقداً بشدة في مرحلة باندونج، فقد بقيت شعوب الشمال حينئذ سائرة وراء طبقاتها الحاكمة الإمبريالية. والبرنامج الاجتماعي الديمقراطي لتلك الحقبة لم يكن ممكناً دون الاستناد إلى الريع الإمبريالي الذي استفادت منه مجتمعات الشمال المرفهة. وكان يُنظر إلى باندونج في تلك الأيام على أنها مجرد حلقة في الحرب الباردة، بل ربما أنها من ألاعيب موسكو. أما أن البعد الحقيقي لهذه الموجة الأولى من حركات التحرر في آسيا وأفريقيا قد أقنعت موسكو بدعمها، فقد تعذّر فهمها.
ويبقى التحدي كاملاً، وهو تأسيس الدولية المعادية للإمبريالية للعمال والشعوب.
لا يصح إذن اعتبار ثورات الجنوب وتأسيس جبهة عدم الانحياز مرادفًا لفصل من فصول الحرب الباردة، نتج عن مناورات موسكو! أو النظر الى زعماء جبهة باندونج على أنهم حلفاء تابعون للروس على نفس نمط زعماء الدول الكومبرادورية الخاضعين لأوامر واشنطون.
وفي واقع الأمر يمثل ولوج الجنوب في المسرح الدولى حدثاً تاريخياً حاسماً، فقد أنتج عدم الانحياز نمطًا من العولمة الصحيحة متعددة الاطراف، مما فرض التفاوض والتنازلات المتبادلة بين أربع قوى دولية رئيسية: الغرب الإمبريالي تحت راية واشنطن وحلف الناتو، الاتحاد السوفياتي، الصين، كتله عدم الانحياز. من ثم لا يصح اختصار المرحلة التاريخية المعنية إلى “الثنائية القطبية” و”الحرب الباردة” كما يحلو لوسائل الدعاية الغربية المعاصرة أن تردد بلا ملل.
3
وبالعودة الى التحدي المزدوج المذكور في هذه الدراسة – أي إشراك المجتمع القروي في المشروع الاشتراكي من جانب، ومواجهة عجرفة وعداء الغرب الامبريالي من الجانب الآخر – وهو التحدي الذي تصدت له ثورة روسيا وثورة الصين، بل ونُظُم باندونج أيضاً إلى حد ما فقط– نستطيع أن ندرك أسباب ترددات لينين وبوخارين ثم ستالين واتخاذهم مواقف تميل أحياناً الى إعطاء الأولوية للوجه الاول من التحدي (المشكلة القروية) وتارة أخرى الى نقل مركز ثقل القرار في اتجاه معالجة الوجه الاخر من التحدي (عداء الغرب الامبريالي).
علماً بأن هذين الوجهين من التحدي قد دخلا في تناقض خطير. إذ يقتضي الخيار الاول السير ببطء نحو الاشتراكية بينما يقتضي الخيار الثاني استعجال التصنيع والتسليح. وتجلى واقع هذا التناقض في فجائية الانقلاب في الموقف من رؤية متطرفة الى رؤية مضادة لم تقل تطرفاً. فجرى تقديم نظريات مبسّطة من أجل تبرير هذه المواقف المتطرفة المتتالية والمتناقضة. إذ لجأت القيادات تارة إلى نظرية خطّية حتمية تدعو الى احترام التتابع التاريخي الذي لا مفر منه – وبالتالي ضرورة إتمام أهداف الثورة البرجوازية قبل الدخول في مرحلة الثورة الاشتراكية – وتارة أخرى لجأت الى نظرية إرادوية عكسية تقول إن القفز فوق مرحلة الثورة البورجوازية أصبح ممكناً بفضل حكم “ديكتاتورية البرولتياريا”.
واستمر التردد خلال عقد العشرينات إلى أن فرض ستالين خيار استعجال التصنيع والتسليح في الثلاثينيات. وصارت تصفية المجتمع القروي لصالح إقامة نظام الكولخوز نتاجاً لهذا الخيار. علماً بأن فكرة تفوّق نظام الكولخوز – وهو نظام أحلّ منشآت زراعية شاسعة محلّ المزارع العائلية الصغرى – لم تخرج من ذهن ستالين. فقد كانت هذه الفكرة المبسّطة سائدة لدى الجميع من مفكري الاشتراكية. ويقوم كتاب كاوتسكي Kautsky بهذا الصدد دليلاً على ذلك. وكذلك سادت نفس الفكرة لدى الفكر البورجوازي في هذا الزمن. ولم يظهر إدراك تفوق فعالية المنشأت الزراعية الصغيرة على منافستها الشاسعة إلا متأخرا. فقد اكتشف المهندسون الزراعيون هذه الحقيقة قبل أن يعترف بها علماء الاقتصاد. فاعتمد هؤلاء المهندسون (ولاسيما المدرسة الفرنسية) على ملاحظة أنّ تعدّد التكافؤ يفرض نفسه على عمل المزارعين، فيلغي ميزة تقسيم العمل على نمط ماهو عليه في الصناعة الحديثة الكبرى.
يبد أن القرار بتصفية المجتمع القروى قد أدى – كما سبق أن قلنا – الى تحطيم تحالف العمال والفلاحين وبالتالى شجع الانحراف إلى ممارسة الأتوقراطية في إدارة السياسة.
وهنا يطرح السؤال نفسه: لو قلنا بفرضية انتصار تروتسكي هل كانت مسيرة الاتحاد السوفياتي اللاحقة ستختلف عما حدث في عصر ستالين؟ إجابتي على السؤال بالنفي. فلم يختلف تروتسكي عن الآخرين من زعماء الشيوعية البلشفية. بدليل موقفه في مواجهة انتفاضة جنود البحرية في كرنشتات Kronstad عام 1919، وتردداته وانقلاب مواقفه في مجال مستقبل الزراعة السوفياتية، ومشاركته في الاقتناع بتفوق المنشأت الزراعية الشاسعة.
ولكن تروتسكي أخرج من الصورة عام 1927 وصار منفيًا بعيدًا عن مسئوليات إدارة الدولة. فصار يماثل الكثيرين من الماركسيين الأكاديميين الذين يفتخرون بإظهار احترامهم المطلق لمبادىء الاشتراكية دون مراعاة مقتضيات تنفيذها الشاقة على أرضية الواقع.
استفاد الشيوعيون الصينيون من التجربة السوفياتية السابقة على ظهورهم في مسرح التاريخ. فأدرك ماو أن الصين سوف تواجه نفس التحدي المزدوج: ضرورة إشراك الفلاحين في تجديد المجتمع، والتحسّب للعداء من جانب الدول الإمبريالية. ولكن ماو قد خطا خطوات خلاقة في مجال وسائل تجديد المجتمع القروي. فنسب إلى الثورة الصينية طابعاً معقّداً وتفادى إطلاق النعت السريع لطابعها بأنها “ثورة اشتراكية بروليتارية”. فجمع الطابع المعقد المطروح بين العداء للاستعمار، والعداء للإقطاع (وهو أسلوب للتعبير عن كونها ثورة الفلاحين) دون وصفها بالديموقراطية البورجوازية، بل بالديموقراطية الشعبية. ولهذا التمييز مغزى حاسم، إذ يقتضي تكريس التحالف مع الفلاحين والحفاظ علىيه في كل مرحلة من مراحل تحديث المجتمع في سبيله نحو الاشتراكية. وقد حالت هذه الفكرة الجديدة دون ارتكاب خطأ النظام السوفياتي. فشجع بذل الجهود من أجل إبداع طريق جديد يضمن إشراك الفلاحين في التحديث. واعتمد هذا الإبداع على فكرة تجديد المنشآت الزراعية العائلية الفلاحية دون تحويلها الى ملكيات صغيرة خاصة.
أى بعبارة اخرى: إبداع خط يسعى الى تكريس الإنتاج الصغير المجدَّد والفعّال دون تأسيسه على الملكية الخاصة الصغيرة. ويستطيع القارىء أن يلجأ – لمزيد من المعرفة حول المشروع المعني – إلى ما كتبته بعنوان “الصعود الناجح للصين” (الفصل الثانى من كتابى “ثورة مصر بعد 30 يونيو” _ الصادر عام 2014). وأعتقد أن هذه الوصفة تصلح من حيث المبدأ لجميع مجتمعات الجنوب المعاصر، ولو أن اختلاف الأوضاع السياسية الراهنة والموروثة يفرض تكيّف النمط لما تسمح به الظروف المحلية الملموسة.
لم تجد كل من الثورتين الروسية والصينية وضعًا يسيرًا يضمن استتباب النظام. وكذلك بالنسبة الى الثورات الاشتراكية الاخرى في فيتنام وكوبا. فظلت مضطرة إلى التوفيق بين مقتضيات التطلع الاشتراكى من جانب والتنازلات التي فرضتها الضغوط الرأسمالية من الداخل ومن الخارج من جانب آخر.
وبالتالى ليس من الصدفة أن جميع هذه الثورات لم تدخل في مرحلة الاستتباب النسبى إلا بعد مرور سنوات من الاضطراب وغياب الاستقرار. وقد أطلق على الحادث الذى فتح فصل الاستتباب النسبى للنظام اسم “ترميدور” Thermidor. وذلك بالإشارة الى ذلك الحادث الخاص بتاريخ الثورة الفرنسية الكبرى خلال شهر “ترميدور” لعام 1794. وقد استخدم تروتسكي هذا النعت بمناسبة قرار ستالين عام 1927 بإبعاده عن المشاركة في الحكم.
ولكن متى وقع حادث “ترميدور” في روسيا وفي الصين؟ أهو عام 1930 بقرار تصفية المجتمع القروى كما يزعم تروتسكى؟ أم عام 1920 بالردة عن مشروع “شيوعية الحرب” لصالح السياسة الاقتصادية الجديدة NEP؟ وبالنسبة إلى الصين ألم يحدث هذا “الترميدور” من الأصل عام 1950؟ أم عام 1980 عندما عاد دنج الى الحكم في أعقاب إنهاء الثورة الثقافية وبعد وفاة ماو؟
مرة أخرى: لقد حدث “ترميدور” في تاريخ جميع الثورات الكبرى – انطلاقاً من الفرنسية- وذلك لأسباب هيكلية متماثلة، ألا وهي ضرورة “استتباب النظام”. فاتسمت جميع الثورات الكبرى (الفرنسية، الروسية، الصينية) بأنها وضعت لنفسها أهدافا تتجاوز مطالب المجتمع الفورية. علما بأن هذا التطلع المستقبلي البعيد هو بالتحديد ما يضفي العظمة على هذة الثورات. فانتقلت الثورة الفرنسية الى مرحلة ثورة الفلاحين الشعبية بحكم التيار اليساري الجذري (“اليعقوبى” Jacobins) عام 1793، حتى أوقف حادث “ترميدور” تواصل الحركة وتجاوزها حدود الثورة البورجوازية. كما مثّل “ترميدور” في الاتحاد السوفياتي والصين وضع الحدّ لمواصلة تجذير الحركة. فأنتج نوعًا من الاستتباب النسبي المطلوب لمواجهة التحدي المذكور في هذه الدراسة.
ويجب عدم الخلط بين مفهوم حادث “ترميدور” (الذى يشير الى استتباب الحركة الثورية) وبين مفهوم العودة الى الماضي السابق على الثورة. علما بأن المصطلح المستخدم بهذا الصدد هو الآخر مستخرج من تاريخ فرنسا (كلمة الـ Restauration تشير الى هذا الهدف). فلم يحدث ذلك إلا بعد سقوط نظام نابليون عام 1815. علمًا أيضا بأن العودة الى الماضي السابق على الثورة قد أصبح في واقع الامر مستحيلاً. فلا يصح الخلط بين “الترميدور” الروسى وبين مشروع روسيا انطلاقاً من عام 1990 بالعودة الى “الرأسمالية”، أي نمط الانتاج السائد قبل الثورة. كما أن مثل هذا التطور لم يحدث بعد في الصين.
2015-07-26
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1368897793298693&id=100005354569213