بدايةً من جميل ما يتعلق بكتابتي لهذا الرد أنه يأتي مباشرةً بعد عودتي وزوجتي من وقفة مع مجموعة من المثقفين تحت نصب الحرية دعماً لتظاهرة تلك الجموع الجميلة التي أعادت، بمطالبها الراقية، الأمل إلينا. وبكل الإخلاص والصدق أقول إنني شعرت، وأنا أقف تلك الوقفة، بأن كل ما كتبته وأكتبه لا يعني إلا القليل مقارنةً مع هذا الفعل البسيط الذي غاب عنه أو عمّا يدعمه آلاف المبدعين والمثقفين. والغريب أن الكثير من هؤلاء المثقفين الذين سجلوا غيابهم منذ 2003 تتلبسهم نرجسية مقيتة وتعالٍ على مثل هؤلاء الذين احتضنوا الوطن بين أضلعهم. بل إنني، وبعد أن قلت ما قلته، في كتابي “هومسيك.. الوطن في غبار المبدعين”، بشأن أولوية الذات عند المبدع، أي مبدع، وتراجع كل شيء بما في ذلك الوطن دون ذلك، عند كثير من المبدعين، اكتشفت أن المبدع غالباً والمثقف عموماً أحياناً، لا سيما العربي والعراقي، لا ينحاز إلى ذاته ويتعالى على الآخرين فحسب، بل هو في الكثير من الأحيان يكشف عن ذات مسعورة لا تمسها، وإنْ برقّة أو بعتاب أو لوم، حتى تهيج لتهاجمك بفقدان توازنٍ وبعدم روية.. وهو ما عبرت عنه ردود فعل بعض الأدباء على كتابي. وإذا لم يكن موضوع الصديق الأستاذ خضير اللامي المنشور في جريدة الزمان في 2/3 من هذه الردود، فإنه أثار فيّ، بقصد أو بغير قصد، بعض الأفكار التي منها ما يتعلق بهذه الذات المسعورة. فالمبدع يسمح لنفسه، متى ما آمن واقتنع وتهيَّأ له الظرف، بمس الكثير من القيم والشخصيات والفئات البشرية، بل بالهزء والتعريض بها. وهو لا يتردد في فعل ذلك مع السياسيين والمفكرين ورجال الدين والأديان، بل حتى مع عموم المقدسات أحياناً. وإذا ما كان هذا، من وجهة نظر معينة، ظاهرة صحية، فإن هذا المبدع ذاته يضرب هذه الظاهرة الصحية عرض الحائط، حين تنقلب المعادلة عليه فيكون هو المستهدف والآخرون هم المنتقدين. فنراه يحتج ويهيج حين يتعرض لمحاسبة أو انتقاد على شيء يخصه، أو يُتّهم بشيء ما من خطأ أو تقصير، سواء أكان ذلك من أنظمة القمع والدكتاتوريات، أم من القوانين والتشريعات الوضعية، أم من المرجعيات والشرائع الدينية والقضائية، بل أحياناً حتى حين يتعرض أحد لشخصيته الإبداعية أو إبداعه وفقاً لوجهات نظر نقدية أدبية. ولعل هذا يفسّر مثلاً تلك الروائع التي أبدعها شعراء النقائض، لاسيما الثلاثة الكبار.. فيبدو أن تلك الروائع الهجائية لم تكن لتكون لولا هياج هذه الذات المسعورة حين تعرضها لما تحس أنه يمسّها. والغريب أن هذا المبدع حين يتعرض لمثل هذا فإنه لا يَهيج هو نفسه فحسب، بل هو قد يهيّج حتى المريدين الذين يتحوّل المبدع عندهم إلى رمز أو أيقونة مقدسة، أو ربما شبه إله يُحرَّم مسُّها. ولا ندعي أن شيئاً من هذا كان وراء مقالة الصديق خضير اللامي عن كتابنا “هومسيك.. الوطن في غبار المبدعين” الصادر لا عن مؤسسة دراسات عربية، كما أشار، بل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، بل إن ردنا عليها يأتي لأن المقالة نفسها قد تثير مثل هذه الذات عند آخرين، خصوصاً وأنها تنقل الكثير عنا خطأً. ومع أنها تنطوي على العديد من الملاحظات التي أحترمها كونها تنطلق من وجهات نظر، لكاتبها الحق في أن يتبناها حتى وإن لم أتفق معه فيها، وسأناقشها في ردي هذا، فإن بعض ذلك يأتي نتيجة خللين كبيرين في قراءته لكتابي وفهم أفكاره وطروحاته لتكون النتيجة إساءة، غير مقصودة بالطبع، للكتاب، ومن هذا المنطلق ستتردد إشارتي إليهما كثيراً، وإنْ من زوايا مختلفة. هذان الخللان المتلازمان أحياناً والمتداخلان أحياناً أخرى هما أولاً الاجتزاء الذي يوصل غير ما يوصل كامل النص، وثانياً نقل ما لم أعنيه، مما يبدأ من أول فقرة من المقال حين ينقل كاتب المقالة عنا قولي إنّ الكثير من المبدعين والمثقفين الكبار (شاركوا بدرجة معينة ومن حيث يعرفون أو لا يعرفون في عملية الخراب التي يعيشها العراق الآن، بتأييد بعضهم لتغيير النظام بأي صورة بما فيها الاستعانة بالأجنبي). فأكاد أكون متأكداً من أن من يقرأ هذا الاقتباس المجتزأ وما سجله الأستاذ خضير عليّ من خلاله سيفهم أنني أقول بأن المثقفين هم الذين نشروا الخراب، بينما الذي أردته هو أن سلبيتهم وغيابهم وانسحابهم عن الساحة وتأييد القليل منهم للحرب قد أسهم في أن يتمكن السيّئون، من سياسيين وأدوات أجانب وطائفيين ومن سار وراءهم، من تنفيذ خرابهم. وهذا ما يعنيه كامل نصي الآتي:
(من الضروري أن نعترف، هنا، بأن الغالبية العظمى ممن سنتناولهم في دراستنا هذه، إن لم نقل جميعهم، هم من كبار المبدعين العراقيين… بل إن بعضهم هم ممن نعشق إبداعاتهم… لكننا نعتقد أيضاً أن الكثير من هؤلاء المثقفين الكبار شاركوا، وإنْ بدرجة معينة ومن حيث يعرفون أو لا يعرفون، في عملية الخراب التي يعيشها العراق الآن، بتأييد بعضهم لتغيير النظام بأي صورة بما فيها الاستعانة بالأجنبي… ثم مشاركتهم السياسيين المرتبطين بذلك الأجنبي… بالتأسيس لسابقة لم يشهد العراق… مثيلاً لها، وتتمثل في النظام القائم على الطائفية والمحاصصة الطائفية، وأخيراً في تخلّيهم عن الوطن والمسؤولية حين بدأت الأمور، بعد زمن قليل وكما هو متوقع، تسوء، أو في عدم مشاركتهم في مقاومة التدمير والمحاصصة والتخريب والعنف المجنون، على الأقل حين تركوا الوطن فغابوا عن الساحة)، ص16.
فلا أدري أي تقصير أكبر من هذا كنا ننتظر من المثقفين، لنُحمّلهم به جزءاً من مسؤولية ما حدث؟. إن دورهم هنا هو مثل دور المسلمين الذين تركوا مواقعهم التي طلب الرسول عليه الصلاة والسلام أن يلتزموها في معركة أحد. فأولائك المسلمون لم يكونوا بالطبع ضمن الكفار الذي هزموا المسلمين في تلك المعركة، لكن سلبية فعلهم وتخليهم عن مواقعهم أسهمت في تلك الهزيمة.
أما أن يقول الصديق خضير (هذا الكلام فيه الكثير من العسف على مثقفينا الكبار وعلى رموز إبداعنا، ولا ادري كيف يسهم المثقفون مع الاحتلال، وإذا كان ثمة بعض المثقفين الذين جاؤوا بعد السقوط فقد تعرض بعضهم للاغتيال مثل كامل شياع، وعاد بعضهم من حيث أتي بعد تلقيهم تهديدات، مثل إبراهيم احمد)، فأقول له لو أردنا أن نأخذ من هذا مبرراً للمغادرة والاستغناء عن الوطن، لكان هذا يعني مغادرة ما لا يقل عن عشرين مليون من العراقيين في ظل تعرُّض النسبة العظمى من الشعب للخطر. وتعلقاً بهؤلاء الذين يشير الصديق خضير هنا إلى أنهم أسهموا إيجابياً بشكل ما فأقول، أولاً: إنني أشدتُ في كتابي بهم؛ وثانياً: من الطبيعي في ظل الموت الأسود أن نفقد بعضهم شهداء، وإذْ هم غالون علينا وعلى الوطن فإنهم ليسوا أغلى من الأساتذة والصحفيين والأطباء، بل من الناس العاديين؛ وثالثاً: مع هذا أنا لم أعنِ بالطبع أن نرمي بأنفسنا في التهلكة، بل أن لا يتخلى الفنان أو المثقف، وأن يشارك بعقل وتأن وحرص، وليتحمل شيئاً من الخطورة.. ولم لا؟.
ويجادل خضير بما لم أجادل في صحته وليوحي للقارئ بغير ما قلت، حين يقول بأني أتّهم المثقفين (بأنهم يحبون ذواتهم على حبهم لوطنهم. فهل يعني هذا أنّ الذي يحب ذاته يستغني عن حب وطنه؟، ألا يمكن ان نحب ذواتنا كما نحب وطننا؟).
فلا يمكن لقارئ أن يقرأ هذا الذي يقوله خضير إلا ويفهم أنني أنفي عن المبدعين والمثقفين حب الوطن، بينما الذي قلته هو: (إن الأصل هو صحة حب الفنان للوطن، وتمنيه له كل الخير وكل ما هو رائع والتقدم والرقي والتحضر والعزة…، وعليه فالتعبير عنه فنياً حقيقي بلا شك، ولكنه محب لذاته أيضاً، وحين يتنافس الوطن والذات على المواقع في دواخل هذا الفنان، فإن الذات غالباً هي التي تكون على حساب الوطن)، ص28. وانظر أيضاً ص39 و47. والخلاصة أكرر القول إن الطبيعي في الإنسان هو أن يحب وطنه، وهذه نظرية وواقع، لكنه عند الفنان والأديب حبٌّ يتأخر ضمن أولوياته، ليكون حب الذات هو المهيمن، وأنا هنا أغادر النظرية لأتكلم عن واقع لمسناه ولا زلنا نلمسه. وقد قدمت في كتابي النماذج التي تُثبت هذا، بينما عملياً لم يدحض الصديق خضير شيئاً من هذا واكتفى بالنظرية والكلام العاطفي الانفعالي، وكأنه نصير المثقفين والمبدعين وأنا عدوهم، بينما كلانا، أنا وهو، من هذه الفئة.. أليس كذلك أيها الصديق؟.
(2)
في الكلام عمن يسميهم الصديق خضير الرموز، وهم كذلك فعلاً، فإنه يتعامل ويريدنا أن نتعامل معهم بوصفهم رموزاً مقدسة، بينما أنظر أنا إليهم وإلى إبداعاتهم بإجلال، ولكن ليس بتقديس، وعليه ليس من العيب أن يكون فيهم وفي شخصياتهم وفي إبداعاتهم وفي سِيَرهم الكثير مما يثر الجدل، ولا يمس هذا رمزيتهم ومكانتهم الإبداعية. أما أن ننزههم من أي خطأ أو مأخذ وأن نتعامل معهم على أنهم أيقونات مقدسة، كما يريدنا الصديق خضير أن نفعل، فهذا ما لا أرتضيه، وإلا فإننا سنقع في نفس ما يقع فيه المتطرفون والسياسيون الذين يختلف معهم البعض، والأخ خضير منهم بحدود معرفتي. في هذا السياق يقول: (حديثك على الجواهري، وتجرؤك على تجاوز عظمته، لمشاركة شعره في حقبة سياسية معينة ليعبر من خلاله باكثر تعبيرات العنف تطرفاً… هو إجحاف وعسف أيضاً)، فلا أدري لماذا لا نتجرأ؟ فنحن جميعاً نُجلّ الجواهري، ولعل الأخ خضير نفسه يعرف بقراءتي لمعظم ديوان الشاعر من السبعينيات.. لكن هذا لا يجعل منه أيقونة مقدسة محرّم أن نتجادل حولها. لا يا أخ خضير.. لا تدعونا إلى الخروج من تابوهات السياسة والجنس والدين، كما أعرف أنك تفعل، لتدخلنا في تابو الفنانين والأدباء. وتعلقاً بمدح الجواهري للرؤوس، يتحداني الصديق خضير أنْ أذكر له (شاعراً واحداً بما فيهم المتنبي لم يمدح ملكاً أو نظاماً عبر تاريخ العرب).. فاقول له: لن أذكر لك شاعراً واحداً بل جميع شعراء العصر الحديث لم يفعلوا هذا، مع استثناءات محدودة جداً أحدها الجواهري، فتنقّل الشعراء في المدح فرضية لم تعُد صحيحة، بل هي كانت تنطبق على الشاعر القديم حين كانت هذه مهنته ولم يكن من عيب فيها، أما الآن فالأمر ليس كذلك.. وأعود بدوري لأتحداك أن تذكر لي شاعراً عربياً حديثاً واحداً تنقّل في المدح بين الرؤوس، فشاعر العصر الحديث قد اقتصر في مدائحه عادةً على واحد، ونحن لا نعيب من يمدح من يحب، فليس من عيب في هذا حتى وإن كنا مختلفين مع الشاعر بشأن هذا الذي يمدحه.. لكن العيب كل العيب هو التنقل بين الرؤساء والملوك من أجل التقرب أو المادة أو العطايا أو الجاه، مما أزعم أننا لا نجده بين الشعراء المعاصرين إلا استثناءً. أما أن تتعرض إلى البديهيات لتُعرّفني بالجواهري وكأنني لا أعرفه أحدَ كبار شعراء العرب في العصر الحديث، فهذا يعني أنك لم تقرأ، على الأقل، قولي في الكتاب: (أما الجواهري فليس لأحد أن ينكر عظمته شاعراً، وعظمة ما قدمه للوطن شعرياً، كما لا أحد يمكنه أن ينكر نضاله سنين طويلة، قبل استقراره شبه الاختياري في المنافي فيما بعد. وقد عكس الكثير من أشعاره تلك المرحلةَ من حياته ومسيرته الأدبية)، ص71.
ولعل من أكثر ما يؤكد لي صحة ما ذهبت إليه في كتابي (هومسيك) بأولوية الذات عند المبدعين وتقصيرهم تجاه الوطن، قول الصديق خضير لتناولي سعدي يوسف: (وكأني بك تقول، طالما مر الوطن بتلك الكوارث والمآسي فهي كفيلة بعودة الشاعر إلى وطنه. مع أنها كانت هي السبب في ابتعاده عن الوطن). فهنا أقول للأخ خضير نعم، هذا الذي تدافع به عن سعدي يوسف وآخرين هو تماماً ما أعاتبهم وقد ألومهم وقد أهاجمهم عليه. فهذه هي شخصية الفنان التي تريد لها، أنت ومثقفون كثيرون، أن تكون.. شخصية المنسحب أو السلبي الذي لا يعنيه الوطن إلا حين يكون مترفهاً وإلا حين يُبسَط له فيه البُسط وتُنشر له الزهور. إذن الخلاف بيني وبينك هو أنني أرى هذا الذي تجده عذراً للفنان لمغادرة الوطن هو عينه السبب الذي يجب أن يجعله يحتضنه ويداوي جراحه ويحاول أن يعيد إليه عافيته، لا أن يغادره كمغادرة سعدي يوسف وكثيرين غيره ولسان حالهم يقول: نادوني حين يتعافى الوطن، فقد أتكرم عليه بطلّةٍ. أما حين تسأل: (وهل تعتقد أن البصرة عامرة الآن كي يزورها شاعرها، وهل إذا جازف بإطلالة عليها ينتهي خرابها الذي هي فيه؟”، فأقول بل لو كان قد فعل هذا لأسهم فعلاً في إيقاف هذا الخراب، أولاً لأننا ما قصدنا الشاعر وحده بل هو وغيره من مئات المثقفين الآخرين، وثانياً لأنه وغيره من (الرموز) أناساً أو أفراداً غير عاديين وعليه فهم يؤثرون في الآخرين. قد تعني أنه لا يأتي إلا بعد خراب البصرة؟ حسناً لقد خربت البصرة ولم يفعل هو وآخرين بينها وبين ذلك.
بقي، تعلقاً بإبداع سعدي يوسف وبقية الرموز، أسأل الصديق خضير: هل وجدتَني قللتُ في كتابي من إبداعاتهم ولو بكلمة واحدة؟ ألم أعدَّها من الروائع؟، وهو ما تقفز عليه بقصدية غريبة لتوحي للقارئ بما لم أعنِه. نعم، إنا لم أقل ولو كلمة تمس جمالياً إبداعاتهم. ولكني أتكلم عن عدم التساوق بين التصريح والإبداع الرائع والمعجز وربما تراه المقدس من جهة، والسلوك والفعل من جهة ثانية. ونعم لنتجرأ ونقول (بترس الحلك) الكثير من إبداعاتهم وتصريحاتهم من ناحية حب الوطن غير حقيقي.. وإلا فاثبتْ لي هذا. أنا اختلافي عنك هو أنك تسلّم بكل ما يقوله رموز التابو الجدد على أنه من المسلّمات والحقائق، بينما أنا متحرر من هذا. ومع هذا فأنا أعيد وأقول إن مادة كتابي هو كبار مبدعينا ومثقفينا، ولكنني لا أتكلم عن جمالية إبداعاتهم العظيمة والجميلة والمتميزة، بل عن تصريحاتهم وإبداعاتهم في حب الوطن حين لا تقترن بفعل يسهم في نجدة الوطن لاسيما في السنوات السود المرة 2003-2006.. والمنهج وأسلوب النقاش العلمي يقول لك، أيها الصديق، أنْ تحاسبني في ما أتناوله. بمعنى أنا أتناول شخوص هؤلاء وسلوكياتهم وأفعالهم في ظروف بعينها، ولا أُعنى بجماليات إبداعاتهم. وعليه فإنك حين تعرّفني بهذه الإبداعات فإنك تشكك في أكاديميتي وعلميتي التي هي ليست هنا موضع امتحان. فمن منطلق خاطئ يأتي كلامك لي مثلاً عن إنجازات فرمان وأنا من أكثر وأوائل الذين درسوها أكاديمياً وعليه فمن الطبيعي أن أكون، في كل الأحوال، أعرف منك بإبداعه الذي لا يعنينا في كتابنا. وفوق ها أنا وضعته ضمن من رأيت أنهم أصحاب النتائج الإيجابية للإحساس بتأنيب الضمير وأشدتُ بما قدمه هذا الإحسس من روائعه. وهذا كله ما لا يوحي كلامك به للقارئ، حين تخاطبني بالقول:
(ويأتي دور الروائيين، وتتناول أولهم، الروائي الكبير غائب طعمة فرمان، وهو رمز كبير من رموز الرواية العراقية، بل رائد لها)، وتلومني على قولي: (إنّ ابا الرواية العراقية وكبير كتّابها غائب طعمة فرمان لم يذهب إلى الوطن منذ أن تركه منتصف الخمسينيات حتى وفاته منتصف التسعينيات إلا مرتين إو ثلاثاً… فلم يستطع البقاء إلا مدة قصيرة لم يتحمل خلالها شيئاً فيه، بعد أن كاد الوطن يصير هو بلاد الغربة، فعاد إلى الوطن البديل هارباً). فمع مأخذي عليك هنا أنك حذفت عبارة ربما هي من أهم ما قلته عن الكتاب، وهي (والعاشق في كتابته للعراق وبغداد والمحلات الشعبية)، ص87، أتساءل، مع كل إجلالي لفرمان ولإبداعه، وما الخطأ في هذا الذي قلتُه؟ أليست هذه وقائع؟ أم تريدنا أن نزيّف الحقيقة والتاريخ؟ ثم ألم تصر روسيا له موطناً؟ لا أدري لماذا نداري ونراوغ فلا نعترف بهذا؟، يعني يعيش فيها حوالي خمس وثلاثين سنة من عمره الذي بلغ الثلاث والخمسين فقط في روسيا، ويتزوج روسية وينجب ولداً يصير روسياً ويتوظف في دار النشر المركزية الروسية ويموت في روسيا ويُدفن في روسيا ونتردد في القول إنها صارت الموطن البديل للعيش فيه. وأنا على أية حال لم أكن لأشك في عراقية واحد من أجمل من عرفتهم شخصياً في حياتي من مبدعينا، أعني غائب طعمة فرمان، ولا بغيره من كبار المبدعين الذين تذكرهم؟ أتحداك أن تجد شيئاً من هذا في كتابي. الذي قلته وأقوله هنا أحد أمرين تمثل في كل هؤلاء الذين تناولتُهم، وقد أدين بعضهم على تأثيراته فيهم، وقد أعتب على آخرين. أول هذين الأمرين هو أنّ حب الوطن الطبيعي الذي لا أشك فيه عندهم قد يتأخر عن حب الذات، والثاني هو أن التعبير عن هذا الحب عندهم أو عند غيرهم قد لا يتساوق مع أفعالهم وسلوكياتهم، وهذا الذي يهمني رصده في كتابي. ولكني قد أشكك بهذا الحب عند غير هؤلاء، أعني الذين عملوا على تشويه الوطن. فأمثال هؤلاء لا يريدون، في وعيهم أو لا وعيهم، أن يقرّوا ولو بلمحة إيجابية في العراق/الوطن، ببساطة لأن مثل هذه، وإن كانت صغيرة، قد تعني إلغاء بعض عذر بقائهم خارج الوطن، هناك بعيداً عن (وجع الراس). فبقاء الوطن تعباً ومدمّراً وفي فوضى وتخلّف يعني لهم العذر الذي يتمسكون به للبقاء بعيداً عنه، وأكثر من هذا قد يعطيهم عذراً لعدم فعل أي شيء له، مع أن الوطن في الواقع يحتاجهم وهو في ظرف صعب أكثر منه وهو في أحسن حال. أما فرمان وآخرون فقد عددته من هؤلاء الذين عبّروا أو يعبرون عن هذا الحب، الذي لا نشك فيه أبداً، وهم بعيدون عن الوطن ويعانون من هذا البعد بصدق واضح.
(3)
انتقالاً للدور الذي يجب أن يقوم به المبدع أو المثقف بشكل عام، يقول خضير اللامي: (ويأتي دور الفنانين، ليتناولهم، قلمك واحداً بعد الآخر، من ماجد المهندس إلى كاظم الساهر، ولا تقتنع بما قدموه من أغان تعبر عن عاطفة ووجدان وضمير العراقي… لكن، هذا لا يهم كله بقدر ما تطلبه منه، بفعل صغير جدا، وهو قطع تذكرة تأخذه إلى حبيبته إلى بغداد ولو ساعة واحدة…، وكأن الوطن يرفل بالأمن والاستقرار والرفاه الاقتصادي وكأن لا وجود لدكتاتورية بغيضة جثمت على صدور الناس أكثر من ثلاثة أجيال… إذن، لكي يكون الساهر والمهندس وغيرهما من الفنانين صادقين في أغانيهم، عليهم أن يأتوا ويزوروا وطنهم والعودة إلى حيث يقيمون، وهذا ما يشفي الغليل). عجيب.. ولم لا؟ ولم لا يفعلون شيئاً من هذا، إذا كان الوطن، كما تخالفني وتدّعي أنت، أعز عندهم من حب الذات؟. إن التواجد على أرض الوطن يعني الكثير حين يفعله آلاف المبدعين، وإلا فقل لي ماذا سيعني للإنسان العادي، الذي يتخذ من المبدع قدوة، إذا ظل هذا المبدع بعيداً عن الوطن عقوداً من السنين؟ ألا يعني أنْ لا فائدة من الوطن، وألا يعني دعوة له لتركه؟ بلى لأن المبدع هو قدوة دائماً.. ومن هنا تأتي أهمية مثل هكذا تواجد. ولم يكن من فائدة كبيراً من تقديم الأغنية والموسيقى والشعر والقصة، حين كنّا بحاجة، بدلاً من هذا، إلى مد الخيرين لإيقاف مد الرديئين القادم. وعليه أقول لك، يا أخ خضير، بل نحتاج لمثل هذه الزيارة، التي تُسفّهها، وما كُنّا بحاجة ماسة إليها لو كان الوطن في سلام ورفاه.. نعم كان لسان حالنا يقول حينها: هذا الفعل الصغير هو المطلوب، وإلا فليسكتوا ولا يدّعوا ويتباكوا. نعم يا أبا وسام هذا هو الخلاف بيننا أنا وأنت ومعنا آخرون بالطبع وأولئك الذين لا يريدون الوطن إلا حين يرفل بالسلام.. هل صار نموذجنا فاضل العزاوي مثلاً الذي قرأت له أقبح موقف لمثقف إنسان من الوطن إذ يقول: (رفضت العودة إلى ما كان يشبه وطناً في الماضي فهل أعود الآن إلى ما هو أرض خراب؟). وهذا هو تماماً ما يدور كل كتابي عنه، فقد كان مطلوباً من هؤلاء (الأيقونات المقدسة والرموز المحرمة) أن يشاركوا في دفع الموت عن الوطن وفي مداواة جروحه والطبطبة على ظهور الناس التعبى، وإلا فهم مقصرون. بل إذا ما وصفتُ أنا مواقفهم، في كتابي، بأنها تقصير، ولم يرضِك هذا، فإني أقول هنا الكلمة الأكثر صراحة في توصيف مواقف كاظم الساهر وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وماجد المهندس ونصير شمه ومظفر النواب وغيرهم من الرموز المقدسة، وهي أنها مواقف مخزية. فهم، وتوافقاً مع رأيك، جاهزون ليأتونا حين لا يكون هناك إلا الخير ولنصفق لهم ونهلل، كما تفعل أنت، مع الأسف، في كل مقالك، وهذا ما لست مستعداً لمشاركتك فيه. ومرة أخرى أعترف وأتفق معك في تبجيل إبداع هؤلاء، لأنه حقيقة وفخر للعراق، ولكنه لا يهمني، ضمن الظرف الذي أتكلم عنه بالطبع، بقدر ما يهم أن يتكرم كاظم الساهر أو أيٍّ من كبار الفنانين والأدباء والمثقفين بالمساهمة الصغيرة، ولكن الفاعلة بأن يكون لهم تواجد وفعل ودعوات ضد السوء الذي كان يستشري، بدلاً من التخاذل والانسحاب السلبي وترك الساحة لأهل السقوط والمحاصصة والصراع الطائفي المفتعل. ونعتقد أن خيراً من ألف من روائع هؤلاء المبدعين فعلٌ واحد يتمثل بالوقوف في ساحة التحرير كما يفعل الآلاف، ومنهم لحسن الحظ مثقفون، أو في لملمة أحبتنا الطلبة في كليات العراق وجامعاتها وإلقاء المحاضرات عليهم كما فعل المتكلم وقت الموت الزاحف أعوام 2004- 2006، وفي الصراع من أجل الإبقاء على ماكنات طباعة الثقافة تدور كما فعلتَ أنت يا خضير والعشرات معك في دار الشؤون الثقافية حين حميتموها من الحرق والتخريب، قبل أن تؤول، بغياب أمثالك، إلى وضعها المأساوي الحالي، وفي الوقوف بوجه الموت الأسود الزاحف كما فعل كامل شياع ولطفية الدليمي وهاشم حسن ومهدي عيسى الصقر وفاضل ثامر ونادية العزاوي وأمل المدرس ووهيثم يوسف وآخرون. أما رداً على تساؤلك: (لو أن وطننا كان يعيش حالة الاستقرار والرفاه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، هل كان ثمة مبرر للمثقف والفنان أن يهجر وطنه؟)، فأقول: وماذا نفعل بهكذا المثقف لا نراه إلا حين يرفل الوطن بالسلام والرفاهية؟
(4)
تعلقاً بمبدعي المهجر ومثقفيه، يقول خضير اللامي: (يبدو للدكتور أنّ جميع الأدباء والفنانين، طالما هم خارج الوطن، فهم إما يتخلون عن وطنهم، أو في أحسن الاحوال يعانون من عقدة تانيب الضمير والإحساس بالتقصير تجاهه)، نقول، حرصاً على الدقة التي اقتقد موضوع الكاتب الكثير منها، إننا نقرّ بأن هذا، وإن لم نقله تماماً، ينطبق على مجموعة كبيرة من مبدعي الخارج ومثقفيه ولكن ليس كلهم. أما تعرض فاضل العزاوي أو جمعة اللامي أو سعدي يوسف أو آخرين لقمع وسجن، فلا يعفيهم مما يفرضه الوطن عليهم. فالعلاقة بالوطن ليست مَهمة يقوم بها المواطن وينتهي واجبه، كما أنها لا تسقط أو تضعف بالتقادم ولا بتقدم المواطن في العمر.. بل هي علاقة حياة ومواقف. أما التلفّع بوشاح نضال فترة معينة أو سجن مدة معينة أو أداء عمل معين، كما نحس أن الكثير من المبدعين يتغنون بها، ولا سيما من يساريي الماضي، فصارت مملة، وتحديداً حين صارت عندهم حجة إعفاء مما يجب أن يقوموا به اليوم. وأتمنى من الصديق خضير أن يغادر التاريخ وليتكلم بـ(الآن) لا بالنسبة لمن يذكرهم بل لجميع المبدعين والمثقفين، وليقل لنا ما الذي قدموه للوطن حين احتاج إليهم لا إلى إبداعاتهم في الفترة التي نُعنى بها، ألم يعطوه (الأذن الطرشاء) كما يقولون؟. وأتحداك أيها الصديق أن تقدم لي دليلاً واحداً على شيء من هذا قدمه من تناولتُهم في كتابي.. ما الذي قدموه أيها الصديق؟ لقد أمعنوا في سلبيتهم وانسحابهم أمام الطارئين على الوطن في المرحلة التي أتكلم عنها.. عفواً عفواً.. هم غنّوا وبكوا.. بل بعضهم، مثل حسام الرسام، تحولوا حقاً، وليس مجازاً، إلى عدّادات. وبينما كان القليل من المثقفين المرابطين في العراق يسعون إلى تقديم ما يمكن تقديمه مما يسهم في الوقوف بوجه المدّ المتخلف أرى من مبدعينا من يقول: “أين أنت يا هواء العراق؟ لو ألقاك مرة.. لو مرة أنساك” ولا أدري كيف سيكون أمره لو ينساه، ثم تجده يثور ويتجاوز لا على رأيي- وقد كان عتاباً ليس أكثر- بل على شخصي وقال ما قال فيّ، وبعصبية قادته إلى الإساءة لا ليّ فحسب، بل لنفسه حين سخر من جملة وصفها بالركيكة ولم يعرف أنها من إحدى قصائده. ومع هذا لم استجب لدعوة الجريدة لكتابة رد عليه، وآثرت الكتابة إليه شخصياً رسالة محبة وضّحت فيها وجهة نظري بمحبة لم يكلف نفسه الرد عليها. وأعود أيها الصديق لأقول كنت أعاني وأستشيط غضباً على كل هؤلاء الذين تدافع أنت عنهم، ليس حين تخلوا عن الوطن وأخلوا الساحة للطارئين فقط، بل حين وجدتُ أحد كبارهم يقول: “رفضت العودة إلى ما كان يشبه وطناً في الماضي فهل أعود الآن إلى ما هو أرض خراب؟”. فماذا يمكن أن نأمل من مثقف يقول مثل هذا؟ هل نأمل منه أن يضحي للوطن؟ لا والله. ثم هل نأمل خيراً في مَن يتمخطر بسيارة مكشوفة على البحر في سدني وهو يغني: “لو نمشي طول العمر ما نلكه مثل عراكنا عراك”؟، أم في من يخاطب العراق، بعد استلامه فرحاً الجنسية الهولندية، بالقول: “ما إنت بعيد، إنت العين وأقرب من جفن إنتَ”؟ لا أظن. ثم تأتي لتثور أنت معهم لأني مسست تابو تشترك أنت مع أصحابه في خلقه.
ويتساءل كاتب المقال في مكان آخر: (ماذا على المثقف والفنان أن يقوم به وهو في المهجر؟، وما هي المسؤولية الاخلاقية والوطنية والفنية كي يخدم وطنه بطريقة لا غبار ولا شائبة فيها…؟، هل عليه أن يحمل السلاح ويحارب؟)، فأرد عليه بالقول: بل أن يقوم بفعل هو أقل من هذا بكثير كثير كثير جداً، فعل التواجد الذي كانت كفة الخير والمحبة والشرف والوطنية ستكون به أكثر ثقلاً منها حين لم يفعل هذا. ومع أننا لم نطالب المثقف بحمل السلاح، نتساءل: ألم يقاوم مثقفون حين رأوا أنْ لا مناص منه دفاعاً عن قضية إنسانية شريفة، كما فعل بايرون وهمنغوي ولوركا ومالرو وسارويان وكنفاني ومولود فرعون وصخر حبش ونازك الأعرجي وغيرهم؟. وأعود لأقول إني لم أقصد حمل سلاح ولا أدعو إليه، ولكن بالله عليك يا أستاذ خضير ماذا كنا نتوقع من ساحة يُخليها الخيرون ومنهم غالبية المثقفين للرديئين الطائفيين والمتطرفين والتكفيريين والفاسدين؟، ثم هلا أعطيتني مثالاً من المثقفين الذين حمّلتُهم أنا مسؤولية في كتابي تركوا الوطن ولم يستلذوا الدعة ويرتاحوا قبل أن يبدأوا يصرخون ويبكون وينوحون ويصيحون: (أمان أمان يا معشوقنا العراق)، مما تعيبني على رفضه؟. أنا أتفق معك بالطبع بوجود مثل هؤلاء، ولكنهم ما تشدّقوا عادةً ولا لطموا ولا ادعّوا ولا زايدوا، كما فعل الآخرون الذين أنتقدُهم في كتابي، بل هم احترموا أنفسهم وصمتوا أو عبروا بالشكل المعقول.
وتعلقاً بمثقفي الخارج أيضاً، يتكرر من اللامي الفهم الخاطئ، فتعليقاً على قولي: إن خروج من خرج من العراق (لم ينطلق بالضرورة من ظلم نظام أو قمعه، بل لم ينطلق أحيانا من معاناة أو مشاكل أو صعوبات فردية)، ص131، ويقول: (وهنا يُفهم من كلام الدكتور أن النظام الدكتاتوري المستبد، لم يمارس الظلم أو القمع ضد هذه الشريحة من المجتمع، وأنهم كانوا يمارسون حرية التعبير بأوسع فضاءاتها). فلعمري أنه لأمر غريب أن يفهم الصديق خضير هذا من كلامي، بينما المقصود هو أن من أسباب الخروج هو ظلم النظام، ولكنه لم يكن أحياناً لهذا السبب، كما لم يكن أحياناً لأسباب اقتصادية واجتماعية. فكاتب المقال هنا يوصل إلى المتكلم أمراً مشوّهاً وخطيراً لم أقل فيه وهو نفيي قمع النظام، وهذا غير معقول وهو العارف بما تعرضت اليه من معاناة أنا وعائلتي.
(5)
مع أن كل ما مرّ يجسد، بدرجة أو بأخرى، ما أشرنا إليه من فهم الصديق خضير الخاطئ أو على الأقل غير الدقيق لبعض أفكار كتابنا، يبقى في الجعبة بعض نماذج لهذا الفهم. فمن نقص الدقة هذه ما يعكسه قوله عني: (حاولَ أن يفرز موضوعتَي ما يسمى أدب الخارج وما يسمى أدب الداخل، بعد أن ثبّت موقفه من أدباء الخارج، كما رأينا في هذه المقالة، فإنه يدافع ضمناً وأحياناً صراحة عما يسمى أدباء الداخل). وتعليقاً على هذا أشير إلى أنه سبق للأخ خضير أن اطلع على موضوع لي نشرته في جريدة الزمان قبل بضع سنوات تحت عنوان “أدب الداخل وأدب الخارج” وقلت فيه إنهما: (يكوّنان أدباً واحداً هو الأدب العراقي.. وهو أدب همومه واحدة وتجريباته واحدة وموضوعاته واحدة). ولكن لم يكن أمامنا، في الوقت نفسه، تجاوز ما على أرض الواقع من تنافس واتهامات ولوم من هذه الفئة أو تلك للأخرى، وهذا الذي فعلته. كما قلت في كتابي: إن هذه الظاهرة (أفرزت ما يشبه التنافس، وربما الصراع بين هذين (الأدبين) وأعلامهما… وهو ما كاد يجسد ما يشبه محاولة الاستئثار بالهوية العراقية… والواقع أن هذا قد تمثل في أدباء الخارج، أكثر منه في أدباء الداخل)، ص119، وهذا أمر ليس لأي متابع إنكاره.
وضمن عدم الدقة أو الفهم الخاطئ أيضاً، ما يعكسه قول خضير اللامي حين يخاطبنا: (ومن أغرب ما تقول، يا دكتور، تقييمك لإحدى قصائد عباس جيجان الشاعر الشعبي، التي تقول عنها: إنّها تنبض بحب الوطن بصدق لا أجادل فيه… وتستطرد، ولكننا نعود إلى الموقف والسلوك والفعل لنرى أنه ما كان للحب وصدق الحب للوطن ليفعل هذا بجيجان فيقول هذا الإبهار والإبداع لو لم يكن خلفه ما هو أقوى من حب الوطن وصدقه، إنه بظننا تأنيب الضمير والإحساس بالتقصير تجاه الوطن). ورداً أقول: وهذه، أيها الصديق، واحدة من أغرب ما تنقل عني حين تأتي قراءتك لما أقوله مخطوءة كلياً، فتُوصل للقارئ ما بدا لك إعجاباً مني بعباس جيجان، وهو في الواقع عدم قناعتي بادعاء الشاعر حب الوطن. وهنا أتساءل ألا تعتقد أنك في ضوء ما أفترض أنك تسعى إليه من علمية وحيادية وموضوعية لم تستطع أن تتحمّل قولي بجمال قصيدةٍ جملة واحدة من 20 كلمة ضمن أكثر من 400 كلمة عبّرت بها عن عدم قناعتي بتغنّي هذا الشاعر بالوطن حين وجدتُه لا يتساوق مع فعله وسلوكه؟.
أما تعلّقاً بمظفر النواب فيقول اللامي: “دعنا نقرأ قولك عن الشاعر الشعبي الكبير مظفر النواب، ولا أعلق عليه هنا، لأنني أشعر بغصّة لما قلته عنه مقارنةً بجيجان، ولندع كلامك للمتلقي حسب. (أما مظفر النواب، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، فلم يساوِ الوطن عنده حتى زيارة قصيرة، أو تصريح أو إعلان عن موقف مما يجري ليكون له تأثيره الحتمي في الكثير من العراقيين الذين يحبونه)، فأقول لك: جمالياً عندي كل قصيدة للنواب تعادل مئة من قصائد أي شاعر شعبي آخر، ولكن هذا لا يتعارض مع أنْ أُعجب بقصيدة أو قصائد لأي شاعر آخر، كما لا يتعارض مع عدم قناعتي بشيء آخر يتعلق بالنواب، وإلا فقل لي: ماذا قدم للوطن حين احتاجه؟ ولا تقل لي قصائده.. فللمرة الثالثة أو الرابعة أقول لك: إنني عاشق لإبداعات كل هؤلاء ولكنني، في كتابي، غير معني بها، بل بعلاقاتهم العملية بالوطن، وخصوصاً في ظرف معين.
أخيراً، وتكراراً لما رصدتُه في المبدعين والمثقفين في كتابي “هومسيك”، أود تأكيد تشخيصاتي الآتية في مواقفهم، مما أريد لبعضه أن يكون رداً أخيراً على مقال الأخ خضير اللامي عنه، سواء أكان هؤلاء المثقفون داخل العراق أم خارجه: أولاً- حب الوطن موجود وهو الأًصل عند الجميع، ولكنه لدى بعض المثقفين والكثير من المبدعين متأخر بسبب تضخم الذات على الكثير من الأولويات. ثانياً- عدم تساوق بين تعبيراتهم عن حب الوطن ومبالغاتهم فيه مع الفعل والسلوك عند الكثير منهم. ثالثاً- سلبية المواقف والأفعال خلال الحرب وما بعدها فاضحة. رابعاً- وأخيراً وفي ضوء كل ذلك قد يكون حب الوطن إبداعاً وتصريحاً، على الأقل في مبالغته، أكذوبة عند القليل منهم، أعني تحديداً الذين أساؤوا للعراق والعراقيين.
www.alnaked-aliraqi.net
(من الضروري أن نعترف، هنا، بأن الغالبية العظمى ممن سنتناولهم في دراستنا هذه، إن لم نقل جميعهم، هم من كبار المبدعين العراقيين… بل إن بعضهم هم ممن نعشق إبداعاتهم… لكننا نعتقد أيضاً أن الكثير من هؤلاء المثقفين الكبار شاركوا، وإنْ بدرجة معينة ومن حيث يعرفون أو لا يعرفون، في عملية الخراب التي يعيشها العراق الآن، بتأييد بعضهم لتغيير النظام بأي صورة بما فيها الاستعانة بالأجنبي… ثم مشاركتهم السياسيين المرتبطين بذلك الأجنبي… بالتأسيس لسابقة لم يشهد العراق… مثيلاً لها، وتتمثل في النظام القائم على الطائفية والمحاصصة الطائفية، وأخيراً في تخلّيهم عن الوطن والمسؤولية حين بدأت الأمور، بعد زمن قليل وكما هو متوقع، تسوء، أو في عدم مشاركتهم في مقاومة التدمير والمحاصصة والتخريب والعنف المجنون، على الأقل حين تركوا الوطن فغابوا عن الساحة)، ص16.
فلا أدري أي تقصير أكبر من هذا كنا ننتظر من المثقفين، لنُحمّلهم به جزءاً من مسؤولية ما حدث؟. إن دورهم هنا هو مثل دور المسلمين الذين تركوا مواقعهم التي طلب الرسول عليه الصلاة والسلام أن يلتزموها في معركة أحد. فأولائك المسلمون لم يكونوا بالطبع ضمن الكفار الذي هزموا المسلمين في تلك المعركة، لكن سلبية فعلهم وتخليهم عن مواقعهم أسهمت في تلك الهزيمة.
أما أن يقول الصديق خضير (هذا الكلام فيه الكثير من العسف على مثقفينا الكبار وعلى رموز إبداعنا، ولا ادري كيف يسهم المثقفون مع الاحتلال، وإذا كان ثمة بعض المثقفين الذين جاؤوا بعد السقوط فقد تعرض بعضهم للاغتيال مثل كامل شياع، وعاد بعضهم من حيث أتي بعد تلقيهم تهديدات، مثل إبراهيم احمد)، فأقول له لو أردنا أن نأخذ من هذا مبرراً للمغادرة والاستغناء عن الوطن، لكان هذا يعني مغادرة ما لا يقل عن عشرين مليون من العراقيين في ظل تعرُّض النسبة العظمى من الشعب للخطر. وتعلقاً بهؤلاء الذين يشير الصديق خضير هنا إلى أنهم أسهموا إيجابياً بشكل ما فأقول، أولاً: إنني أشدتُ في كتابي بهم؛ وثانياً: من الطبيعي في ظل الموت الأسود أن نفقد بعضهم شهداء، وإذْ هم غالون علينا وعلى الوطن فإنهم ليسوا أغلى من الأساتذة والصحفيين والأطباء، بل من الناس العاديين؛ وثالثاً: مع هذا أنا لم أعنِ بالطبع أن نرمي بأنفسنا في التهلكة، بل أن لا يتخلى الفنان أو المثقف، وأن يشارك بعقل وتأن وحرص، وليتحمل شيئاً من الخطورة.. ولم لا؟.
ويجادل خضير بما لم أجادل في صحته وليوحي للقارئ بغير ما قلت، حين يقول بأني أتّهم المثقفين (بأنهم يحبون ذواتهم على حبهم لوطنهم. فهل يعني هذا أنّ الذي يحب ذاته يستغني عن حب وطنه؟، ألا يمكن ان نحب ذواتنا كما نحب وطننا؟).
فلا يمكن لقارئ أن يقرأ هذا الذي يقوله خضير إلا ويفهم أنني أنفي عن المبدعين والمثقفين حب الوطن، بينما الذي قلته هو: (إن الأصل هو صحة حب الفنان للوطن، وتمنيه له كل الخير وكل ما هو رائع والتقدم والرقي والتحضر والعزة…، وعليه فالتعبير عنه فنياً حقيقي بلا شك، ولكنه محب لذاته أيضاً، وحين يتنافس الوطن والذات على المواقع في دواخل هذا الفنان، فإن الذات غالباً هي التي تكون على حساب الوطن)، ص28. وانظر أيضاً ص39 و47. والخلاصة أكرر القول إن الطبيعي في الإنسان هو أن يحب وطنه، وهذه نظرية وواقع، لكنه عند الفنان والأديب حبٌّ يتأخر ضمن أولوياته، ليكون حب الذات هو المهيمن، وأنا هنا أغادر النظرية لأتكلم عن واقع لمسناه ولا زلنا نلمسه. وقد قدمت في كتابي النماذج التي تُثبت هذا، بينما عملياً لم يدحض الصديق خضير شيئاً من هذا واكتفى بالنظرية والكلام العاطفي الانفعالي، وكأنه نصير المثقفين والمبدعين وأنا عدوهم، بينما كلانا، أنا وهو، من هذه الفئة.. أليس كذلك أيها الصديق؟.
(2)
في الكلام عمن يسميهم الصديق خضير الرموز، وهم كذلك فعلاً، فإنه يتعامل ويريدنا أن نتعامل معهم بوصفهم رموزاً مقدسة، بينما أنظر أنا إليهم وإلى إبداعاتهم بإجلال، ولكن ليس بتقديس، وعليه ليس من العيب أن يكون فيهم وفي شخصياتهم وفي إبداعاتهم وفي سِيَرهم الكثير مما يثر الجدل، ولا يمس هذا رمزيتهم ومكانتهم الإبداعية. أما أن ننزههم من أي خطأ أو مأخذ وأن نتعامل معهم على أنهم أيقونات مقدسة، كما يريدنا الصديق خضير أن نفعل، فهذا ما لا أرتضيه، وإلا فإننا سنقع في نفس ما يقع فيه المتطرفون والسياسيون الذين يختلف معهم البعض، والأخ خضير منهم بحدود معرفتي. في هذا السياق يقول: (حديثك على الجواهري، وتجرؤك على تجاوز عظمته، لمشاركة شعره في حقبة سياسية معينة ليعبر من خلاله باكثر تعبيرات العنف تطرفاً… هو إجحاف وعسف أيضاً)، فلا أدري لماذا لا نتجرأ؟ فنحن جميعاً نُجلّ الجواهري، ولعل الأخ خضير نفسه يعرف بقراءتي لمعظم ديوان الشاعر من السبعينيات.. لكن هذا لا يجعل منه أيقونة مقدسة محرّم أن نتجادل حولها. لا يا أخ خضير.. لا تدعونا إلى الخروج من تابوهات السياسة والجنس والدين، كما أعرف أنك تفعل، لتدخلنا في تابو الفنانين والأدباء. وتعلقاً بمدح الجواهري للرؤوس، يتحداني الصديق خضير أنْ أذكر له (شاعراً واحداً بما فيهم المتنبي لم يمدح ملكاً أو نظاماً عبر تاريخ العرب).. فاقول له: لن أذكر لك شاعراً واحداً بل جميع شعراء العصر الحديث لم يفعلوا هذا، مع استثناءات محدودة جداً أحدها الجواهري، فتنقّل الشعراء في المدح فرضية لم تعُد صحيحة، بل هي كانت تنطبق على الشاعر القديم حين كانت هذه مهنته ولم يكن من عيب فيها، أما الآن فالأمر ليس كذلك.. وأعود بدوري لأتحداك أن تذكر لي شاعراً عربياً حديثاً واحداً تنقّل في المدح بين الرؤوس، فشاعر العصر الحديث قد اقتصر في مدائحه عادةً على واحد، ونحن لا نعيب من يمدح من يحب، فليس من عيب في هذا حتى وإن كنا مختلفين مع الشاعر بشأن هذا الذي يمدحه.. لكن العيب كل العيب هو التنقل بين الرؤساء والملوك من أجل التقرب أو المادة أو العطايا أو الجاه، مما أزعم أننا لا نجده بين الشعراء المعاصرين إلا استثناءً. أما أن تتعرض إلى البديهيات لتُعرّفني بالجواهري وكأنني لا أعرفه أحدَ كبار شعراء العرب في العصر الحديث، فهذا يعني أنك لم تقرأ، على الأقل، قولي في الكتاب: (أما الجواهري فليس لأحد أن ينكر عظمته شاعراً، وعظمة ما قدمه للوطن شعرياً، كما لا أحد يمكنه أن ينكر نضاله سنين طويلة، قبل استقراره شبه الاختياري في المنافي فيما بعد. وقد عكس الكثير من أشعاره تلك المرحلةَ من حياته ومسيرته الأدبية)، ص71.
ولعل من أكثر ما يؤكد لي صحة ما ذهبت إليه في كتابي (هومسيك) بأولوية الذات عند المبدعين وتقصيرهم تجاه الوطن، قول الصديق خضير لتناولي سعدي يوسف: (وكأني بك تقول، طالما مر الوطن بتلك الكوارث والمآسي فهي كفيلة بعودة الشاعر إلى وطنه. مع أنها كانت هي السبب في ابتعاده عن الوطن). فهنا أقول للأخ خضير نعم، هذا الذي تدافع به عن سعدي يوسف وآخرين هو تماماً ما أعاتبهم وقد ألومهم وقد أهاجمهم عليه. فهذه هي شخصية الفنان التي تريد لها، أنت ومثقفون كثيرون، أن تكون.. شخصية المنسحب أو السلبي الذي لا يعنيه الوطن إلا حين يكون مترفهاً وإلا حين يُبسَط له فيه البُسط وتُنشر له الزهور. إذن الخلاف بيني وبينك هو أنني أرى هذا الذي تجده عذراً للفنان لمغادرة الوطن هو عينه السبب الذي يجب أن يجعله يحتضنه ويداوي جراحه ويحاول أن يعيد إليه عافيته، لا أن يغادره كمغادرة سعدي يوسف وكثيرين غيره ولسان حالهم يقول: نادوني حين يتعافى الوطن، فقد أتكرم عليه بطلّةٍ. أما حين تسأل: (وهل تعتقد أن البصرة عامرة الآن كي يزورها شاعرها، وهل إذا جازف بإطلالة عليها ينتهي خرابها الذي هي فيه؟”، فأقول بل لو كان قد فعل هذا لأسهم فعلاً في إيقاف هذا الخراب، أولاً لأننا ما قصدنا الشاعر وحده بل هو وغيره من مئات المثقفين الآخرين، وثانياً لأنه وغيره من (الرموز) أناساً أو أفراداً غير عاديين وعليه فهم يؤثرون في الآخرين. قد تعني أنه لا يأتي إلا بعد خراب البصرة؟ حسناً لقد خربت البصرة ولم يفعل هو وآخرين بينها وبين ذلك.
بقي، تعلقاً بإبداع سعدي يوسف وبقية الرموز، أسأل الصديق خضير: هل وجدتَني قللتُ في كتابي من إبداعاتهم ولو بكلمة واحدة؟ ألم أعدَّها من الروائع؟، وهو ما تقفز عليه بقصدية غريبة لتوحي للقارئ بما لم أعنِه. نعم، إنا لم أقل ولو كلمة تمس جمالياً إبداعاتهم. ولكني أتكلم عن عدم التساوق بين التصريح والإبداع الرائع والمعجز وربما تراه المقدس من جهة، والسلوك والفعل من جهة ثانية. ونعم لنتجرأ ونقول (بترس الحلك) الكثير من إبداعاتهم وتصريحاتهم من ناحية حب الوطن غير حقيقي.. وإلا فاثبتْ لي هذا. أنا اختلافي عنك هو أنك تسلّم بكل ما يقوله رموز التابو الجدد على أنه من المسلّمات والحقائق، بينما أنا متحرر من هذا. ومع هذا فأنا أعيد وأقول إن مادة كتابي هو كبار مبدعينا ومثقفينا، ولكنني لا أتكلم عن جمالية إبداعاتهم العظيمة والجميلة والمتميزة، بل عن تصريحاتهم وإبداعاتهم في حب الوطن حين لا تقترن بفعل يسهم في نجدة الوطن لاسيما في السنوات السود المرة 2003-2006.. والمنهج وأسلوب النقاش العلمي يقول لك، أيها الصديق، أنْ تحاسبني في ما أتناوله. بمعنى أنا أتناول شخوص هؤلاء وسلوكياتهم وأفعالهم في ظروف بعينها، ولا أُعنى بجماليات إبداعاتهم. وعليه فإنك حين تعرّفني بهذه الإبداعات فإنك تشكك في أكاديميتي وعلميتي التي هي ليست هنا موضع امتحان. فمن منطلق خاطئ يأتي كلامك لي مثلاً عن إنجازات فرمان وأنا من أكثر وأوائل الذين درسوها أكاديمياً وعليه فمن الطبيعي أن أكون، في كل الأحوال، أعرف منك بإبداعه الذي لا يعنينا في كتابنا. وفوق ها أنا وضعته ضمن من رأيت أنهم أصحاب النتائج الإيجابية للإحساس بتأنيب الضمير وأشدتُ بما قدمه هذا الإحسس من روائعه. وهذا كله ما لا يوحي كلامك به للقارئ، حين تخاطبني بالقول:
(ويأتي دور الروائيين، وتتناول أولهم، الروائي الكبير غائب طعمة فرمان، وهو رمز كبير من رموز الرواية العراقية، بل رائد لها)، وتلومني على قولي: (إنّ ابا الرواية العراقية وكبير كتّابها غائب طعمة فرمان لم يذهب إلى الوطن منذ أن تركه منتصف الخمسينيات حتى وفاته منتصف التسعينيات إلا مرتين إو ثلاثاً… فلم يستطع البقاء إلا مدة قصيرة لم يتحمل خلالها شيئاً فيه، بعد أن كاد الوطن يصير هو بلاد الغربة، فعاد إلى الوطن البديل هارباً). فمع مأخذي عليك هنا أنك حذفت عبارة ربما هي من أهم ما قلته عن الكتاب، وهي (والعاشق في كتابته للعراق وبغداد والمحلات الشعبية)، ص87، أتساءل، مع كل إجلالي لفرمان ولإبداعه، وما الخطأ في هذا الذي قلتُه؟ أليست هذه وقائع؟ أم تريدنا أن نزيّف الحقيقة والتاريخ؟ ثم ألم تصر روسيا له موطناً؟ لا أدري لماذا نداري ونراوغ فلا نعترف بهذا؟، يعني يعيش فيها حوالي خمس وثلاثين سنة من عمره الذي بلغ الثلاث والخمسين فقط في روسيا، ويتزوج روسية وينجب ولداً يصير روسياً ويتوظف في دار النشر المركزية الروسية ويموت في روسيا ويُدفن في روسيا ونتردد في القول إنها صارت الموطن البديل للعيش فيه. وأنا على أية حال لم أكن لأشك في عراقية واحد من أجمل من عرفتهم شخصياً في حياتي من مبدعينا، أعني غائب طعمة فرمان، ولا بغيره من كبار المبدعين الذين تذكرهم؟ أتحداك أن تجد شيئاً من هذا في كتابي. الذي قلته وأقوله هنا أحد أمرين تمثل في كل هؤلاء الذين تناولتُهم، وقد أدين بعضهم على تأثيراته فيهم، وقد أعتب على آخرين. أول هذين الأمرين هو أنّ حب الوطن الطبيعي الذي لا أشك فيه عندهم قد يتأخر عن حب الذات، والثاني هو أن التعبير عن هذا الحب عندهم أو عند غيرهم قد لا يتساوق مع أفعالهم وسلوكياتهم، وهذا الذي يهمني رصده في كتابي. ولكني قد أشكك بهذا الحب عند غير هؤلاء، أعني الذين عملوا على تشويه الوطن. فأمثال هؤلاء لا يريدون، في وعيهم أو لا وعيهم، أن يقرّوا ولو بلمحة إيجابية في العراق/الوطن، ببساطة لأن مثل هذه، وإن كانت صغيرة، قد تعني إلغاء بعض عذر بقائهم خارج الوطن، هناك بعيداً عن (وجع الراس). فبقاء الوطن تعباً ومدمّراً وفي فوضى وتخلّف يعني لهم العذر الذي يتمسكون به للبقاء بعيداً عنه، وأكثر من هذا قد يعطيهم عذراً لعدم فعل أي شيء له، مع أن الوطن في الواقع يحتاجهم وهو في ظرف صعب أكثر منه وهو في أحسن حال. أما فرمان وآخرون فقد عددته من هؤلاء الذين عبّروا أو يعبرون عن هذا الحب، الذي لا نشك فيه أبداً، وهم بعيدون عن الوطن ويعانون من هذا البعد بصدق واضح.
(3)
انتقالاً للدور الذي يجب أن يقوم به المبدع أو المثقف بشكل عام، يقول خضير اللامي: (ويأتي دور الفنانين، ليتناولهم، قلمك واحداً بعد الآخر، من ماجد المهندس إلى كاظم الساهر، ولا تقتنع بما قدموه من أغان تعبر عن عاطفة ووجدان وضمير العراقي… لكن، هذا لا يهم كله بقدر ما تطلبه منه، بفعل صغير جدا، وهو قطع تذكرة تأخذه إلى حبيبته إلى بغداد ولو ساعة واحدة…، وكأن الوطن يرفل بالأمن والاستقرار والرفاه الاقتصادي وكأن لا وجود لدكتاتورية بغيضة جثمت على صدور الناس أكثر من ثلاثة أجيال… إذن، لكي يكون الساهر والمهندس وغيرهما من الفنانين صادقين في أغانيهم، عليهم أن يأتوا ويزوروا وطنهم والعودة إلى حيث يقيمون، وهذا ما يشفي الغليل). عجيب.. ولم لا؟ ولم لا يفعلون شيئاً من هذا، إذا كان الوطن، كما تخالفني وتدّعي أنت، أعز عندهم من حب الذات؟. إن التواجد على أرض الوطن يعني الكثير حين يفعله آلاف المبدعين، وإلا فقل لي ماذا سيعني للإنسان العادي، الذي يتخذ من المبدع قدوة، إذا ظل هذا المبدع بعيداً عن الوطن عقوداً من السنين؟ ألا يعني أنْ لا فائدة من الوطن، وألا يعني دعوة له لتركه؟ بلى لأن المبدع هو قدوة دائماً.. ومن هنا تأتي أهمية مثل هكذا تواجد. ولم يكن من فائدة كبيراً من تقديم الأغنية والموسيقى والشعر والقصة، حين كنّا بحاجة، بدلاً من هذا، إلى مد الخيرين لإيقاف مد الرديئين القادم. وعليه أقول لك، يا أخ خضير، بل نحتاج لمثل هذه الزيارة، التي تُسفّهها، وما كُنّا بحاجة ماسة إليها لو كان الوطن في سلام ورفاه.. نعم كان لسان حالنا يقول حينها: هذا الفعل الصغير هو المطلوب، وإلا فليسكتوا ولا يدّعوا ويتباكوا. نعم يا أبا وسام هذا هو الخلاف بيننا أنا وأنت ومعنا آخرون بالطبع وأولئك الذين لا يريدون الوطن إلا حين يرفل بالسلام.. هل صار نموذجنا فاضل العزاوي مثلاً الذي قرأت له أقبح موقف لمثقف إنسان من الوطن إذ يقول: (رفضت العودة إلى ما كان يشبه وطناً في الماضي فهل أعود الآن إلى ما هو أرض خراب؟). وهذا هو تماماً ما يدور كل كتابي عنه، فقد كان مطلوباً من هؤلاء (الأيقونات المقدسة والرموز المحرمة) أن يشاركوا في دفع الموت عن الوطن وفي مداواة جروحه والطبطبة على ظهور الناس التعبى، وإلا فهم مقصرون. بل إذا ما وصفتُ أنا مواقفهم، في كتابي، بأنها تقصير، ولم يرضِك هذا، فإني أقول هنا الكلمة الأكثر صراحة في توصيف مواقف كاظم الساهر وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وماجد المهندس ونصير شمه ومظفر النواب وغيرهم من الرموز المقدسة، وهي أنها مواقف مخزية. فهم، وتوافقاً مع رأيك، جاهزون ليأتونا حين لا يكون هناك إلا الخير ولنصفق لهم ونهلل، كما تفعل أنت، مع الأسف، في كل مقالك، وهذا ما لست مستعداً لمشاركتك فيه. ومرة أخرى أعترف وأتفق معك في تبجيل إبداع هؤلاء، لأنه حقيقة وفخر للعراق، ولكنه لا يهمني، ضمن الظرف الذي أتكلم عنه بالطبع، بقدر ما يهم أن يتكرم كاظم الساهر أو أيٍّ من كبار الفنانين والأدباء والمثقفين بالمساهمة الصغيرة، ولكن الفاعلة بأن يكون لهم تواجد وفعل ودعوات ضد السوء الذي كان يستشري، بدلاً من التخاذل والانسحاب السلبي وترك الساحة لأهل السقوط والمحاصصة والصراع الطائفي المفتعل. ونعتقد أن خيراً من ألف من روائع هؤلاء المبدعين فعلٌ واحد يتمثل بالوقوف في ساحة التحرير كما يفعل الآلاف، ومنهم لحسن الحظ مثقفون، أو في لملمة أحبتنا الطلبة في كليات العراق وجامعاتها وإلقاء المحاضرات عليهم كما فعل المتكلم وقت الموت الزاحف أعوام 2004- 2006، وفي الصراع من أجل الإبقاء على ماكنات طباعة الثقافة تدور كما فعلتَ أنت يا خضير والعشرات معك في دار الشؤون الثقافية حين حميتموها من الحرق والتخريب، قبل أن تؤول، بغياب أمثالك، إلى وضعها المأساوي الحالي، وفي الوقوف بوجه الموت الأسود الزاحف كما فعل كامل شياع ولطفية الدليمي وهاشم حسن ومهدي عيسى الصقر وفاضل ثامر ونادية العزاوي وأمل المدرس ووهيثم يوسف وآخرون. أما رداً على تساؤلك: (لو أن وطننا كان يعيش حالة الاستقرار والرفاه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، هل كان ثمة مبرر للمثقف والفنان أن يهجر وطنه؟)، فأقول: وماذا نفعل بهكذا المثقف لا نراه إلا حين يرفل الوطن بالسلام والرفاهية؟
(4)
تعلقاً بمبدعي المهجر ومثقفيه، يقول خضير اللامي: (يبدو للدكتور أنّ جميع الأدباء والفنانين، طالما هم خارج الوطن، فهم إما يتخلون عن وطنهم، أو في أحسن الاحوال يعانون من عقدة تانيب الضمير والإحساس بالتقصير تجاهه)، نقول، حرصاً على الدقة التي اقتقد موضوع الكاتب الكثير منها، إننا نقرّ بأن هذا، وإن لم نقله تماماً، ينطبق على مجموعة كبيرة من مبدعي الخارج ومثقفيه ولكن ليس كلهم. أما تعرض فاضل العزاوي أو جمعة اللامي أو سعدي يوسف أو آخرين لقمع وسجن، فلا يعفيهم مما يفرضه الوطن عليهم. فالعلاقة بالوطن ليست مَهمة يقوم بها المواطن وينتهي واجبه، كما أنها لا تسقط أو تضعف بالتقادم ولا بتقدم المواطن في العمر.. بل هي علاقة حياة ومواقف. أما التلفّع بوشاح نضال فترة معينة أو سجن مدة معينة أو أداء عمل معين، كما نحس أن الكثير من المبدعين يتغنون بها، ولا سيما من يساريي الماضي، فصارت مملة، وتحديداً حين صارت عندهم حجة إعفاء مما يجب أن يقوموا به اليوم. وأتمنى من الصديق خضير أن يغادر التاريخ وليتكلم بـ(الآن) لا بالنسبة لمن يذكرهم بل لجميع المبدعين والمثقفين، وليقل لنا ما الذي قدموه للوطن حين احتاج إليهم لا إلى إبداعاتهم في الفترة التي نُعنى بها، ألم يعطوه (الأذن الطرشاء) كما يقولون؟. وأتحداك أيها الصديق أن تقدم لي دليلاً واحداً على شيء من هذا قدمه من تناولتُهم في كتابي.. ما الذي قدموه أيها الصديق؟ لقد أمعنوا في سلبيتهم وانسحابهم أمام الطارئين على الوطن في المرحلة التي أتكلم عنها.. عفواً عفواً.. هم غنّوا وبكوا.. بل بعضهم، مثل حسام الرسام، تحولوا حقاً، وليس مجازاً، إلى عدّادات. وبينما كان القليل من المثقفين المرابطين في العراق يسعون إلى تقديم ما يمكن تقديمه مما يسهم في الوقوف بوجه المدّ المتخلف أرى من مبدعينا من يقول: “أين أنت يا هواء العراق؟ لو ألقاك مرة.. لو مرة أنساك” ولا أدري كيف سيكون أمره لو ينساه، ثم تجده يثور ويتجاوز لا على رأيي- وقد كان عتاباً ليس أكثر- بل على شخصي وقال ما قال فيّ، وبعصبية قادته إلى الإساءة لا ليّ فحسب، بل لنفسه حين سخر من جملة وصفها بالركيكة ولم يعرف أنها من إحدى قصائده. ومع هذا لم استجب لدعوة الجريدة لكتابة رد عليه، وآثرت الكتابة إليه شخصياً رسالة محبة وضّحت فيها وجهة نظري بمحبة لم يكلف نفسه الرد عليها. وأعود أيها الصديق لأقول كنت أعاني وأستشيط غضباً على كل هؤلاء الذين تدافع أنت عنهم، ليس حين تخلوا عن الوطن وأخلوا الساحة للطارئين فقط، بل حين وجدتُ أحد كبارهم يقول: “رفضت العودة إلى ما كان يشبه وطناً في الماضي فهل أعود الآن إلى ما هو أرض خراب؟”. فماذا يمكن أن نأمل من مثقف يقول مثل هذا؟ هل نأمل منه أن يضحي للوطن؟ لا والله. ثم هل نأمل خيراً في مَن يتمخطر بسيارة مكشوفة على البحر في سدني وهو يغني: “لو نمشي طول العمر ما نلكه مثل عراكنا عراك”؟، أم في من يخاطب العراق، بعد استلامه فرحاً الجنسية الهولندية، بالقول: “ما إنت بعيد، إنت العين وأقرب من جفن إنتَ”؟ لا أظن. ثم تأتي لتثور أنت معهم لأني مسست تابو تشترك أنت مع أصحابه في خلقه.
ويتساءل كاتب المقال في مكان آخر: (ماذا على المثقف والفنان أن يقوم به وهو في المهجر؟، وما هي المسؤولية الاخلاقية والوطنية والفنية كي يخدم وطنه بطريقة لا غبار ولا شائبة فيها…؟، هل عليه أن يحمل السلاح ويحارب؟)، فأرد عليه بالقول: بل أن يقوم بفعل هو أقل من هذا بكثير كثير كثير جداً، فعل التواجد الذي كانت كفة الخير والمحبة والشرف والوطنية ستكون به أكثر ثقلاً منها حين لم يفعل هذا. ومع أننا لم نطالب المثقف بحمل السلاح، نتساءل: ألم يقاوم مثقفون حين رأوا أنْ لا مناص منه دفاعاً عن قضية إنسانية شريفة، كما فعل بايرون وهمنغوي ولوركا ومالرو وسارويان وكنفاني ومولود فرعون وصخر حبش ونازك الأعرجي وغيرهم؟. وأعود لأقول إني لم أقصد حمل سلاح ولا أدعو إليه، ولكن بالله عليك يا أستاذ خضير ماذا كنا نتوقع من ساحة يُخليها الخيرون ومنهم غالبية المثقفين للرديئين الطائفيين والمتطرفين والتكفيريين والفاسدين؟، ثم هلا أعطيتني مثالاً من المثقفين الذين حمّلتُهم أنا مسؤولية في كتابي تركوا الوطن ولم يستلذوا الدعة ويرتاحوا قبل أن يبدأوا يصرخون ويبكون وينوحون ويصيحون: (أمان أمان يا معشوقنا العراق)، مما تعيبني على رفضه؟. أنا أتفق معك بالطبع بوجود مثل هؤلاء، ولكنهم ما تشدّقوا عادةً ولا لطموا ولا ادعّوا ولا زايدوا، كما فعل الآخرون الذين أنتقدُهم في كتابي، بل هم احترموا أنفسهم وصمتوا أو عبروا بالشكل المعقول.
وتعلقاً بمثقفي الخارج أيضاً، يتكرر من اللامي الفهم الخاطئ، فتعليقاً على قولي: إن خروج من خرج من العراق (لم ينطلق بالضرورة من ظلم نظام أو قمعه، بل لم ينطلق أحيانا من معاناة أو مشاكل أو صعوبات فردية)، ص131، ويقول: (وهنا يُفهم من كلام الدكتور أن النظام الدكتاتوري المستبد، لم يمارس الظلم أو القمع ضد هذه الشريحة من المجتمع، وأنهم كانوا يمارسون حرية التعبير بأوسع فضاءاتها). فلعمري أنه لأمر غريب أن يفهم الصديق خضير هذا من كلامي، بينما المقصود هو أن من أسباب الخروج هو ظلم النظام، ولكنه لم يكن أحياناً لهذا السبب، كما لم يكن أحياناً لأسباب اقتصادية واجتماعية. فكاتب المقال هنا يوصل إلى المتكلم أمراً مشوّهاً وخطيراً لم أقل فيه وهو نفيي قمع النظام، وهذا غير معقول وهو العارف بما تعرضت اليه من معاناة أنا وعائلتي.
(5)
مع أن كل ما مرّ يجسد، بدرجة أو بأخرى، ما أشرنا إليه من فهم الصديق خضير الخاطئ أو على الأقل غير الدقيق لبعض أفكار كتابنا، يبقى في الجعبة بعض نماذج لهذا الفهم. فمن نقص الدقة هذه ما يعكسه قوله عني: (حاولَ أن يفرز موضوعتَي ما يسمى أدب الخارج وما يسمى أدب الداخل، بعد أن ثبّت موقفه من أدباء الخارج، كما رأينا في هذه المقالة، فإنه يدافع ضمناً وأحياناً صراحة عما يسمى أدباء الداخل). وتعليقاً على هذا أشير إلى أنه سبق للأخ خضير أن اطلع على موضوع لي نشرته في جريدة الزمان قبل بضع سنوات تحت عنوان “أدب الداخل وأدب الخارج” وقلت فيه إنهما: (يكوّنان أدباً واحداً هو الأدب العراقي.. وهو أدب همومه واحدة وتجريباته واحدة وموضوعاته واحدة). ولكن لم يكن أمامنا، في الوقت نفسه، تجاوز ما على أرض الواقع من تنافس واتهامات ولوم من هذه الفئة أو تلك للأخرى، وهذا الذي فعلته. كما قلت في كتابي: إن هذه الظاهرة (أفرزت ما يشبه التنافس، وربما الصراع بين هذين (الأدبين) وأعلامهما… وهو ما كاد يجسد ما يشبه محاولة الاستئثار بالهوية العراقية… والواقع أن هذا قد تمثل في أدباء الخارج، أكثر منه في أدباء الداخل)، ص119، وهذا أمر ليس لأي متابع إنكاره.
وضمن عدم الدقة أو الفهم الخاطئ أيضاً، ما يعكسه قول خضير اللامي حين يخاطبنا: (ومن أغرب ما تقول، يا دكتور، تقييمك لإحدى قصائد عباس جيجان الشاعر الشعبي، التي تقول عنها: إنّها تنبض بحب الوطن بصدق لا أجادل فيه… وتستطرد، ولكننا نعود إلى الموقف والسلوك والفعل لنرى أنه ما كان للحب وصدق الحب للوطن ليفعل هذا بجيجان فيقول هذا الإبهار والإبداع لو لم يكن خلفه ما هو أقوى من حب الوطن وصدقه، إنه بظننا تأنيب الضمير والإحساس بالتقصير تجاه الوطن). ورداً أقول: وهذه، أيها الصديق، واحدة من أغرب ما تنقل عني حين تأتي قراءتك لما أقوله مخطوءة كلياً، فتُوصل للقارئ ما بدا لك إعجاباً مني بعباس جيجان، وهو في الواقع عدم قناعتي بادعاء الشاعر حب الوطن. وهنا أتساءل ألا تعتقد أنك في ضوء ما أفترض أنك تسعى إليه من علمية وحيادية وموضوعية لم تستطع أن تتحمّل قولي بجمال قصيدةٍ جملة واحدة من 20 كلمة ضمن أكثر من 400 كلمة عبّرت بها عن عدم قناعتي بتغنّي هذا الشاعر بالوطن حين وجدتُه لا يتساوق مع فعله وسلوكه؟.
أما تعلّقاً بمظفر النواب فيقول اللامي: “دعنا نقرأ قولك عن الشاعر الشعبي الكبير مظفر النواب، ولا أعلق عليه هنا، لأنني أشعر بغصّة لما قلته عنه مقارنةً بجيجان، ولندع كلامك للمتلقي حسب. (أما مظفر النواب، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، فلم يساوِ الوطن عنده حتى زيارة قصيرة، أو تصريح أو إعلان عن موقف مما يجري ليكون له تأثيره الحتمي في الكثير من العراقيين الذين يحبونه)، فأقول لك: جمالياً عندي كل قصيدة للنواب تعادل مئة من قصائد أي شاعر شعبي آخر، ولكن هذا لا يتعارض مع أنْ أُعجب بقصيدة أو قصائد لأي شاعر آخر، كما لا يتعارض مع عدم قناعتي بشيء آخر يتعلق بالنواب، وإلا فقل لي: ماذا قدم للوطن حين احتاجه؟ ولا تقل لي قصائده.. فللمرة الثالثة أو الرابعة أقول لك: إنني عاشق لإبداعات كل هؤلاء ولكنني، في كتابي، غير معني بها، بل بعلاقاتهم العملية بالوطن، وخصوصاً في ظرف معين.
أخيراً، وتكراراً لما رصدتُه في المبدعين والمثقفين في كتابي “هومسيك”، أود تأكيد تشخيصاتي الآتية في مواقفهم، مما أريد لبعضه أن يكون رداً أخيراً على مقال الأخ خضير اللامي عنه، سواء أكان هؤلاء المثقفون داخل العراق أم خارجه: أولاً- حب الوطن موجود وهو الأًصل عند الجميع، ولكنه لدى بعض المثقفين والكثير من المبدعين متأخر بسبب تضخم الذات على الكثير من الأولويات. ثانياً- عدم تساوق بين تعبيراتهم عن حب الوطن ومبالغاتهم فيه مع الفعل والسلوك عند الكثير منهم. ثالثاً- سلبية المواقف والأفعال خلال الحرب وما بعدها فاضحة. رابعاً- وأخيراً وفي ضوء كل ذلك قد يكون حب الوطن إبداعاً وتصريحاً، على الأقل في مبالغته، أكذوبة عند القليل منهم، أعني تحديداً الذين أساؤوا للعراق والعراقيين.
د. نجم عبد الله كاظم: المثقف .. والذات المسعورة - الناقد العراقي
بدايةً من جميل ما يتعلق بكتابتي لهذا الرد أنه يأتي مباشرةً بعد عودتي وزوجتي من وقفة مع مجموعة من المثقفين تحت نصب الحرية دعماً لتظاهرة تلك الجموع الجميلة التي أعادت، بمطالبها الراقية، الأمل إلينا. وبكل الإخلاص والصدق أقول إنني شعرت، وأنا أقف تلك الوقفة، بأن كل ما كتبته وأكتبه لا يعني إلا القليل...