حامد فاضل - مدرسة الجمالية فى الخمسينات

لا أدرى تماما ما الذى يرجع بى فى هذه الأيام بشدة إلى مدرستى : الجمالية ، ما يقرب من سبعين عاما ؟ وتلك الفترة التى قضيتها فيها مستمتعا بالحياة المدرسية والأنشطة المختلفة والألعاب وحتى وجوه بعض الزملاء ، والمدرسين الذين لم يدخل أحدهم الفصل علينا إلا وهو يرتدى البدلة الكاملة والكرافته الأنيقة والقميص المكوى..

انت المدرسة عبارة عن ثلاثة طوابق تتجاور فيها الفصول ذات الشبابيك التى تدخلها الشمس ، ويتوسطها فناء واسع يتسع لطابور الصباح الذى كان يجمع بين تلاميذ الثانوى والابتدائى والأوّلى ، وكنت أنا منهم .

كان الفصل لا يزيد عن 22 مقعدا مزدوجا ، فى مقدمة كل (تختة) دواية حبر ، يملأها عامل مختص حين تفرغ . أما جدران الفصل فكانت مزينة برسوم التلاميذ المميزة ، تشجيعا لهم على موهبتهم فى الرسم.

وكان طابور الصباح مثالا للنظام والترقب من جانبنا ، لأن كلمة الناظر المهيب كانت تنطلق عاليا وتلقى باللوم على بعض تلاميذ الثانوى الذين يتأخرون أو يهملون فى أداء واجباتهم ، لكنها كانت تتضمن أصواتا جميلة لبعض التلاميذ الذين يرتلون آيات من القرآن الكريم ، أو يلقون بعض المقطوعات الشعرية .. وكان إعجاب المدرسين بهذا يدفعنا إلى حسن الإنصات ومحاولة المحاكاة.

وعند دخول المدرس الفصل نقف جميعا بنشاط ، فيلقى علينا تحية الصباح بوجه بشوش ، ثم يأمرنا بالجلوس ، ويبدأ الدرس بالشرح المبسط ، ثم بطرح بعض الأسئلة ، والاستماع لمختلف الإجابات ، ثم الرد على الاستفسارات..

وعندما يأتى وقت الفسحة ( التى كانت تستمر حوالى ساعة ونصف ) ينزل الجميع إلى فناء المدرسة الواسع ، حيث يمارس بعضهم لعب كرة القدم أو التنس أو البنج ــ بونج ، وبعضهم يذهب إلى حجرة الموسيقى حيث يوجد بها أستاذ متخصص ، وبعضهم إلى حجرة الرسم ، وبعضهم الآخر إلى مكتبة المدرسة .. وهكذا يصبح الجميع كأنهم خلية نحل لا تهدأ إلا عندما يرن جرس انتهاء الفسحة.

ومما أذكره بوضوح واستغراب حتى الآن هى كمية الغداء التى كانت تقدم لنا على مدار الأسبوع : السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء : قطعة لحم وطبق خضار وطبق أرز أو مكرونة وبعض المخللات وفاكهة الموسم : موز أو برتقال .

وكان الطعام يجرى حول طاولات تسع كل منها عشرة تلاميذ صغار يقودهم تلميذ من الثانوى . أما يوما الأثنين والخميس فكانوا يعطون لنا مع انتهاء اليوم الدراسى القصير : فطيرة ، وقطعة جبن فلمنك وكيس فول سودانى ، وموزة أو برتقالة!

ولست أنسى تلك الأوقات السعيدة التى كانت مدرستنا تقام فيها مباريات التنافس الرياضى أو العلمى مع بعض المدارس الأخرى ، وكنا إما نشارك فيها أو نقوم بالتشجيع ، وفى كلا الحالين كنا نندمج ونسعى دائما للفوز بكؤوسها أو بشهادات التقدير التى تمنحها المدرسة لنا .

وفى نهاية الفصل الدراسى الأول من العام يعقد لنا امتحان داخل الفصل فى كل المقررات ، ويقوم المدرسون بتصحيحه ، ثم اعطاء نتائجه لمدرس العربى الذى يجمعها فى شهادة كل منا ويعطيها له ، لكى يطلع عليها ولىّ أمره بشرط أن يعيدها موقعة منه .

ولم تكن هناك دروس خصوصية على الإطلاق ، لكن المدرسة حرصا على بعض التلاميذ الضعاف أنشأت فصول تقوية فى بعض المواد ، وذلك مقابل خمسين قرشا أى نصف جنيه للمادة الواحدة .

تلك اللوحة الجميلة والعزيزة على قلبى مازالت ترتسم على جدار ذكرياتى حتى اليوم ، وكلما سمعت عن شكوى بعض تلاميذ اليوم أو أولياء أمورهم نطقت خطوط هذه اللوحة بأصواتها ، وقلت لنفسى : هل يمكن أن ترجع مثل هذه المدرسة إلى حياتنا الآن ؟ لكننى أعلم جيدا أن الماضى لا يعود ، وأن التشبث به نقصان فى العقل ، لكن التفاؤل يدفعنى للأمل ومداومة الأمل فى مستقبل أفضل لأبنائنا وأحفادنا . .


ملحوظة :
[ الصورة المرفقة لفصلنا والفصل المجاور لنا مع الناظر والمدرسين عام 1953]




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...