النصوص الحالية لكيركغارد التي يعالج عبرها، بطريقته الخاصة، موضوعة الإيروسية (أو الحب الشهواني)، والمقتبسة من كتبه ويومياته التي تناولت هذا الانفعال، كانت قد تُرجمت على شكل كتيب من اللغة الدنماركية إلى الفرنسية، التي عنها أنجزنا ترجمتها إلى اللغة العربية.
تبريرنا لتقديم هذه النصوص في مجلة "أدب فن" يعود إلى سببين: الأول، أنها (النصوص ومعالجة تلك الشهوة) ذات قيمة أدبية، على الأقل من وجهة نظرنا، أكثر من كونها قيمة فلسفية، "إتيكية" (أخلاقية)، أو دينية، وذلك بالمعنى المزدوج للمفردة: من ناحية أسلوب كتابتها، أو المزاج الحقيقي الذي كان يتمتع فيه صاحبها، لحظة معايشته وتأمله لتلك العاطفة (والذي هو ليس بالضرورة كيركغارد المفكر، الأخلاقي، أو الفيلسوف). أحدى سمات ذلك
الأسلوب يمكن التعرف عليها من صياغة الجمل والعبارات التي يستخدمها الكاتب للتعبير عن فكرته. فهي ذات طابع شعري-نثري واضح، غير مثقل بالتأملات التجريدية، أو المقولات المحضة، بالرغم من اللهجة الساخرة، أو العبثية التي تغلفها. من ناحية أخرى، لا يمكن أن يكون اختيار المفكر الدنماركي لشخصية دون جوان، وهي شخصية مركزية، بالنسبة له، تنعكس عبرها كل أطياف، ذبذبات، خدع وتكتيك ذلك النوع من الرغبة (الجنسية، قبل أن تكون أي شيء آخر)، اختياراً متولداً عن الصدفة لوحدها: لا يمكن تناول دون جوان، الفرد والأسطورة إلا عبر الإبداع أو التركيب الأدبي. إلى حد يمكن فيه القول بأن دون جوان يشكل أحدى مجازات أدب العشق الكبرى. ليس لأنه بطل لرواية تُسرد وحسب، بل وأيضاً لقدرته المتفردة على تكرار نفس التجربة، لعب ذات الدور إلى ما لا حصر له من المرات، إن كان ذلك مع العشيقة الواحدة، أو مع غيرها من الكثيرات؛ تكرار التجربة ولعب الدور ذاته في كل مرة، مع الفوارق والاختلافات المرهفة التي تصاحبهما. وهذا ما يجعل منه، على صعيد آخر، شخصية موسيقية بامتياز.
فالموسيقى، بالمعنى الواسع للمفردة، وحدها من يتمكن من خلق تنوعات ثرية، وإيقاعات متشابهة في تميزها، أو متميزة بالرغم من تشابهها. لقد كان كيركغارد على معرفة دقيقة بالخاصية الموسيقية لدون جوان، وبشكل استثنائي دون جوان موزارت. من ناحية أخرى، لا يخطأ المرء إذا ما قال بأن الحب الشهواني الذي يتحدث عنه كاتبنا هو الحب الشهواني عينه الذي عرفته نهاية القرن التاسع عشر الأوروبي، والذي عاشه القرن العشرين بكل صوره وألوانه. وذلك يعني بأن جوهر حقيقته لا تكمن في قدرة "البطل" على تحقيق رغبته عبر وسائل الإغواء والإغراء، كأسلحة ناعمة وسرية لملاحقة الطريدة، امتصاص اللذة منها، ومن بعد تركها على قارعة الطريق، ولكن في تلك المخيلة الواسعة على خلق، فبركة، ومضاعفة التجربة إلى ما لا نهاية، وبغض النظر عن شروط ممكناتها. لكن، ما أن يتعلق الأمر بالمخيلة، حتى يقفز ذهن المرء نحو التجربة الأدبية أو الإبداعية بشكل عام، أي تلك التجربة التي لا ترتكز بالضرورة على تحليل المفاهيم عقلانياً، وذلك بالرغم من تأكيدات وبرهنة الفيلسوف الألماني "كانط" على أنها بمثابة الملكة السرية والغامضة التي تحرك جميع أفعالنا. يبقى أن نقول بأن كيركغارد يذهب أبعد من الحقيقة، عندما يقول، مندهشاً، بأن الفلاسفة لم يعالجوا، أو لم ينتبهوا لإشكالية الإيروسية هذه. وكأن أفلاطون لم يكتب "المأدبة"، وكأن سقراط لم يعالجها، بنفس أسلوب المماحكة والتهكم المُغلف الذي يتبعه مؤلف "يوميات غواي"، باعتباره، أي الحب الشهواني (الايروسية)، "ما يرفع الجسد إلى مقام الحب".
ثمة من ملاحظة أخيرة : لا ينبغي، في اعتقادنا، التعامل مع مفردة "امرأة" ومفردة "رجل"، هنا، من منظور التكون الفيزيائي (الجسدي) لوحده، فقبل أن تكونا دالتين لمدلول "معطى" مرة واحدة وإلى الأبد، هما، في الحقيقة، حاملان لشعور أو عاطفة بعينها : كما يمكن للانفعال الذكوري العثور على تحققه الأمثل في جسد امرأة أو ميولها العامة، كذلك يمكن للانفعال الانثوي احتلال جسد الرجل وتوجيه رغباته الأكثر سرية وعمقاً. كذلك لا بد من التأكيد
على أن ما نقرأه هنا يتعلق بقوة "بفن العيش"، كما يقول المؤلف، أي وضعية الإنسان في العالم، إن كان رجلاً أو امرأة. أو ما يطلق عليه الفلاسفة اسم "الكائن-هنا"، تشابك وغنى (أو فقر) علاقاته بالآخرين، وليس كينونته المحضة.
الزوج والعاشق
بالنسبة لي، سيء ذلك الزوج الذي لم يجعل منه الزواج شخصاً مازحاً تماماً مثلما هو سيء ذلك العاشق الذي لا يتحول إلى شاعر؛ فكل زوج، مثلما أفترض، يصبح مازحاً نوع ما وكل عاشق يصبح شاعراً نوع ما.
( من أحاديث متنوعة عن الزواج)
العاشق
كم هو جميل أن يكون المرء عاشقاً وكم هو ممتع معرفة ذلك، وهذا ليس نفس الشيء.
(من يوميات غاوي)
شهية الحياة
يمكننا تسمية المرأة «الشهيّةِ الفرحةِ للعيش». توجد عند الرجل ، بالتأكيد، مثل هذه الشهية للعيش، لكنه أساساً أكثر استعداداً في أن يكون عقل، وإذا كان لوحده، أي إذا ما ترك لنفسه، فأنه لن يعرف كيف يتدبر أمره ولن يفلح أبداً في البدء بشيء ما.
لكن حينئذ تظهر شهية العيش الراقدة فيه خارج عنه تحت شكل آخر، شكل المرأة التي هي شهية العيش، ومن ثم تستيقظ فيه شهية الحياة.
(يوميات) فن العيش.
تزوج، وستندم على ذلك؛ لا تتزوج، وستندم على ذلك أيضاً؛ تتزوج أو لا تتزوج ستندم على هذا وذاك؛ إذا تزوجت أو إذا لم تقم بذلك أبداً، فستندم في كلا الحالتين. أضحك من جنون العالم، وستندم على ذلك؛ ابكي عليه، ستندم كذلك؛ أضحك من جنون العالم أو أبكي عليه، ستندم على هذا وذاك؛ إذا ما ضحكت أو بكيت من جنون العالم، فستندم في كلا الحالتين. لتؤمن بفتاة، وستندم على ذلك، لا تؤمن بها، ستندم أيضاً عليه، أن تؤمن بفتاة أو أن لا تؤمن بها، ستندم على هذا وذاك؛ إذا آمنت أو لم تؤمن بفتاة ستندم في كلا الحالتين. لتشنق نفسك، وستندم على ذلك؛ لا تقم به، ستندم على ذلك أيضاً؛ أن تشنق نفسك أو لا، ستندم على هذا وذاك؛ إذا ما شنقتَ نفسك أو لم تشنقها، فستندم في كلا الحالتين. ذلك هو، أيها السادة، باختصار فن العيش.
(Diapsalmata)
الحب والتفكير
يبقى أن نعرف إذا كانت أنوثتها من القوة ما يخوّل لها القيام بعمل التفكير، أو أنها ببساطة لا تقدّمُ سوى اللذة الناتجة عن جمالها ورقتها؛ المقصود هو معرفة إذا كان ينبغي على المرء أن يوتر القوس ويصوب عالياً. إذ سيغدو شيئاً كبيراً الالتقاء بامرأة تحتفظ بنقاء طبيعتها المباشرة؛ لكن إذا ما توقع المرء ثمة تحول سيطرأ عليها، فسيحصل على ما يثير الاهتمام. في هذه الحالة، من الأفضل العثور على خطيب. كذلك فأنه حكم مسبق الاعتقاد أن هذا الإجراء يضر بالبنت الشابة. بالتأكيد، أنه من الأفضل لها أن لا تسمع أبداً باسم الحب، إذا كانت عشبةً مرهفة من نباتات المناطق الحارة التي لا يظهر تألقها إلا في وقت نعومتها؛ أمّا إذا كانت قوية، فأنها ستربح تلك المغامرة ولن أتردّد في الحصول لها على خطيب، أن لم يكن عندها واحداً سابقاً. أنا لا أبالغ، فالفائدة معدومة هنا، لكن شاباً طيب حقاً، أو حتى لطيف، لا يكفي، بالرغم من ذلك، بالنسبة لعاطفة جميلة. فهي تزدري بضائع مثله، وتقرف من الحب، بل وتذهب حتى إلى حد الشك بنفسها حينما ترى، هي الممتلئة وعياً بشخصيتها، ما يقدمه لها الواقع، ومن ثم ستقول، إذا كان الحب هو هذا، فهو ليس بالشيء الكبير. فنحن نفاخر كثيراً بحبها وبغرور يجعلها مثيرة للاهتمام ويظهرها بلون أشد وردية : أنها تتجّه نحو سقوطها، وهذا كله يجعلها مثيرة للاهتمام بشكل أكبر.
(يوميات غاوي)
تفاهة
لا يمكن للمرء فهم المرء الآخر إلا عبر مقولة الفكاهة. (...) فإذا لم نواجّه المرأة بمثل هذه الطريقة، فأنها ستخلق لنا ضرراً لا يمكن أصالحه؛ أما إذا ما أتبعتم نظريتي، فستكون غير مؤذية ومسلية. من الحكمة أيضاً التفكير بالمرأة لوقت ما عبر علاقة المزح. لا ثمن للتسلية.
(In vino veritas)
قبلة
القبلة الأولى، أية لذة سامية! أي سحر رقيق عندما نتأمل شابة بقلبها الطافح بالفرح! أليس الأفكار الأشد سوداوية هي ضباب خفيف تبدّده الابتسامة ؟ أليس الكآبة مرضاً يتمّ شفائه بفضل النظر إلى تلك العافية.
(يوميات)
قبلات
يقول فيلسوف قديم، عندما يسجل المرء بدّقة مشاعره، ، يصبح فيلسوفاً دون أن يعرف هذا. لقد عاشرت منذ زمن طويل جماعة من عاقدي الخطب ويحق لي الآن الحصول على استخلاص مفيد. لهذا حلمت بتثبيت ملاحظاتي في عمل يحمل عنوان «مساهمة في نظرية التقبيل، أهديه إلى كل العشاق الرقيقين». من ناحية أخرى، من المدهش أن لا تكون هناك من معالجة لهذا الموضوع. إذا ما أنجزتُ هذه الدراسة، أكون قد غطيت فراغاً طالما تمّ الإحساس به في الميدان الأدبي. أيمكن أن يكون هذا الفراغ ناتجاً عن إهمال الفلاسفة لهذا الموضوع، أو لأنهم لا يفهمون منه شيئاً ؟
بيد أني على استعداد من الآن تقدّيم بعض المؤشرات لهم. القبلة الحقيقية تحتم وجود رجل وامرأة. أما القبلة التي يتبادلها الرجال فيما بينهم فأنها تافهة؛ الأنكى من ذلك، أنها تثير التقزز. على صعيد آخر، أعتقد أن القبلة تحصل بصورة أفضل على معناها عندما يكون الرجل هو الذي يعطيها للفتاة، وليس العكس. أمّا إذا حولت السنين هذه العادة إلى شيء محايد، ستفقد القبلة كل مغزاها. وهذا ما يحدث في البيت، عندما يمسح الزوجان، بسبب فقدانهما للمناشف، فميّهما الواحد بالآخر، عند نهاية الأكل، ويقول أحدهما للآخر «لينعمك عليك بنعمته الكبيرة»! عندما يكون الفارق بالعمر ملحوظاً، تغدو القبلة عبثاً. ينبغي على القبلة أن تعبر عن عاطفة دقيقة. أما عندما يتبادل تؤمان، أخ وأخته، القبلات، لا تكون قبلة حقيقة. وهذا ما ينطبق أيضاً على القبلة التي يتفضل فيها أحد عليكم بمناسبة عيد الميلاد؛ والشيء ذاته بالنسبة لما يسمّى بالقبلة الخفية. (...) إذا كان المرء يوّد أن يضع تصنيفاً لفعل التقبيل، يمكنه أن يختار ما بين العديد من القواعد. إذ ينبغي عليه وضع الضوضاء في عين الاعتبار. لسوء الحظ أن هذه الكلمة من الفقر بحيث انها لا توضح ملاحظاتي. من وجهة نظري تفتقد كل اللغات للحكاية الصوتية لتشخيص كل التنويعات التي راقبتها عند عمي. فهي من جميع الأنواع : قبلات بضربة سوط، قبلات نافخة، قبلات ماصّة، قبلات ترعد، قبلات بملأ الفم، بالشفة المضمومة، قبلات خامدة، الخ... يمكن للمرء أيضاً أن ينطلقُ من الاتصال ومن ثم يميّز القبلة الملامسة أو العابرة، والقبلة المحجمة. وكذلك يمكنه أن يضع بعين الاعتبار الديمومة الطويلة نوع ما ومن بعد يميّز ما بين القبلة الخاطفة والقبلة المطولة. الزمن أيضاً يقدم طريقة أخرى للتصنيف، وهذا ما يعنيني في الحقيقة. حينئذ نقوم بالتفريق ما بين القبلة الأولى وبقية القبل. ليس هنا ثمة من مقياس مشترك ما بين هذه الطريقة وغيرها من طرق التصنيف؛ فالضوضاء، التلامس، الديمومة لا يحسب لها حساب. ومع ذلك، فأن القبلة الأولى تختلف نوعياً عن باقي القبل. القليل من الناس من ينبته لهذا الأمر؛ وسيكون من المؤسف أن لا يكون هناك أحداً للتفكير فيه.
يوميات غواي».
ثرثرة حبية
ما الذي يمكن أن يقوله الخطيبان ؟ بالقدر الذي أعرفه، أنهما يبذلان جلّ جهدهما للتخلص من روابطهما الأبوية المضجرة. (...) عمتي اسمها مارينا، عمي كريستوف، هل أن أبي قائد ؟ العديد من الحوادث المهمة الغربية عن أسرار الحب.
(يوميات غاوي).
السعادة في التناقض
أن يحسب المرء نفسه بأنه الزوج الجدير بهذا الاسم، هذه نكتة؛ أن يلعب دور الغواي، نكتة أيضاً؛ أن ينظر للمرأة باعتبارها موضوعاً لتجارب مسلية، فهذه نكتة دائمة. في العمق، تنطوي الطريقتان الباقيتان بالنسبة للرجل إزاء الجنس الضعيف على نفس تواطؤات الزواج، إن لم يكن أكثر. فالغواي يزعمُ أنه يقوم بدوره جيداً عندما يخدع، لكن حقيقة الخداع، والرغبة في الخداع، وتجشم عناء الخداع، تشهد على عدم استقلاليته التي تقبض عليه المرأة من
خلالها، الأمر نفسه بالنسبة لهواي التجارب.
أمّا إذا فكر المرء بعلاقة إيجابية بالمرأة، فعليه أن يفكر بهذا الموقف ملياً لكي لا يُرغم، فيما بعد، على إقامة هذه العلاقة معها. فأن يكون المرء زوجاً مثالياً، ويبقى غواياً في السر لفتاة، أو أن يكون غواياً وفي ذات الوقت يخفي
كل ناره الرومانسية، هذا ما يمكن على الأقل أن يسمّى القيام بشيء ما.
فطرة سليمة
تتمتع المرأة بفطرة سليمة أكثر من الرجل، فهي لم تبرع في مجال آخر. العقل هو التبعية الحقيقة.
القلب
من المؤكد أن المرأة، إذا ما قُورنت بالرجل، تميل نحو القلب بالضرورة.
ظرف المرأة
في طفولتها، تحظى البنت على اهتمام أقل من ذلك الذي يحظى عليه الولد. وعندما تكبر قليلاً، يصعب معرفة ما الذي يجب على المرء أن يفعله بها؛ وفي الأخير تصل إلى المرحلة الحاسمة التي تفرض فيها سيادتها. آنذاك يقترب الرجل منها متولهاً؛ أنه الخطيب. (..) الجلاد نفسه، عندما يعدّ زوارقه ويذهب يطلب يدها للزواج، ينحني أمامها بطواعية تجعله يحلم مبكراً بالقيام بمهامه المنزلية، الطبيعية في نظره، وحتى دون أن يبحث عن تبرير يعفيه من القيام بها
باسم إنشغالاتة الاجتماعية النادرة. يسلك المثقف نفس السلوك؛ يسقط على ركبته، متولهاً، وهو ينظر إلى عشيقته عبر ألوان المخيلة الأشد جمالاً؛ ومن ثم ينسى بشكل سريع هذا الموقف؛ فهو كان يعرف في الحقيقة انه بقبوله بهذا، يكون قد ضحى بنفسه للوهم. إذا كنتُ أنا امرأة، فأنني قد أختار أن يبعيني أبي لذلك الذي يدفع أكثر، مثلما يحدث هذا في الشرق، فحس التجارة له معناً على الأقل. أية تعاسة أن يكون أحدنا امرأة، ومع ذلك، فالتعاسة هي أن تكون امرأة دون ملاحظة ذلك.
(In vino vertas)
تغنج
الفتاة التي توّد أن تكون محط أعجاب الآخرين، عندما تعطي لنفسها أهمية، لا تعجب إلاّ نفسها: ذلك هو اعتراض
علم الجمال على كل تغنج.
(يوميات غواي)
قسوة نسائية
لا يمكن أبداً للرجل أن يكون بقسوة المرأة. ذلك ما تشهد عليه الميثالوجيا، الحكايات الشعبية، والأساطير، إذا ما أطلع عليها المرء. هل نريد تصوير مبدأ طبيعي لا يعرف حدوداً في قسوته ؟ علينا أن ننظر إلى كائن عذري. من المرعب قراءة قصة فتاة تظل غير مكترثة، في الوقت الذي يغامر فيه خطابها بحياتهم، ذلك ما نجد له أمثلة عديدة في حكايات كل الشعوب. (...) دون جوان (Don Juan) يغري ثم يهجر، بيد أن كل فرحه يكمن بالإغواء وليس في الهجران؛ لهذا فأن قسوته هي غير تلك التي أتحدث عنها.
(يوميات غواي)
امرأة المصاحبة
طالما تساءلت مع نفسي لماذا لا تفسد الفتاة بشيء ما أكثر من فسادها بزياراتها المفرطة لصديقاتها. (...) إن الطموح الأشد نبلاً للمرأة هو أن تكون في صحبة الرجل، لهذا فأن ملازمتها لبنات جنسها يعمق فيها ذهنية تنطبق على ذلك الوسط النسائي ويجعل منها امرأة مصاحبة، بدلا من أن تكون صديقة.
(يوميات غواي)
خطر الزواج
الصداقة خطرة والأخطر منها هو الزواج؛ إذ ستكون المرأة دائماً ضياعاً للرجل، ما أن يوقع معها على علاقات دائمة. لتتخيلوا شاباً، مليء الحماس كعداء عربي ولتزوجوه : لقد ضاع. في البداية، تختر المرأة بذلك، ثم يضعف، غرورها وتصاب بأزمة عصبية، وهنا يشاركها الرجل تلك الأزمة، وفي النهاية كل العائلة. إن حب المرأة ما هو إلاّ تظاهر وضعف.
(البديل)
التحول إلى غواي
لا يتعلم المرء الحديث عن المرأة إلاّ من خلال المرأة ذاتها، خاصة إذا كان عنده العديد من الخليلات اللواتي يتعلم منهن. في المرة الأول لا يعدو أن يكون تلميذاً، وفي المرة الثانية يصبح أكثر تأكداً، تماما مثلما يحدث في المرافعات العبقرية، عندما يستغل أحدهم تحفظات وأدب أحد خصومه ضد الآخر.
(In vino veritas)
تسلية
مثلما يجد فرد لذته بالمحافظة على توازن العصا التي يضعها على طرف أنفه ومن فوقها يضعُ قدحاً من الماء دون
أن يسكبه، أو عندما يقوم بالرقص وسط البيض أو غيرها من التمارين المسليّة والمفيدة، كذلك يجد المحب، بذات الطريقة وليس بشكل آخر، بصحبة الحبيبة نفس التسليات التي لا ثمن لها وذات الدروس المهمة.
(In vino veritas)
دون جوان
دون جوان هو غواي، ليس أبداً لأنني أرى فيه شخصاً متحايلاً ماكراً يحوك مؤامراته، أو فرداً بارعاً بذكائه دقيق بخداعه؛ أنه يخدع بفضل العبقرية الخاصة للشهوانية الذي يجسدها نوع ما. (...) أن حياته تتوقد كالنبيذ الذي يقّويه؛ وهي مفعمة بالحركة كاللهجات التي يستخدمها كمقبلات في حفلاته الفرحة؛ أنه يمجد ً الانتصار دائماً. بالنسبة له،
ليس هناك أية استعدادات، ولا مشاريع أبداً، ولا تأجيلات، ذلك لأنه مستعد دائماً؛ ولديه دائماً قوة شهوانية لا يمكنه بدون ممارستها أن يكون على حقيقته.
(Diapsalmata)
دون جوان
بيد أن للحب جدله الخاص. كنت فيما مضى هائماً بفتاة. في الصيف الأخير، في درسد (Dresde)، رأيتُ ممثلة تشبهها إلى حد بعيد. أردت، آنذاك، التعرف عليها، وبالتالي اكتشفت بأنهما غير متشابهتين إلى تلك الدرجة. اليوم، قابلت سيّدة في الشارع ذكرتني بتلك الممثلة. يمكن للقصة أن تتكرّر إلى ما لانهاية.
(يوميات غواي)
دون جوان
أسميه بالأحرى مخادع، فهذه الكلمة تنطوي، في الأقل، على نوع من الغموض. فلكي يكون المرء غواياً، ينبغي عليه دائماً امتلاك نوعاً من الوعي الحسابي؛ وعند ما يتوفر ذلك، آنئذ يحق لنا التكلم عن عمليات الخداع، والحيل، والهجومات المبنية بصورة جيدة. أن وعياً كهذا لا يتمتع فيه دون جوان. لذا فهو لا يغوي. أنه يمارس جاذبيته الشهوانية ذات القوة الأغوائية التي تجعله غواياً. أنه يتلذلذ في إشباع «الليبدو» عنده؛ لكن ما أن ينتهي من لذته حتى ويشرع بالبحث عن موضوع آخر وإلى ما لانهاية. لهذا فهو يستخدم الخداع، لكن دون تدبير مسبق؛ فالقوة الشهوانية ذاتها هي ما يغوي ضحاياه إلى حد يمكننا القول فيه أننا هنا نلتقي بموضوع المحاكاة (memesis) بالأحرى. أنه يمارس قوته "الليبدية"، ويستمر دائماً في ممارستها ويتمتع دون هوادة من إشباعها. فحتى يكون غواياً، لا بدّ أن يكون لديه من الوقت ما يكفي لوضع خطة، ومن ثم وقت آخر يعي فيه فعله. لهذا ينبغي، إذاً، أن يمتلك الغواي قوة لا يتمتع فيها دون جوان، حتى وإن كان موهوباً في مجال آخر : قوة الخرافة. (...) فبؤس غواي كهذا يكمن في الخرافة، أي في الكذبة. (...) ما هي، إذاً، القوة التي يغوي بفضلها دون جوان ؟ أنها قوة "الليبدو" الخاصة، طاقة "الليبدو" الشهوانية.
(Diapsamatq)
دون جوان
تذكرت لوحة كنت قد رأيتها منذ زمن، تمثل شاباً هو نموذج المجامل الناجح. كان يلعب مع مجموعة من الفتيات كلهن في ذلك العمر المحفوف بالمخاطر، فهن قد خلفن من وراءهن طفولتهن، لكنهن لم يتشكلن بعد بصورة كاملة. كن يقتلن اواقتهن بالقفز على حفرة. أمّا هو فكان يقف على الحافة من أجل مساعدتهن، ماسكاً عليهن من خصورهن ويحملهن بخفة ومن ثم يضعهن على الجانب الآخر. المشهد كان ساحراً وقد ولدّت عندي رؤية ذلك الشاب نفس الغبطة التي ولدتها رؤية الفتيات. آنذاك تخيلت دون جوان : أنهن يركضن برضاهن ويلقين بأنفسهن بين ذراعيه، وهو يمسك عليهن، بسرعة لا تقل عن سرعة ذلك الفتى، ولا بأقل حذاقة منه، ويضعهن على الجانب الآخر من حفرة الحياة.
(الطور المباشر لإيروس)
البديل.
الدون جوانية أو المشابهة الخافقة
ثمة مغنية نمساوية في برلين، آنسة شولتس (Schulze)؛ تلعب دور ألفير (Elvire) وهي تشبه بصورة مدهشة فتاة أخرى، جعلتني حقاً أتخيل قيامها بذلك الدور. عندما يتغلب عليّ مزاجي الوحشي، تتولد لدي تقريباً الرغبة بالاقتراب منها ولكن بالدقة ليس عبر «النوايا الأشد واقعية». عموماً، لا يفقد المرء شيئاً مع مغنية، وهي تشبهها. يمكن لهذه «البورتريه» أن تكون تسلية صغيرة، عندما أكون متعباً من التأمل أو منهكاً بالتفكير بهذا
.
* الامبراطور
سورين كيركغارد
الإيروسية
ترجمة وتقديم: حسين عجة
تبريرنا لتقديم هذه النصوص في مجلة "أدب فن" يعود إلى سببين: الأول، أنها (النصوص ومعالجة تلك الشهوة) ذات قيمة أدبية، على الأقل من وجهة نظرنا، أكثر من كونها قيمة فلسفية، "إتيكية" (أخلاقية)، أو دينية، وذلك بالمعنى المزدوج للمفردة: من ناحية أسلوب كتابتها، أو المزاج الحقيقي الذي كان يتمتع فيه صاحبها، لحظة معايشته وتأمله لتلك العاطفة (والذي هو ليس بالضرورة كيركغارد المفكر، الأخلاقي، أو الفيلسوف). أحدى سمات ذلك
الأسلوب يمكن التعرف عليها من صياغة الجمل والعبارات التي يستخدمها الكاتب للتعبير عن فكرته. فهي ذات طابع شعري-نثري واضح، غير مثقل بالتأملات التجريدية، أو المقولات المحضة، بالرغم من اللهجة الساخرة، أو العبثية التي تغلفها. من ناحية أخرى، لا يمكن أن يكون اختيار المفكر الدنماركي لشخصية دون جوان، وهي شخصية مركزية، بالنسبة له، تنعكس عبرها كل أطياف، ذبذبات، خدع وتكتيك ذلك النوع من الرغبة (الجنسية، قبل أن تكون أي شيء آخر)، اختياراً متولداً عن الصدفة لوحدها: لا يمكن تناول دون جوان، الفرد والأسطورة إلا عبر الإبداع أو التركيب الأدبي. إلى حد يمكن فيه القول بأن دون جوان يشكل أحدى مجازات أدب العشق الكبرى. ليس لأنه بطل لرواية تُسرد وحسب، بل وأيضاً لقدرته المتفردة على تكرار نفس التجربة، لعب ذات الدور إلى ما لا حصر له من المرات، إن كان ذلك مع العشيقة الواحدة، أو مع غيرها من الكثيرات؛ تكرار التجربة ولعب الدور ذاته في كل مرة، مع الفوارق والاختلافات المرهفة التي تصاحبهما. وهذا ما يجعل منه، على صعيد آخر، شخصية موسيقية بامتياز.
فالموسيقى، بالمعنى الواسع للمفردة، وحدها من يتمكن من خلق تنوعات ثرية، وإيقاعات متشابهة في تميزها، أو متميزة بالرغم من تشابهها. لقد كان كيركغارد على معرفة دقيقة بالخاصية الموسيقية لدون جوان، وبشكل استثنائي دون جوان موزارت. من ناحية أخرى، لا يخطأ المرء إذا ما قال بأن الحب الشهواني الذي يتحدث عنه كاتبنا هو الحب الشهواني عينه الذي عرفته نهاية القرن التاسع عشر الأوروبي، والذي عاشه القرن العشرين بكل صوره وألوانه. وذلك يعني بأن جوهر حقيقته لا تكمن في قدرة "البطل" على تحقيق رغبته عبر وسائل الإغواء والإغراء، كأسلحة ناعمة وسرية لملاحقة الطريدة، امتصاص اللذة منها، ومن بعد تركها على قارعة الطريق، ولكن في تلك المخيلة الواسعة على خلق، فبركة، ومضاعفة التجربة إلى ما لا نهاية، وبغض النظر عن شروط ممكناتها. لكن، ما أن يتعلق الأمر بالمخيلة، حتى يقفز ذهن المرء نحو التجربة الأدبية أو الإبداعية بشكل عام، أي تلك التجربة التي لا ترتكز بالضرورة على تحليل المفاهيم عقلانياً، وذلك بالرغم من تأكيدات وبرهنة الفيلسوف الألماني "كانط" على أنها بمثابة الملكة السرية والغامضة التي تحرك جميع أفعالنا. يبقى أن نقول بأن كيركغارد يذهب أبعد من الحقيقة، عندما يقول، مندهشاً، بأن الفلاسفة لم يعالجوا، أو لم ينتبهوا لإشكالية الإيروسية هذه. وكأن أفلاطون لم يكتب "المأدبة"، وكأن سقراط لم يعالجها، بنفس أسلوب المماحكة والتهكم المُغلف الذي يتبعه مؤلف "يوميات غواي"، باعتباره، أي الحب الشهواني (الايروسية)، "ما يرفع الجسد إلى مقام الحب".
ثمة من ملاحظة أخيرة : لا ينبغي، في اعتقادنا، التعامل مع مفردة "امرأة" ومفردة "رجل"، هنا، من منظور التكون الفيزيائي (الجسدي) لوحده، فقبل أن تكونا دالتين لمدلول "معطى" مرة واحدة وإلى الأبد، هما، في الحقيقة، حاملان لشعور أو عاطفة بعينها : كما يمكن للانفعال الذكوري العثور على تحققه الأمثل في جسد امرأة أو ميولها العامة، كذلك يمكن للانفعال الانثوي احتلال جسد الرجل وتوجيه رغباته الأكثر سرية وعمقاً. كذلك لا بد من التأكيد
على أن ما نقرأه هنا يتعلق بقوة "بفن العيش"، كما يقول المؤلف، أي وضعية الإنسان في العالم، إن كان رجلاً أو امرأة. أو ما يطلق عليه الفلاسفة اسم "الكائن-هنا"، تشابك وغنى (أو فقر) علاقاته بالآخرين، وليس كينونته المحضة.
الزوج والعاشق
بالنسبة لي، سيء ذلك الزوج الذي لم يجعل منه الزواج شخصاً مازحاً تماماً مثلما هو سيء ذلك العاشق الذي لا يتحول إلى شاعر؛ فكل زوج، مثلما أفترض، يصبح مازحاً نوع ما وكل عاشق يصبح شاعراً نوع ما.
( من أحاديث متنوعة عن الزواج)
العاشق
كم هو جميل أن يكون المرء عاشقاً وكم هو ممتع معرفة ذلك، وهذا ليس نفس الشيء.
(من يوميات غاوي)
شهية الحياة
يمكننا تسمية المرأة «الشهيّةِ الفرحةِ للعيش». توجد عند الرجل ، بالتأكيد، مثل هذه الشهية للعيش، لكنه أساساً أكثر استعداداً في أن يكون عقل، وإذا كان لوحده، أي إذا ما ترك لنفسه، فأنه لن يعرف كيف يتدبر أمره ولن يفلح أبداً في البدء بشيء ما.
لكن حينئذ تظهر شهية العيش الراقدة فيه خارج عنه تحت شكل آخر، شكل المرأة التي هي شهية العيش، ومن ثم تستيقظ فيه شهية الحياة.
(يوميات) فن العيش.
تزوج، وستندم على ذلك؛ لا تتزوج، وستندم على ذلك أيضاً؛ تتزوج أو لا تتزوج ستندم على هذا وذاك؛ إذا تزوجت أو إذا لم تقم بذلك أبداً، فستندم في كلا الحالتين. أضحك من جنون العالم، وستندم على ذلك؛ ابكي عليه، ستندم كذلك؛ أضحك من جنون العالم أو أبكي عليه، ستندم على هذا وذاك؛ إذا ما ضحكت أو بكيت من جنون العالم، فستندم في كلا الحالتين. لتؤمن بفتاة، وستندم على ذلك، لا تؤمن بها، ستندم أيضاً عليه، أن تؤمن بفتاة أو أن لا تؤمن بها، ستندم على هذا وذاك؛ إذا آمنت أو لم تؤمن بفتاة ستندم في كلا الحالتين. لتشنق نفسك، وستندم على ذلك؛ لا تقم به، ستندم على ذلك أيضاً؛ أن تشنق نفسك أو لا، ستندم على هذا وذاك؛ إذا ما شنقتَ نفسك أو لم تشنقها، فستندم في كلا الحالتين. ذلك هو، أيها السادة، باختصار فن العيش.
(Diapsalmata)
الحب والتفكير
يبقى أن نعرف إذا كانت أنوثتها من القوة ما يخوّل لها القيام بعمل التفكير، أو أنها ببساطة لا تقدّمُ سوى اللذة الناتجة عن جمالها ورقتها؛ المقصود هو معرفة إذا كان ينبغي على المرء أن يوتر القوس ويصوب عالياً. إذ سيغدو شيئاً كبيراً الالتقاء بامرأة تحتفظ بنقاء طبيعتها المباشرة؛ لكن إذا ما توقع المرء ثمة تحول سيطرأ عليها، فسيحصل على ما يثير الاهتمام. في هذه الحالة، من الأفضل العثور على خطيب. كذلك فأنه حكم مسبق الاعتقاد أن هذا الإجراء يضر بالبنت الشابة. بالتأكيد، أنه من الأفضل لها أن لا تسمع أبداً باسم الحب، إذا كانت عشبةً مرهفة من نباتات المناطق الحارة التي لا يظهر تألقها إلا في وقت نعومتها؛ أمّا إذا كانت قوية، فأنها ستربح تلك المغامرة ولن أتردّد في الحصول لها على خطيب، أن لم يكن عندها واحداً سابقاً. أنا لا أبالغ، فالفائدة معدومة هنا، لكن شاباً طيب حقاً، أو حتى لطيف، لا يكفي، بالرغم من ذلك، بالنسبة لعاطفة جميلة. فهي تزدري بضائع مثله، وتقرف من الحب، بل وتذهب حتى إلى حد الشك بنفسها حينما ترى، هي الممتلئة وعياً بشخصيتها، ما يقدمه لها الواقع، ومن ثم ستقول، إذا كان الحب هو هذا، فهو ليس بالشيء الكبير. فنحن نفاخر كثيراً بحبها وبغرور يجعلها مثيرة للاهتمام ويظهرها بلون أشد وردية : أنها تتجّه نحو سقوطها، وهذا كله يجعلها مثيرة للاهتمام بشكل أكبر.
(يوميات غاوي)
تفاهة
لا يمكن للمرء فهم المرء الآخر إلا عبر مقولة الفكاهة. (...) فإذا لم نواجّه المرأة بمثل هذه الطريقة، فأنها ستخلق لنا ضرراً لا يمكن أصالحه؛ أما إذا ما أتبعتم نظريتي، فستكون غير مؤذية ومسلية. من الحكمة أيضاً التفكير بالمرأة لوقت ما عبر علاقة المزح. لا ثمن للتسلية.
(In vino veritas)
قبلة
القبلة الأولى، أية لذة سامية! أي سحر رقيق عندما نتأمل شابة بقلبها الطافح بالفرح! أليس الأفكار الأشد سوداوية هي ضباب خفيف تبدّده الابتسامة ؟ أليس الكآبة مرضاً يتمّ شفائه بفضل النظر إلى تلك العافية.
(يوميات)
قبلات
يقول فيلسوف قديم، عندما يسجل المرء بدّقة مشاعره، ، يصبح فيلسوفاً دون أن يعرف هذا. لقد عاشرت منذ زمن طويل جماعة من عاقدي الخطب ويحق لي الآن الحصول على استخلاص مفيد. لهذا حلمت بتثبيت ملاحظاتي في عمل يحمل عنوان «مساهمة في نظرية التقبيل، أهديه إلى كل العشاق الرقيقين». من ناحية أخرى، من المدهش أن لا تكون هناك من معالجة لهذا الموضوع. إذا ما أنجزتُ هذه الدراسة، أكون قد غطيت فراغاً طالما تمّ الإحساس به في الميدان الأدبي. أيمكن أن يكون هذا الفراغ ناتجاً عن إهمال الفلاسفة لهذا الموضوع، أو لأنهم لا يفهمون منه شيئاً ؟
بيد أني على استعداد من الآن تقدّيم بعض المؤشرات لهم. القبلة الحقيقية تحتم وجود رجل وامرأة. أما القبلة التي يتبادلها الرجال فيما بينهم فأنها تافهة؛ الأنكى من ذلك، أنها تثير التقزز. على صعيد آخر، أعتقد أن القبلة تحصل بصورة أفضل على معناها عندما يكون الرجل هو الذي يعطيها للفتاة، وليس العكس. أمّا إذا حولت السنين هذه العادة إلى شيء محايد، ستفقد القبلة كل مغزاها. وهذا ما يحدث في البيت، عندما يمسح الزوجان، بسبب فقدانهما للمناشف، فميّهما الواحد بالآخر، عند نهاية الأكل، ويقول أحدهما للآخر «لينعمك عليك بنعمته الكبيرة»! عندما يكون الفارق بالعمر ملحوظاً، تغدو القبلة عبثاً. ينبغي على القبلة أن تعبر عن عاطفة دقيقة. أما عندما يتبادل تؤمان، أخ وأخته، القبلات، لا تكون قبلة حقيقة. وهذا ما ينطبق أيضاً على القبلة التي يتفضل فيها أحد عليكم بمناسبة عيد الميلاد؛ والشيء ذاته بالنسبة لما يسمّى بالقبلة الخفية. (...) إذا كان المرء يوّد أن يضع تصنيفاً لفعل التقبيل، يمكنه أن يختار ما بين العديد من القواعد. إذ ينبغي عليه وضع الضوضاء في عين الاعتبار. لسوء الحظ أن هذه الكلمة من الفقر بحيث انها لا توضح ملاحظاتي. من وجهة نظري تفتقد كل اللغات للحكاية الصوتية لتشخيص كل التنويعات التي راقبتها عند عمي. فهي من جميع الأنواع : قبلات بضربة سوط، قبلات نافخة، قبلات ماصّة، قبلات ترعد، قبلات بملأ الفم، بالشفة المضمومة، قبلات خامدة، الخ... يمكن للمرء أيضاً أن ينطلقُ من الاتصال ومن ثم يميّز القبلة الملامسة أو العابرة، والقبلة المحجمة. وكذلك يمكنه أن يضع بعين الاعتبار الديمومة الطويلة نوع ما ومن بعد يميّز ما بين القبلة الخاطفة والقبلة المطولة. الزمن أيضاً يقدم طريقة أخرى للتصنيف، وهذا ما يعنيني في الحقيقة. حينئذ نقوم بالتفريق ما بين القبلة الأولى وبقية القبل. ليس هنا ثمة من مقياس مشترك ما بين هذه الطريقة وغيرها من طرق التصنيف؛ فالضوضاء، التلامس، الديمومة لا يحسب لها حساب. ومع ذلك، فأن القبلة الأولى تختلف نوعياً عن باقي القبل. القليل من الناس من ينبته لهذا الأمر؛ وسيكون من المؤسف أن لا يكون هناك أحداً للتفكير فيه.
يوميات غواي».
ثرثرة حبية
ما الذي يمكن أن يقوله الخطيبان ؟ بالقدر الذي أعرفه، أنهما يبذلان جلّ جهدهما للتخلص من روابطهما الأبوية المضجرة. (...) عمتي اسمها مارينا، عمي كريستوف، هل أن أبي قائد ؟ العديد من الحوادث المهمة الغربية عن أسرار الحب.
(يوميات غاوي).
السعادة في التناقض
أن يحسب المرء نفسه بأنه الزوج الجدير بهذا الاسم، هذه نكتة؛ أن يلعب دور الغواي، نكتة أيضاً؛ أن ينظر للمرأة باعتبارها موضوعاً لتجارب مسلية، فهذه نكتة دائمة. في العمق، تنطوي الطريقتان الباقيتان بالنسبة للرجل إزاء الجنس الضعيف على نفس تواطؤات الزواج، إن لم يكن أكثر. فالغواي يزعمُ أنه يقوم بدوره جيداً عندما يخدع، لكن حقيقة الخداع، والرغبة في الخداع، وتجشم عناء الخداع، تشهد على عدم استقلاليته التي تقبض عليه المرأة من
خلالها، الأمر نفسه بالنسبة لهواي التجارب.
أمّا إذا فكر المرء بعلاقة إيجابية بالمرأة، فعليه أن يفكر بهذا الموقف ملياً لكي لا يُرغم، فيما بعد، على إقامة هذه العلاقة معها. فأن يكون المرء زوجاً مثالياً، ويبقى غواياً في السر لفتاة، أو أن يكون غواياً وفي ذات الوقت يخفي
كل ناره الرومانسية، هذا ما يمكن على الأقل أن يسمّى القيام بشيء ما.
فطرة سليمة
تتمتع المرأة بفطرة سليمة أكثر من الرجل، فهي لم تبرع في مجال آخر. العقل هو التبعية الحقيقة.
القلب
من المؤكد أن المرأة، إذا ما قُورنت بالرجل، تميل نحو القلب بالضرورة.
ظرف المرأة
في طفولتها، تحظى البنت على اهتمام أقل من ذلك الذي يحظى عليه الولد. وعندما تكبر قليلاً، يصعب معرفة ما الذي يجب على المرء أن يفعله بها؛ وفي الأخير تصل إلى المرحلة الحاسمة التي تفرض فيها سيادتها. آنذاك يقترب الرجل منها متولهاً؛ أنه الخطيب. (..) الجلاد نفسه، عندما يعدّ زوارقه ويذهب يطلب يدها للزواج، ينحني أمامها بطواعية تجعله يحلم مبكراً بالقيام بمهامه المنزلية، الطبيعية في نظره، وحتى دون أن يبحث عن تبرير يعفيه من القيام بها
باسم إنشغالاتة الاجتماعية النادرة. يسلك المثقف نفس السلوك؛ يسقط على ركبته، متولهاً، وهو ينظر إلى عشيقته عبر ألوان المخيلة الأشد جمالاً؛ ومن ثم ينسى بشكل سريع هذا الموقف؛ فهو كان يعرف في الحقيقة انه بقبوله بهذا، يكون قد ضحى بنفسه للوهم. إذا كنتُ أنا امرأة، فأنني قد أختار أن يبعيني أبي لذلك الذي يدفع أكثر، مثلما يحدث هذا في الشرق، فحس التجارة له معناً على الأقل. أية تعاسة أن يكون أحدنا امرأة، ومع ذلك، فالتعاسة هي أن تكون امرأة دون ملاحظة ذلك.
(In vino vertas)
تغنج
الفتاة التي توّد أن تكون محط أعجاب الآخرين، عندما تعطي لنفسها أهمية، لا تعجب إلاّ نفسها: ذلك هو اعتراض
علم الجمال على كل تغنج.
(يوميات غواي)
قسوة نسائية
لا يمكن أبداً للرجل أن يكون بقسوة المرأة. ذلك ما تشهد عليه الميثالوجيا، الحكايات الشعبية، والأساطير، إذا ما أطلع عليها المرء. هل نريد تصوير مبدأ طبيعي لا يعرف حدوداً في قسوته ؟ علينا أن ننظر إلى كائن عذري. من المرعب قراءة قصة فتاة تظل غير مكترثة، في الوقت الذي يغامر فيه خطابها بحياتهم، ذلك ما نجد له أمثلة عديدة في حكايات كل الشعوب. (...) دون جوان (Don Juan) يغري ثم يهجر، بيد أن كل فرحه يكمن بالإغواء وليس في الهجران؛ لهذا فأن قسوته هي غير تلك التي أتحدث عنها.
(يوميات غواي)
امرأة المصاحبة
طالما تساءلت مع نفسي لماذا لا تفسد الفتاة بشيء ما أكثر من فسادها بزياراتها المفرطة لصديقاتها. (...) إن الطموح الأشد نبلاً للمرأة هو أن تكون في صحبة الرجل، لهذا فأن ملازمتها لبنات جنسها يعمق فيها ذهنية تنطبق على ذلك الوسط النسائي ويجعل منها امرأة مصاحبة، بدلا من أن تكون صديقة.
(يوميات غواي)
خطر الزواج
الصداقة خطرة والأخطر منها هو الزواج؛ إذ ستكون المرأة دائماً ضياعاً للرجل، ما أن يوقع معها على علاقات دائمة. لتتخيلوا شاباً، مليء الحماس كعداء عربي ولتزوجوه : لقد ضاع. في البداية، تختر المرأة بذلك، ثم يضعف، غرورها وتصاب بأزمة عصبية، وهنا يشاركها الرجل تلك الأزمة، وفي النهاية كل العائلة. إن حب المرأة ما هو إلاّ تظاهر وضعف.
(البديل)
التحول إلى غواي
لا يتعلم المرء الحديث عن المرأة إلاّ من خلال المرأة ذاتها، خاصة إذا كان عنده العديد من الخليلات اللواتي يتعلم منهن. في المرة الأول لا يعدو أن يكون تلميذاً، وفي المرة الثانية يصبح أكثر تأكداً، تماما مثلما يحدث في المرافعات العبقرية، عندما يستغل أحدهم تحفظات وأدب أحد خصومه ضد الآخر.
(In vino veritas)
تسلية
مثلما يجد فرد لذته بالمحافظة على توازن العصا التي يضعها على طرف أنفه ومن فوقها يضعُ قدحاً من الماء دون
أن يسكبه، أو عندما يقوم بالرقص وسط البيض أو غيرها من التمارين المسليّة والمفيدة، كذلك يجد المحب، بذات الطريقة وليس بشكل آخر، بصحبة الحبيبة نفس التسليات التي لا ثمن لها وذات الدروس المهمة.
(In vino veritas)
دون جوان
دون جوان هو غواي، ليس أبداً لأنني أرى فيه شخصاً متحايلاً ماكراً يحوك مؤامراته، أو فرداً بارعاً بذكائه دقيق بخداعه؛ أنه يخدع بفضل العبقرية الخاصة للشهوانية الذي يجسدها نوع ما. (...) أن حياته تتوقد كالنبيذ الذي يقّويه؛ وهي مفعمة بالحركة كاللهجات التي يستخدمها كمقبلات في حفلاته الفرحة؛ أنه يمجد ً الانتصار دائماً. بالنسبة له،
ليس هناك أية استعدادات، ولا مشاريع أبداً، ولا تأجيلات، ذلك لأنه مستعد دائماً؛ ولديه دائماً قوة شهوانية لا يمكنه بدون ممارستها أن يكون على حقيقته.
(Diapsalmata)
دون جوان
بيد أن للحب جدله الخاص. كنت فيما مضى هائماً بفتاة. في الصيف الأخير، في درسد (Dresde)، رأيتُ ممثلة تشبهها إلى حد بعيد. أردت، آنذاك، التعرف عليها، وبالتالي اكتشفت بأنهما غير متشابهتين إلى تلك الدرجة. اليوم، قابلت سيّدة في الشارع ذكرتني بتلك الممثلة. يمكن للقصة أن تتكرّر إلى ما لانهاية.
(يوميات غواي)
دون جوان
أسميه بالأحرى مخادع، فهذه الكلمة تنطوي، في الأقل، على نوع من الغموض. فلكي يكون المرء غواياً، ينبغي عليه دائماً امتلاك نوعاً من الوعي الحسابي؛ وعند ما يتوفر ذلك، آنئذ يحق لنا التكلم عن عمليات الخداع، والحيل، والهجومات المبنية بصورة جيدة. أن وعياً كهذا لا يتمتع فيه دون جوان. لذا فهو لا يغوي. أنه يمارس جاذبيته الشهوانية ذات القوة الأغوائية التي تجعله غواياً. أنه يتلذلذ في إشباع «الليبدو» عنده؛ لكن ما أن ينتهي من لذته حتى ويشرع بالبحث عن موضوع آخر وإلى ما لانهاية. لهذا فهو يستخدم الخداع، لكن دون تدبير مسبق؛ فالقوة الشهوانية ذاتها هي ما يغوي ضحاياه إلى حد يمكننا القول فيه أننا هنا نلتقي بموضوع المحاكاة (memesis) بالأحرى. أنه يمارس قوته "الليبدية"، ويستمر دائماً في ممارستها ويتمتع دون هوادة من إشباعها. فحتى يكون غواياً، لا بدّ أن يكون لديه من الوقت ما يكفي لوضع خطة، ومن ثم وقت آخر يعي فيه فعله. لهذا ينبغي، إذاً، أن يمتلك الغواي قوة لا يتمتع فيها دون جوان، حتى وإن كان موهوباً في مجال آخر : قوة الخرافة. (...) فبؤس غواي كهذا يكمن في الخرافة، أي في الكذبة. (...) ما هي، إذاً، القوة التي يغوي بفضلها دون جوان ؟ أنها قوة "الليبدو" الخاصة، طاقة "الليبدو" الشهوانية.
(Diapsamatq)
دون جوان
تذكرت لوحة كنت قد رأيتها منذ زمن، تمثل شاباً هو نموذج المجامل الناجح. كان يلعب مع مجموعة من الفتيات كلهن في ذلك العمر المحفوف بالمخاطر، فهن قد خلفن من وراءهن طفولتهن، لكنهن لم يتشكلن بعد بصورة كاملة. كن يقتلن اواقتهن بالقفز على حفرة. أمّا هو فكان يقف على الحافة من أجل مساعدتهن، ماسكاً عليهن من خصورهن ويحملهن بخفة ومن ثم يضعهن على الجانب الآخر. المشهد كان ساحراً وقد ولدّت عندي رؤية ذلك الشاب نفس الغبطة التي ولدتها رؤية الفتيات. آنذاك تخيلت دون جوان : أنهن يركضن برضاهن ويلقين بأنفسهن بين ذراعيه، وهو يمسك عليهن، بسرعة لا تقل عن سرعة ذلك الفتى، ولا بأقل حذاقة منه، ويضعهن على الجانب الآخر من حفرة الحياة.
(الطور المباشر لإيروس)
البديل.
الدون جوانية أو المشابهة الخافقة
ثمة مغنية نمساوية في برلين، آنسة شولتس (Schulze)؛ تلعب دور ألفير (Elvire) وهي تشبه بصورة مدهشة فتاة أخرى، جعلتني حقاً أتخيل قيامها بذلك الدور. عندما يتغلب عليّ مزاجي الوحشي، تتولد لدي تقريباً الرغبة بالاقتراب منها ولكن بالدقة ليس عبر «النوايا الأشد واقعية». عموماً، لا يفقد المرء شيئاً مع مغنية، وهي تشبهها. يمكن لهذه «البورتريه» أن تكون تسلية صغيرة، عندما أكون متعباً من التأمل أو منهكاً بالتفكير بهذا
.
* الامبراطور
سورين كيركغارد
الإيروسية
ترجمة وتقديم: حسين عجة