رسالة الجاحظ في مـدح النـبـيـذ وصـفـة أصحابـه

قال شيخنا الجاحظ في صدر رسالته إلى الحسن بن وهب في "مدح النبيذ وصفة أصحابه":
أنا –أبقاك الله – الطالبُ المشغول، والقائل المعذور، فإنْ رأيتَ خطأً فلا تنكر فإني بصدده وبعرضٍ منه، بل في الحال التي توجبه، والسبب الذي يؤدي إليه. وإن سمعتَ تسديدًا فهو الغريب الذي لا نجده. اللهم إلا أن يكون من بركة مكاتبتك، ويمن مطالبتك. ولأن ذكرك يشحذ الذهن، ويصورك في الوهم، ويجلو العقل، وتأميلك ينفي الشغل.
ولا يعجبني ما رأيتُ من قلة إطنابك في هذا النبيذ، وقلة تلهيك بهذا الشراب وأنت تجد من فضل القول وحُسن الوصف مالا يُصاب عند خطيبٍ، ولا يوجد عند بليغ. وأنتَ ولو مشيتَ الخُيلاء، وحقرت العظماء، وأرغبت الشعراء، وأعطيتَ الخطباء، ليكون القولُ منهم موصولاً غير مقطوع، مبسوطًا غير مقصور، لكنتَ بعد مقصرًا في أمره، مفرطـًا في واجب حقه. فلا تأديبَ الله قبلتَ، ولا قولَ الناصح سمِعتَ.
وسأصف لك شرفَ النبيذ في نفسه، وفضيلته على غيره، ثم أصف فضل شرابك على سائر الأشربة، كما أصف فضلَ النبيذ على سائر الأنبذة، لأن النبيذ إذا تمشى في عظامك، والتبسَ بأجزائك، ودب في جنانك، منحك صدق الحس، وفراغ النفس، وجعلك رخي البال، خلي الذراع، قليل الشواغل، قريرَ العين، واسعَ الصدر، فسيح الهمم حسن الظن. ثم سد عليك أبواب التهم، وحسن دونك الظن وخواطر الفهم. وكفاك مئونة الحراسة، وألم الشفقة، وخوف الحدثان، وذل الطمع وكد الطلب، وكل ما اعترض على السرور وأفسد اللذة، وقاسم الشهوة، وأخل بالنعمة.
وهو الذي يرد الشيوخ في طبائع الشبان، ويردُ الشبان في نشاط الصبيان، وليس يخاف شاربه إلا مجاوزة السرور إلى الأشر، ومجاوزة الأشر إلى البطر.
ولو لم يكن من أياديه ومننه، ومن جميل آلائه ونعمه، إلا أنك ما دمتَ تمزجه بروحك، وتزاوج بينه وبين دمك فقد أعفاك من الجد ونصبه، وحبب إليك المزاحَ والفاكهة، وبغض إليك الاستقصاءَ والمحاولة، وأزال عنك تعقد الحشمة وكد المروءة، وصار يومه جمالاً لأيام الفكرة، وتسهيلاً، لمعاودة الروية، لكان في ذلك ما يوجب الشكر، ويطيب الذكر. مع أن جميع ما وصفناه وأخبرنا به عنه يقوم بأيسر الجَرم، وأقل الثمن.
ثم يعطيك في السفر ما يُعطيك في الحضر، وسواءٌ عليك البساتينُ والجنان. ويصلحُ بالليل كما يصلح بالنهار، ويطيب في الصحو كما يطيب في الدّجْـن، ويلذ في الشتاء، ويجري مع كل حال. وكل شيءٍ سواه فإنما يصلحُ في بعض الأحوال.
ويدفعُ مضرة الخُمار، كما يجلب منفعة َ السرور.
إن كنتَ جذلاً كان بارًا بك، وإن كنتَ ذا هم نفاه عنك. وما الغيثُ في الحرث بأنفعَ منه في البدن، ومال الريش السخام بأدفأ منه للمقرور. ويستمرأ به الغذاءُ ويدفع به ثقل الماء، ويعالج به الأدواء، ويحمر به الوجنتان، ويعدل به قضاءُ الدَّين. إن انفردتَ به ألهاك، وإن نادمت به سواك. ثم هو أصنع للسرور من زلل، وأشد إطرابًا من مخارق، وقدر احتياجهما إليه كقدر استغنائه عنهما، لأنه أصل اللذات وهي فرعُه، وأول السرور ونتاجه.
ولله درُ أول ِ من صنعه، وسقيًا لمن استنبطه وأظهره. ماذا دبر؟ وعلى أي شيءٍ دل؟ وبأي معنىً أنعم؟ وأي دفين ٍأثار؟ وأي كنزٍ استخرج.
ومِـن استغناء النبيذ بنفسه، وقلة احتياجه إلى غيره، أن جميع ما سواه من الشراب يُصلحه الثلج، ولا يطيب إلا به.
وأول ما يثنى عليه به، ويُذكر منه، أنه كريم الجوهر، شريف النفس، رفيع القدر، بعيد الهم. وكذلك طبيعته المعروفة وسجيته الموصوفة. وأنه يسر النفوس ويحبب إليها الجود، ويزين لها الإحسان، ويرغبها في التوسع، ويورثها الغنى، وينفي عنها الفقر، ويملؤها عزًا، ويعدها خيرًا، ويحسن المسارة، ويصير به النبتُ خصبـًا والجناب مريعـًا، ومأهولاً مُعشباً.
وليس شئٌ من المأكول والمشروب أجمعَ للظرفاء، ولا أشد تألقـًا للأدباء، ولا أجلبَ للمؤنسين، ولا أدعى إلى خلاف الممتعين. ولا أجدرَ أن يستدامَ به حديثهم ويُخرجَ مكنونهم، ويطولَ به مجلسهم، منه.
وإن كلَ شرابٍ وإن كان حلا ورقَ، وصفا ودق، وطابَ وعذب، وبرد ونقخ، فإن استطابتك لأول جرعةٍ منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصان ٍ إلى أن يعود مكروهـًا وبلية، إلا النبيذ، فإن القدحَ الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، وإلى أن يُسلمك إلى النوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلبًا، وأخذه بالرأس تعسفـًا، حتى يُميت الحسَّ بحدته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البُهْرَ بكظته، ولا يسري في العروق لغلظته، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصميم.
ولا والله حتى يغازل العقلَ ويعارضه، ويدغدغه ويُخادعه، فيسره ثم يهزه، فإذا امتلأ سرورًا وعاد ملِكـًا محبورًا، خاتله السكر وراوغه، وداره وما كره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السكر، ويعتسف الداذي، ويفترس الزبيب، ولكن بالتفتير والغمز، والحيلة والختل، وتحبيب النوم، وتزيين الصمت.
وهذه صفة شرابك إلا مالا نحيط به، ونعوته تتبدل إلا ما يقبح منها الجهل به.
وخير الأشربة ما جمع المحمودَ من خصالها وخصال غيرها. وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل، وتمشيها في العظام ولونَها الغريب، وأخذ برد الماء ورقة الهواء، وحركة النار، وحمرة خدك إذا خجلت، وصفرة لونك إذا فزعتَ، وبياض عارضيك إذا ضحكت.
وحسبي بصفاتك عوضـًا عن كل حسن، وخلقـًا من كل صالح. ولا تعجبْ أن كانت نهاية الهمة وغاية المنية، فإن حسن الوجوه إذا وافق حسن القوام وشدة العقل، وجودة الرأي، وكثرة الفضل وسعة الخُـلـُق، والمغرس الطيب والنصاب الكريم، والظرف الناصع، واللسان الفخم والمخرج السهل والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة، والهذ عند المناقلة، والبديه البديع والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يومَ الإيجاز والإطناب يومَ الإطناب، يفل الحز ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال. والحمد لله.
وإن التاج بهي وهو في رأس الملوك أبهى، والياقوتَ الكريم حسنٌ وهو في جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن وهو من في الأعرابي أحسن. فإن كان من قول المنشد وفريضه، ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية وأقام النهاية.
وهذا الشرابُ حسنٌ وهو عندك أحسن، والهدية منه شريفةٌ وهي منك أشرف.
وإن كنتَ قدرتَ أني إنما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه، أو لأهبه، أولأتحساه في الخلا، أو أديره في الملا أو لأنافس فيه الأكفاء، وأجتر زيادة الخلطاء، أو لأبتذله لعيون الندماء، أو أعرضه لنوائب الأصدقاء فقد أسأت بي الظن، وذهبت من الإساءة بي في كل فن، وقصرت به فهو أشد عليك، ووضعتَ منه فهو أضر بك.
وإن ظننت أني إنما أريده لأطرف به معشوقة، أو لأستميل به هوى ملك، أو لأغسل به أوضار الأفئدة، أو أداوي به خطايا الأشربة، أو لأجلو به الأبصار العلية، وأصلح به الأبدان الفاسدة، أو لأتطوع به على شاعر مُفلق أو خطيب مصقع، أو أديب مدقع، ليفتق لهم المعاني، وليخرج المذاهب، ولما في جانبهم من الأجر، وفي أعناقهم من الشكر، ولينفضوا ما قالت الشعراء في الحمد، وليرتجعوا ما شاع لهم من الذكر، فإني أريد أن أضع من قدرها، وأن أكسر من بالها، فقد تاهت وتيه بها. أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرك بمكانه، وآنس بقربه، أو لأشفى به الظلماء، أو أجعله إكسير أصحاب الكيمياء، أو لأن أذكرك كلما رأيته، وأداعبك كلما قابلته أو لأجتلب به اليسر وأنفى العسر. ولأنه والفقر لا يجتمعان في دار، ولا يُقيمان في ربع. ولأتعرف به حسن اختيارك، وأتذكر به جودة اجتنابك. أو لأن أستدل به على خالص حبك، وعلى معرفتك بفضلي، وقيامك بواجب حقي- فقد أحسنت بي الظن، وذكرت من الإحسان في كل فن. بل هو الذي أصونه صيانة َ الأعراض، وأغار عليه غيرة الأزواج.
واعلم أنك إن أكثرت لي منه خرجتُ إلى الفساد، وإن أقللتَ أقسمت على الاقتصاد،
وأنا رجلٌ من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة، فأقل ما أصنع إن أكثرت لي منه أن أطلبُ المُلك، وأقل ما يصنعون بي أن أنفى من الأرض. فإن أقللتَ فإنك الولدُ الناصح، وإن أكثرتَ فإنك الغاش الكاشح. والسلام.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...