(1/13)
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: عزم الفضل بن مروان وزير المعتصم على أن يدعوه وخاصته إلى منزله وبلغني ذلك وكان لي صديقاً، فأشرت عليه ألاَّ يفعل، فأبى وقال: قد رهنت لساني بذلك، ورأيته يشتهيه فدعاه. قال إبراهيم: فإني لجالس إذا جاءني رسول الفضل بن مروان (يقول): أحبُّ أن تصير إلأيَّ الساعة، فوافيته، فخرج إلي متحيراً، فقال: أشرت عليَّ بصوابٍ فأبيته، قلت: فما الخبر، قال: لم يبق شيءٌ حسن إلاَّ وقد علقتُهُ وفرشته، ولا آنية حسنةٌ، إلا وقد استعملتها وأظهرتُها، وجاءني أمير المؤمنين مسروراً وأمرتُ بالطعام فلما أحضرته، أمسك بطنه وقال: قد وجدت مَغساًن وامتنع عن الأكل، وأظنُّ ذلك لاستنكاره ما رأى لي، فما الحيلة؟ قلت: إذا أتتك رقاعي فأطهرها بين يديه، وأجبني عنها، وجعلت أُواترُ رقاعي إليه: أن أصحاب خزائن أمير المؤمنين قد طلبوا الآنية والأمتعة المستعارة منهم، وقد سألتهم الصبر إلى وقت قيام أمير المؤمنين، فأبعث إليهم من يعينني عليهم، فجعل يظهرها ويكتب أجوبتها بين يدي المعتصم، فقال ما هذا يا فضل؟ قال: أصحاب خزائن أمير المؤمنين استعجلوني في ردِّ ما استعرته منهم وتجملتُ به في هذا اليوم الذي شرفني فيه أمير المؤمنين بدخول منزلي، فقال المعتصم: يا فضل، هذا من خزائننا، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وليس شيءٌ منه لك، قال: من أين أنا أملك هذا، قال: فإني أهبه لك، وأمر الخدم أن يضربوا رؤوس من يستعجله في ذلك، وقال: قد خفَّ ما كنتُ أجد فهات طعامك، فأكل وأكل الناس معه وشرب وشربوا، وأقام إلى ىخر النهار وانصرف مسروراً.
ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، استشار أصحابه، فكلهم أشار بقتله، إلا الحسن بن سهل، فإنه قال: إن قتلتهُ فعلتَ ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه تفردت بمكرمة لم يأتها أحدٌ قبلك، قال: فإني أختار هذا، وعفا عنه.
ودخل الحسن على المأمون وهو على شرابه فناوله قدحاً وقال له: بحق عليك إلا أمرت من شئت أن يغنيك لفأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فأمره المأمون أن يغني له، فاندفع يغني بشعر الأعشى:
تسمعُ للحلي وسواساً إذا انصرفت = كما استعان بريحٍ عشرقٌ زَجِلُ
فشرب الحسن وخرج، فوثب المأمون عن مجلسه مغضباً وقال: عليَّ بإبراهيم، فجاء وهو يُرعد، فقال له: لا تدعُ كبرَك وتيهَكَ، ولا تعرف حقَّ المنعم عليك، أنفت من إيماء الحسن إليك بالغناء، فغنيت معرِّضاَ بما يعرض من المراد، أَما والله ما أحياك بعد الله غيره، فلا تعد لمثلها، قال [يا] أمير المؤمنين: ومن يبحث عقله وتهتدي قريحته لمثل هذا، لست أعودُ إليه أبداً.
ولما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل انحدر إلى " فم الصلح " وهي المدينة التي بناها الحسن بن سهل على دجلة، فبنى ببوران، وأقام المأمون وسائر قوادِهِ ورجاله، في ضيافته أربعين يوماً، يأكلون ويشربون ويسمعون كل ملهيةٍ ومُلهٍ كانوا ببغداد، وكتب رقاعاً صغاراً، فيها أسماء ضياع ومستغلات وعدد أموالٍ، وجعلها في بنادق مسكٍ وعنبر، ونثرت على القواد والوجوه، فما وقع منها بيد كل واحدٍ، مضى بها إلى وكلاء الحسن فتسلم ما فيها.
ولما جُليت بوران على المأمون، أُشعلت بين يديه شمعة عنبر فيها مائة رطلٍ، وفرش له حصير من ذهب مرصع بالجوهر، وجيء بمكتلٍ من ذهب مرصعٍ بالجوهر فيه حبُّ دُرٍّ، فنثر على ذلك الحصير فقال المأمون: قاتل الله أبا نواس، كأنه كان يشاهد هذا حيث قال: كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء دُرٍّ على أرض من الذهب قال الحسن بن رجاء: فكنا نُجري على ستة وثلاثين ألف ملاَّح بالسفن، المقيمين بمقام المأمون عنده، وبلغ إنفاق الحسن في هذه الوليمة، أربعة آلاف ألف دينار، فعاتبه المأمون في حملِهِ على نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين أترى هذا من مال سهل؛ والله ما ههو إلا من مالك.
وكتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب، وقد اصطبح في يوم غيم لم يمطر: أما ترى تكافؤ الطمع واليأس، في يومنا بقرب المطر، وبُعده [في] قول كثير:
وإني وتهيامي بعزَّةَ بعدَماا = تخليتُ مما بيننا وتخلتِ
كالمرتجي ظِل الغمامة كلَّما = تبوأَ منها للمقيل اضمحلتِ
وما أُمنيتي إلا في لقائك، ورقعتي هذه، وقد أدرتُ زجاجات أخذت من عقلي، ولم تتحيفه، وبعثت نشاطاً حركني على الكتاب إليك، فرأيك في إنظاري سروراً بسار خبرك، إذ حرمت السرور بالمطر في هذا اليوم، موفقاً إن شاء الله.
فكتب الحسن بن وهب: وصل كتاب الأمير أيده الله، ويدي عاملة، وفمي طاعم، ولذلك تأخر الجواب قليلاً، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استحق ذماً لأنه إن أشمَسَ حكى ضياءك وحسنك، وإن أمطر أشبه سخاءك وبرَّك وجودك، وإن أغام ولم يشمس ولم يُمطر، فقد أشبه طيب ظلك ولذة فنائِك، وسؤال الأمير، أيده الله، عنّي، نعمة من نِعَم الله عليَّ، أُعفي بها آثار الزمان المسيء، وأنا، كما يحب الأمير، صرف الله الحوادث عنه وعن حظِّي منه.
وقال أحمد بن أبي سلمة الكاتب: حضرت مجلساً فيه عمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف، فغنت قينة صوتاً أجادته وهو:
أُناس مضوا كانوا إذا ذكر الأُلى = مَضوا قبلهم صلُّوا عليهم وسلموا
فقال عمرو بن مسعدة: هو والله حسن، إلا أنه بيت مفرد، فأضيفوا إليه بيتاً آخر فإنه أحسن له، وأمكن للغناء فيه، فقال أحمد بن يوسف:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا= أقمنا قليلاً بعدهم وتَقدموا
فأضيف إلى البيت الأول، وغنَّت فيه القينة، وطربوا وشربوا عليه بقية يومهم، وما زال أحمد بن يوسف مكيناً عند المأمون، يتولى له ديوان الضياع، حتى غضب عليه.
وكان سبب ذلك؛ أن المأمون جلس يوماً فقال لأصحابه: نجلس غداً مصطبحين، نجلس خلوةً فلا يكون معنا من نحتشمه، ثم أقبل على أحمد بن يوسف، فقال: كن المختار لمن يجالسنا في غدٍ، فقال: نعم، يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن المهدي يلهيك ويؤنس، وابن سمير يحدثك، قال نعم، وأنت يا أحمد، قال: وأنا يا أمير المؤمنين. وبكروا، فحجب الناس، وجاء الحسن بن سهل فاستُؤذن له فقال: يدخل، فقال أحمد: وكان الحسن اصطنعه، يا أمير المؤمنين، هذا خلاف ما ضمنت، قال: ويحك، أبو محمد لا يُحجب، فدخل فقال له المأمون، يا أبا محمد، هذا مجلس اقتضبناه ولولا ذلك لبعثت إليك، فأقم عندنا، فقال: يا أمير المؤمنين، تمم الله لك السرور، وأنا أجد في بدني شيئاً يمنعني من خدمة أمير المؤمنين، وحضور مجلسه، فإن رأى أن يأذن لي في الانصراف، وأَلحَّ المأمون في مسألته، ثم أذن له لما امتنع، فلما خرج، قال أحمد، يا أمير المؤمنين: [ليتك] ما اعتذرت إلى الحسن، قال: ليس هو باعتذار، قال أحمد: فترضى بإبراهيم بيننا حكماً، فأعانه إبراهيم، فقال له المأمون: لقد شاورت الناس فيك فكلهم أشار بقتلك، وما منعني من ذلك غير أبي محمد، وهو أجلسك هذا المجلس، فإذا لم تشكره فأنت حرٍ، أَلا تشكر غيره، والله لا جلست مجلسك هذا أبداً، وألزمه منزله حتى مات.
قال سليمان بن وهب: لما نكبني الواثق قال لمحمد بن عبد الملك، عذب سليمان بن وهب، وضيّق عليه وطالبه بالأموال، قال: فألبسني جبة صوف وقيَّدني، وكان يحضرني دار الخليفة، ويخاطبني أغلظ مخاطبة، ويتهددني، ويعاملني أقبح معاملة وأشنعها، ويُثبت أصحاب الأخبار بالخبر إلى الواثق فيعجبه ذلك، وإذا كان الليل، أمر بنزع قيودي وأخذ الجبة عني وخَلَع عليَّ، فنأكل ونشرب ونأنس، ونخرج إلى خواص جواريه تخدمنا ويفضي إليَّ بأسراره وأُموره، فإذا كان وقت انصرافنا، ضرب بيده على يدي وقال: يا أيوب أَيُوب، هذا حق المودة، وذاك حق السلطان، فلا تنكر هذا ولا تنكر ذاك، فأشكره على فعله، فإذا كان من غدٍ عدنا إلى ما كنا عليه كأنا ما تعارفنا، وهذا حديث غريب عن ابن الزيات.
.../...
يليه (1/15)
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: عزم الفضل بن مروان وزير المعتصم على أن يدعوه وخاصته إلى منزله وبلغني ذلك وكان لي صديقاً، فأشرت عليه ألاَّ يفعل، فأبى وقال: قد رهنت لساني بذلك، ورأيته يشتهيه فدعاه. قال إبراهيم: فإني لجالس إذا جاءني رسول الفضل بن مروان (يقول): أحبُّ أن تصير إلأيَّ الساعة، فوافيته، فخرج إلي متحيراً، فقال: أشرت عليَّ بصوابٍ فأبيته، قلت: فما الخبر، قال: لم يبق شيءٌ حسن إلاَّ وقد علقتُهُ وفرشته، ولا آنية حسنةٌ، إلا وقد استعملتها وأظهرتُها، وجاءني أمير المؤمنين مسروراً وأمرتُ بالطعام فلما أحضرته، أمسك بطنه وقال: قد وجدت مَغساًن وامتنع عن الأكل، وأظنُّ ذلك لاستنكاره ما رأى لي، فما الحيلة؟ قلت: إذا أتتك رقاعي فأطهرها بين يديه، وأجبني عنها، وجعلت أُواترُ رقاعي إليه: أن أصحاب خزائن أمير المؤمنين قد طلبوا الآنية والأمتعة المستعارة منهم، وقد سألتهم الصبر إلى وقت قيام أمير المؤمنين، فأبعث إليهم من يعينني عليهم، فجعل يظهرها ويكتب أجوبتها بين يدي المعتصم، فقال ما هذا يا فضل؟ قال: أصحاب خزائن أمير المؤمنين استعجلوني في ردِّ ما استعرته منهم وتجملتُ به في هذا اليوم الذي شرفني فيه أمير المؤمنين بدخول منزلي، فقال المعتصم: يا فضل، هذا من خزائننا، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وليس شيءٌ منه لك، قال: من أين أنا أملك هذا، قال: فإني أهبه لك، وأمر الخدم أن يضربوا رؤوس من يستعجله في ذلك، وقال: قد خفَّ ما كنتُ أجد فهات طعامك، فأكل وأكل الناس معه وشرب وشربوا، وأقام إلى ىخر النهار وانصرف مسروراً.
ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، استشار أصحابه، فكلهم أشار بقتله، إلا الحسن بن سهل، فإنه قال: إن قتلتهُ فعلتَ ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه تفردت بمكرمة لم يأتها أحدٌ قبلك، قال: فإني أختار هذا، وعفا عنه.
ودخل الحسن على المأمون وهو على شرابه فناوله قدحاً وقال له: بحق عليك إلا أمرت من شئت أن يغنيك لفأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فأمره المأمون أن يغني له، فاندفع يغني بشعر الأعشى:
تسمعُ للحلي وسواساً إذا انصرفت = كما استعان بريحٍ عشرقٌ زَجِلُ
فشرب الحسن وخرج، فوثب المأمون عن مجلسه مغضباً وقال: عليَّ بإبراهيم، فجاء وهو يُرعد، فقال له: لا تدعُ كبرَك وتيهَكَ، ولا تعرف حقَّ المنعم عليك، أنفت من إيماء الحسن إليك بالغناء، فغنيت معرِّضاَ بما يعرض من المراد، أَما والله ما أحياك بعد الله غيره، فلا تعد لمثلها، قال [يا] أمير المؤمنين: ومن يبحث عقله وتهتدي قريحته لمثل هذا، لست أعودُ إليه أبداً.
ولما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل انحدر إلى " فم الصلح " وهي المدينة التي بناها الحسن بن سهل على دجلة، فبنى ببوران، وأقام المأمون وسائر قوادِهِ ورجاله، في ضيافته أربعين يوماً، يأكلون ويشربون ويسمعون كل ملهيةٍ ومُلهٍ كانوا ببغداد، وكتب رقاعاً صغاراً، فيها أسماء ضياع ومستغلات وعدد أموالٍ، وجعلها في بنادق مسكٍ وعنبر، ونثرت على القواد والوجوه، فما وقع منها بيد كل واحدٍ، مضى بها إلى وكلاء الحسن فتسلم ما فيها.
ولما جُليت بوران على المأمون، أُشعلت بين يديه شمعة عنبر فيها مائة رطلٍ، وفرش له حصير من ذهب مرصع بالجوهر، وجيء بمكتلٍ من ذهب مرصعٍ بالجوهر فيه حبُّ دُرٍّ، فنثر على ذلك الحصير فقال المأمون: قاتل الله أبا نواس، كأنه كان يشاهد هذا حيث قال: كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء دُرٍّ على أرض من الذهب قال الحسن بن رجاء: فكنا نُجري على ستة وثلاثين ألف ملاَّح بالسفن، المقيمين بمقام المأمون عنده، وبلغ إنفاق الحسن في هذه الوليمة، أربعة آلاف ألف دينار، فعاتبه المأمون في حملِهِ على نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين أترى هذا من مال سهل؛ والله ما ههو إلا من مالك.
وكتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب، وقد اصطبح في يوم غيم لم يمطر: أما ترى تكافؤ الطمع واليأس، في يومنا بقرب المطر، وبُعده [في] قول كثير:
وإني وتهيامي بعزَّةَ بعدَماا = تخليتُ مما بيننا وتخلتِ
كالمرتجي ظِل الغمامة كلَّما = تبوأَ منها للمقيل اضمحلتِ
وما أُمنيتي إلا في لقائك، ورقعتي هذه، وقد أدرتُ زجاجات أخذت من عقلي، ولم تتحيفه، وبعثت نشاطاً حركني على الكتاب إليك، فرأيك في إنظاري سروراً بسار خبرك، إذ حرمت السرور بالمطر في هذا اليوم، موفقاً إن شاء الله.
فكتب الحسن بن وهب: وصل كتاب الأمير أيده الله، ويدي عاملة، وفمي طاعم، ولذلك تأخر الجواب قليلاً، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استحق ذماً لأنه إن أشمَسَ حكى ضياءك وحسنك، وإن أمطر أشبه سخاءك وبرَّك وجودك، وإن أغام ولم يشمس ولم يُمطر، فقد أشبه طيب ظلك ولذة فنائِك، وسؤال الأمير، أيده الله، عنّي، نعمة من نِعَم الله عليَّ، أُعفي بها آثار الزمان المسيء، وأنا، كما يحب الأمير، صرف الله الحوادث عنه وعن حظِّي منه.
وقال أحمد بن أبي سلمة الكاتب: حضرت مجلساً فيه عمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف، فغنت قينة صوتاً أجادته وهو:
أُناس مضوا كانوا إذا ذكر الأُلى = مَضوا قبلهم صلُّوا عليهم وسلموا
فقال عمرو بن مسعدة: هو والله حسن، إلا أنه بيت مفرد، فأضيفوا إليه بيتاً آخر فإنه أحسن له، وأمكن للغناء فيه، فقال أحمد بن يوسف:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا= أقمنا قليلاً بعدهم وتَقدموا
فأضيف إلى البيت الأول، وغنَّت فيه القينة، وطربوا وشربوا عليه بقية يومهم، وما زال أحمد بن يوسف مكيناً عند المأمون، يتولى له ديوان الضياع، حتى غضب عليه.
وكان سبب ذلك؛ أن المأمون جلس يوماً فقال لأصحابه: نجلس غداً مصطبحين، نجلس خلوةً فلا يكون معنا من نحتشمه، ثم أقبل على أحمد بن يوسف، فقال: كن المختار لمن يجالسنا في غدٍ، فقال: نعم، يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن المهدي يلهيك ويؤنس، وابن سمير يحدثك، قال نعم، وأنت يا أحمد، قال: وأنا يا أمير المؤمنين. وبكروا، فحجب الناس، وجاء الحسن بن سهل فاستُؤذن له فقال: يدخل، فقال أحمد: وكان الحسن اصطنعه، يا أمير المؤمنين، هذا خلاف ما ضمنت، قال: ويحك، أبو محمد لا يُحجب، فدخل فقال له المأمون، يا أبا محمد، هذا مجلس اقتضبناه ولولا ذلك لبعثت إليك، فأقم عندنا، فقال: يا أمير المؤمنين، تمم الله لك السرور، وأنا أجد في بدني شيئاً يمنعني من خدمة أمير المؤمنين، وحضور مجلسه، فإن رأى أن يأذن لي في الانصراف، وأَلحَّ المأمون في مسألته، ثم أذن له لما امتنع، فلما خرج، قال أحمد، يا أمير المؤمنين: [ليتك] ما اعتذرت إلى الحسن، قال: ليس هو باعتذار، قال أحمد: فترضى بإبراهيم بيننا حكماً، فأعانه إبراهيم، فقال له المأمون: لقد شاورت الناس فيك فكلهم أشار بقتلك، وما منعني من ذلك غير أبي محمد، وهو أجلسك هذا المجلس، فإذا لم تشكره فأنت حرٍ، أَلا تشكر غيره، والله لا جلست مجلسك هذا أبداً، وألزمه منزله حتى مات.
قال سليمان بن وهب: لما نكبني الواثق قال لمحمد بن عبد الملك، عذب سليمان بن وهب، وضيّق عليه وطالبه بالأموال، قال: فألبسني جبة صوف وقيَّدني، وكان يحضرني دار الخليفة، ويخاطبني أغلظ مخاطبة، ويتهددني، ويعاملني أقبح معاملة وأشنعها، ويُثبت أصحاب الأخبار بالخبر إلى الواثق فيعجبه ذلك، وإذا كان الليل، أمر بنزع قيودي وأخذ الجبة عني وخَلَع عليَّ، فنأكل ونشرب ونأنس، ونخرج إلى خواص جواريه تخدمنا ويفضي إليَّ بأسراره وأُموره، فإذا كان وقت انصرافنا، ضرب بيده على يدي وقال: يا أيوب أَيُوب، هذا حق المودة، وذاك حق السلطان، فلا تنكر هذا ولا تنكر ذاك، فأشكره على فعله، فإذا كان من غدٍ عدنا إلى ما كنا عليه كأنا ما تعارفنا، وهذا حديث غريب عن ابن الزيات.
.../...
يليه (1/15)