بين ربوع الاوطان تنقل الحكايا الجيدة وتلقن القصص والتقاليد الرائعة ولم تكن قصيدة الحراز لكاتبها المغربي المكي بن القرشي تحيد عن هذا العرف السائد لتكون هذه الرائعة المنسوجة بخيوط الفن وريشة الابداع قد نصبت نفسها بجدارة بين رفوف التراث وطبقات الحديث وهي التي تهاتفت عليها حناجر الفنانين والاقلام المبدعين كل ينهش من أبياتها الساحرة التي تحكي حكاية ساحر سحرته العيون والاشواق لتداول احداث قصته بثبات منقطع النظير بين فن وأخر و تنقل حكاية هذا الحراز من جيل إلى جيل.
˂
عنت
موسيقى عربية
محتويات
1 تعريف
2 الشعر الملحون
3 المكي بن القرشي الأزموري
4 قصة القصيدة
5 شرح القصيدة
6 شهرتها
6.1 قصة المسرحية
7 أبيات القصيدة
8 المصادر
8.1 مراجع
تعريف
هي قصيدة فنية تكنى الحراز، أو كما تسمى نسبةً إلى أصلها «قصيدة العشيق وعويشة والحراز»، نظمها الأول في إطار فن «الملحون» المغربي، هذا الفن الأصيل الذي يشير الباحث المغربي أحمد سهوم، في كتابه «الملحون المغربي»، إلى أن نشأته عاصرت حقبة الدولة المرابطية، أي ما بين القرنين الحادي والثاني عشر.
تأتي قصيدة الحراز في مقام الشهرة بين قصائد الملحون، بل تمتاز على بقية المنظومات الأخرى بأنها لم تكن حبيسة المغرب، بل، ومنذ نظمها شاعرها الذي لا نعرف عنه شيئًا غير أنه ولد في مدينة أزمورالمغربية نهاية القرن التاسع عشر، انتقلت أكثر من مرة إلى الأقطار المجاورة، وتغنت بها أكثر من حنجرة مغربية ومغاربية ، من بينها حنجرة الشيخ المرحوم الحاج الهاشمي قروابي و أعمر الزاهي و رشيد النوني و آخرون.
الشعر الملحون
الشعر الملحون هو واحد من أنماط الشعر الشعبي المغربي
يقول سهوم بأن الملحون زجل مغربي خالٍ من التأثيرات الأندلسية:
« لسنا نقول بأنه امتداد لتيار الزجل الأندلسي، فالفجوة الزمنية بعيدة بين الفترة التي وصلتنا عنها نصوص مغربية متأثرة بالزجل الأندلسي وإبان الفترة التي ظهر فيها الزجل المغربي محرزًا كيانه وخصائصه، والاختلاف الشكلي ظاهر بين اللونين، خاصة حين نقارن الزجل الأندلسي والزجل المغربي في مراحله الأولى لتطوره الأخير»
يؤكد ذلك قبله ابن خلدون في مقدمته، حين يقول إن «أهل الأمصار بالمغرب استحدثت فنًّا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة مثل موشح أندلسي، وسموه عروض البلد»
هذا الزجل يحدد لنا العلامة المغربي السي محمد غالي الفاسي شكله في كتابه «معلمة الملحون»، فكل قصيدة كانت تتكون من عدة أقسام، وتفصل بين كل قسم وآخر لازمة تسمى «الحربة»، وتسمى كل قصيدة بحربتها أو بشخوصها وموضوعها، فنجد من ذلك ثروة شفهية كبيرة أورثنا إياها الأجداد، ولا تزال بنفس جماليتها تحيا بيننا.
«نشأ فن الملحون بين عامة الشعب البسيط، بين الحرفيين والصُّناع التقليديين في حواضر المغرب العريقة»، هكذا يقول الباحث في سوسيولوجيا التراث الشعبي جمال الدين الشنط يؤكد الشنط أن فن الملحون مغربي «عكس الفنون التي وردت إلينا من الأندلس، والتي خرجت من بلاط أمراء»، وكانت بداياته شفهية، ولم يكن التغني به مصحوبًا بعزف، بل حينما دخلت عليه الآلات الموسيقية كانت بسيطة تقليدية، كالوتار و طعريجة.
معلومة كهذه تحيلنا إلى أن الملحون نَبَتَ من منبتٍ شعبي، بما تمتاز به الفنون الشعبية من التصاق بواقعها وتعبيرها عنه، وهكذا تأخذ قصيدة عويشة والحراز مكانة الأثر، الذي يحيلنا إلى أكثر من رمزية ميّزت تلك الفترة من تاريخ المغرب.
المكي بن القرشي الأزموري
المكي بن القرشي (توفي عام 1352هـ) يأتي في مقدمة شيوخ الملحون المحليين، اشتغل خياطا وفقد البصر ليتفرغ بعدها للنظم والإنشاد، أبدع العديد من القصائد من مثل: “العاشقة مولات التاج”؛ و”الطامع في زوجة أخيه”؛ و”خصام الباهيات”؛ و”اليوسفية”؛ قصائد لاقت رواجا كبيرا بساحة جامع الفنا. غير أن أهم قصيدة خلدت اسم الشاعر، قصيدة “الحراز” التي نالت شهرة واسعة في مجالس الملحون وفي الأوساط الفنية أيضا، نظر لتعدد موضوعاتها ومقاصدها التعليمية والتوجيهية الهادفة تحذير السامعين من أحابيل المحتالين والنصابين، فهي وإن تناولت تيمة الحب وصدق المشاعر، إلا أنها تعكس في أبعادها التأويلية والرمزية، العلاقة المتوترة بين الطبيعة الخيرة والطبيعة الشريرة في الإنسان. ومن أهم الحكايات المتضمنة في القصيدة نجد قصة “القصر المسكون”، اقتبسها المكي القرشي من الشاعر المراكشي “الجيلالي امتيرد”، وجعل أحداثها تدور بفضاء آزمور، وأبطالها من السكان المحليين، قصة تعالج العديد من القضايا: منها الطمع، و السحر، والعوالم المفارقة من الجن والعفاريت، ودهاء المرأة، والوفاء.
قصة القصيدة
الحراز كلمة تعني الساحر وهذا الساحر قدم من الحجاز أي (السعودية الآن) و كان متمكنا كما وصفه الشاعر، وكان هذا الحراز مولعا باقتناء الجواري الحسناوات والمغنيات صاحبات الظرف والصنائع خاصة يبحث عنهن أينما كانوا ويعتبر الزمان في القصيدة غير محدد بالدقة، أما المكان مدينة آزمور الواقعة على ساحل المحيط الأطلنطي وضفاف نهر أم الربيع. المتحدث عاشق متيّم بحب عذراء من جيرته، يبكي وينوح فراقها داخل أسوار دار الحراز العالية، وبين حراسه الحريصين على بقائها داخل حجابها ذاك مخفيةً عن الأنظار الشبقية لرجال المدينة.
الحجاز
تحكي القصيدة قصة الحراز، الذي حرز، أي حفظ وصان، عويشة، البكر الحسناء الجميلة، عن الأغيار، بعد أن أُغرم بها، هو الذي قدم من الحجاز إلى المغرب بمعارفه السحرية الواسعة، وولعه الكبير بالنساء وليالي الأنس. عويشة التي تصفها القصيدة بجمالية كانت معيارًا وقتها، تصف عيونها السود، شعرها الفاحم، ثغرها الحسن، كياستها الفائقة في إطراب مؤنسها. تعشق عويشة عشيقها، غير أن إرادة الحراز وقفت دون نول العاشقان ما يبتغيان.
شرح القصيدة
تتكلم القصيدة بلسان العشيق الذي عزم على تحرير معشوقته والوصول إليها، متسلحًا بفطنته وحيلته، التي تذكر القصيدة أنها أبرز خصال المغاربة.
يقصد العشيق الحراز أول الأمر متنكرًا في صفة قاضٍ، وفي رواية أخرى خادمًا للسلطان، طالبًا الضيافة بما يستوجب مقامُه الزائف ذاك، قائلًا في أبيات الحكاية: «أنا قاضي البلاد، جئت أستبرك منك يا حكيم، تجي عندي لدار الضيافة...»، غير أن الحراز يصده متعللًا بحرصه الشديد على عدم مخالطة الغرباء، وهكذا تخيب حيلة صاحبنا.
هذه الخيبة لم تثنهِ عن تكرار محاولة خداع الشيخ الفطين، هذه المرة بجُبّة المتصوف الزاهد «المجذوب»، أتاه يغريه بالبَركة التي يحملها بين جوانحه، البركة التي ستحل على الحراز إذا ما أدخله داره. يجيبه الحراز منكرًا عليه أي بركة، قاطعًا أن تكون البركة منسوبة إلى آدمي ليس من أولياء الله أو المرسلين، زاجرًا إياه بالعِصي التي يفر العشيق من بعض ضرباتها ويصيبه بعضها الآخر.
سيرنو صاحب القصة إلى خليلاته منتحبًا يشكو إليهن مصابه، لتشير عليه النسوة مشورة إغرائه بمفاتنهن، يجتمعن عليه، يلبسنه الحُلي والحرير، يزيِّنّه كعذراء شابة فاتنة:
«قامت ليا البتول لبّستني كسوة من الذهب والحرير وأنا باقي شباب وصغير
لا لحية لا شارب كأني عذرة بلغت وقت الصيام وأفناها الهوى والغرام»
ثم يقصدن معه حِمى الشيخ بدعوى تسليته، غير أن الشيخ الحريص يجزع من عددهن، فيصدهن عن مطلبهن بالرفض.
تتعدد حيل العشيق وتختلف بين الشعراء والمُدّاحة (فناني الملحون)، بَيد أن للنص الأصلي نهاية سعيدة يأتي فيها العشيق بصفة شاعر شامي، تسمعه عويشة فتشير على حرازها باستقباله، موقنةً أنه عشيقها المرغوب، لتتمكن هذه المرة من ملاقاته، وتدفع عنهم شر الحراز إلى الأبد بتعويذة سحرية، تمكنها من التحكم فيه كأنه خادم لها.
كأن الشاعر يَوَد إخبارنا في النهاية أن النسوة يقدرن على ما لا يقدر عليه الرجال بحيلهن ومكرهن.
ما يثير الانتباه في الحكاية ويعطيها تميزها هو الحِيَل التي حَبَك بها الشاعر قصته، وأعطاها ذلك التشويق الواجب توفره في هذا الشكل من القصائد، بل وأكثر من ذلك، إذ تحمل كل حيلة على حدة رمزية كبيرة، ويمكن اعتبارها قطعة من فُسَيفِساء الوعي العام، تدل على صورته الكاملة في تعاملها مع إشكاليات ثالوث لودفيغ فويرباخ المحرم، الدين والجنس والصراع الطبقي.
الصفة الأولى التي انتحلها العشيق لإسقاط الحراز في أحابيل حيلته، أي القاضي أو رجل السلطة، قد يقول قائل إنها إغراء لصاحبنا الشيخ الحكيم، غير أن العارف بالحال الداخلي يعلم مدى الرهبة العامة للسلطة وقتها، أو ما كان يُعرف بـ«هيبة المخزن».
مُعطًى كهذا كفيل بمعرفة أي علاقة سلطوية عامة كانت تحكم المجتمع، وأي شكل كانت تتلون فيه السلطة، وأي حد لها، وللتاريخ ما يذكره عن تسلط خُدّام الدولة في ذلك العصر، عصر التطاحنات السياسية، والمستعمِر الذي كان يدق الأبواب، مستعمر كان يفهم حقًّا هذه القضية لدرجة اعتماده على نفس الشكل من الإدارة لترتيب أوضاعه في المغرب.
ينتقل بنا المكي بن قرشي إلى مشهد آخر من التحايل، صِفة أخرى منتحَلة هي صفة المجذوب الذي ينسب حاله إلى سيدي رحال، الولي الصالح ذائع الصيت في المغرب، وهي صفة يتداخل فيها ما هو ديني مقدس (الكرامات والبركات)، بالجانب السحري الكامن في قدرة الإنسان على فِعل ما يتخطى حدود العقلاني والمعقول.
شهرتها
انتشرت القصيدة في أنحاء المغرب، خصوصًا المناطق التي عُرفت بشيوع فن الملحون، وذاعت بين الحكواتيين ورجالات فن «الحلقة» الشعبي المغربي في الأسواق والساحات العامة.
ولم تقتصر عند هذا الحد من الشهرة، وهذا القُطر بالذات، وهذا القالب المغربي الأصيل، فتعدته لتركب على ألحان الموندول الجزائري، وتصير الحكاية سيدة حفلات أمسيات الفن الشعبي الجزائري العاصمي بامتياز، ومطلب الجماهير، خصوصًا بصوت الحاج الهاشمي قروابي أحد أعلام الموسيقى الجزائرية الشعبية، ورددها كذلك عديد من الفنانين بعده، من عمار الزاهي حتى رشيد طه و ناس الغيوان أيضا.
من مميزات القصيدة كذلك أنها لم تظل حبيسة صيغتها الغنائية، بل انتقلت إلى ركح المسرح في أكثر من مرة، من أشهرها مسرحيات «الطيب الصديقي» في ستينيات القرن الماضي، لتطبع بذلك البدايات الأولى للمسرح المغاربي.
أحد الفرق الفنية التي غنت الحراز باسلوب فريد
قصة المسرحية
تبدأ أحداث المسرحية في مدينة الهنا حين يقصدها الحراز الحكيم من مدينة الحجاز فيبهر أهل المدينة بقدراته الإستشفائية الخارقة، فيشفي الأعمى وينطق الأبكم ، فيقوم حاكم المدينة بإهدائه قصرا للإقامة فيه. و حين يسمع الحراز بصرخة "عويشة"، ابنة الحاكم التي هجرها "العشيق" إلى بلاد بعيدة، يتأثر بها ولكن حين يراها ويرى جمـالها الأخاذ يخطفها من بين الحضور بشعوذته، يغرق أهل المدينة وخاصة أصدقاء العشـيق في حيــرة وحزن مما سيخبرون به صاحبهم حين عودته.
يستقبل أهل المدينة "العشيق" الذي طال غيابه بالأفـراح والرقـص و الغناء، ولكن هذا الأخير يلاحظ الغريب (الحراز)، و حين يستفسر عن معشوقته يتفاجئ باختفاءها. بعد مرور يتحرى العشيق وصديقه عن الأمر فيسارعوا لإنقاذ الأمـيرة من أيــدي الحـراز الذي أراد الـزواج بها بالغصب، وبعد عدة محاولات فاشلة تنجح حيلة "عويشة" أخيرا ويحررها "العشيق" ليعيشوا في سعادة ويتخلصوا من الساحر "الحراز".
أبيات القصيدة
تحوي القصيدة على سبعة أقسام تتخللها لازمة متكررة بين كل قسم وأخر كل مقطع يحمل عدة أبيات تروي حبكة من القصة العامة لهذا الحراز.
بيت اللازمة:
"آمن هو يصغى ليّ...كيف جرى بين العشيق وعويشة و الحراز... حراز حكيم من الحجاز"
كلمات القسم الأول:
حراز حكيم من الحجاز * و طلع للغرب على البراز
قاري جردابية ديال رومان الزرق يا فهيم * و ميسر كذا من حكيم * قاري علم التنجيم
كيحقه وسجيع و فرصة * ومعلم في حرب النساء * و مبلي بالطاسة
و سالباه الجلسة بين البنات * جايل عنهم طول الحياة * جال مدن وقريات
خاصاه غزالة عنها يدور * فتش المداين والدشور* يوم وصل الأزمور
صاب بنت ظريفة * عذراء وباهية و لطيفة
في العود كتخبل وتصيح معاه بالحجازي وشغول الشام
صايلة بيهم عن جميع الرّيام * و عيوط الغرب مع الكلام
و بنت اثناعشن عام عندها في عمرها * عذراء مخنترة في صغرها
عندي كابرة فالعشرة * و لا تطيق عني صبرة
في كل يوم ما تخطاني
حتى ان جاء الحراز مطّور في البلاد * باعوها له حساد * كيحسدوني في هلال الاعياد
عمل عنها الارصاد في القصر * و سكن بين الواد والبحر
و تملّك بها وملكاته الغزالة العذرية
حكم عنه مير زينها وظفر بالحراز * و عمل الأرصاد على المجاز.
المصادر
سهوم, الحاج أحمد (1993). [الملحون المغربي .الحاج أحمد سهوم..1993 الملحون المغربي] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). المغرب: منشورات شؤون جماعية. اطلع عليه بتاريخ 2018.
بن محمد بن خلدون الحضرمي, عبد الرحمن ((784-808هـ).). [مقدمة ابن خلدون.عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.(784-808هـ). مقدمة ابن خلدون] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). اطلع عليه بتاريخ 2018.
بن زيدان, عبد الرحمان (2016). [الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة.عبد الرحمان بن زيدان.دار النشر برنت شوب- مكناس، ط1- 2016 الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). مكناس: دار النشر برنت شوب.
مراجع
الملحون المغربي .الحاج أحمد سهوم . منشورات شؤون جماعية .1993.
مقدمة ابن خلدون.عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.(784-808هـ).
مسرحية الحراز 1995 مع عبد الله فركوس والمهدي الأزدي
Amar Ezzahi El Harrez
الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة.عبد الرحمان بن زيدان.دار النشر برنت شوب- مكناس، ط1- 2016.
عويشة والحراز: الثالوث المحرم في الثقافة المغربية
˂
عنت
موسيقى عربية
محتويات
1 تعريف
2 الشعر الملحون
3 المكي بن القرشي الأزموري
4 قصة القصيدة
5 شرح القصيدة
6 شهرتها
6.1 قصة المسرحية
7 أبيات القصيدة
8 المصادر
8.1 مراجع
تعريف
هي قصيدة فنية تكنى الحراز، أو كما تسمى نسبةً إلى أصلها «قصيدة العشيق وعويشة والحراز»، نظمها الأول في إطار فن «الملحون» المغربي، هذا الفن الأصيل الذي يشير الباحث المغربي أحمد سهوم، في كتابه «الملحون المغربي»، إلى أن نشأته عاصرت حقبة الدولة المرابطية، أي ما بين القرنين الحادي والثاني عشر.
تأتي قصيدة الحراز في مقام الشهرة بين قصائد الملحون، بل تمتاز على بقية المنظومات الأخرى بأنها لم تكن حبيسة المغرب، بل، ومنذ نظمها شاعرها الذي لا نعرف عنه شيئًا غير أنه ولد في مدينة أزمورالمغربية نهاية القرن التاسع عشر، انتقلت أكثر من مرة إلى الأقطار المجاورة، وتغنت بها أكثر من حنجرة مغربية ومغاربية ، من بينها حنجرة الشيخ المرحوم الحاج الهاشمي قروابي و أعمر الزاهي و رشيد النوني و آخرون.
الشعر الملحون
الشعر الملحون هو واحد من أنماط الشعر الشعبي المغربي
يقول سهوم بأن الملحون زجل مغربي خالٍ من التأثيرات الأندلسية:
« لسنا نقول بأنه امتداد لتيار الزجل الأندلسي، فالفجوة الزمنية بعيدة بين الفترة التي وصلتنا عنها نصوص مغربية متأثرة بالزجل الأندلسي وإبان الفترة التي ظهر فيها الزجل المغربي محرزًا كيانه وخصائصه، والاختلاف الشكلي ظاهر بين اللونين، خاصة حين نقارن الزجل الأندلسي والزجل المغربي في مراحله الأولى لتطوره الأخير»
يؤكد ذلك قبله ابن خلدون في مقدمته، حين يقول إن «أهل الأمصار بالمغرب استحدثت فنًّا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة مثل موشح أندلسي، وسموه عروض البلد»
هذا الزجل يحدد لنا العلامة المغربي السي محمد غالي الفاسي شكله في كتابه «معلمة الملحون»، فكل قصيدة كانت تتكون من عدة أقسام، وتفصل بين كل قسم وآخر لازمة تسمى «الحربة»، وتسمى كل قصيدة بحربتها أو بشخوصها وموضوعها، فنجد من ذلك ثروة شفهية كبيرة أورثنا إياها الأجداد، ولا تزال بنفس جماليتها تحيا بيننا.
«نشأ فن الملحون بين عامة الشعب البسيط، بين الحرفيين والصُّناع التقليديين في حواضر المغرب العريقة»، هكذا يقول الباحث في سوسيولوجيا التراث الشعبي جمال الدين الشنط يؤكد الشنط أن فن الملحون مغربي «عكس الفنون التي وردت إلينا من الأندلس، والتي خرجت من بلاط أمراء»، وكانت بداياته شفهية، ولم يكن التغني به مصحوبًا بعزف، بل حينما دخلت عليه الآلات الموسيقية كانت بسيطة تقليدية، كالوتار و طعريجة.
معلومة كهذه تحيلنا إلى أن الملحون نَبَتَ من منبتٍ شعبي، بما تمتاز به الفنون الشعبية من التصاق بواقعها وتعبيرها عنه، وهكذا تأخذ قصيدة عويشة والحراز مكانة الأثر، الذي يحيلنا إلى أكثر من رمزية ميّزت تلك الفترة من تاريخ المغرب.
المكي بن القرشي الأزموري
المكي بن القرشي (توفي عام 1352هـ) يأتي في مقدمة شيوخ الملحون المحليين، اشتغل خياطا وفقد البصر ليتفرغ بعدها للنظم والإنشاد، أبدع العديد من القصائد من مثل: “العاشقة مولات التاج”؛ و”الطامع في زوجة أخيه”؛ و”خصام الباهيات”؛ و”اليوسفية”؛ قصائد لاقت رواجا كبيرا بساحة جامع الفنا. غير أن أهم قصيدة خلدت اسم الشاعر، قصيدة “الحراز” التي نالت شهرة واسعة في مجالس الملحون وفي الأوساط الفنية أيضا، نظر لتعدد موضوعاتها ومقاصدها التعليمية والتوجيهية الهادفة تحذير السامعين من أحابيل المحتالين والنصابين، فهي وإن تناولت تيمة الحب وصدق المشاعر، إلا أنها تعكس في أبعادها التأويلية والرمزية، العلاقة المتوترة بين الطبيعة الخيرة والطبيعة الشريرة في الإنسان. ومن أهم الحكايات المتضمنة في القصيدة نجد قصة “القصر المسكون”، اقتبسها المكي القرشي من الشاعر المراكشي “الجيلالي امتيرد”، وجعل أحداثها تدور بفضاء آزمور، وأبطالها من السكان المحليين، قصة تعالج العديد من القضايا: منها الطمع، و السحر، والعوالم المفارقة من الجن والعفاريت، ودهاء المرأة، والوفاء.
قصة القصيدة
الحراز كلمة تعني الساحر وهذا الساحر قدم من الحجاز أي (السعودية الآن) و كان متمكنا كما وصفه الشاعر، وكان هذا الحراز مولعا باقتناء الجواري الحسناوات والمغنيات صاحبات الظرف والصنائع خاصة يبحث عنهن أينما كانوا ويعتبر الزمان في القصيدة غير محدد بالدقة، أما المكان مدينة آزمور الواقعة على ساحل المحيط الأطلنطي وضفاف نهر أم الربيع. المتحدث عاشق متيّم بحب عذراء من جيرته، يبكي وينوح فراقها داخل أسوار دار الحراز العالية، وبين حراسه الحريصين على بقائها داخل حجابها ذاك مخفيةً عن الأنظار الشبقية لرجال المدينة.
الحجاز
تحكي القصيدة قصة الحراز، الذي حرز، أي حفظ وصان، عويشة، البكر الحسناء الجميلة، عن الأغيار، بعد أن أُغرم بها، هو الذي قدم من الحجاز إلى المغرب بمعارفه السحرية الواسعة، وولعه الكبير بالنساء وليالي الأنس. عويشة التي تصفها القصيدة بجمالية كانت معيارًا وقتها، تصف عيونها السود، شعرها الفاحم، ثغرها الحسن، كياستها الفائقة في إطراب مؤنسها. تعشق عويشة عشيقها، غير أن إرادة الحراز وقفت دون نول العاشقان ما يبتغيان.
شرح القصيدة
تتكلم القصيدة بلسان العشيق الذي عزم على تحرير معشوقته والوصول إليها، متسلحًا بفطنته وحيلته، التي تذكر القصيدة أنها أبرز خصال المغاربة.
يقصد العشيق الحراز أول الأمر متنكرًا في صفة قاضٍ، وفي رواية أخرى خادمًا للسلطان، طالبًا الضيافة بما يستوجب مقامُه الزائف ذاك، قائلًا في أبيات الحكاية: «أنا قاضي البلاد، جئت أستبرك منك يا حكيم، تجي عندي لدار الضيافة...»، غير أن الحراز يصده متعللًا بحرصه الشديد على عدم مخالطة الغرباء، وهكذا تخيب حيلة صاحبنا.
هذه الخيبة لم تثنهِ عن تكرار محاولة خداع الشيخ الفطين، هذه المرة بجُبّة المتصوف الزاهد «المجذوب»، أتاه يغريه بالبَركة التي يحملها بين جوانحه، البركة التي ستحل على الحراز إذا ما أدخله داره. يجيبه الحراز منكرًا عليه أي بركة، قاطعًا أن تكون البركة منسوبة إلى آدمي ليس من أولياء الله أو المرسلين، زاجرًا إياه بالعِصي التي يفر العشيق من بعض ضرباتها ويصيبه بعضها الآخر.
سيرنو صاحب القصة إلى خليلاته منتحبًا يشكو إليهن مصابه، لتشير عليه النسوة مشورة إغرائه بمفاتنهن، يجتمعن عليه، يلبسنه الحُلي والحرير، يزيِّنّه كعذراء شابة فاتنة:
«قامت ليا البتول لبّستني كسوة من الذهب والحرير وأنا باقي شباب وصغير
لا لحية لا شارب كأني عذرة بلغت وقت الصيام وأفناها الهوى والغرام»
ثم يقصدن معه حِمى الشيخ بدعوى تسليته، غير أن الشيخ الحريص يجزع من عددهن، فيصدهن عن مطلبهن بالرفض.
تتعدد حيل العشيق وتختلف بين الشعراء والمُدّاحة (فناني الملحون)، بَيد أن للنص الأصلي نهاية سعيدة يأتي فيها العشيق بصفة شاعر شامي، تسمعه عويشة فتشير على حرازها باستقباله، موقنةً أنه عشيقها المرغوب، لتتمكن هذه المرة من ملاقاته، وتدفع عنهم شر الحراز إلى الأبد بتعويذة سحرية، تمكنها من التحكم فيه كأنه خادم لها.
كأن الشاعر يَوَد إخبارنا في النهاية أن النسوة يقدرن على ما لا يقدر عليه الرجال بحيلهن ومكرهن.
ما يثير الانتباه في الحكاية ويعطيها تميزها هو الحِيَل التي حَبَك بها الشاعر قصته، وأعطاها ذلك التشويق الواجب توفره في هذا الشكل من القصائد، بل وأكثر من ذلك، إذ تحمل كل حيلة على حدة رمزية كبيرة، ويمكن اعتبارها قطعة من فُسَيفِساء الوعي العام، تدل على صورته الكاملة في تعاملها مع إشكاليات ثالوث لودفيغ فويرباخ المحرم، الدين والجنس والصراع الطبقي.
الصفة الأولى التي انتحلها العشيق لإسقاط الحراز في أحابيل حيلته، أي القاضي أو رجل السلطة، قد يقول قائل إنها إغراء لصاحبنا الشيخ الحكيم، غير أن العارف بالحال الداخلي يعلم مدى الرهبة العامة للسلطة وقتها، أو ما كان يُعرف بـ«هيبة المخزن».
مُعطًى كهذا كفيل بمعرفة أي علاقة سلطوية عامة كانت تحكم المجتمع، وأي شكل كانت تتلون فيه السلطة، وأي حد لها، وللتاريخ ما يذكره عن تسلط خُدّام الدولة في ذلك العصر، عصر التطاحنات السياسية، والمستعمِر الذي كان يدق الأبواب، مستعمر كان يفهم حقًّا هذه القضية لدرجة اعتماده على نفس الشكل من الإدارة لترتيب أوضاعه في المغرب.
ينتقل بنا المكي بن قرشي إلى مشهد آخر من التحايل، صِفة أخرى منتحَلة هي صفة المجذوب الذي ينسب حاله إلى سيدي رحال، الولي الصالح ذائع الصيت في المغرب، وهي صفة يتداخل فيها ما هو ديني مقدس (الكرامات والبركات)، بالجانب السحري الكامن في قدرة الإنسان على فِعل ما يتخطى حدود العقلاني والمعقول.
شهرتها
انتشرت القصيدة في أنحاء المغرب، خصوصًا المناطق التي عُرفت بشيوع فن الملحون، وذاعت بين الحكواتيين ورجالات فن «الحلقة» الشعبي المغربي في الأسواق والساحات العامة.
ولم تقتصر عند هذا الحد من الشهرة، وهذا القُطر بالذات، وهذا القالب المغربي الأصيل، فتعدته لتركب على ألحان الموندول الجزائري، وتصير الحكاية سيدة حفلات أمسيات الفن الشعبي الجزائري العاصمي بامتياز، ومطلب الجماهير، خصوصًا بصوت الحاج الهاشمي قروابي أحد أعلام الموسيقى الجزائرية الشعبية، ورددها كذلك عديد من الفنانين بعده، من عمار الزاهي حتى رشيد طه و ناس الغيوان أيضا.
من مميزات القصيدة كذلك أنها لم تظل حبيسة صيغتها الغنائية، بل انتقلت إلى ركح المسرح في أكثر من مرة، من أشهرها مسرحيات «الطيب الصديقي» في ستينيات القرن الماضي، لتطبع بذلك البدايات الأولى للمسرح المغاربي.
أحد الفرق الفنية التي غنت الحراز باسلوب فريد
قصة المسرحية
تبدأ أحداث المسرحية في مدينة الهنا حين يقصدها الحراز الحكيم من مدينة الحجاز فيبهر أهل المدينة بقدراته الإستشفائية الخارقة، فيشفي الأعمى وينطق الأبكم ، فيقوم حاكم المدينة بإهدائه قصرا للإقامة فيه. و حين يسمع الحراز بصرخة "عويشة"، ابنة الحاكم التي هجرها "العشيق" إلى بلاد بعيدة، يتأثر بها ولكن حين يراها ويرى جمـالها الأخاذ يخطفها من بين الحضور بشعوذته، يغرق أهل المدينة وخاصة أصدقاء العشـيق في حيــرة وحزن مما سيخبرون به صاحبهم حين عودته.
يستقبل أهل المدينة "العشيق" الذي طال غيابه بالأفـراح والرقـص و الغناء، ولكن هذا الأخير يلاحظ الغريب (الحراز)، و حين يستفسر عن معشوقته يتفاجئ باختفاءها. بعد مرور يتحرى العشيق وصديقه عن الأمر فيسارعوا لإنقاذ الأمـيرة من أيــدي الحـراز الذي أراد الـزواج بها بالغصب، وبعد عدة محاولات فاشلة تنجح حيلة "عويشة" أخيرا ويحررها "العشيق" ليعيشوا في سعادة ويتخلصوا من الساحر "الحراز".
أبيات القصيدة
تحوي القصيدة على سبعة أقسام تتخللها لازمة متكررة بين كل قسم وأخر كل مقطع يحمل عدة أبيات تروي حبكة من القصة العامة لهذا الحراز.
بيت اللازمة:
"آمن هو يصغى ليّ...كيف جرى بين العشيق وعويشة و الحراز... حراز حكيم من الحجاز"
كلمات القسم الأول:
حراز حكيم من الحجاز * و طلع للغرب على البراز
قاري جردابية ديال رومان الزرق يا فهيم * و ميسر كذا من حكيم * قاري علم التنجيم
كيحقه وسجيع و فرصة * ومعلم في حرب النساء * و مبلي بالطاسة
و سالباه الجلسة بين البنات * جايل عنهم طول الحياة * جال مدن وقريات
خاصاه غزالة عنها يدور * فتش المداين والدشور* يوم وصل الأزمور
صاب بنت ظريفة * عذراء وباهية و لطيفة
في العود كتخبل وتصيح معاه بالحجازي وشغول الشام
صايلة بيهم عن جميع الرّيام * و عيوط الغرب مع الكلام
و بنت اثناعشن عام عندها في عمرها * عذراء مخنترة في صغرها
عندي كابرة فالعشرة * و لا تطيق عني صبرة
في كل يوم ما تخطاني
حتى ان جاء الحراز مطّور في البلاد * باعوها له حساد * كيحسدوني في هلال الاعياد
عمل عنها الارصاد في القصر * و سكن بين الواد والبحر
و تملّك بها وملكاته الغزالة العذرية
حكم عنه مير زينها وظفر بالحراز * و عمل الأرصاد على المجاز.
المصادر
سهوم, الحاج أحمد (1993). [الملحون المغربي .الحاج أحمد سهوم..1993 الملحون المغربي] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). المغرب: منشورات شؤون جماعية. اطلع عليه بتاريخ 2018.
بن محمد بن خلدون الحضرمي, عبد الرحمن ((784-808هـ).). [مقدمة ابن خلدون.عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.(784-808هـ). مقدمة ابن خلدون] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). اطلع عليه بتاريخ 2018.
بن زيدان, عبد الرحمان (2016). [الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة.عبد الرحمان بن زيدان.دار النشر برنت شوب- مكناس، ط1- 2016 الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). مكناس: دار النشر برنت شوب.
مراجع
الملحون المغربي .الحاج أحمد سهوم . منشورات شؤون جماعية .1993.
مقدمة ابن خلدون.عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.(784-808هـ).
مسرحية الحراز 1995 مع عبد الله فركوس والمهدي الأزدي
Amar Ezzahi El Harrez
الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة.عبد الرحمان بن زيدان.دار النشر برنت شوب- مكناس، ط1- 2016.
عويشة والحراز: الثالوث المحرم في الثقافة المغربية