يُصرّ بعض النقّاد على أن يُقدّموا أعمال المفكّر كما لو كانت تندرج دوماً ضمن «مشروع» فكريّ مُتكامل PROJET، وهم يعرضونها كما لو تمخّضت عن قرار تأليف وتخطيط معقلن محسوب، هذا رغم تبيّنهم أنها غالباً ما تكون استجابات لحظية وتفاعلاً مُتحوّلاً مع المحيط الثقافي والظّرف التاريخي. صحيح أنّ مجال اشتغال المفكر غالباً ما لا يحيد، في نهاية الأمر، عن اهتمامات بعينها، اهتمامات يمكن أن تختزل في مسار بعينه، إلّا أن ذلك قد لا يكفي للنّظر إلى ذلك المسار، كما لو أنّه انكشف لصاحبه منذ إشراقة أوّل صباح، وكما لو رسمته إرادة واعية مُتحكّمة، و«برمجه» عقل مدبّر مهيمن، و«ألّف» بين أجزائه مهندس قدير.
ولعلّ من المفيد، توضيحاً لذلك، أن نتوقّف بعض الشيء عند كلمة «مشروع» هذه. فإذا نحن استبعدنا المعنى الزماني الاستباقي الذي تُستخدم فيه كلمة PROJECTION من حيث هي ارتماء في المستقبل، ذلك المعنى الذي يفترض أن المؤلّف سلطة تهيمن على العمل منذ بداياته وتتحكّم في أجزائه وتضبط مراحله، ويسَلّم أن ما يصدر عن المفكّر وليد نوايا وتخطيطات وسبق إصرار، وإذا تجاوزنا كذلك المعنى المكاني للّفظ، ذلك المعنى الذي ينقله أصحاب الهندسة بكلمة «إسقاط»، فإنّ له معنى آخرَ يستخدمه أصحاب البصريات عندما يتكلمون عمّا يدعونه PROJECTION D’UN FAISCEAU LUMINEUX، ما ينقله أساتذتنا في العلوم الفيزيائية بعبارة: «إرسال حزمة ضوئية». المعروف أن هذه الحزمة تلتئم في نهاية الأمر لترسم على الشاشة بُقعة ضوئية يتبلور عندها ذلك الإرسال، هاهنا تتخذ الحزمة أهميتها نسبة إلى مساحة التبلور أكثر مما تتخذها نسبة إلى مصدر الضوء ومنبعه، فكأنّ تلك المساحة هي التي تسلّط الأضواء على المنبع وتنير مصدره.
حينما نتحدّث عن مشروع فكري بهذا المعنى البصري OPTIQUE، فإننا نلتفت إلى المَاوَراء أكثر مما نشير إلى ما سيتحقق استقبالاً، كما أنّنا نعني أن المفكّر، رغم أنه يظلّ ضائعاً بين نتف ما يكتب، تائهاً بين دروب لا يبدو أنها تتقاطع، فإنه يتّبع، على رغمه، وربما عن غير وعي، يتّبع مسالك تُخَطّ له، ومسارات ترسمها انشغالات اللحظة التاريخية والثقافية التي يتفاعل معها، بحيث ينتهي به الأمر إلى أن يعمل وفق منطق لا يحيد عنه. صحيح أنّه ليس منطق المفكّر، إلا أنه يظلّ منطق الفكر، وسيقول آخرون «منطق المعنى». لكنّه ليس المعنى الذي يعنيه المفكّر ويقصده، وإنما ذاك الذي «يُعْنَى» هو به وينساق له ويخضع لآلياته. وهي آليات لا تكون بالضّرورة مبسَّطة تسنّها إرادة متحكّمة، إلّا أنّها، مهما تشابكت أطرافها، فإنها ترسم حدوداً، وتحدّد مجالات، وتخلق وحدات.
هذا النوع من الوحدة التي تثوي خلف التشتّت الظاهر، والتي لا يمكن أن تتبيّن إلا بعد حين EN DIFFÉRÉ، هذه الوحدة المرجأة DIFFÉRANTE هي التي تسمح للمؤلّف أن يُعطي عنواناً لما سبق أن كتبه متفرّقاً، هي التي تمكّن الشّاعر من أن يضمّ قصائده في ديوان واحد يحمل عنواناً بعينه، وهي التي تسمح لكاتب الأقصوصة أن ينشر مجموعته.
تبيُّن هذه الوحدة الذي لا يمكن أن يكون إلا مفعول العمل ونتيجتَه، وليس أبداً منطلقه وأصله، هو، بلا ريب، إحدى فضائل عملية «التأليف» والجمع التي تُتيح للمفكّر فرصة الرجوع القهقرى كي يعي المنطق المحايث لأعماله، ويتبيّن المدار الذي تدور حوله مختلف اهتماماته، ويعاين البؤر التي تبلورت فيها انشغالاته، والأهمّ من كل ذلك، فإنه يُتيح له تبيّن الإشكاليات التي سعى جهده إلى الامتناع عن الخوض فيها، والموضوعات التي تجنَّب طرْقها، والمفهومات التي تحاشى استعمالها.
هو إذاً فكر- مشروع، لكنه مشروع لا واعٍ، مشروع مُرجأ لا ينكشف بامتلاءاته وفراغاته، بنجاحاته وإخفاقاته، بسواده وبياضه، بصخبه وصمته، لا ينكشف، سواء لصاحبه أم لغيره من النقاد، إلّا «بعد حين».
* عن مجلة الدوحة.