جلس ناصر فرحان في مكانه المعتاد؛ على نفس الطاولة، في إحدى زوايا مقهى الهافانا، مرتدياً قميصاً أزرق، وبنطال جينز، مغطياً صلعته بقطعة شعرٍ مستعارٍ غالية الثمن، كان قد حصل عليها من أحد المحلات الفاخرة بعد أن نال مكافأةً ماليةً كبيرةً في إحدى المسابقات الأدبية، فتح حاسوبه ولقّمه كلمة السر وأشعل سيجارة. كالعاشق المتحرّق زمَّ شفتيه وامتصّها مالئاً رئتيه من دخانها مغمضاً عينيه، ثم زفر وفتح عينيه، ليشاهد صديقه سليمان الذي لم يره منذ عدة سنوات؛ ثلاثٍ أو ربما أكثر.
أبو النصر.... أين أنت يا رجل؟ كيف حالك؟
قالها سليمان مرفقاً إياها بابتسامةٍ عريضة، فاتحاً ذراعيه ليهبط بهما كجناحي نسرٍ ينقض على فريسة، وبعد عناقٍ طويلٍ وتربيتٍ وقُبَلٍ أجابه ناصر: أنا هنا كل يوم، في نفس المكان وعلى هذه الطاولة، كل يومٍ آتي إلى هذا المكان، أدخن وأشرب القهوة وأكتب.
ثم أجلسه على الكرسي المقابل وأخذا يستذكران أيامهما الجميلة معاً، حين كانا يعملان في القسم الثقافي في صحيفة البعث، سنوات طويلة قضياها معاً كمحررين صحفيين، انتقل بعدها سليمان إلى العمل كمحررٍ ثقافي في إحدى وكالات الأنباء العربية، بينما تفرغ ناصر للكتابة، أصدر إلى الآن خمس رواياتٍ وديواني شعر، وقد نال العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية.
لم تغيره الأيام، مازال كما هو؛ رفيق الوحدة، لا يحضر المنتديات الثقافية، لا يحب الانخراط داخل الوسط الثقافي، لم يُرَ قطّ بينهم، يجلس وحيداً بين علبة الدخان والولاعة، يعشق روتينه اليومي الذي يجعله يلج عالم الكتابة، حتى إنه لم يتزوج إلى الآن، بل يعيش وحيداً في شقةٍ مستأجرة في إحدى الضواحي.
اعترض سليمان على طريقة صديقه في التعاطي مع الحياة؛ لا يجوز لك أن تعتزل الناس بهذه الطريقة، بل عليك أن تكون أكثر انخراطاً بينهم، أنت لا تقبل حتى أن تظهر على الشاشات في مقابلةٍ تلفزيونية!
من حق قرائك عليك أن يشاهدوك ويستمعوا إلى وجهة نظرك في هذه الحياة.
أجابه ناصر: أنا لا أحب الظهور، وهذه هي طبيعتي، لذلك أنا أكتب؛ ليقرأني الجميع من دون أن أضطر للظهور أو الكلام.
سليمان: اسمح لي يا صديقي، فأنت مخطئٌ تماماً، عليك أن تغير من عاداتك، خمس روايات، وديوانا شعر، والعديد من الجوائز، وإلى الآن لم يرك أحدٌ على شاشة التلفاز! هذا خطاٌ فادح.
هل تعرف باهي زهوة، صاحب البرنامج الشهير بيت القصيدة؟
ناصر: نعم أعرفه.
سليمان: باهي صديقي من الروح للروح، سأخبره عنك وأتفق معه على تحديد موعدٍ بينكما للظهور في إحدى حلقات برنامجه.
ناصر: لا، أرجوك يا سليمان، أنا لا أحب ذلك، ولا أعرف كيف أتكلم أمام الكاميرا، بل أنا لا أجرؤ على الوقوف أمامها، أرجوك لا تحرجني.
سليمان: أبداً لن أتركك هذه المرة على سجيتك، ستظهر في البرنامج يعني ستظهر في البرنامج، ولن أقبل منك أي عذر.
ثم حمل حقيبته وهمّ بالانصراف، حاول ناصر أن يتكلم معه أو أن يمنعه من الرحيل، لكنه لم يتمكن من ذلك.
بعد يومين تلقى ناصر اتصالاً هاتفياً من باهي زهوة اتفقا خلاله على موعد السفر إلى بيروت من أجل الظهور المباشر على الهواء في برنامج بيت القصيدة.
لم يكن بوسع ناصر الرفض، لقد حوصر جيداً هذه المرة ولم يتمكن من الإفلات.
جلس أمام المرآة واضعاً ساقه فوق الأخرى، وتكلم في مواضيع كثيرة مستخدماً يديه لإيصال الفكرة لجمهوره، استخدم طبقاتٍ متعددة من صوته، وأجاب على أسئلةٍ كثيرةٍ متوقعة تمهيداً للقاء المرتقب.
وجاء اليوم المنتظر، وسافر ناصر إلى بيروت، وحين دقّتِ الساعة الثامنة مساءً كان ناصر في الاستديو جالساً على الكنبة مقابل باهي واضعاً ساقه فوق الأخرى، جاهزاً للإجابة على أيّ سؤالٍ قد يخطر في البال.
رحّب باهي بضيفه ترحيباً حاراً واصفاً إياه بصاحب الموهبة الفذة، شاكراً له ظهوره الحصري في برنامجه، معتبراً ذلك تكريماً لا مثيل له، ثم طلب منه الحديث عن اكتشاف موهبته وبداياته في مجال الأدب، وما إن بدأ ناصر بالكلام والاستعانة بيديه لإيصال فكرته إلى جمهوره حتى طارت قطعة الشعر المستعار التي يغطي بها صلعته، احمرَّت وجنتاه وأنزل ساقه إلى الأرض، ثم ضمَّ ركبتيه إلى بعضهما واضعاً كفيه بينهما، فيما اعتذر باهي وانتقل إلى فاصلٍ إعلاني.
لم تنتهِ الحلقة إلا بشقِّ الأنفس، غادر ناصر بعدها بيروت قاصداً شقته جنوب دمشق، نام اثنتي عشرة ساعةً متواصلة، لم يوقظه سوى رنين الهاتف، كان سليمان، أراد فقط أن يوبخه على هذا الظهور السيء في البرنامج" لو كنت أعلم أنك غبيٌّ هكذا لما تكلمتُ مع باهي من أجلك، لقد نلتُ منه الغضب والسخرية، ليتني لم أتوسط لك عنده، ليتني لم أرَكَ في ذلك اليوم المشؤوم، اذهب إلى الجحيم يا صديقي"
قال الجملة الأخيرة بتهكم وأقفل السماعة.
تنهد ناصر ووضع سيجارةً في فمه، ثم فتح التلفاز ليظهر له برنامج (سوشال ميديا)
ويتكرر أمام عينيه مشهد شعره المستعار وهو يطير من فوق رأسه ليستقر فوق أحد المصابيح التي تزين جدران الاستوديو، يتكرر ذلك المشهد عدة مراتٍ ثم يعلّق مقدّم البرنامج بتعليقٍ ساخر.
يغلق ناصر التلفاز بغضب، ثم يفتح حاسوبه ويدخل الفايسبوك، لتطالعه أهم الأخبار؛ اضحك مع ناصر، الكاتب الكبير ناصر فرحان يتعرض لموقف محرج، شاهد الشعر الطائر مع ناصر فرحان.
دخل ناصر اليوتيوب لتتكرر المأساة؛ شاهد قبل الحذف: الأديب الكبير ناصر فرحان يتعرض لموقفٍ محرج، حصرياً: صلعة ناصر فرحان تنير بيت القصيدة، شاهد ماء وجه الأديب ناصر فرحان وهو يسفح، أسوأ موقف يمكن أن تتعرض له شخصية مهمة.
وانهالت التعليقات الساخرة، والوجوه الصفراء الضاحكة، والشتائم والسباب، وتجاوز عدد المشاهدات مئات الآلاف.
حطّم ناصر حاسوبه ونزل إلى الشارع، شاهده جاره في البناء؛ أنت ناصر فرحان؟ لم أعرف سابقاً أنك كاتبٌ مشهور، كيف حصل معك ذلك الموقف؟
ابتعد ناصر عنه راكضاً، ليتبعه أطفال الحيّ ويشيرون إليه وهم يصرخون؛ هذا ناصر الذي طار شعره المستعار. أخذ ناصر يسرع في الركض وينظر إلى الخلف، إلى أن وصل إلى محل الخردوات، طلب من البائع حبلاً غليظاً، فقال له: تفضل يا سيد ولكن قبل أن تذهب أخبرني، ألست أنت ناصر فرحان الذي طار شعره المستعار في بيت القصيدة؟
لم يجبه ناصر، وإنما أخذ الحبل الغليظ وأسرع إلى البيت، أقفل الباب على نفسه، ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحدٌ يسمع أو يرى شخصاً اسمه ناصر فرحان.
https://www.facebook.com/hanan.halboni/posts/1650526635086447
أبو النصر.... أين أنت يا رجل؟ كيف حالك؟
قالها سليمان مرفقاً إياها بابتسامةٍ عريضة، فاتحاً ذراعيه ليهبط بهما كجناحي نسرٍ ينقض على فريسة، وبعد عناقٍ طويلٍ وتربيتٍ وقُبَلٍ أجابه ناصر: أنا هنا كل يوم، في نفس المكان وعلى هذه الطاولة، كل يومٍ آتي إلى هذا المكان، أدخن وأشرب القهوة وأكتب.
ثم أجلسه على الكرسي المقابل وأخذا يستذكران أيامهما الجميلة معاً، حين كانا يعملان في القسم الثقافي في صحيفة البعث، سنوات طويلة قضياها معاً كمحررين صحفيين، انتقل بعدها سليمان إلى العمل كمحررٍ ثقافي في إحدى وكالات الأنباء العربية، بينما تفرغ ناصر للكتابة، أصدر إلى الآن خمس رواياتٍ وديواني شعر، وقد نال العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية.
لم تغيره الأيام، مازال كما هو؛ رفيق الوحدة، لا يحضر المنتديات الثقافية، لا يحب الانخراط داخل الوسط الثقافي، لم يُرَ قطّ بينهم، يجلس وحيداً بين علبة الدخان والولاعة، يعشق روتينه اليومي الذي يجعله يلج عالم الكتابة، حتى إنه لم يتزوج إلى الآن، بل يعيش وحيداً في شقةٍ مستأجرة في إحدى الضواحي.
اعترض سليمان على طريقة صديقه في التعاطي مع الحياة؛ لا يجوز لك أن تعتزل الناس بهذه الطريقة، بل عليك أن تكون أكثر انخراطاً بينهم، أنت لا تقبل حتى أن تظهر على الشاشات في مقابلةٍ تلفزيونية!
من حق قرائك عليك أن يشاهدوك ويستمعوا إلى وجهة نظرك في هذه الحياة.
أجابه ناصر: أنا لا أحب الظهور، وهذه هي طبيعتي، لذلك أنا أكتب؛ ليقرأني الجميع من دون أن أضطر للظهور أو الكلام.
سليمان: اسمح لي يا صديقي، فأنت مخطئٌ تماماً، عليك أن تغير من عاداتك، خمس روايات، وديوانا شعر، والعديد من الجوائز، وإلى الآن لم يرك أحدٌ على شاشة التلفاز! هذا خطاٌ فادح.
هل تعرف باهي زهوة، صاحب البرنامج الشهير بيت القصيدة؟
ناصر: نعم أعرفه.
سليمان: باهي صديقي من الروح للروح، سأخبره عنك وأتفق معه على تحديد موعدٍ بينكما للظهور في إحدى حلقات برنامجه.
ناصر: لا، أرجوك يا سليمان، أنا لا أحب ذلك، ولا أعرف كيف أتكلم أمام الكاميرا، بل أنا لا أجرؤ على الوقوف أمامها، أرجوك لا تحرجني.
سليمان: أبداً لن أتركك هذه المرة على سجيتك، ستظهر في البرنامج يعني ستظهر في البرنامج، ولن أقبل منك أي عذر.
ثم حمل حقيبته وهمّ بالانصراف، حاول ناصر أن يتكلم معه أو أن يمنعه من الرحيل، لكنه لم يتمكن من ذلك.
بعد يومين تلقى ناصر اتصالاً هاتفياً من باهي زهوة اتفقا خلاله على موعد السفر إلى بيروت من أجل الظهور المباشر على الهواء في برنامج بيت القصيدة.
لم يكن بوسع ناصر الرفض، لقد حوصر جيداً هذه المرة ولم يتمكن من الإفلات.
جلس أمام المرآة واضعاً ساقه فوق الأخرى، وتكلم في مواضيع كثيرة مستخدماً يديه لإيصال الفكرة لجمهوره، استخدم طبقاتٍ متعددة من صوته، وأجاب على أسئلةٍ كثيرةٍ متوقعة تمهيداً للقاء المرتقب.
وجاء اليوم المنتظر، وسافر ناصر إلى بيروت، وحين دقّتِ الساعة الثامنة مساءً كان ناصر في الاستديو جالساً على الكنبة مقابل باهي واضعاً ساقه فوق الأخرى، جاهزاً للإجابة على أيّ سؤالٍ قد يخطر في البال.
رحّب باهي بضيفه ترحيباً حاراً واصفاً إياه بصاحب الموهبة الفذة، شاكراً له ظهوره الحصري في برنامجه، معتبراً ذلك تكريماً لا مثيل له، ثم طلب منه الحديث عن اكتشاف موهبته وبداياته في مجال الأدب، وما إن بدأ ناصر بالكلام والاستعانة بيديه لإيصال فكرته إلى جمهوره حتى طارت قطعة الشعر المستعار التي يغطي بها صلعته، احمرَّت وجنتاه وأنزل ساقه إلى الأرض، ثم ضمَّ ركبتيه إلى بعضهما واضعاً كفيه بينهما، فيما اعتذر باهي وانتقل إلى فاصلٍ إعلاني.
لم تنتهِ الحلقة إلا بشقِّ الأنفس، غادر ناصر بعدها بيروت قاصداً شقته جنوب دمشق، نام اثنتي عشرة ساعةً متواصلة، لم يوقظه سوى رنين الهاتف، كان سليمان، أراد فقط أن يوبخه على هذا الظهور السيء في البرنامج" لو كنت أعلم أنك غبيٌّ هكذا لما تكلمتُ مع باهي من أجلك، لقد نلتُ منه الغضب والسخرية، ليتني لم أتوسط لك عنده، ليتني لم أرَكَ في ذلك اليوم المشؤوم، اذهب إلى الجحيم يا صديقي"
قال الجملة الأخيرة بتهكم وأقفل السماعة.
تنهد ناصر ووضع سيجارةً في فمه، ثم فتح التلفاز ليظهر له برنامج (سوشال ميديا)
ويتكرر أمام عينيه مشهد شعره المستعار وهو يطير من فوق رأسه ليستقر فوق أحد المصابيح التي تزين جدران الاستوديو، يتكرر ذلك المشهد عدة مراتٍ ثم يعلّق مقدّم البرنامج بتعليقٍ ساخر.
يغلق ناصر التلفاز بغضب، ثم يفتح حاسوبه ويدخل الفايسبوك، لتطالعه أهم الأخبار؛ اضحك مع ناصر، الكاتب الكبير ناصر فرحان يتعرض لموقف محرج، شاهد الشعر الطائر مع ناصر فرحان.
دخل ناصر اليوتيوب لتتكرر المأساة؛ شاهد قبل الحذف: الأديب الكبير ناصر فرحان يتعرض لموقفٍ محرج، حصرياً: صلعة ناصر فرحان تنير بيت القصيدة، شاهد ماء وجه الأديب ناصر فرحان وهو يسفح، أسوأ موقف يمكن أن تتعرض له شخصية مهمة.
وانهالت التعليقات الساخرة، والوجوه الصفراء الضاحكة، والشتائم والسباب، وتجاوز عدد المشاهدات مئات الآلاف.
حطّم ناصر حاسوبه ونزل إلى الشارع، شاهده جاره في البناء؛ أنت ناصر فرحان؟ لم أعرف سابقاً أنك كاتبٌ مشهور، كيف حصل معك ذلك الموقف؟
ابتعد ناصر عنه راكضاً، ليتبعه أطفال الحيّ ويشيرون إليه وهم يصرخون؛ هذا ناصر الذي طار شعره المستعار. أخذ ناصر يسرع في الركض وينظر إلى الخلف، إلى أن وصل إلى محل الخردوات، طلب من البائع حبلاً غليظاً، فقال له: تفضل يا سيد ولكن قبل أن تذهب أخبرني، ألست أنت ناصر فرحان الذي طار شعره المستعار في بيت القصيدة؟
لم يجبه ناصر، وإنما أخذ الحبل الغليظ وأسرع إلى البيت، أقفل الباب على نفسه، ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحدٌ يسمع أو يرى شخصاً اسمه ناصر فرحان.
https://www.facebook.com/hanan.halboni/posts/1650526635086447