موسى غافل الشطري - ترتيلة لأربعة من طيــور الحب.. قصة قصيرة

لم أفرغ بعد، من إعداد لوحة ضمنتها ميلي إلى شفافية اللون والوصول به الى منح الواقع بعدا حالما، ساحراً ، بحديقة يظللها الأيك.و توكر على أغصانها الطيور . ولكي توحي : بمعين مسموع الخرير.

كنت.. أُحاول: أن اترك بلمسات ريشتي، مسحة بهيجة على ملامح أتحرى عن أجمل طيور. فأسرفت في ذلك عن جمال ألوانها ، و شفافية إيحائها، انحيازا لحب الطيور. ولكونها رموزا توحي بتطلّعي: إلى حياة حالمة.

راودتني الفكرة: لكي أشغلها بجنينة عامرة، بما يحلم بها حالم مثلي. فإنشددت برغبة جارفة: أن اعتني بأجمل الألوان. فرسمت لهن غصناً مكللاً بالأزهار. نافراً فوق ترعةٍ، نضحت من معين. لأيّ طيور جديرة أن تؤُ ُّمه؟ ...

فاجأني طرق على الباب، فدعاني مرغماً: أن اعزف عن لوحتي، وأُغادر مع السيد خليل منحدرين شرقا بعربة ( لاندكروز)، سالكين طريقا ترابياً ضيّقاً. مرسلة صريرا صاخباً، وقد عجّت خلفها زوبعة ترابية. حتى انحرفت بإتجاه بيوت ريفية ، لم تكن متجانسة.

هـــــذه هي إذن القرية المقصودة، و التي يسكنها صاحبي ربما .. أنا واحد من كثرة ، تجاوزت العشرات.ممن أتى بهم خليل ليشاهدوا بليّته، أو : ليهوّنوا عليه، وإن كنت لا أعتقد إنّي جديربتلك المهمّة. ذلك .. إنّي بلا حول .. ولا قوّة.

جلست لا ألوي على شيء. ولا أنا قادر على فعل شيء.فقط.. كنت أتمعّن بأربعة أكبرهم صبية ، اسمها ( ابتهال).

كان يفترض أن تكون .. ذات وجه متألّق. لكن عينيها بدتا بلا رموش. ربّما زغب ضنين. كذلك هو حال جلدة الرأس. جرى ذلك بفعل حالة مرضية نادرة الوقوع، أسموها بانعدام ( البايوتين) .

من أصل ثمانية أطفال.. بقي هؤلاء ألأربعة ، في صراع من أجل البقاء. وكان على ألأب أن يقاوم من أجلهم.

عرّفني ألأب على( ابتهال) قائلاً لها:

ــ صديقي العزيز.. إنّه رسام ماهر.

ثم همس بإذني:

ــ لو كنت قد شاهدتها عند افتقادها العلاج، كم كانت ملامح عينيها مرعبة؟

تبحرت بالعينين.. كانتا أنيستين حزينتين. لهما نظرة آسرة. لكنهما تفتقران إلى أهداب.

حاولت أن أُجاري ألأب بذلك الحزن ، الذي أطلّ من عينيه . هل.. أبتسم له ابتسامة مُشجّعة؟

لم أكن أعرف كيف أُداري ارتباكي ــ أنا الخجول ــ كي أُبرر جدوى مجيئي.

جلس ألأربعة ، و بدت حالاتهم المرضية متفاوتة. في حين .. انشغلت ألأم بإعداد الشاي. من الواضح .. إنها ألفت هذه الحال . لا اعلم .. إن كان يؤنسها دأب ألأب على شرح مأساتهم إلى أمثالي .

لكنّي لم أُشاهد أي شيء واضح على ملامح ألأُم: هل تشارك ألأب بدأبه على إطلاع ألآخرين؟ هل لديها تصوّر.. عن أسباب مرضهم؟

كنت محرجا و أنا أُشاهد ألأب يتابع عيون الصغار، ومنهم الكبيرة ، التي بدت مدركة لماساتها.

غير إنها تابعت باهتمام ، انغمار أطفال القرية :بجريهم لا عبين . فبدوا كأنهم جراء يهرّون، و يندفعون ضاحكين. يستلقون الواحد فوق ألآخر.

لاحظت كفّي ( ابتهال )يضغطان بعضهما على بعض.و الفم يفتر عن ابتسامة حذرة.تشوبها مسحة حزن ، تحفّزت في مكانها ، كأنها عازمة على أن تنهض مثلهم ، و تلحق بهم . غير أن الجميع اندفعوا عائدين يهرّون بصخب، متجاوزين المكان التي قبعت هي فيه و إخوتها.

بدت صبيّة بمثل عمرها تؤرجح بجدائلها تيهاً، ممراحة على نحو واضح. فهمس ألأب بإذني :

ــ كان شعر ( ابتهال )أكثر جمالاً و كثافة و استرسالاً.

لاحت ألأم وقد انتبهت لما همس به ألأب، واقفة ويداها متصالبتان على صدرها باستسلام، بينما بدت عيني ألأب تغرورقان بالدموع .

حاولت أن أُجاريهن لكنّي بدوت ضنينا بدموعي، و لأول مرة ، و أنا أعرف رقّة مشاعري،و ضعف جَلَدها، أمام هكذا حال، لكن دموعي أحرنت بعناد.

عندما أتى بي ألأب.. هل أراد أن ارسم مأساته؟أم أُجاريه بآلامه؟لا أعلم . بيد إني مدرك تماما:إنني لا أُجدي نفعا. فلا أمتلك: سوى إني أرسم الحزن، و ألألم على نحو مزرٍ .وفي الحق: إن قلبي يبكي بصمت.

كان ألأب قد لحق بزوجه إلى الداخل،. وعاد توّاً بـ (قندول ) السكر ، بينما تبعته هي بعدّة الشاي.

أطفال القرية واظبوا على لهوهم . و على إثارة ألأتربة ، و أطفال خليل : كانّهم: أُنيط بهم أن يلعبوا دور المتفرّجين.

قال ألأب دون أن يخفض من صوته، كما فعل قبل هذا، وهو يحرّك ملعقة الشاي:

ــ أتعرف.. إني تعرفت على أطباء عالميين؟ و إن أطفالاً من إيطاليا مثل( تيزانا )، و من فرنسا و ألإمارات يتراسلون مع أطفالي و يرسلون لهم العلاج ذاته، و هدايا أُخرى.

تحرّكت ( ابتهال )وهي تجهد نفسها إلى داخل الغرفة، و عادت بعلبة جميلة، فيها صرة مهداة و رسالة من ( تيزانا) . كانت الرسالة توحي، بأن صاحبتها ريّانة . تتفجّر ابتسامتها من الكلمات. وكأنها تعمّدت ، أن تترك شعرة من شعرها بين عباراتها الرقيقة. كذلك .. إحتوت العلبة على ( سيت ) ألوان نادرة، و دفتر رسم.

الصغار و الأب ابتسموا. و ألأم لا أكاد المح على مُحيّاها أيّة ابتسامة.

قال ألأب : ــ إنهم معروفون هنا و ربما في دول أُخرى.

فقلت هامساً : ــ

بالتأكيد إنهم معروفون. بالتأكيد ستكون حالتهم شاغلة لاهتمام الآخرين.

ظلّت ( ابتهال) واقفة

فقلت لابتهال: ــ هل أنت راغبة أن أرسم لك لوحة بهذه ألألوان، و ربّما ترسليها إليها؟

ابتسمت موافقة.

أمسكت بدفتر الرسم، و قرّبت ألألوان، و بدأت أجهد نفسي : لنقل أسمى قًيَِم، مما كنت قد أبدعت في تلك اللوحة الرائعة، مُتوخيا الصدق، لكي تذوب خصوصية الطبيعة ، حتى تتكشّف قٍيًما جماليّة.هدية من كل مشاعري : لأربعة من طيور الحب، لم يزغبن بعد.فكسوتهن ريشا زاهيا. وبما إني مغرم باللون الوردي .. نزفت لهن دمي، ومغّرت لهن خدودهن و أرّجتها.

بدت ريشتي تكتب شعرا و نثراَ ، و تنزف ألماَ ، وتُحوّله إلى ضوء مُتفجّرٍ .لكي تكتمل اللوحة، فرسمت ألآن.. ألأيك. و ترعة الماء.و الغصن المزهر... و أربعة طيور حب، يزهين بألوان ريشهن الجذّاب. فكنّ.. كما لو إنهن يُحلّقن توّا و يغنين.

ولكي يكتمل كل شيء.. كسوت الأرض بخضرة نضيرة. و المعين .. اكتسب زرقة رقراقة. كما إن هناك .. قد تجلّت وجوه حسناء: لأربعة، تألّقن بحمرة الخجل، و نسلن ريشهن بخيلاء .


موسى غافل الشطري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...