الجنس في الثقافة العربية حسن أحمد جغام - الإباحية في أدب الجاحظ

كان من المفروض أن يعرضه أحد الكتّاب بالنقد البنّاء أو التجريح الذي يستحقه، وقد مضى على صدوره سنة كاملة، مما جعلني أتساءل لماذا لم تُعِرْهُ الأوساط الثقافية ووزارة الثقافة بالخصوص أدنى اهتمامٍ ألأن عنوانه: «الإباحية في أدب الجاحظ » أم لأنه صادر عن دار

المعارف للطباعة والنشر؟؟

وحين لا يقبل عليه المواطن العادي، فهذا أمر متوقع مسبقاً، لأنه ليس لمواطنينا عادة القراءة بل ليس لنا قرّاء أصلاً. وهذه الحقيقة المخجلة لا تستحق أدلة جديدة إذ يعلمها الجميع، والتأويل عن هذا العزوف عن القراءة جاهز عند الكثير، خاصة ممن لم يقرأ كتاباً واحدًا طيلة حياته، منذ أن أتمّ الدراسة، هذا إذا استثنينا ما يظهر بين الحين والآخر من كتب مثيرة في مضمونها، وأحياناً في عناوينها، عندئذ ترقص أجهزة الأعلام بمختلف وسائلها لهذا الكتاب فتكون تلك الشطحات، تشجيعاُ للمواطن على اقتنائه حتى ولو كان ثمنه أضعاف أضعاف ثمنه الحقيقي ومهما كانت سذاجته... رغم ذلك فحركة النشر في تونس لم تتوقف وبعض الناشرين صامدون بما أمكن لهم من إمكانيات راضين بالفتيتات التي تتصدق بها عليهم الوزارة... هذا الكتاب الذي سبق ذكر عنوانه، قُدّم للَجنة الشراءات في وزارة الثقافة، ثلاث مرات ولم

يحظ برضا السادة أعضاء اللجنة، ويحرم من اقتناء الحد الأدنى الذي يكون في حدود 100 نسخة على الأكثر. مع العلم إنه لم يرفض كتاب واحد من الإقتناء من منشورات مؤسستنا طيلة أربعة عقود باستثناء فترة وزارة عبد الباقي الهرماسي لأسباب سياسية... بما في ذلك العناوين التي منعها أنس الشابي الذي كان دوره بوليس الكتاب في العهد البائد، في كل مرة نستفسر عن السبب، فيقال لنا الميزانية انتهت، في المرة الأولى انطلى علينا هذا المبرّر، وفي رفض اقتنائه في المرتين الثانية والثالثة، غامرني الشك فيما يدّعون ثمّ أدركت أنّ سبب الرفض ليس ماديّا، خاصة وأنَّ منشورات مؤسستنا لا يستطيع أن يجاريها أيّ كان في تونس بما في ذلك منشورات الوزارة، وعلى سبيل المثال فثمن كتابنا « امرأتنا في الشريعة والمجتمع » خمس دينارات وكتاب الوزارة ثمنه أكثر من ذلك، هناك أمثلة أخرى حول هذه المسائل لو يتاح لنا الحديث عنها سيسمع القارئ ويرى العجب العجاب ولكن دعنا من هذا الآن. ولنعُد للتساؤل عن السبب الحقيقي لرفض كتاب « الإباحية في أدب الجاحظ»!!

فنقول، إذا كان السبب هو مضمون ما كتبه الجاحظ عن الجنس في حياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة النباتات بما له من علم عزيز وبنفس البلاغة التي كتب بها المواضيع الأخرى فنقول لمن يعنيهم الأمر... ألم نعرض في معرض تونس الدولي للكتاب من كتب الجنس ما لاَ يُحْصَى عددهُ، بل هناك ناشر أجنبي مواظب على المشاركة في معرض تونس، له سلسلة بعنوان «الجنس عند العرب» وكلية الآداب بجامعة تونس أصدرت في أحد أعداد حولياتها رسالة للجاحظ عنوانها: «تفضيل البطن على الظهر» وهي من أشدّ ما كتب الجاحظ في الجنس. ألمْ يصبح الأمر عاديًّا ويخلو من التعقيد ؟!

والجاحظ ينتمي إلى القرن الثالث الهجري، وهي الفترة الزمنية التي كتب فيها كتابه « الحيوان»، وتلك الفترة لها أهميتها القصوى في تاريخ الأدب العربي، وقد كان النثر قبل هذا العصر عزيزاً يهيمن عليه الشعر والسجع في مختلف المواضيع، وقد ظهر في هذا الزمان كتاب الحيوان بالخصوص الذي يتميز بعديد الخصائص من أهمها الاستطراد، فهو إذا تحدث عن موضوع معين لا يترك شاردة ولا واردة إلا وتحدث عنها بما يشفي الغليل... وعلى سبيل المثال فعندما يتحدث عن الجمل يذكر كل ما قيل عن أسمائه في اللغة، وما أوحى للشعراء من شعر، كما يتحدث عن منافعه، وطبعه وعن غذائه، وفوائد لبنه، وعن ما ذكره القرآن في الإبل، ولا ينسى واقعة الجمل مع عائشة، إلى أن يصف فحولته وهيجانه وكل ذلك بما أوتي من علم شامل في كلّ المواضيع التي يتناولها.

وإنّي عندما عزمت على الكتابة حول الإباحية في أدب الجاحظ كانت الأسباب الدافعة لذلك عديدة، من بينها أن أحد أصحاب الشهادات الكبرى قاضاني بتهم واهية منها أنّي نسبت لجلال الدين السيوطي مصنّفات في علم الباه وهو يراه الإمام التقي الذي لا ينزل إلى هذا المجون حسب ادّعاء هذا الأستاذ المبرز.

والحقيقة أني أحرص في معظم ما كتبته على أن لا أجتر ما تناوله غيري من قبل، والجاحظ كما يعلم المؤرخون للأدب العربي كُتبت عنه مئات المصنفات في جميع المسائل التي اختص بها ولم يَكتب كتاب واحد حسب إطلاعي عن ظاهرة الإباحية المنتشرة في معظم مؤلفاته. وفي هذا التأليف بيّنت أنه أوّل أديب عربي كتب في الجنس، وهناك من يقارن بينه وبين ( أبو داود) صاحب كتاب الزهرة، والجاحظ يسبق (أبو داود) بعشرين سنة في تاريخ ميلاده أثبت غزارته كذلك في التأليف عن مواضيع الجنس وجرأته في التعمّق فيه إلى حد أنّه كان ظاهرة فريدة في هذه المسألة.

وما لاحظته أنه لم يسبق أن كتب أحد عن هذه الظاهرة في أدب الجاحظ، فكان عندي أمرا غير طبيعي وإهماله في البحث العلمي يُعدُّ فراغاً في تاريخ الأدب العربي وحضارته، وحسب رأيي يجب أن لا ننتظر مستشرقاً يتدارك هذا الفراغ. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ إحدى رسائل الجاحظ في هذا الموضوع هي « مفاخرة الجواري والغلمان »، حققها ونشرها أول مرة المستشرق الفرنسي شارل بيلا سنة 1952.

وبالتالي فكتابي هذا هو محاولة لجمع نصوص حول موضوع هام جدّاً في مجال التحقيق الأدبي، وقد بذلت في إنجازه جهدا ووقتا لا يستهان بهما، وقولي هذا ليس شكوى لرد الاعتبار أو هو من باب التفاخر، ولكن ما يحزّ في نفسي أن يلقى هذا العمل التجاهل من المثقفين، والكتاب معروض في المكتبات منذ أكثر من سنة، وتبخل إدارة الوزارة عن اقتناء ولو خمسين نسخة منه، قلت في البداية إنّ المسألة ليست مادية، بل هي عند المانعين شئ آخر إلى حد أنني أفترض أني لم أكن متأكدا أنّ عناصر رجعيّة تتظاهر بالتعفّف وتدعي حماية الأخلاق الحميدة هي التي تقف وراء هذا المنع.

وإذا كان الأمر كذلك فأخشى أن يكون تدخّلها في شؤون حياتنا، إلى حدّ أنها تقرر ما يقرؤه المواطن وما لا يقرؤه، فتُحاول إقصاءه... وإذا كانت الأمور تسير على هذا النحو، ونحن نتغنى صباحاً مساء بأهم مكاسب الثورة الديمقراطية وحرية التعبير، فنكون نحن الشعب في واد وما يُخَطّط لنا في غدير متعفّن... فلنفتحْ عيوننا لنكون على بصيرة... فالعصر هو عصر عصي...

وممّا يدّل على أن الثقافة الحقيقية التي تتمثل في الكتاب والقراءة هي آخر ما يهتم بها ساستنا في السنوات التي تلت الثورة. من ذلك، المداولات الأخيرة في مجلس النواب وهي من أقوى الأدلة التي تخلو من أي حوار أو مساءلة عن مكانة الثقافة في حاضرنا أو في مستقبلنا، إذ أنّ كل الحكومات السابقة والحاضرة في غيبة عن هذا المصير... وللتذكير فإن من طالب بثقافة جلهم نواب عن النهضة وليس عن الشعب التونسي إذ جلهم يريدون ثقافة على قياسهم : كتاتيب، ومكانة مرموقة للأيمة، وما إلى ذلك... هذا ما طالبوا به لأنها تلك ثقافتهم التي تخدم إيديولوجيتهم...

أما خارج البرلمان وبالذات حول موائد الحوار في القنوات التلفزية، فالثقافة عند هؤلاء هي المهرجانات الموسيقية والمسرحية والسينمائية وبالخصوص كرة القدم التي هي مستقبلنا ومنقذنا من الجهل والتخلق، وسبيلنا إلى العلم والرخاء!
وأخيراً ... يا قوم، يا أمّة، يا شعب، يا بشر، انظروا إلى الشعوب المتقدمة، لماذا هي متقدّمة، ولماذا نحن متخلّفون، لا لشيء سوى لأنهم يقرؤون ونحن لا نقرأ- تلك هي المعضلة التي لم يُدركها ساستنا وأجهزة أعلامنا أيضاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...