ليسوا قليلين، أولئك الكتّاب الذين يتحاشون الحوارات وكل المنابر التي تتطلّب منهم أن يعبّروا عن أفكارهم عن طريق الكلام، وحتى إن هم اضطروا إلى ذلك، فغالباً ما يكون مآلهم الفشل، وسرعان ما يحتمون بالكتابة. فما الذي يجعل كاتباً، قد تكون له دراية بأسرار البلاغة، يعجز عن أن يقول، عن طريق الكلام، ما يستطيع التعبير عنه بفضل الكتابة؟
قد يقال إن الأمر لا يصدق على جميع الكتّاب، بل إن منهم من يتقن الحوار أكثر مما يتقن الكتابة، أو، على الأقل، بمقدار ما يتقنها، وقد يكون بورخيس خير مثال على ذلك. لكن، لا ينبغي أن ننسى أن أغلب الحوارات غالباً ما تكون كتابة «على التراخي»، بحيث يبعث المُحاور إلى الكاتب بأسئلته، فيجيب عنها هذا كتابةً، طالباً مراجعتها قبل النشر.
إذا استثنينا هذه الحالات، وتساءلنا: ما الذي يجعل الكاتب يتخوف من الكلام؟ فلا شكّ، لأنه يتبيّن عيوبَه، التي منها كونه لا يستطيع أن يتراجع القهقرى. الكلام يسجنك فيما صدر عنك من أقوال. صحيح أن بإمكاننا أن نكرّر القول ذاته، إلا أن ذلك يشحنه بدلالات أخرى، بل إن الحذف- كما يؤكِّد رولان بارث- يغدو عند الكلام إضافةً وزيادةً: «فلو أنني أردت محو ما قلت، فلن يمكنني أن أقوم بذلك ما لم أظهر أداة المحو ذاتها (كأن أقول: «بالأحرى»، «لقد أسأت التعبير»).
المفارقة- إذاً- أن الكلام، الذي هو عابر سريع الزوال، هو الذي لا يقبل المحو والزوال. أما الكتابة، فهي ميدان المحو والخدش، وهي لا تتَّخذ صورة طاهرة «ناصعة البياض» إلا بعد أن تخلِّف وراءها طبقات من «التّسويد»؛ فالقلم رفيق الممحاة. لكن، أمام الكلام ليس بإمكاننا إلا أن نضيف كلاماً آخر. لذا، يلاحظ بارث أنه ليس من قبيل الصدفة أن يرتبط التحليل النفسي بالكلام، لا بالكتابة. فما يهمّ المحلِّل هو «زلّات اللسان» وعثرات القول وتصحيحه، أي ما يضاف إليه بعملية الحذف ذاتها.
ثم إن الكلام يتم في سياق «CON-TEXTE»، والحال أن من سمة السّياق الأساسية اختزال المعنى وإلغاء كل فائض. السّياق يحدّد اللفظ ويحدّ من معانيه. «إن اللفظ عند الكلام يكون «واضحاً» على حدّ قول بارث، و«الوضوح هو استبعاد كل اشتراك لفظي،
«POLYSÉMIE».
كون الكلام يتمّ في سياق يجعله يخضع لسلسلة من الشيفرات «CODES»، فهو يعمل حسب قواعد، فحتى إن ظهر أن الكلام «يُلقى على عواهنه»، وأنه مجال «الإفصاح بكل حرّية» فسرعان ما يجد نفسه في خدمة القانون والسلطة، كما يلاحظ بارث.
على هذا النحو فإن المتكلّم يجد نفسه أمام اختيار صعب: إمّا أن يتبنّى دور السلطة، وفي هاته الحال يكفيه «إتقان الكلام»، أو يأخذ في تصحيح نفسه وإقحام الإضافات والإطنابات، محاولاً أن يجعل كلامه شبيهاً بـ«النصّ»، متقمّصاً صورة الكاتب، إلا أنه سرعان ما يعي فشله، عندما يدرك أن الكلام لا يتراجع القهقرى، فيتبيَّن أن لا مفرّ له من الخضوع للقانون والسلطة اللذين يمثلان فيه، ذلك أن هذين لا يتولدان عن الأقوال، وإنما يسكنان ثناياها.
ابتعاداً عن الكلام، لا يتبقّى إلا اختيار من بين اثنين: أن يلجأ المتكلّم إلى «عدم التكلّم»، ويلعب أدواراً مغايرة: إما دور العقل الصّامت المثقل بالتجارب، أو دور المناضل الذي يتخلّص من كل خطاب عقيم باسم البراكسيس. لكن، بإمكانه- أيضاً- أن يلجأ إلى الكتابة قصد مراوغة اللغة وخيانتها، والكشف عن غموض كل وضوح، وخلق سوء التفاهم في ما يبدو إجماعاً، وبعث المفارقات «PARA-DOXES» التي تتغذى عليها خطاباتنا، وشحن الألفاظ بفائض يغنيها، ويجعلها تقتحم «الأبواب اللانهائية للّغة».
قد يقال إن الأمر لا يصدق على جميع الكتّاب، بل إن منهم من يتقن الحوار أكثر مما يتقن الكتابة، أو، على الأقل، بمقدار ما يتقنها، وقد يكون بورخيس خير مثال على ذلك. لكن، لا ينبغي أن ننسى أن أغلب الحوارات غالباً ما تكون كتابة «على التراخي»، بحيث يبعث المُحاور إلى الكاتب بأسئلته، فيجيب عنها هذا كتابةً، طالباً مراجعتها قبل النشر.
إذا استثنينا هذه الحالات، وتساءلنا: ما الذي يجعل الكاتب يتخوف من الكلام؟ فلا شكّ، لأنه يتبيّن عيوبَه، التي منها كونه لا يستطيع أن يتراجع القهقرى. الكلام يسجنك فيما صدر عنك من أقوال. صحيح أن بإمكاننا أن نكرّر القول ذاته، إلا أن ذلك يشحنه بدلالات أخرى، بل إن الحذف- كما يؤكِّد رولان بارث- يغدو عند الكلام إضافةً وزيادةً: «فلو أنني أردت محو ما قلت، فلن يمكنني أن أقوم بذلك ما لم أظهر أداة المحو ذاتها (كأن أقول: «بالأحرى»، «لقد أسأت التعبير»).
المفارقة- إذاً- أن الكلام، الذي هو عابر سريع الزوال، هو الذي لا يقبل المحو والزوال. أما الكتابة، فهي ميدان المحو والخدش، وهي لا تتَّخذ صورة طاهرة «ناصعة البياض» إلا بعد أن تخلِّف وراءها طبقات من «التّسويد»؛ فالقلم رفيق الممحاة. لكن، أمام الكلام ليس بإمكاننا إلا أن نضيف كلاماً آخر. لذا، يلاحظ بارث أنه ليس من قبيل الصدفة أن يرتبط التحليل النفسي بالكلام، لا بالكتابة. فما يهمّ المحلِّل هو «زلّات اللسان» وعثرات القول وتصحيحه، أي ما يضاف إليه بعملية الحذف ذاتها.
ثم إن الكلام يتم في سياق «CON-TEXTE»، والحال أن من سمة السّياق الأساسية اختزال المعنى وإلغاء كل فائض. السّياق يحدّد اللفظ ويحدّ من معانيه. «إن اللفظ عند الكلام يكون «واضحاً» على حدّ قول بارث، و«الوضوح هو استبعاد كل اشتراك لفظي،
«POLYSÉMIE».
كون الكلام يتمّ في سياق يجعله يخضع لسلسلة من الشيفرات «CODES»، فهو يعمل حسب قواعد، فحتى إن ظهر أن الكلام «يُلقى على عواهنه»، وأنه مجال «الإفصاح بكل حرّية» فسرعان ما يجد نفسه في خدمة القانون والسلطة، كما يلاحظ بارث.
على هذا النحو فإن المتكلّم يجد نفسه أمام اختيار صعب: إمّا أن يتبنّى دور السلطة، وفي هاته الحال يكفيه «إتقان الكلام»، أو يأخذ في تصحيح نفسه وإقحام الإضافات والإطنابات، محاولاً أن يجعل كلامه شبيهاً بـ«النصّ»، متقمّصاً صورة الكاتب، إلا أنه سرعان ما يعي فشله، عندما يدرك أن الكلام لا يتراجع القهقرى، فيتبيَّن أن لا مفرّ له من الخضوع للقانون والسلطة اللذين يمثلان فيه، ذلك أن هذين لا يتولدان عن الأقوال، وإنما يسكنان ثناياها.
ابتعاداً عن الكلام، لا يتبقّى إلا اختيار من بين اثنين: أن يلجأ المتكلّم إلى «عدم التكلّم»، ويلعب أدواراً مغايرة: إما دور العقل الصّامت المثقل بالتجارب، أو دور المناضل الذي يتخلّص من كل خطاب عقيم باسم البراكسيس. لكن، بإمكانه- أيضاً- أن يلجأ إلى الكتابة قصد مراوغة اللغة وخيانتها، والكشف عن غموض كل وضوح، وخلق سوء التفاهم في ما يبدو إجماعاً، وبعث المفارقات «PARA-DOXES» التي تتغذى عليها خطاباتنا، وشحن الألفاظ بفائض يغنيها، ويجعلها تقتحم «الأبواب اللانهائية للّغة».