كان المطبَخُ المعتم حيث كنتُ أقضي أفضل أوقاتي فسيحا (في الواقع، كان ذا حجم متواضع لكن، في ذلك الزمان، كل شيء كان يبدو لي هائلاً). كنت أحبّ أكثر من كل شيء أن أرى أمي تُشعل النار: رغم حركاتها الدقيقة، كنت أعاين المشهدَ بقلق إذ كنت أخشى ألا تشتعل. كانت المعجزة تحصل أخيراً فينبثق اللهبُ، أزرقَ وردياً.
كانت قِطَع الفحم تتحوّل إلى جواهر فأفكر في موسى صبيّاً يختبره فرعون. جعلَه أمام جمر وجواهر، فأمسك النبي المقبل بجمرة وحملها إلى فمه. وَسَمَه ذلك مدى الحياة: انعقد لسانُه، فلم يكن يتكلم، فيما بعد، إلا بعسر. ولما كانت كل قصة، في ذلك الوقت، تبدو لي متَّصفةً بالكمال، وبالتالي غير قابلة للجدل، لم أكن أجرؤ على التوقف عند واحد من تفاصيل القصة: كيف حدث أن الجمرة لم تحرق يد موسى قبل أن تبلغ لسانه؟ أما عن اختيار الجمرة بدل الياقوتة... ذات يوم، بدافع الفضول، وضعتُ يدي على زجاج قنديل متوهج، فأوجعني ذلك كثيرا. وحتى يسليني، حكى لي أبي هذا الفصل من قصة موسى، صادفتُه بعد ذلك، بتفاصيل إضافية، في كتاب عن قصص الأنبياء.
لكن الحدث الأكثر درامية كان يحصل حين تصبّ أمي الزيتَ في القدر وتضيف إليه الملح، والتَّبزيرَة، وشرائح رقيقة من الثوم. كان الزيتُ يأخذ في الفوران، لكني كنتُ أعلم أن هذا الاغتباط لن يدوم. وبالفعل، ما أن ترمي أمي بقطَع اللحم في القِدر، حتّى يَنِشَّ الزيتُ ويبُخّ كقط وطأ أحدٌ ذنَبَه. لكن أمي، مقطبةً، تُسكتُه، وتخنقه دون رحمة، بإغراقه في الماء، كثيرٍ من الماء. هذا الفوز كان بالنسبة لي ثقيلاً، بل لا يُطاق: كنت إذذاك أدرك أن أمي يمكن أن تكون شِرّيرة، وتسبب في الأذى بضراوة، في نوع من العناد الفظيع، مماثل لعناد خادمة الجيران التي، بعد أن تلد القطةُ، كانت تضع أولادها في إناء البول الذي تملأه بالماء.. كانت المعركة غير المتكافئة حول النار تنقضي في سحابة من البخار تُغلِّف المطبخَ كلَّه. تَشرعُ القِدر، وقد هدأَت، في الهرير.
منّانة هي التي رَوَت لي إعدام القطط الصغيرة. ما كان يحزنني في عملية القتل هذه، لكني لم أكن أجرؤ على الحديث عنها (دائما فكرة أن القصة محتومة في اكتمالها)، فضلاً عن نظرة اللامبالاة من كل أولئك، أطفالاً وكباراً، الذين يعانون المشهد، كان هو موقف القطة. كانت منّانة تؤكد لي أنه لم يكن يلزمها كثيرٌ من الوقت لتنسى صغارَها.
يومَ حَضرت منّانة إلى البيت، أخضعَتها أمي دون تأجيل لطقس عبور: ذرَّت على شعرها دواءً ضدّ القمل، بنفس الضراوة التي تكشف عنها حين إغراقها الزيت في القِدر. لما صُفِّيَ القملُ، لم يَعُد لمنّانة سوى عيبٍ واحد: كانت تحبّ السُّكّر بإفراط. لذلك كانت أمي تُصِرّ على أن تظل هذه المادة دائما تحت القفل.
لكن في حوالي الخامسة عشرة، اكتسَبَت منّانة عادة رديئة، أكثر خطورة: ما أن يتراخى انتباه أمي، حتى تندفع إلى الخارج، إلى رأس الدرب، فتنظر يمينا وشمالا، ثم تعود متسللة. مع الوقت، صارت وقفاتها في رأس الدرب أكثر عددا، وأشدّ تلهّفاً: من الواضح أنها كانت تترصّد أحداً كان مرورُه غير المؤكّد لا يمكن أن يتطابق، إلا بمصادفة خارقة، مع اللحظة التي كانت، مُغافِلةً يقظةَ أمي، تنفلت فيها إلى الخارج.
في هذه الفترة بدأتْ تُدخّن، على مثال خادمة الجيران، الأكبر سنّاً منها بقليل. كانت تتزود بالطبع من علب سجائر والدي، وتصعد لتدخن على السطح، وهو مَرصَد مثالي لمراقبة الدروب المجاورة. لم يلاحظ أبي شيئا في البداية. قد يكون قال لنفسه ببساطة إنه يدخن أكثر مما ينبغي وعليه أن يخفف من استهلاكه. غير أن هذا الاستهلاك، يوما بعد يوم، كان يتصاعد. شرع حينئذ في حساب عدد سجائره، فاستقرّت تهمةُ رهيبة في ذهنه. كان يرميني بنظرات غريبة، وزاد من حيرته أنه كانت توجَد مواضيع لم نكن نتكلم عنها أبداً. لا بدّ أيضاً أنه كان يخشى أن يظلمني باتهمامي دون أدلّة. هو نفسه لم يبدأ التدخين إلا في الثامنة عشرة، حين وجد عملاً وصار قادراً على دفع ثمن تبغه بنقوده، بالمختصر، حين صار، حسب تعبير عزيز عليه، "رَجُلاً".
كلمةٌ واحدة كانت ستكفي لإزاحة التهمة التي تثقلني، لكني لم أنطق بها لأن المسألة من جهة كانت تتعلق بموضوع شائن، ومن جهة أخرى لأن منّانة هدّدتني أن لا تعود إلى اللعب معي إن خُنتُها. صحيح أنني لم أكن بريئا تماماً: في يومٍ كان أبي قد ترك فيه عقِب سيجارة مشتعلاً في المنفضة، تأكدتُ أن لا أحد كان يراني وحملتُه إلى فمي. كان مذاقُه من المرارة (أبي كان يدخن سجائر بدون فِلتر) بحيث رميتُ به على الفور، مصمِّماً على أن لا أكرر المحاولة. كان لديّ انطباع أن رائحة التبغ الفظيعة لن تفارق أبداً شفتي وستلاحقني مدى الحياة بوصمة الفضيحة. والحال أن منانة التي كانت متخفية، ترقُب العقِب باشتهاء، انبثَقَتْ بغتةً، بانتشاء وارتياح. جذبَت نفَساً طويلاً، ونفثَت الدخان في وجهي: صار لي سبب إضافي لأمتنع عن الوشاية بها.
كان أبي، يائساً، يُخضعني لرقابة وثيقة، وذات صباح (كانت تلك دائماً اللحظة من النهار التي يتخذ فيها قراراته الكبرى)، قام بفعل لم يُسمَع بمثله: قدّم لي سيجارة. شممتُ فوراً الفخّ، فرفضتُ متضايقاً.
إذا كان لم يتّهم منّانة، فذلك بسبب اعتقاد راسخ عنده بأن امرأة لا ينبغي أن تدخن، وبالتالي لا يمكنها أن تفعل ذلك، بينما أنا، بصفتي "رَجُلاً" في المستقبل، يمكن أن أنساق إلى الغواية. كانت أمي، بالطبع، تعرف، لكنها لم تُرد إذلال منّانة وإثارة غضبٍ من الأب لا جدوى منه. فضلا عن أنها إذا كانت بخيلة فيما يخص السكّر، فهي لا تكترث إطلاقا بالسجائر. فسواء عندها دخَّنها أبي أو منّانة (رغم أنه قد يحصُل لها أن توبِّخ هذه الأخيرة). كانت تفضل دون شك أن تتجنب التفكير في هذا التبذير الهائل، في كل هذه الملايير التي تُهدَر، عبر العالم، دخاناً. سنوات فحسب بعد هذا، لما لم تعد منانة تسكن معنا، قالت الحقيقة لأبي. رماني بنظرة كان فيها، فضلا عن اتّضاح سوء التفاهم، شعور بالخلاص، والامتنان: أي شيء لن يَقْدِر عليه طفلٌ يدخن؟
أحياناً، كانت منّانة تَقطَع تدخينَها فوق السطح، وتندفع هابطة، ثم تخرج إلى الدرب. شخص ما كان يمرّ هناك في تلك اللحظة.
كانت تهدأ قليلاً حين تحضر "أمّها" (هي في الحقيقة خالتها، لكنها كانت تدعوها بهذا الاسم لسبب أو لغيره)، كلّ شهرين، إلى البيت. لم تكن هذه الزيارة تروق أبي على الإطلاق، فيَسوء مزاجُه، ويبدو متأهِّباً للخروج، لكنه لا يدري إلى أين. أمي أيضا لم تكن مبتهجة للزيارة، لكنها كانت تحتملها بتجلّد، كما تتحمّل انهمار المطر المفاجئ والحر المرهق. وحاصل الأمر، كانت أمي في توافق كامل مع الطبيعة، بينما أبي يثور ضد الريح، والمطر، والشمس، ويشتمها في عبارات تقارب أحياناً التجذيف.
لقد انتهى إلى قبول الفكرة، الضمنية، بأن البيت في الواقع تملكه المرأة، وليس الرجل مقبولاً بداخله إلا في بعض الساعات المحددة، وقت وجبات الطعام، وأيضا في المساء، لا متأخرا، ولكن كذلك لا مبكرا. كانت أشغال البيت الصباحية تطرده. الماء في كل مكان، والفيضان المحتوم يزحف حتى الركن حيث لجأ بأشيائه المسكينة التي يتمكن من إنقاذها، سجائره، والمنفضة، والجريدة وثمالة قهوة في كأس. كانت أمي وسط العاصفة، وهي تصرخ بأوامرها إلى منّانة، تتحول صراحة إلى شريرة، تماماً كما تكون حين ترمي بقطع اللحم على الزيت المفرط السخونة. إذا كان للمطر عليها تأثير منعش، فإن ماء التنظيف كان يجعلها في حال من التهيّج، والويل لمن يوجد حينئذ على طريقها: سيُلقى به من السفينة لتجرفه اللُّجّة الثائرة الهادرة. مع اقتراب الأعياد، تصير الأمور أسوأ. كانت كل غرفة تخضع لتنظيف كامل. فتهاجم، متسلِّحةً بمكنسة طويلة، داخل الغرف المفرغة من أثاثها، الجدران، والأبواب، والسقوف. كان أبي، الضائع في هذا الجو من الترحيل، والقيامة، يشق لنفسه طريقاً في الفناء المزحزم بالأرائك وركام متنافر، وينجو بنفسه متسلِّلاً، هارباً. كان يبحث عن ملجأ عند أخته، لكن هذه كانت تستقبله بعزّافة في يدها. يتراجع في الحال، مُجيلاً في رأسه على ما يبدو أفكاراً سوداء حول طبيعة الأنثى الخالدة.
أخيرا تغادر والدة منّانة، بعد يومين أو ثلاثة، بأجرة شهرين تَصُرّها في طرف من إزارها. كانت كذلك تستلِب من أمي، بحسب الظروف، قفطاناً عتيقاً، أو لباساً أو –وهذا يروقها أكثر- قماشاً جديداً ولامعاً كان يبدو خارجاً من مغارة علي بابا، والذي كان مصيرُه يتركني في حيرة. بعد انصرافها، كانت أمّي تُشمِّس السَّدّاري الذي نامت عليه، وتذرّه بالدواء ضد القمل.
جاء اليوم الذي لم تعد فيه الخرجات الخفية تكفي منّانة. كانت تريد النزهة في "الجَّرْدة" ظُهر يوم الجمعة. أمي، التي أعيَتها الحيلة، رضَخت، لكنها تجنَّبت، فيما أعتقد، إبلاغ أبي (ما كان ذلك سيؤدي سوى إلى تعقيد الأمور). في ذلك اليوم، كانت منانة ترتدي أجمل لباسها وتذهب، رفقة خادمة الجيران، تلك التي تُغرق القطط الصغيرة، والتي تمكنت من انتزاع نفس الحق.
ذات جمعة، لم ترجع منانة في المساء إلى البيت. علمنا بعد ذلك أنها قد تزوّجت، فاختفت عن أنظارنا. بعد ذلك، كلما جاءت لزيارة أمي، كنت ألحظ فيها تحوّلا لم أكن أستطيع تحديده ويثير تهيُّبي. كان لباسُها أفضل، مكحولة العينين مصبوغة الخدّين. صارت جميلة جدا، وفي الآن ذاته، نائية، منيعة. لم تعد تقبل إلا بفتور اللعبَ معي، رغم أنني، لاسترضائها، كنت أسرق سجائر أبي.
لما لم يعد لأمها أيّ مبرر للمجيء عندنا، لم نعد نراها. ارتاح أبي لذلك، لكنه كان بعيداً عن الظن بأن الأمور لن تتحسن، وأن منانة، في كل زيارة منها، سيصاحبها زوجها، ثم طفلاها بعد ذلك. كان الزوج طويل القامة (كان لا بدّ لأبي أن يرفع عينيه لينظر إليه)، متيناً وصامتاً. أول مرة جاء فيها إلى البيت، ارتكب خطأ لا يغتفر: مباشرة بعد الغذاء، ذهب ليرقد على فراش أبي، في ذلك المكان الوحيد حيث كان يحسّ نفسَه في بيته لأن أمي، بالقوة المواربة للماء الذي يثلم الصخر، قد انتهت بغزو الأمكنة الأخرى. لم يقل أبي شيئا، لم ينظر حتى جهة أمي ليُشهدها على خطورة الإهانة التي نالته، إهانة لا بد أنه كان يعتقدها مسؤولة عنها (كل ما يتصل بمنانة هو من اختصاصها). لكن أمي همسَت ببضع كلمات في أذن منّانة التي ردَّدَتْها، بدورها، لزوجها، الذي، بتمهّل مدروس، نهض وذهب ليقضي قيلولته على سدّاري المطبخ.
لم يوجّه له أبي الكلام بعد ذلك. لم يغفر له إلا بعد زمن طويل، يوم حدث لهذا الرجل الذي كان في كل زيارة منه يحمل إلينا النعناع، أن صدمته شاحنة فقتلته. غلَّفه صمتُ الموت على الفور؛ التهمه العدم دونَ رجعة، فلم تُحفَظ عنه أيُّ قولة بارزة، ولم تُتداوَل أيُّ حكاية لتخليد ذكراه. لم يكن يُعرَف عنه أي شيء، لكن الأدهى هو أنه في حياته كما بعد مماته لا أحد كان يرغب في أن يعرف أي شيء يتعلق به. لم تعد منّانة تذكُره أبداً إلا عرَضاً وبطريقة غير مباشرة، لما كانت تشتكي من متاعب لا تحصى، أثارها المحامي الذي كان مبدئياً يدافع عنها لدى شركة التأمين. فقط في اليوم، المشكوك فيه، وعلى أية حال البعيد جدا، الذي ستحصل فيه على المال الموعود، ستتصالح دون شك مع زوجها.
منذ هذا المصاب، على فترات غير منتظمة، كانت منّانة تعود لزيارتنا. ما أن تستقر في المطبخ، حتى تخرج من حقيبة يدها علبة سجائر وتَشرع في التدخين، تحت نظرة أمي المتسامحة في غموض.
كانت قِطَع الفحم تتحوّل إلى جواهر فأفكر في موسى صبيّاً يختبره فرعون. جعلَه أمام جمر وجواهر، فأمسك النبي المقبل بجمرة وحملها إلى فمه. وَسَمَه ذلك مدى الحياة: انعقد لسانُه، فلم يكن يتكلم، فيما بعد، إلا بعسر. ولما كانت كل قصة، في ذلك الوقت، تبدو لي متَّصفةً بالكمال، وبالتالي غير قابلة للجدل، لم أكن أجرؤ على التوقف عند واحد من تفاصيل القصة: كيف حدث أن الجمرة لم تحرق يد موسى قبل أن تبلغ لسانه؟ أما عن اختيار الجمرة بدل الياقوتة... ذات يوم، بدافع الفضول، وضعتُ يدي على زجاج قنديل متوهج، فأوجعني ذلك كثيرا. وحتى يسليني، حكى لي أبي هذا الفصل من قصة موسى، صادفتُه بعد ذلك، بتفاصيل إضافية، في كتاب عن قصص الأنبياء.
لكن الحدث الأكثر درامية كان يحصل حين تصبّ أمي الزيتَ في القدر وتضيف إليه الملح، والتَّبزيرَة، وشرائح رقيقة من الثوم. كان الزيتُ يأخذ في الفوران، لكني كنتُ أعلم أن هذا الاغتباط لن يدوم. وبالفعل، ما أن ترمي أمي بقطَع اللحم في القِدر، حتّى يَنِشَّ الزيتُ ويبُخّ كقط وطأ أحدٌ ذنَبَه. لكن أمي، مقطبةً، تُسكتُه، وتخنقه دون رحمة، بإغراقه في الماء، كثيرٍ من الماء. هذا الفوز كان بالنسبة لي ثقيلاً، بل لا يُطاق: كنت إذذاك أدرك أن أمي يمكن أن تكون شِرّيرة، وتسبب في الأذى بضراوة، في نوع من العناد الفظيع، مماثل لعناد خادمة الجيران التي، بعد أن تلد القطةُ، كانت تضع أولادها في إناء البول الذي تملأه بالماء.. كانت المعركة غير المتكافئة حول النار تنقضي في سحابة من البخار تُغلِّف المطبخَ كلَّه. تَشرعُ القِدر، وقد هدأَت، في الهرير.
منّانة هي التي رَوَت لي إعدام القطط الصغيرة. ما كان يحزنني في عملية القتل هذه، لكني لم أكن أجرؤ على الحديث عنها (دائما فكرة أن القصة محتومة في اكتمالها)، فضلاً عن نظرة اللامبالاة من كل أولئك، أطفالاً وكباراً، الذين يعانون المشهد، كان هو موقف القطة. كانت منّانة تؤكد لي أنه لم يكن يلزمها كثيرٌ من الوقت لتنسى صغارَها.
يومَ حَضرت منّانة إلى البيت، أخضعَتها أمي دون تأجيل لطقس عبور: ذرَّت على شعرها دواءً ضدّ القمل، بنفس الضراوة التي تكشف عنها حين إغراقها الزيت في القِدر. لما صُفِّيَ القملُ، لم يَعُد لمنّانة سوى عيبٍ واحد: كانت تحبّ السُّكّر بإفراط. لذلك كانت أمي تُصِرّ على أن تظل هذه المادة دائما تحت القفل.
لكن في حوالي الخامسة عشرة، اكتسَبَت منّانة عادة رديئة، أكثر خطورة: ما أن يتراخى انتباه أمي، حتى تندفع إلى الخارج، إلى رأس الدرب، فتنظر يمينا وشمالا، ثم تعود متسللة. مع الوقت، صارت وقفاتها في رأس الدرب أكثر عددا، وأشدّ تلهّفاً: من الواضح أنها كانت تترصّد أحداً كان مرورُه غير المؤكّد لا يمكن أن يتطابق، إلا بمصادفة خارقة، مع اللحظة التي كانت، مُغافِلةً يقظةَ أمي، تنفلت فيها إلى الخارج.
في هذه الفترة بدأتْ تُدخّن، على مثال خادمة الجيران، الأكبر سنّاً منها بقليل. كانت تتزود بالطبع من علب سجائر والدي، وتصعد لتدخن على السطح، وهو مَرصَد مثالي لمراقبة الدروب المجاورة. لم يلاحظ أبي شيئا في البداية. قد يكون قال لنفسه ببساطة إنه يدخن أكثر مما ينبغي وعليه أن يخفف من استهلاكه. غير أن هذا الاستهلاك، يوما بعد يوم، كان يتصاعد. شرع حينئذ في حساب عدد سجائره، فاستقرّت تهمةُ رهيبة في ذهنه. كان يرميني بنظرات غريبة، وزاد من حيرته أنه كانت توجَد مواضيع لم نكن نتكلم عنها أبداً. لا بدّ أيضاً أنه كان يخشى أن يظلمني باتهمامي دون أدلّة. هو نفسه لم يبدأ التدخين إلا في الثامنة عشرة، حين وجد عملاً وصار قادراً على دفع ثمن تبغه بنقوده، بالمختصر، حين صار، حسب تعبير عزيز عليه، "رَجُلاً".
كلمةٌ واحدة كانت ستكفي لإزاحة التهمة التي تثقلني، لكني لم أنطق بها لأن المسألة من جهة كانت تتعلق بموضوع شائن، ومن جهة أخرى لأن منّانة هدّدتني أن لا تعود إلى اللعب معي إن خُنتُها. صحيح أنني لم أكن بريئا تماماً: في يومٍ كان أبي قد ترك فيه عقِب سيجارة مشتعلاً في المنفضة، تأكدتُ أن لا أحد كان يراني وحملتُه إلى فمي. كان مذاقُه من المرارة (أبي كان يدخن سجائر بدون فِلتر) بحيث رميتُ به على الفور، مصمِّماً على أن لا أكرر المحاولة. كان لديّ انطباع أن رائحة التبغ الفظيعة لن تفارق أبداً شفتي وستلاحقني مدى الحياة بوصمة الفضيحة. والحال أن منانة التي كانت متخفية، ترقُب العقِب باشتهاء، انبثَقَتْ بغتةً، بانتشاء وارتياح. جذبَت نفَساً طويلاً، ونفثَت الدخان في وجهي: صار لي سبب إضافي لأمتنع عن الوشاية بها.
كان أبي، يائساً، يُخضعني لرقابة وثيقة، وذات صباح (كانت تلك دائماً اللحظة من النهار التي يتخذ فيها قراراته الكبرى)، قام بفعل لم يُسمَع بمثله: قدّم لي سيجارة. شممتُ فوراً الفخّ، فرفضتُ متضايقاً.
إذا كان لم يتّهم منّانة، فذلك بسبب اعتقاد راسخ عنده بأن امرأة لا ينبغي أن تدخن، وبالتالي لا يمكنها أن تفعل ذلك، بينما أنا، بصفتي "رَجُلاً" في المستقبل، يمكن أن أنساق إلى الغواية. كانت أمي، بالطبع، تعرف، لكنها لم تُرد إذلال منّانة وإثارة غضبٍ من الأب لا جدوى منه. فضلا عن أنها إذا كانت بخيلة فيما يخص السكّر، فهي لا تكترث إطلاقا بالسجائر. فسواء عندها دخَّنها أبي أو منّانة (رغم أنه قد يحصُل لها أن توبِّخ هذه الأخيرة). كانت تفضل دون شك أن تتجنب التفكير في هذا التبذير الهائل، في كل هذه الملايير التي تُهدَر، عبر العالم، دخاناً. سنوات فحسب بعد هذا، لما لم تعد منانة تسكن معنا، قالت الحقيقة لأبي. رماني بنظرة كان فيها، فضلا عن اتّضاح سوء التفاهم، شعور بالخلاص، والامتنان: أي شيء لن يَقْدِر عليه طفلٌ يدخن؟
أحياناً، كانت منّانة تَقطَع تدخينَها فوق السطح، وتندفع هابطة، ثم تخرج إلى الدرب. شخص ما كان يمرّ هناك في تلك اللحظة.
كانت تهدأ قليلاً حين تحضر "أمّها" (هي في الحقيقة خالتها، لكنها كانت تدعوها بهذا الاسم لسبب أو لغيره)، كلّ شهرين، إلى البيت. لم تكن هذه الزيارة تروق أبي على الإطلاق، فيَسوء مزاجُه، ويبدو متأهِّباً للخروج، لكنه لا يدري إلى أين. أمي أيضا لم تكن مبتهجة للزيارة، لكنها كانت تحتملها بتجلّد، كما تتحمّل انهمار المطر المفاجئ والحر المرهق. وحاصل الأمر، كانت أمي في توافق كامل مع الطبيعة، بينما أبي يثور ضد الريح، والمطر، والشمس، ويشتمها في عبارات تقارب أحياناً التجذيف.
لقد انتهى إلى قبول الفكرة، الضمنية، بأن البيت في الواقع تملكه المرأة، وليس الرجل مقبولاً بداخله إلا في بعض الساعات المحددة، وقت وجبات الطعام، وأيضا في المساء، لا متأخرا، ولكن كذلك لا مبكرا. كانت أشغال البيت الصباحية تطرده. الماء في كل مكان، والفيضان المحتوم يزحف حتى الركن حيث لجأ بأشيائه المسكينة التي يتمكن من إنقاذها، سجائره، والمنفضة، والجريدة وثمالة قهوة في كأس. كانت أمي وسط العاصفة، وهي تصرخ بأوامرها إلى منّانة، تتحول صراحة إلى شريرة، تماماً كما تكون حين ترمي بقطع اللحم على الزيت المفرط السخونة. إذا كان للمطر عليها تأثير منعش، فإن ماء التنظيف كان يجعلها في حال من التهيّج، والويل لمن يوجد حينئذ على طريقها: سيُلقى به من السفينة لتجرفه اللُّجّة الثائرة الهادرة. مع اقتراب الأعياد، تصير الأمور أسوأ. كانت كل غرفة تخضع لتنظيف كامل. فتهاجم، متسلِّحةً بمكنسة طويلة، داخل الغرف المفرغة من أثاثها، الجدران، والأبواب، والسقوف. كان أبي، الضائع في هذا الجو من الترحيل، والقيامة، يشق لنفسه طريقاً في الفناء المزحزم بالأرائك وركام متنافر، وينجو بنفسه متسلِّلاً، هارباً. كان يبحث عن ملجأ عند أخته، لكن هذه كانت تستقبله بعزّافة في يدها. يتراجع في الحال، مُجيلاً في رأسه على ما يبدو أفكاراً سوداء حول طبيعة الأنثى الخالدة.
أخيرا تغادر والدة منّانة، بعد يومين أو ثلاثة، بأجرة شهرين تَصُرّها في طرف من إزارها. كانت كذلك تستلِب من أمي، بحسب الظروف، قفطاناً عتيقاً، أو لباساً أو –وهذا يروقها أكثر- قماشاً جديداً ولامعاً كان يبدو خارجاً من مغارة علي بابا، والذي كان مصيرُه يتركني في حيرة. بعد انصرافها، كانت أمّي تُشمِّس السَّدّاري الذي نامت عليه، وتذرّه بالدواء ضد القمل.
جاء اليوم الذي لم تعد فيه الخرجات الخفية تكفي منّانة. كانت تريد النزهة في "الجَّرْدة" ظُهر يوم الجمعة. أمي، التي أعيَتها الحيلة، رضَخت، لكنها تجنَّبت، فيما أعتقد، إبلاغ أبي (ما كان ذلك سيؤدي سوى إلى تعقيد الأمور). في ذلك اليوم، كانت منانة ترتدي أجمل لباسها وتذهب، رفقة خادمة الجيران، تلك التي تُغرق القطط الصغيرة، والتي تمكنت من انتزاع نفس الحق.
ذات جمعة، لم ترجع منانة في المساء إلى البيت. علمنا بعد ذلك أنها قد تزوّجت، فاختفت عن أنظارنا. بعد ذلك، كلما جاءت لزيارة أمي، كنت ألحظ فيها تحوّلا لم أكن أستطيع تحديده ويثير تهيُّبي. كان لباسُها أفضل، مكحولة العينين مصبوغة الخدّين. صارت جميلة جدا، وفي الآن ذاته، نائية، منيعة. لم تعد تقبل إلا بفتور اللعبَ معي، رغم أنني، لاسترضائها، كنت أسرق سجائر أبي.
لما لم يعد لأمها أيّ مبرر للمجيء عندنا، لم نعد نراها. ارتاح أبي لذلك، لكنه كان بعيداً عن الظن بأن الأمور لن تتحسن، وأن منانة، في كل زيارة منها، سيصاحبها زوجها، ثم طفلاها بعد ذلك. كان الزوج طويل القامة (كان لا بدّ لأبي أن يرفع عينيه لينظر إليه)، متيناً وصامتاً. أول مرة جاء فيها إلى البيت، ارتكب خطأ لا يغتفر: مباشرة بعد الغذاء، ذهب ليرقد على فراش أبي، في ذلك المكان الوحيد حيث كان يحسّ نفسَه في بيته لأن أمي، بالقوة المواربة للماء الذي يثلم الصخر، قد انتهت بغزو الأمكنة الأخرى. لم يقل أبي شيئا، لم ينظر حتى جهة أمي ليُشهدها على خطورة الإهانة التي نالته، إهانة لا بد أنه كان يعتقدها مسؤولة عنها (كل ما يتصل بمنانة هو من اختصاصها). لكن أمي همسَت ببضع كلمات في أذن منّانة التي ردَّدَتْها، بدورها، لزوجها، الذي، بتمهّل مدروس، نهض وذهب ليقضي قيلولته على سدّاري المطبخ.
لم يوجّه له أبي الكلام بعد ذلك. لم يغفر له إلا بعد زمن طويل، يوم حدث لهذا الرجل الذي كان في كل زيارة منه يحمل إلينا النعناع، أن صدمته شاحنة فقتلته. غلَّفه صمتُ الموت على الفور؛ التهمه العدم دونَ رجعة، فلم تُحفَظ عنه أيُّ قولة بارزة، ولم تُتداوَل أيُّ حكاية لتخليد ذكراه. لم يكن يُعرَف عنه أي شيء، لكن الأدهى هو أنه في حياته كما بعد مماته لا أحد كان يرغب في أن يعرف أي شيء يتعلق به. لم تعد منّانة تذكُره أبداً إلا عرَضاً وبطريقة غير مباشرة، لما كانت تشتكي من متاعب لا تحصى، أثارها المحامي الذي كان مبدئياً يدافع عنها لدى شركة التأمين. فقط في اليوم، المشكوك فيه، وعلى أية حال البعيد جدا، الذي ستحصل فيه على المال الموعود، ستتصالح دون شك مع زوجها.
منذ هذا المصاب، على فترات غير منتظمة، كانت منّانة تعود لزيارتنا. ما أن تستقر في المطبخ، حتى تخرج من حقيبة يدها علبة سجائر وتَشرع في التدخين، تحت نظرة أمي المتسامحة في غموض.