“حتى عهد قريب كانت الحداثة تعني تمرداً غير محافظ ضد الأفكار الجاهزة وضد الكيتش. أما اليوم، فتمتزج الحداثة بالحيوية المتدفقة لوسائل الإعلام. أن يكون المرء حديثاً أصبح يعني أن يبذل مجهوداً خارقاً كي يكون مواكباً لما يجري، يكون طبق ما يجري مقدوداً عليه، يكون أكثر محافظة من كل المحافظين. لقد ارتدت الحداثة رداء الكيتش”.
ميلان كونديرا
اتخذ اللافكر صوراً متنوّعة تنوّع الظروف التاريخية والملابسات الثقافية، فكان على أشكال المقاومات التي يمكن للفكر أن يتخذها والأدوار التي باستطاعته أن يلعبها أن تتلوّن وتتعدّد: ففي وقت اتخذ اللافكر صورة الخطأ، فكانت مهمة الفكر هي الحيلولة دون الوقوع في الأخطاء. من أجل ذلك كان الهوَس الأساس للفكر هوساً معرفياً إبيستيمولوجياً، كان على الفكر أن يعبّد الطريق ويضع «المنهج» ويستخلص «قواعد لتوجيه العقل».
عندما انتبه الفكر أن هذا التحصين المنهجي لن يمكّنه من تفادي الأوهام التي هي من صميم العقل ذاته حتى وإن كانت تعمل ضده، تسلح بالنقد لتحديد شروط الصلاحية، أو كما قيل تحديد «مجال الاستخدام المشروع للعقل».
عند وعي الفكر بأن هذه الأوهام تتجاوز العقل الفردي لتتخذ بعداً تاريخياً وتقطن «الأطر الاجتماعية للمعرفة»، وتتجسد في «الأجهزة الأيديولوجية للدولة»، بل وتسكن اللغة وتتخفى في اللاشعور، أخذ على عاتقه نقد «الوعي المغلوط»، وفضح أوهام الأيديولوجيا، ومطاردة أوثانها، وتحليل اللاشعور وسبر أغواره.
لكن، ابتداء من القرن التاسع عشر لن يكتفي الفكر لا بالتحصين المنهجي، ولا بمحاكمة العقل، ولن يقنع بالنضال ضد الأوهام، وإنما سيغدو مقاومة، ومقاومة تكافئ في عنادها، لا صلابة الأخطاء، ولا قوة الأوهام ومكرها، وإنما ما يدعوه دولوز بعد نيتشه: البلاهة LA BÊTISE. صارت مهمة الفكر الأساسية على حد تعبير نيتشه «إزعاج البلاهة ومضايقتها».
كل المسألة تؤول إذاً إلى ما نعنيه بالبلاهة. حتى هذا القرن لم يكن أحد يشك في وجود البلاهة، إلا أنها كانت تُفهم على نحو مغاير لما سيعرف فيما بعد. فإذا استعملت بصيغة الجمع LES BÊTISES، فإنها تعني مجرد الحماقات، أما بصيغة المفرد فهي ترد إلى الحيوانية وغياب الذكاء، وبالتالي إلى ردود الفعل الغريزية. انطلاقاً من ذلك فقد ظلت الكلمة تعني مجرد غياب للمعارف، وهو غياب كان يُنظر إليه على أنه يمكن أن يُتدارك عن طريق التربية والتكوين.
استلهاماً من عنوان كتاب فلوبير «قاموس الأفكار الجاهزة»، ذلك الكتاب الذي عمد فيه صاحبه إلى جمع العبارات الجاهزة التي كان الناس في محيطه يتفوّهون بها كي يظهروا بمظهر العارفين بمجريات الأمور، حاول كونديرا تحديد البلاهة بمعناها الحديث فكتب: «إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة».
ابتداء من القرن التاسع عشر إذاً، وبالضبط مع فلوبير كما بيّن كونديرا، غدت البلاهة بمعناها الجديد بُعداً ملازماً للوجود البشري. غير أن ما سيبعث على الفزع هو أنها لن تمحى أمام العلم والتقنية والتقدم والحداثة، بل إنها ستزداد «تقدماً» مع التقدّم. وهذا بالضبط ما سيتكرس فيما بعد، حيث ستزداد الأفكار الجاهزة انتشاراً مع تقدم وسائل الإعلام، ويتسع مجال اللافكر الذي تنطوي عليه، خصوصاً بعد أن يترجمها الكيتش إلى لغة الجمال والوجدان.
بما أن الكيتش هو حاجة الإنسان إلى أن يرى نفسه في مرآة الكذب في صورة أكثر جمالاً، وأن ينال إعجاب أكبر عدد من الناس وبأي ثمن، فإنه يجد نفسه مضطراً لتكريس ما يودّ الجميع سماعه، أي لخدمة الأفكار الجاهزة.
هذه الضرورة القاهرة لنيل إعجاب أكبر عدد من الناس وإثارة انتباههم، تجعل جمالية وسائل الإعلام حتماً هي جمالية الكيتش. فبقدر ما تشمل وسائل الإعلام مجموع حياتنا وتحيط بنا وتخترقنا، بقدر ما يغدو الكيتش جماليتنا وأخلاقنا اليومية.
لن يكفي الفكر والحالة هذه، لا تصحيح الأخطاء، ولا فضح أوهام الأيديولوجية ونقد آلياتها، ولا مطاردة الأوثان وملاحقتها، وإنما يكون عليه أن يقاوم البلاهة، ويتعقب اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة، ويفضح الأساليب التي ينجرّ عن طريقها الإنسان الحديث إلى أن يكون طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها CON-FORME، إلى «أن يكون أكثر محافظة CONFORMISME من كل المحافظين».
ميلان كونديرا
اتخذ اللافكر صوراً متنوّعة تنوّع الظروف التاريخية والملابسات الثقافية، فكان على أشكال المقاومات التي يمكن للفكر أن يتخذها والأدوار التي باستطاعته أن يلعبها أن تتلوّن وتتعدّد: ففي وقت اتخذ اللافكر صورة الخطأ، فكانت مهمة الفكر هي الحيلولة دون الوقوع في الأخطاء. من أجل ذلك كان الهوَس الأساس للفكر هوساً معرفياً إبيستيمولوجياً، كان على الفكر أن يعبّد الطريق ويضع «المنهج» ويستخلص «قواعد لتوجيه العقل».
عندما انتبه الفكر أن هذا التحصين المنهجي لن يمكّنه من تفادي الأوهام التي هي من صميم العقل ذاته حتى وإن كانت تعمل ضده، تسلح بالنقد لتحديد شروط الصلاحية، أو كما قيل تحديد «مجال الاستخدام المشروع للعقل».
عند وعي الفكر بأن هذه الأوهام تتجاوز العقل الفردي لتتخذ بعداً تاريخياً وتقطن «الأطر الاجتماعية للمعرفة»، وتتجسد في «الأجهزة الأيديولوجية للدولة»، بل وتسكن اللغة وتتخفى في اللاشعور، أخذ على عاتقه نقد «الوعي المغلوط»، وفضح أوهام الأيديولوجيا، ومطاردة أوثانها، وتحليل اللاشعور وسبر أغواره.
لكن، ابتداء من القرن التاسع عشر لن يكتفي الفكر لا بالتحصين المنهجي، ولا بمحاكمة العقل، ولن يقنع بالنضال ضد الأوهام، وإنما سيغدو مقاومة، ومقاومة تكافئ في عنادها، لا صلابة الأخطاء، ولا قوة الأوهام ومكرها، وإنما ما يدعوه دولوز بعد نيتشه: البلاهة LA BÊTISE. صارت مهمة الفكر الأساسية على حد تعبير نيتشه «إزعاج البلاهة ومضايقتها».
كل المسألة تؤول إذاً إلى ما نعنيه بالبلاهة. حتى هذا القرن لم يكن أحد يشك في وجود البلاهة، إلا أنها كانت تُفهم على نحو مغاير لما سيعرف فيما بعد. فإذا استعملت بصيغة الجمع LES BÊTISES، فإنها تعني مجرد الحماقات، أما بصيغة المفرد فهي ترد إلى الحيوانية وغياب الذكاء، وبالتالي إلى ردود الفعل الغريزية. انطلاقاً من ذلك فقد ظلت الكلمة تعني مجرد غياب للمعارف، وهو غياب كان يُنظر إليه على أنه يمكن أن يُتدارك عن طريق التربية والتكوين.
استلهاماً من عنوان كتاب فلوبير «قاموس الأفكار الجاهزة»، ذلك الكتاب الذي عمد فيه صاحبه إلى جمع العبارات الجاهزة التي كان الناس في محيطه يتفوّهون بها كي يظهروا بمظهر العارفين بمجريات الأمور، حاول كونديرا تحديد البلاهة بمعناها الحديث فكتب: «إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة».
ابتداء من القرن التاسع عشر إذاً، وبالضبط مع فلوبير كما بيّن كونديرا، غدت البلاهة بمعناها الجديد بُعداً ملازماً للوجود البشري. غير أن ما سيبعث على الفزع هو أنها لن تمحى أمام العلم والتقنية والتقدم والحداثة، بل إنها ستزداد «تقدماً» مع التقدّم. وهذا بالضبط ما سيتكرس فيما بعد، حيث ستزداد الأفكار الجاهزة انتشاراً مع تقدم وسائل الإعلام، ويتسع مجال اللافكر الذي تنطوي عليه، خصوصاً بعد أن يترجمها الكيتش إلى لغة الجمال والوجدان.
بما أن الكيتش هو حاجة الإنسان إلى أن يرى نفسه في مرآة الكذب في صورة أكثر جمالاً، وأن ينال إعجاب أكبر عدد من الناس وبأي ثمن، فإنه يجد نفسه مضطراً لتكريس ما يودّ الجميع سماعه، أي لخدمة الأفكار الجاهزة.
هذه الضرورة القاهرة لنيل إعجاب أكبر عدد من الناس وإثارة انتباههم، تجعل جمالية وسائل الإعلام حتماً هي جمالية الكيتش. فبقدر ما تشمل وسائل الإعلام مجموع حياتنا وتحيط بنا وتخترقنا، بقدر ما يغدو الكيتش جماليتنا وأخلاقنا اليومية.
لن يكفي الفكر والحالة هذه، لا تصحيح الأخطاء، ولا فضح أوهام الأيديولوجية ونقد آلياتها، ولا مطاردة الأوثان وملاحقتها، وإنما يكون عليه أن يقاوم البلاهة، ويتعقب اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة، ويفضح الأساليب التي ينجرّ عن طريقها الإنسان الحديث إلى أن يكون طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها CON-FORME، إلى «أن يكون أكثر محافظة CONFORMISME من كل المحافظين».