لو أجرينا اليوم استطلاعا في أي جهة من جهات العالم بهدف تحديد ما لليسار وما لليمين، لتبيّن لنا أنهم قلة أولئك الذين مازالوا يميّزون هذا عن ذاك.
الشعور الذي يسود اليوم هو أنه لم تعد هناك مؤسسة بعينها تُجسد اليسار مقابل أخرى تُجسّد اليمين. لم يعد اليسار جهة نركن لها، ولا فئة ننضم إليها، ولا موقفا نتخذه. اليسارية و(اليمينية) لم تعد خاصية آراء أو أفكار. فكثير من الآراء والأفكار مما يُحسب على اليسار سرعان ما يغدو يمينيا والعكس. نتبين ذلك بشكل ملموس كلما اقتربت فترة الاقتراعات، حيث تتوحد اللغة، وتتقاطع البرامج، وتختلط الأوراق.
ربما لأجل ذلك لم يعمل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، في محاولته تحديد الثنائي يسار/يمين، على أن يربطه على نحو مباشر بالسياسة، ولا بالأيديولوجيا، ولا حتى بالأخلاق. ولم يتبق له إلا أن يعرّفه تعريفا بصريا، ويجعله أساسا مسألة منظورات. قضية اليسار واليمين في رأيه هي قضية إدراك وقضية منظورية. هناك طريقتان لتَمَثُّل العالم وقضاياه: طريقة ترى الأبعد عبر الأقرب، والكل عبر الجزء، والموضوعي عبر الذاتي، والعمومي عبر الخصوصي، والأقلي عبر الأكثري.. وطريقة مخالفة تسعى إلى أن ترى الأمور من منظور معاكس. هناك نظرة يمينية تنطلق من دائرة الفرد كي ترى عبرها دائرة الحي، فدائرة المدينة، فدائرة الوطن، فدائرة العالم، أما الأخرى فزاوية نظرها مخالفة. في المنظور اليساري تغدو قضايا العالم هي قضايا الوطن، وقضايا الوطن هي قضايا الفرد. هنا يُنظَر إلى الأمور لا بهدف تكريس نموذج الأكثرية، وإنما استجابة لصيحة الأقليات.
كل المسألة إذاً تؤول إلى الكيفية التي نحدد بها مفهومي الأقليّة والأكثريّة. يرى دولوز أنه ليس من الضروري أن تكون الأقلية أقل عددا من الأكثرية. ربما العكس هو الأصح. وما ذلك ربما إلا لأن لا علاقة للأقل والأكثر هنا بالكمّ والعدد. فقد يكون التفاضل نسبة إلى القوة والسلطة. لكنه يكون دوما قياسا إلى معيار. هذا المعيار هو الذي يُحدّد الأغلبية، فيرمي بالأقليات «خارجا». لهذا المعيار تاريخ بطبيعة الحال، وله علاقة بالثقافة التي ينمو في حضنها. لكنه اليوم يريد أن يكون «كونيا»، فيجعل نمطا ثقافيا واحدا يضع الخط الفاصل بين الأغلبية والأقلية، وليس الأقليات بصيغة الجمع.
الأقلية إذاً هامش نسبة إلى مركز. وهي ليست جزءا من كل، أو كلا من جزء. بما أن الأقلية هامش، فهي فضاء الحركة والتحوّل، مجال الوعي المطلبي، فضاء الصيرورة. إذ إن الأكثرية لا تصير، لكونها لا تصبو إلى تحقيق نموذج، مادامت هي النموذج نفسه. أما الأقلية فهي تنشد التحول، ولكن، لا لتغدو هي المركز، وإنما لتقضي على المركزية. إنها لا تصبو أن تكون الطرف الآخر للثنائي، وإنما تهدف إلى أن تتخلخل المعيارية التي تقسم العالم وفق ثنائيات، والتي تضع نفسها جهة الإيجاب لترمي بالباقي في هاوية السلب.
على هذا النحو فإن اليسارية سعي إلى الانفلات من قبضة النموذج الأكثري بهدف إسماع صوت الأقليات: صوت النساء ضد نموذج الذكورة، صوت الألوان الأخرى ضد النموذج الأبيض، صوت المحرومين ضد نموذج الهيمنة...
كان لينين يقول: «علينا أن نكشف عند مَنْ وما يقدم نفسه يميناً وجهه اليساري والعكس». بهذا المعنى تغدو اليسارية حركة انفصال تقاوم النموذج الأكثري بلا كلل، وتقبع «داخل» كل يسار و«داخل» كل يمين لتنعش الاختلاف بينهما، ولتبيّن أن وراء الانفصال المزعوم، الذي يدعيه الثنائي الميتافيزقي بين الطرفين، تساكناً وتمازجاً من شأنه أن يُوهم البعض أن الأوراق اختلطت، وأن الاختلاف لم يعد يعمل عمله.
عن «الدوحة»
الشعور الذي يسود اليوم هو أنه لم تعد هناك مؤسسة بعينها تُجسد اليسار مقابل أخرى تُجسّد اليمين. لم يعد اليسار جهة نركن لها، ولا فئة ننضم إليها، ولا موقفا نتخذه. اليسارية و(اليمينية) لم تعد خاصية آراء أو أفكار. فكثير من الآراء والأفكار مما يُحسب على اليسار سرعان ما يغدو يمينيا والعكس. نتبين ذلك بشكل ملموس كلما اقتربت فترة الاقتراعات، حيث تتوحد اللغة، وتتقاطع البرامج، وتختلط الأوراق.
ربما لأجل ذلك لم يعمل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، في محاولته تحديد الثنائي يسار/يمين، على أن يربطه على نحو مباشر بالسياسة، ولا بالأيديولوجيا، ولا حتى بالأخلاق. ولم يتبق له إلا أن يعرّفه تعريفا بصريا، ويجعله أساسا مسألة منظورات. قضية اليسار واليمين في رأيه هي قضية إدراك وقضية منظورية. هناك طريقتان لتَمَثُّل العالم وقضاياه: طريقة ترى الأبعد عبر الأقرب، والكل عبر الجزء، والموضوعي عبر الذاتي، والعمومي عبر الخصوصي، والأقلي عبر الأكثري.. وطريقة مخالفة تسعى إلى أن ترى الأمور من منظور معاكس. هناك نظرة يمينية تنطلق من دائرة الفرد كي ترى عبرها دائرة الحي، فدائرة المدينة، فدائرة الوطن، فدائرة العالم، أما الأخرى فزاوية نظرها مخالفة. في المنظور اليساري تغدو قضايا العالم هي قضايا الوطن، وقضايا الوطن هي قضايا الفرد. هنا يُنظَر إلى الأمور لا بهدف تكريس نموذج الأكثرية، وإنما استجابة لصيحة الأقليات.
كل المسألة إذاً تؤول إلى الكيفية التي نحدد بها مفهومي الأقليّة والأكثريّة. يرى دولوز أنه ليس من الضروري أن تكون الأقلية أقل عددا من الأكثرية. ربما العكس هو الأصح. وما ذلك ربما إلا لأن لا علاقة للأقل والأكثر هنا بالكمّ والعدد. فقد يكون التفاضل نسبة إلى القوة والسلطة. لكنه يكون دوما قياسا إلى معيار. هذا المعيار هو الذي يُحدّد الأغلبية، فيرمي بالأقليات «خارجا». لهذا المعيار تاريخ بطبيعة الحال، وله علاقة بالثقافة التي ينمو في حضنها. لكنه اليوم يريد أن يكون «كونيا»، فيجعل نمطا ثقافيا واحدا يضع الخط الفاصل بين الأغلبية والأقلية، وليس الأقليات بصيغة الجمع.
الأقلية إذاً هامش نسبة إلى مركز. وهي ليست جزءا من كل، أو كلا من جزء. بما أن الأقلية هامش، فهي فضاء الحركة والتحوّل، مجال الوعي المطلبي، فضاء الصيرورة. إذ إن الأكثرية لا تصير، لكونها لا تصبو إلى تحقيق نموذج، مادامت هي النموذج نفسه. أما الأقلية فهي تنشد التحول، ولكن، لا لتغدو هي المركز، وإنما لتقضي على المركزية. إنها لا تصبو أن تكون الطرف الآخر للثنائي، وإنما تهدف إلى أن تتخلخل المعيارية التي تقسم العالم وفق ثنائيات، والتي تضع نفسها جهة الإيجاب لترمي بالباقي في هاوية السلب.
على هذا النحو فإن اليسارية سعي إلى الانفلات من قبضة النموذج الأكثري بهدف إسماع صوت الأقليات: صوت النساء ضد نموذج الذكورة، صوت الألوان الأخرى ضد النموذج الأبيض، صوت المحرومين ضد نموذج الهيمنة...
كان لينين يقول: «علينا أن نكشف عند مَنْ وما يقدم نفسه يميناً وجهه اليساري والعكس». بهذا المعنى تغدو اليسارية حركة انفصال تقاوم النموذج الأكثري بلا كلل، وتقبع «داخل» كل يسار و«داخل» كل يمين لتنعش الاختلاف بينهما، ولتبيّن أن وراء الانفصال المزعوم، الذي يدعيه الثنائي الميتافيزقي بين الطرفين، تساكناً وتمازجاً من شأنه أن يُوهم البعض أن الأوراق اختلطت، وأن الاختلاف لم يعد يعمل عمله.
عن «الدوحة»