بدأت أصوم و أنا في سن التاسعة من عمري و كنت حينها في الصف الثالث الابتدائي و لم أفطر سوى يوم واحد كانت المدارس فيه تحتفل بأحد الأعياد القومية و في مثل هذه الأعياد لا سيما عيد النصر و موعده 23 ديسمبر يخرج تلاميذ المدارس و يصطفون مدرسة مدرسة في طوابير و في مقدمة كل مدرسة التلاميذ حملة الأعلام المختلفة و فرق الموسيقات المدرسية و نخترق شوارع القرية الرئيسية من شارع إلى شارع و نحن ننشد مع الموسيقى الأناشيد الوطنية مثل نشيد : " الله أكبر " و أغنية " ناصر كلنا بنحبك .. ناصر وحنفضل جنبك .. ناصر يا حبيب الكل يا ناصر " يحف بنا المدرسون لضمان انتظام السير في الطوابير ، و لأنني كنت من التلاميذ طوال القامة فقد اختاروني ضمن ما كان يسمى بالشرطة المدرسية و أعطوني شريطا أحمر طرز عليه بخيوط من الحرير الأصفر عبارة ( الشرطة المدرسية ) و كان ذلك مثار زهو لي بين زملائي وعندما حللت هذه المشاعر فيما بعد اكتشفت أن الإنسان منذ نعومة أظفاره نزاع إلى أن يكون متميزا أو بتعبير أدق صاحب سلطة على من سواه لا سيما إذا كان من سواه في نفس سنه ، و بسبب المجهود الذي بذلته أو تخيلت أني بذلته في مشاركة مدرسينا في الحفاظ على نظام سير طوابير زملائي من التلاميذ بوصفي من الشرطة المدرسية فقد عطشت عطشا شديدا و لم أستطع الصيام إلى أخر اليوم .
كانت أمي - رحمة الله - عليها في غاية الفرح بصيامي لأن أبي بسبب طبيعة عمله كثيرا ما كان يفطر خارج البيت ، و تعودي الصيام معناه أنها وجدت من يشاركها هذه الفريضة الجليلة و طقوسها المختلفة لا سيما طقس الإفطار الذي يبدأ بتجهيز الطعام و انتطار سماع شيخ الجامع حين يؤذن لصلاة المغرب من فوق المئذنة فلم تكن قد انتشرت في ذلك الزمان مكبرات الصوت المزعجة لا سيما بالقرى ، كان أطفال الحي يتجمعون و أنا واحد منهم قبل أذان المغرب بجوار جامع الحي نلعب و نتهارش كالكلاب الصغيرة و نتبادل حكاياتنا الطفولية ، و حين يصعد الشيخ فوق المئذنة و يؤذن للمغرب يجري كل منا إلى منزله ليؤكد لأهله أن الشيخ قد أذن لصلاة المغرب ، و كنت عندما أدخل البيت أصعد السلم قفزا و أنا أهتف بهذه الجملة : " افطر يا صايم ع الكعك العايم " و هذه الجملة لا تخص تراث أسيوط و قراها بل تخص أرياف سوهاج جنوبا و قد لقنتها من أمي فوالداي من إحدى القرى التابعة لمركز البلينا جنوب محافظة سوهاج ، و أحيانا أفطر مع أمي على أذان الراديو و بعد الإفطار ننصت إلى الحلقة الجديدة من (ألف ليلة و ليلة) التي كان يكتبها للإذاعة الشاعر طاهر أبو فاشا و يخرجها المخرج الإذاعي الشهير محمد محمود شعبان ، و كانت أمي تنضج الطعام بأكثر من وسيلة فإذا كان هناك لحم أو طيور فالأصلح له كوعاء للطبخ (البرام) و البرام إناء أشبه بالحلة يصنع من الهمر و هو طينة مخصوصة ذات لون وردي ، و كان برام أمي ذا عروتين ( يدين ) و يوضع البرام على الكانون الذي يوقد بالحطب ( عيدان نبات القطن ) أو البوص ( عيدان نبات الذرة ) أما إن كان الطعام دون ذلك كالبيض حين يقلي او يسلق او الفول المدمس أو البصارة أو المسقعة و ما إلى ذلك فكانت تنضجه أمي على نار وابور الجاز البريموس ( كان اشهر أنواعه الأوبتيموس و البريموس) و تضعه في ركن الغرفة التي ننام فيها فيدفئ جوها في ليالي الشتاء و الوابور كان يصنع من النحاس و له ثلاثة أرجل أطرافها من أعلى تعمل كحوامل لما يوضع فوقه من الآنية و للوابور فتحة بمحبس يزود من خلالها بالكيروسين و كباس في الجنب لكبس الجاز كي يندفع من ثقب (الفونية) و يحدث الاشتعال ، كما كان هناك مفتاح صغير لجعل الشعلة أهدأ حين لا تكون هناك حاجة إلى نار شديدة و إذا سدت رواسب الجاز ثقب الفونية يسلك بإبرة تسمى إبرة الوابور و نشتريها من دكان البقال بخمسة فضة أو تعريفة ( خمسة مليمات ) ست إبر في كيس صغير من الورق ، و بمناسبة البرام كانت هناك (الدوكة) التي تحمر أمي اللحم و الطيور فيها بعد استخراجها ناضجة من البرام و تسمى الدوكة أحيانا ب(الزبدية) ، و في أرياف أسيوط تسمى (المرجسية) - و في ظني أن هناك فروقا بين تلك الأواني - ولكن الأسماء تداخلت لأن الفروق طفيفة أو أن تعدد الأسماء لمسمى واحد كان بسبب اختلاف البيئات مثل مشكلة المترادفات في اللغة العربية الفصيحة ، و بخلاف الزبدية أو المرجسية كانت هناك (الزروية) التي تشبه في شكلها الخارجي قدرة الفول لكن أضيق في خصرها و يخزن فيها السمن البلدي ( و بالمناسبة كنت و أنا صغير اغافل أمي لا سيما حين تكون مشغولة و أدخل إلى حيث الزروية فأرفع الغطاء عن فوهتها و أدس يدي الصغيرة داخلها و أغرف مما بها من سمن متجمد مقدار قبضة يدي أملأ فمي بها ، و غالبا ما كانت أمي تكتشف فعلتي بسبب ما كان يعلق بوجهي و جلابيتي من آثار فتعنفني ) ، هناك أيضا (المنطال) و هو وعاء من الهمر أيضا كباقي الأواني التي ذركرتها ، و أهم ما كان ينضج في المنطال من الأطعمة الفول و العدس الأسود أو (العدس أبو جبة) الذي كانت أمي تملأ منه الطبق ثم تدس فيه ملعقة السمن البلدي الكبيرة إلا أنني لم أكن أحبه و أتضايق بل يملأ نفسي النكد عندما أعرف أننا سنأكل اليوم عدسا بجبة على عكس (العدس الأصفر) الذي كنت و مازلت من عشاقه ، و في القاهرة حين كنت أعيش لوحدي قبل مجيء الأسرة كنت أذهب خصيصا إلى مطعم آخر ساعة أو مطعم القزاز في وسط البلد لأستمتع بوجبة عدس أصفر مع شرائح البصل المنقوعة في الخل خاصة في ليالي الشتاء ، المنطال لا يوصع لإنضاج ما فيه على الكانون في الغالب و لا على وابور الجاز مطلقا و إنما كان يدفن في جمهرة نار الفرن من الخلف بعد الانتهاء من خبز العيش الشمسي أو البتاو .
كان الراديو في تلك الأيام تسلية أمي الوحيدة لا سيما أننا لسنا من أهل القرية و بالتالي ليس لنا وسط عائلي من الأقارب نتواصل معهم اللهم نساء جيراننا اللائي كان يحلو لهن الجلوس في بعض الليالي على عتبة بيتنا و تبادل الأحاديث حول موضوعات شتى مع أمي التي لم تكن تخرج البتة من البيت ، و إلى أين تخرج و ليس لنا أقارب نزورهم أو يزوروننا ؟ ، أتذكر أنها لم تخرج من البيت حتى عندما انتقلنا للحياة في أسيوط كي ألتحق بالمدرسة الثانوية إلا ثلاث مرات فقط إحداهما للطبيب في وعكة ألمت بها و الثانية حين توفي خالي فسافر بها أبي إلى البلد لحضور الجنازة و الثالثة حين انتهيت من دراستي الجامعية فقرر العودة إلى البلد تاركا إياي في أسيوط معللا ذلك بأن مهمته تجاهي قد انتهت و علي منذ الآن الاعتماد على نفسي ، و بالرغم من أن أمي لم تكن تعرف القراءة و الكتابة إلا أنها من طول ملازمة الراديو الذي اقتناه والدي منذ أواخر الأربعينيات أي قبل ولادتي بسنوات ، و كان الراديو بداية وعيي له في سنوات ما قبل المدرسة قبل اختراع البطاريات الجافة و قبل ظهور الراديو الترانزستور يعمل ببطارية كبيرة في حجم أقل قليلا من حجم بطارية السيارة الآن ، و كان للراديو سلك أو إريال علوي ( هوائي ) و آخر سفلي يوضع طرفه في مكان رطب ( أرضي ) لست أدري لماذا ؟ ، تكونت لدى أمي ثقافة سمعية فقد كانت تواظب على سماع معظم مواد إذاعة البرنامج العام لا سيما في عدم وجود والدي الذي كان مغرما بسماع النشرات الأخبارية و بصفة خاصة من إذاعة صوت العرب ، و من أهم مواد الإذاعة في رمضان بخلاف (ألف ليلة و ليلة) برنامج " المسحراتي " الذي أصبح بأشعار فؤاد حداد و صوت الشيخ سيد مكاوي من العلامات المميزة للشهر الكريم ( الرجل تدب مطرح ما تحب و انا مسحراتي في البلد جوال ) و برنامج " أحسن القصص " الذي كان يبدأ بصوت إذاعي مميز يقرأ قوله تعالى : ( نحن نقص عليك .. ) إلى آخر الآية ، و كان في البرنامج ما يشيع الرعب في قلبي كطفل أحيانا مثل صوت عصف الرياح في الصحراء و صوت عواء الذئب و صوت المرأة العجوز التي كانت تصرخ بصوت مبحوح مرتعش في قصة نبي الله يوسف و إخوته بني إسرائيل : اقتلوا يوسف .. اقتلوا يوسف ، و أمي التي لم تكن تقرأ أو تكتب هي التي عشقت من خلالها سماع البرامج الغنائية مثل : قسم و أرزاق ( يا ترى انت فين يا مرزوق ؟ ، هو دا البحر المالح اللي ما لوش قرار .. يا لطيف اللطف يا رب ، أخلع عليك تاج الجزيرة ) و عوف الأصيل ( سيد طبوش العكر من الأعيان حارة أولاد جيعان ، و أغنية يا حلو ناديلي لكارم محمود و الإكسسوارات الصوتية المصاحبة للأغنية من مثل : هو سي عوف عنده حاجة وحشة ) و عذراء الربيع و علي بابا ( افتح ياسمسم افتح يا فول افتح يا عدس ، و يرحمكم الله يا بوسريع ، و غني يا مرجانة ) و خوفو ( أنا خوفو باني الهرم الأكبر ) و عواد باع أرضه ( يا أرضنا ياجنة مفروشة ورد و حنة .. عواد بقى مش منا .. عواد ماعاد عواد ، و شم الطين يا عواد ، فيه ريحة عرقك و عرق أبوك و أجدادك ) و الدندرمة ( مصنوعة بذوق و ايدين توفيق الدندرمة ، الصبح قامت فيه خناقة بين سي توفيق العياقة و صبي قهوة عيسى موسى ، طول عمرة سايق ف الحداقة محمود صبي قهوة عيسى موسى ، و الغالي يرخص عشان زكية ) و الراعي الأسمر و معروف الإسكافي الذي غنى فيه عبد الحليم حافظ قبل أن يشتهر ، و أمي هي التي عرفتني أن نجاة الصغيرة تلقب بالصغيرة للتمييز بينها و بين مطربة سابقة عليها اسمها نجاة علي .
في الرمضانات الشتوية بالقرية كانت أمي تستعين لتدفئة الغرفة ب(ماجور) كسرت إحدى حوافه فلم يعد صالحا لأن تعجن فيه الدقيق الذي ستصنع منه الخبز (العيش الشمسي) و يكون من دقيق القمح أو (البتاو) و يكون من دقيق الذرة الرفيعة و يوضع مع دقيق الذرة حين يعجن لصنع البتاو بعضا من الحلبة المطحونة التي تعطي لخبز البتاو طعما مميزا و يسمون الحلبة في أرياف أسيوط " الحياقة " بشدة و فتحة على الياء ، في الماجور المكسور بعد صلاة العشاء تضع أمي كمية مناسبة من الحطب أو قوالح الذرة الشامية و تشعلها خارج الغرفةحتى تصفو نارها و يتوقف دخانها حينئذ تدخل الماجور الغرفة و تضعه في المسافة بين الكنبة التي يجلس و بنام عليها أبي و السرير الخشبي العريض الذي أنام عليه معها ، و مما كانت أمي تحرص على سماعه في الراديو خلاف مسلسل الساعة الخامسة و الربع مساء قرآن الصباح الذي كان يذاع بأصوات أجمل أصوات في العالم ، أصوات قرائنا العظام مثل الشيوخ : محمد رفعت و محمد صديق المنشاوي و الحصري و البنا و عبد الباسط عبد الصمد و طه الفشني والبهتيمي و الشعشاعي و شعيشع و عبد العظيم زاهر و لا أدري السر في أن صوت الشيخ عبد العظيم زاهر على وجه التحديد ظل عالقا بوجداني أكثر من غيره فعندما أسمع صوته أشعر كأنه مبلل بندى الصباح و أستحضر عند سماعه كل طقوس فترة الصباح حين كانت أمي تجهزني للانطلاق إلى المدرسة في تلك السنوات الجميلة البعيدة ؟ ، كذلك كانت تتابع أمي في رمضان و غير رمضان قرآن الساعة الثامنة مساء و حديث الصباح بعد القرآن و ما زال أتذكر صوت الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت و صوت الشيخ محمد فتح الله بدران و صوت الدكتور زكي المهندس رحمة الله عليهم جميعا .
من ذكرياتي الرمضانية في القرية أنني كنت أنخرط مع أطفال الحي في طقس رمضاني جميل نؤديه كل ليلة تقريبا بعد صلاة العشاء فقد كنا نتجمع : كل طفل بفانوسه ( لم تكن الفوانيس تضاء آنذاك بحجر بطارية كما هي الآن بل كانت بالشمع فكل فانوس بداخله شمعة يشعلها الطفل بعود الكبريت أو يشعلها له من هو أكبر منه إذا كان صغيرا ) و ننطلق في شوارع الحي و بعض حاراته و نحن نغني وحوي يا وحوي و نتوقف عند أبواب بعض البيوت و نحن نقول : ادونا العادة .. لبة و قلادة .. الفانوس طقطق والعيال ناموا ، و العادة هي ما يمنحنا أهل البيت الذي وقفنا قدام بابه من بلح أو فول سوداني أو طوفي أو مكعبات سكر و تسمى تلك القوالب ( سكر مكنة ) تمييزا له عن السكر الذي كان يباع في شكل أقماع كبيرة تكسر بالشاكوش إلى قطع بحسب الحاجة من أجل استخدامها في تحلية الشاي أو أي مشروب آخر ) ، و عندما تنتهي جولتنا نجلس تحت أحد الكلوبات و نفرش على قطعة قماش العطايا أو الغنائم التي غنمناها في جولتنا لنوزعها بالعدل على بعضنا البعض .
حين ذكرت أقماع السكر تذكرت أن القمع كان يباع في الدكان ملفوفا بورق و الورق يكون محزوما بخيط نطلق عليه اسم ( فتلة ) و هي أغلظ من خيط الحياكة و أنحف من الدوبارة ، و هذه الفتلة كنا نشمعها أي ندلكها بالشمع و نستخدمها في تدوير النحل ، فكل طفل تقريبا في القرية لديه في بيته نحلة أو أكثر و النحلة قطعة خشبية في شكل البصلة تنتهي من أسفل بسن معدني ، نضع طرف الفتلة الأول على السن و نلفه على جسم النحلة دوائر دوائر و طرف الخيط الثاني في قبضة يدنا ثم نطلق النحلة لتنزل على الأرض المستوية و يجب أن تكون الأرض مستوية حتى تدور النحلة مدة أطول و بشكل منتظم ، و أعتقد أن قطعة الخشب بصلية الشكل سميت النحلة لأنها تلف و تدور كما تفعل النحلة الطبيعية ، و أتذكر أننا كنا نشتري الدوم و نكسر الدومة و نخرج من داخلها نواتها التي في حجم بيضة الحمامة أو أكبر قليلا نقشر ما عليها من غشاء بني بقطعة زجاج مكسورة و ننحتها حتى تأخذ شكل نحلة صغيرة ذات لون أبيض و ملمس خارجي ناعم أشبه بملمس العاج و لكنها لم تكن تسمى بالنحلة بل تسمى ( البظو ) و لا أدري أصل هذه المفردة و إن كان لها أشباه كمفردة ( البغو ) مثلا و تطلق مفردة البغو على أي شيء غض طري كعود النبات في مقتبل نموه مثلا فيقال عليه ( بغو ) و تطلق مجازا على الشخص صغير السن قليل الجلد و التحمل أي الذي لم يصلب عوده بعد .
و للحديث إن شاء الله بقية
https://www.facebook.com/sadabdrahman/posts/3273327739367895
كانت أمي - رحمة الله - عليها في غاية الفرح بصيامي لأن أبي بسبب طبيعة عمله كثيرا ما كان يفطر خارج البيت ، و تعودي الصيام معناه أنها وجدت من يشاركها هذه الفريضة الجليلة و طقوسها المختلفة لا سيما طقس الإفطار الذي يبدأ بتجهيز الطعام و انتطار سماع شيخ الجامع حين يؤذن لصلاة المغرب من فوق المئذنة فلم تكن قد انتشرت في ذلك الزمان مكبرات الصوت المزعجة لا سيما بالقرى ، كان أطفال الحي يتجمعون و أنا واحد منهم قبل أذان المغرب بجوار جامع الحي نلعب و نتهارش كالكلاب الصغيرة و نتبادل حكاياتنا الطفولية ، و حين يصعد الشيخ فوق المئذنة و يؤذن للمغرب يجري كل منا إلى منزله ليؤكد لأهله أن الشيخ قد أذن لصلاة المغرب ، و كنت عندما أدخل البيت أصعد السلم قفزا و أنا أهتف بهذه الجملة : " افطر يا صايم ع الكعك العايم " و هذه الجملة لا تخص تراث أسيوط و قراها بل تخص أرياف سوهاج جنوبا و قد لقنتها من أمي فوالداي من إحدى القرى التابعة لمركز البلينا جنوب محافظة سوهاج ، و أحيانا أفطر مع أمي على أذان الراديو و بعد الإفطار ننصت إلى الحلقة الجديدة من (ألف ليلة و ليلة) التي كان يكتبها للإذاعة الشاعر طاهر أبو فاشا و يخرجها المخرج الإذاعي الشهير محمد محمود شعبان ، و كانت أمي تنضج الطعام بأكثر من وسيلة فإذا كان هناك لحم أو طيور فالأصلح له كوعاء للطبخ (البرام) و البرام إناء أشبه بالحلة يصنع من الهمر و هو طينة مخصوصة ذات لون وردي ، و كان برام أمي ذا عروتين ( يدين ) و يوضع البرام على الكانون الذي يوقد بالحطب ( عيدان نبات القطن ) أو البوص ( عيدان نبات الذرة ) أما إن كان الطعام دون ذلك كالبيض حين يقلي او يسلق او الفول المدمس أو البصارة أو المسقعة و ما إلى ذلك فكانت تنضجه أمي على نار وابور الجاز البريموس ( كان اشهر أنواعه الأوبتيموس و البريموس) و تضعه في ركن الغرفة التي ننام فيها فيدفئ جوها في ليالي الشتاء و الوابور كان يصنع من النحاس و له ثلاثة أرجل أطرافها من أعلى تعمل كحوامل لما يوضع فوقه من الآنية و للوابور فتحة بمحبس يزود من خلالها بالكيروسين و كباس في الجنب لكبس الجاز كي يندفع من ثقب (الفونية) و يحدث الاشتعال ، كما كان هناك مفتاح صغير لجعل الشعلة أهدأ حين لا تكون هناك حاجة إلى نار شديدة و إذا سدت رواسب الجاز ثقب الفونية يسلك بإبرة تسمى إبرة الوابور و نشتريها من دكان البقال بخمسة فضة أو تعريفة ( خمسة مليمات ) ست إبر في كيس صغير من الورق ، و بمناسبة البرام كانت هناك (الدوكة) التي تحمر أمي اللحم و الطيور فيها بعد استخراجها ناضجة من البرام و تسمى الدوكة أحيانا ب(الزبدية) ، و في أرياف أسيوط تسمى (المرجسية) - و في ظني أن هناك فروقا بين تلك الأواني - ولكن الأسماء تداخلت لأن الفروق طفيفة أو أن تعدد الأسماء لمسمى واحد كان بسبب اختلاف البيئات مثل مشكلة المترادفات في اللغة العربية الفصيحة ، و بخلاف الزبدية أو المرجسية كانت هناك (الزروية) التي تشبه في شكلها الخارجي قدرة الفول لكن أضيق في خصرها و يخزن فيها السمن البلدي ( و بالمناسبة كنت و أنا صغير اغافل أمي لا سيما حين تكون مشغولة و أدخل إلى حيث الزروية فأرفع الغطاء عن فوهتها و أدس يدي الصغيرة داخلها و أغرف مما بها من سمن متجمد مقدار قبضة يدي أملأ فمي بها ، و غالبا ما كانت أمي تكتشف فعلتي بسبب ما كان يعلق بوجهي و جلابيتي من آثار فتعنفني ) ، هناك أيضا (المنطال) و هو وعاء من الهمر أيضا كباقي الأواني التي ذركرتها ، و أهم ما كان ينضج في المنطال من الأطعمة الفول و العدس الأسود أو (العدس أبو جبة) الذي كانت أمي تملأ منه الطبق ثم تدس فيه ملعقة السمن البلدي الكبيرة إلا أنني لم أكن أحبه و أتضايق بل يملأ نفسي النكد عندما أعرف أننا سنأكل اليوم عدسا بجبة على عكس (العدس الأصفر) الذي كنت و مازلت من عشاقه ، و في القاهرة حين كنت أعيش لوحدي قبل مجيء الأسرة كنت أذهب خصيصا إلى مطعم آخر ساعة أو مطعم القزاز في وسط البلد لأستمتع بوجبة عدس أصفر مع شرائح البصل المنقوعة في الخل خاصة في ليالي الشتاء ، المنطال لا يوصع لإنضاج ما فيه على الكانون في الغالب و لا على وابور الجاز مطلقا و إنما كان يدفن في جمهرة نار الفرن من الخلف بعد الانتهاء من خبز العيش الشمسي أو البتاو .
كان الراديو في تلك الأيام تسلية أمي الوحيدة لا سيما أننا لسنا من أهل القرية و بالتالي ليس لنا وسط عائلي من الأقارب نتواصل معهم اللهم نساء جيراننا اللائي كان يحلو لهن الجلوس في بعض الليالي على عتبة بيتنا و تبادل الأحاديث حول موضوعات شتى مع أمي التي لم تكن تخرج البتة من البيت ، و إلى أين تخرج و ليس لنا أقارب نزورهم أو يزوروننا ؟ ، أتذكر أنها لم تخرج من البيت حتى عندما انتقلنا للحياة في أسيوط كي ألتحق بالمدرسة الثانوية إلا ثلاث مرات فقط إحداهما للطبيب في وعكة ألمت بها و الثانية حين توفي خالي فسافر بها أبي إلى البلد لحضور الجنازة و الثالثة حين انتهيت من دراستي الجامعية فقرر العودة إلى البلد تاركا إياي في أسيوط معللا ذلك بأن مهمته تجاهي قد انتهت و علي منذ الآن الاعتماد على نفسي ، و بالرغم من أن أمي لم تكن تعرف القراءة و الكتابة إلا أنها من طول ملازمة الراديو الذي اقتناه والدي منذ أواخر الأربعينيات أي قبل ولادتي بسنوات ، و كان الراديو بداية وعيي له في سنوات ما قبل المدرسة قبل اختراع البطاريات الجافة و قبل ظهور الراديو الترانزستور يعمل ببطارية كبيرة في حجم أقل قليلا من حجم بطارية السيارة الآن ، و كان للراديو سلك أو إريال علوي ( هوائي ) و آخر سفلي يوضع طرفه في مكان رطب ( أرضي ) لست أدري لماذا ؟ ، تكونت لدى أمي ثقافة سمعية فقد كانت تواظب على سماع معظم مواد إذاعة البرنامج العام لا سيما في عدم وجود والدي الذي كان مغرما بسماع النشرات الأخبارية و بصفة خاصة من إذاعة صوت العرب ، و من أهم مواد الإذاعة في رمضان بخلاف (ألف ليلة و ليلة) برنامج " المسحراتي " الذي أصبح بأشعار فؤاد حداد و صوت الشيخ سيد مكاوي من العلامات المميزة للشهر الكريم ( الرجل تدب مطرح ما تحب و انا مسحراتي في البلد جوال ) و برنامج " أحسن القصص " الذي كان يبدأ بصوت إذاعي مميز يقرأ قوله تعالى : ( نحن نقص عليك .. ) إلى آخر الآية ، و كان في البرنامج ما يشيع الرعب في قلبي كطفل أحيانا مثل صوت عصف الرياح في الصحراء و صوت عواء الذئب و صوت المرأة العجوز التي كانت تصرخ بصوت مبحوح مرتعش في قصة نبي الله يوسف و إخوته بني إسرائيل : اقتلوا يوسف .. اقتلوا يوسف ، و أمي التي لم تكن تقرأ أو تكتب هي التي عشقت من خلالها سماع البرامج الغنائية مثل : قسم و أرزاق ( يا ترى انت فين يا مرزوق ؟ ، هو دا البحر المالح اللي ما لوش قرار .. يا لطيف اللطف يا رب ، أخلع عليك تاج الجزيرة ) و عوف الأصيل ( سيد طبوش العكر من الأعيان حارة أولاد جيعان ، و أغنية يا حلو ناديلي لكارم محمود و الإكسسوارات الصوتية المصاحبة للأغنية من مثل : هو سي عوف عنده حاجة وحشة ) و عذراء الربيع و علي بابا ( افتح ياسمسم افتح يا فول افتح يا عدس ، و يرحمكم الله يا بوسريع ، و غني يا مرجانة ) و خوفو ( أنا خوفو باني الهرم الأكبر ) و عواد باع أرضه ( يا أرضنا ياجنة مفروشة ورد و حنة .. عواد بقى مش منا .. عواد ماعاد عواد ، و شم الطين يا عواد ، فيه ريحة عرقك و عرق أبوك و أجدادك ) و الدندرمة ( مصنوعة بذوق و ايدين توفيق الدندرمة ، الصبح قامت فيه خناقة بين سي توفيق العياقة و صبي قهوة عيسى موسى ، طول عمرة سايق ف الحداقة محمود صبي قهوة عيسى موسى ، و الغالي يرخص عشان زكية ) و الراعي الأسمر و معروف الإسكافي الذي غنى فيه عبد الحليم حافظ قبل أن يشتهر ، و أمي هي التي عرفتني أن نجاة الصغيرة تلقب بالصغيرة للتمييز بينها و بين مطربة سابقة عليها اسمها نجاة علي .
في الرمضانات الشتوية بالقرية كانت أمي تستعين لتدفئة الغرفة ب(ماجور) كسرت إحدى حوافه فلم يعد صالحا لأن تعجن فيه الدقيق الذي ستصنع منه الخبز (العيش الشمسي) و يكون من دقيق القمح أو (البتاو) و يكون من دقيق الذرة الرفيعة و يوضع مع دقيق الذرة حين يعجن لصنع البتاو بعضا من الحلبة المطحونة التي تعطي لخبز البتاو طعما مميزا و يسمون الحلبة في أرياف أسيوط " الحياقة " بشدة و فتحة على الياء ، في الماجور المكسور بعد صلاة العشاء تضع أمي كمية مناسبة من الحطب أو قوالح الذرة الشامية و تشعلها خارج الغرفةحتى تصفو نارها و يتوقف دخانها حينئذ تدخل الماجور الغرفة و تضعه في المسافة بين الكنبة التي يجلس و بنام عليها أبي و السرير الخشبي العريض الذي أنام عليه معها ، و مما كانت أمي تحرص على سماعه في الراديو خلاف مسلسل الساعة الخامسة و الربع مساء قرآن الصباح الذي كان يذاع بأصوات أجمل أصوات في العالم ، أصوات قرائنا العظام مثل الشيوخ : محمد رفعت و محمد صديق المنشاوي و الحصري و البنا و عبد الباسط عبد الصمد و طه الفشني والبهتيمي و الشعشاعي و شعيشع و عبد العظيم زاهر و لا أدري السر في أن صوت الشيخ عبد العظيم زاهر على وجه التحديد ظل عالقا بوجداني أكثر من غيره فعندما أسمع صوته أشعر كأنه مبلل بندى الصباح و أستحضر عند سماعه كل طقوس فترة الصباح حين كانت أمي تجهزني للانطلاق إلى المدرسة في تلك السنوات الجميلة البعيدة ؟ ، كذلك كانت تتابع أمي في رمضان و غير رمضان قرآن الساعة الثامنة مساء و حديث الصباح بعد القرآن و ما زال أتذكر صوت الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت و صوت الشيخ محمد فتح الله بدران و صوت الدكتور زكي المهندس رحمة الله عليهم جميعا .
من ذكرياتي الرمضانية في القرية أنني كنت أنخرط مع أطفال الحي في طقس رمضاني جميل نؤديه كل ليلة تقريبا بعد صلاة العشاء فقد كنا نتجمع : كل طفل بفانوسه ( لم تكن الفوانيس تضاء آنذاك بحجر بطارية كما هي الآن بل كانت بالشمع فكل فانوس بداخله شمعة يشعلها الطفل بعود الكبريت أو يشعلها له من هو أكبر منه إذا كان صغيرا ) و ننطلق في شوارع الحي و بعض حاراته و نحن نغني وحوي يا وحوي و نتوقف عند أبواب بعض البيوت و نحن نقول : ادونا العادة .. لبة و قلادة .. الفانوس طقطق والعيال ناموا ، و العادة هي ما يمنحنا أهل البيت الذي وقفنا قدام بابه من بلح أو فول سوداني أو طوفي أو مكعبات سكر و تسمى تلك القوالب ( سكر مكنة ) تمييزا له عن السكر الذي كان يباع في شكل أقماع كبيرة تكسر بالشاكوش إلى قطع بحسب الحاجة من أجل استخدامها في تحلية الشاي أو أي مشروب آخر ) ، و عندما تنتهي جولتنا نجلس تحت أحد الكلوبات و نفرش على قطعة قماش العطايا أو الغنائم التي غنمناها في جولتنا لنوزعها بالعدل على بعضنا البعض .
حين ذكرت أقماع السكر تذكرت أن القمع كان يباع في الدكان ملفوفا بورق و الورق يكون محزوما بخيط نطلق عليه اسم ( فتلة ) و هي أغلظ من خيط الحياكة و أنحف من الدوبارة ، و هذه الفتلة كنا نشمعها أي ندلكها بالشمع و نستخدمها في تدوير النحل ، فكل طفل تقريبا في القرية لديه في بيته نحلة أو أكثر و النحلة قطعة خشبية في شكل البصلة تنتهي من أسفل بسن معدني ، نضع طرف الفتلة الأول على السن و نلفه على جسم النحلة دوائر دوائر و طرف الخيط الثاني في قبضة يدنا ثم نطلق النحلة لتنزل على الأرض المستوية و يجب أن تكون الأرض مستوية حتى تدور النحلة مدة أطول و بشكل منتظم ، و أعتقد أن قطعة الخشب بصلية الشكل سميت النحلة لأنها تلف و تدور كما تفعل النحلة الطبيعية ، و أتذكر أننا كنا نشتري الدوم و نكسر الدومة و نخرج من داخلها نواتها التي في حجم بيضة الحمامة أو أكبر قليلا نقشر ما عليها من غشاء بني بقطعة زجاج مكسورة و ننحتها حتى تأخذ شكل نحلة صغيرة ذات لون أبيض و ملمس خارجي ناعم أشبه بملمس العاج و لكنها لم تكن تسمى بالنحلة بل تسمى ( البظو ) و لا أدري أصل هذه المفردة و إن كان لها أشباه كمفردة ( البغو ) مثلا و تطلق مفردة البغو على أي شيء غض طري كعود النبات في مقتبل نموه مثلا فيقال عليه ( بغو ) و تطلق مجازا على الشخص صغير السن قليل الجلد و التحمل أي الذي لم يصلب عوده بعد .
و للحديث إن شاء الله بقية
https://www.facebook.com/sadabdrahman/posts/3273327739367895