طلحة محمد - قُبْلتان

وصلنا أخيرا إلى السّرك بعد تسارع مع الزّمن خوفا من تجاوز التوقيت المدوّن على التّذاكر وكذا الملاحظة المصاحبة للتوقيت بانه في حين التّأخر تفقد التّذكرة صلاحيتها ، و تحمّلنا درجة الحرارة على متن سيارة الأجرة .
لم يكن باستطاعتنا تجاهل أصوات أبواق السّيارات المزعجة عند خط إشارة المرور ونحن نعُدّ الثّواني بأعيننا لِنَمُرّ بسرعة وقد أثار اشمئزازنا كذلك ثرثرة السّائق وكلامه عن الاخبار اليومية والحوادث على اختلاف سيناريوهاتها المفبركة حتى قلت في نفسي للحظة إنه يصلح أن يكون كاتب سيناريو.
خيّم علينا القلق وبدا جليّا على وجوههنا وهو يتجاهل حماس ابنتي " ماريا " للقاء فارس أحلامها الذي أصابتها حمّى الشّوق بسببه ، منهمكة في سرد تجربتها معه التي أعادتها على مسامعي الكثير من المرّات ولم تكُف عن ذلك في كل مرّة بنفس التّفاصيل والشّغف واصفة لي جماليّة شكله ، ولم اكف بالمقابل عن سماعها واجابتها دائما بنموذجيّة كي لا أثير غضبها فبعد سماعي كلمة أبي التي تستهلّ بها عادة حكايتها أجيب نعم بنيتي أنا أصغي اليك وأتوه معها في أحلامها غير مبال بالحقيقة لأتذكّر معها ذلك اليوم الذي لم يَزُل يوما عن ذاكرتي بل وقد حفرت له مكانا مخصّصا داخلها، كان يوما مليئا بالسّعادة لكلينا فبعد فراق أمّها غيّم عليها صمت رهيب لمدّة طويلة وخفت ان اخسرها وتنازلت عن فكرة الزواج لالزمها واعتني بها وكرّست حياتي لأجلها .
وفي إحدى الليالي وفور عودتي من العمل متأخرا هرعت مسرعا واقتحمت عليها غرفة نومها فوجدتها في عزلة قاتلة مرتدية رداء الانتقام وتمسك بدميتها البدينة التي تشبهها إلى حد كبير وتسألني أبي هل ستتكلّم يوما ما مثل الرّسوم المتحركة و البهلوانيين الذين نشاهدهم في التلفاز، أجيبها نعم ستفعل يوما ما ، يظهر شكٌ ّ في عينيها وتمضي إلى نومها غير مستمعة لقصّتي الوحيدة التي أحفظها وأكرّرها على مسامعها كل مرّة بسيناريو مغاير غير أنّي لم انجح في إغرائها لانّي لا اتقن لغة الاطفال .
في صباح اليوم التّالي ذهبت ماريا إلى الحضانة وباشرت دراستها في قسمها وبعد أن دقّ جرس الاستراحة الصّباحية تفاجأ التلاميذ بآثار حفل في السّاحة .
بقوا شاخصين بأبصارهم نحو الكثير من الاشخاص يتهامسون بينهم ينظّمون الكراسي والطّاولات ويَنْصُبُون خشبة المسرح مسارعين في تنظيم حفل يليق بالتطلّع الملائكي ، بقيت ماريا وحيدة كعادتها واقفة باستعداد مشبّكة ليديها منصاعة لتوصيات معلّمتها مرتدية فستانا ابيضا وحذاءا أسودا مرصّعا بخيوط بيضاء على شكل فراشات وتضع على رأسها قطعة قماش بيضاء مثبّتة على جوانبها وردتين حمراوتين على شكل قرون استشعار وعلى خدّيها أيضا رسم غير مفهوم تفنّنت الوسادة بطبعه ليلا.
لفت انتباهها الرّجل البهلوان حين باشر في ارتداء بدلته المزيّنة بالألوان المتناسقة مع الالوان التي اختارها لتزيين وجهه، مركّزة عليه بنظرات بريئة حتى ابتدأ في الكلام بطريقة ساخرة مغيّرا لكنته ليثير الأطفال .
شحذت سكانين شجاعتها وتقدّمت إلى الصّفوف الامامية كضيفة شرف وقد ساعدتها بنيتها على تجاوز الصّفوف المكتضّة بالاطفال ، أشار فارسها لها وناداها باسم مغاير متابعا نداءاته بقهقهة غريبة ، اقتربت من الخشبة المثبّتة في زاوية السّاحة وانتظرت حتى يحملها اليه لكنّه استطاع ذلك بعد عدّة محاولات وزفّها بجانبه كعروس جميلة وبالرّغم من أنّ كلامه كلّه مزيّف إلا انّها استمتعت حتى النّخاع بالعرض البهلواني وظنّت أنّه كرّس ابداعه لأجلها هذا اليوم .
انهى البهلوان الحفلة في جوّ بهيج رافعا يديه يلقي تحيات حارّة لكل الحظور الاّ أنه خصّها بقبلة عميقة مسحت آثار الوسادة على خدّها.
عادت إلى البيت تسرد لي أحداث الحفل بسعادة شديدة ماسكة دميتها باهانة مستعرّة منها مدركة لقيمتها الحقيقية بعد أن قضت يوما كاملا من الدراما معتلية الخشبة تتقن دورها.
كنت قد فرحت فرحا شديدا حين تغيّر مزاجها واعتلت البسمة مُحيّاها إلا أنها عادت لعبوسها المتلازم في اليوم الموالي وبقي ذلك المشهد يتسرّب إلى أعماقها في كل مرة حتى يُتاح لها الوصول إلى فارس أحلامها .
من يومها وانا ابحث عنه في قاعات السينما والمسارح وفرق السيرك المتنقلة حتى حالفني الحظ بعد بحث طويل في الحصول على تذكرتين في سيرك عمّار بعد أن عرفت أن نفس البهلوان الذي أعاد البسمة لابنتي هو من سينشط الحفل .
أعادني سائق سيارة الأجرة إلى واقعي قاصّا عليّ شريط ذكرياتي بطلبه مني ثمن التوصيلة، نزلت لأزفّ العروس لعريسها مرّة أخرى ، دخلت من الباب الخلفي للسّيرك وهممت باقتحام الحفل .
تقدّمت ماريا بحذر إلى الخشبة فالتفت إليها الرّجل البهلوان وصرخ في وجهها بأن تتراجع .
توجّست خيفة في نفسها، وضعت يديها على فمها واستمرّت في فزعها، سارعت بدوري إليها وانتشلتها بقوّة خوفا عليها من الصّدمة .
نادى صوت من على يمين الخشبة تعرّفت عليه ماريا مباشرة فتوقّفت والتفتت اليه ثمّ سحبت اصابعها من يدي بعنف وركضت نحوه، نهض هو الآخر من الكرسي وجثى على ركبتيه فاتحا ذراعيه ثم ّ احتظنها بقوّة وقبّلها من خدٍّ مغاير ليكون عادلا .
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...