حكايتي عجيبة.. أردت أن أجعل كلماتي تضئ.. أن تقول بالضبط ما أريدها أن تقوله وقد أعطيتها مهلة كاملة لكي تفعل ذلك فقد ظننت أن الكلمـات مثل ثمـار الشـمارى تحـتاج إلى تسعين يوماً مشمساً لكي تنضج!
وعندما قرأت مرة أن الكلمات تتغذى على التجارب انطلقت كالمجنون أجوب الأرض والأحداث وأبحث عن التجارب في شوارع العالم وفي الأزقة وفي سفن الصيد والجامعات عبر آلاف الأميال الموجعة.. وبعد أن قطعت كوماً مقززاً من السنين اكتشفت فجأة أن ذلك كان خداعاً لا قيمة له.. كان كذباً كله منذ البداية.
وكان يجب أن أتوقف، أن أدق رجلي في الأرض مثل مسمارين وأتوقف.. ولكن ثمة أمراً بشعاً كان قد حدث في داخلي، ووجدت نفسي أقف في نقطة الوسط حيث تلتقي جميع الطرق الصاعدة والهابطة.. حيث كان من المفروض أن لا يقف أحد. وفي ملايين اللحظات المتتابعة التي تسير في جميع الاتجاهات اكتشفت برعب قاتل أن تلك منطقة الصفر. وأنني أقف عارياً في فراغ حاد.. ومتوحداً وحدة كاملة . وكان لابد أن يحدث انكسار في داخلي فلم تعد لدي أية قدرة على التكيف تماماً كما ينكسر الشراع المتصلب في وجه الريح.
ولقد حدث الانكسار فعلاً ولكنني لم أغرق بل ظللت أطفو مثل حوت متعفن امتلأت أمعاؤه بمخزون هائل من الهواء. وظلت عيناي مفتوحتين ممتلئتين بالحياة تجوبان المحيط على مدى البصر وتريان إلى فقاقيع الضوء الأزرق الغامق التي شرعت تحتشد في الأفق عبر آلاف من الذكريات المتوهجة والميتة، وآلاف أخرى من الأفكار المتوحشة المنطلقة كالجياد البرية في غير اتزان، ووجوه الأصدقاء والأماكن، وكلمات الود على طول الطريق، وأضواء القطارات والمدن، والحجرات الصغيرة الغارقة في الدخان وروائح النبيذ والسأم، وآلاف الذوداعات المشحونة بالأحزان والتوتر، دنيا كاملة مربكة إلى أبعد الحدود، وعشرات القمم المترامية والشموس الساطعة بلا انقطاع، وملايين حقيقية من الأصوات الحادة المحرقة، لم يكن ثمة نهاية أبداً، لم يكن ثمة حد حقيقي على أي من الممرات.
وكانت رحلتي قد طالت، وتمزقت. وكنت أشعر بوحدة هائلة فجلست في المساء وكتبت إلى أحد أصدقائي، قلت له: (خليفة يا صديقي، أنا ضائع ووحيد مثل ريشة سقطت من جناح طائر، وكلماتي ما تزال، لن أستطيع أن أفعل شيئاً). وكتب صديقي: (لا تعد تقل ذلك.. أن ملايين الطيور تعبر المحيط كل عام، ورقع الأرض المترامية بحزمة من الريش، وبضعة زقزقات..) وفي تعب متناه انطلقت أتبع طريقي.. كانت مشكلتي واضحة تماماً .. ولكني لم أستطيع أن أقرر قط من أين أبدأ في حلها.. وقد بدأ الأمر بالنسبة لي وكأنني أقف في جردل فارغ وسط بئر مظلمة مملوءة بالأصداء.. ولقد خيل إليَّ – عبر ليالي وحدتي – أنني بدأت أضيع برقّة متناهية في عالم أملس تنزلق قدماي على أرضه بلا انقطاع.
كنت أريد أن أعرف – في الدرجة الأولى – كيف استعمل كلماتي بحرية أكثر .. كيف أعطيها كل ما تحتاج إليه من الضوء.. وكنت أحس بأن ثمة قوانين غامضة تتحكم في قدرتها على النمو.. وأنني مطالب بأن أعرف تلك القوانين فوراً، ودون شك من أي نوع إذا كنت أرغب في مواصلة طريقي.
وفي بادئ الأمر خيل إليَّ أنني يجب أن أصرف انتباهي إلى تاريخ اللغة نفسه، ولكن ذلك المنهج بدا بعد شهور قليلة محدود على نحو ما.. كان يمدني بكل شئ عن الكلمة التي أرغب في البحث عنها ، ولكني لم أستطيع أن أنفذ خلاله إلى حقيقة المشكلة ذاتها. وبدأ – في النهاية – منهجاً أكاديمياً عميقاً غير قابل للتطوير بأي شكل. وعدت أبحث عن طريق آخر . وقد تقرر في ذهني أن أشرع في البحث بطريقة مفتوحة منذ البداية.. فتركت كل أشيائي جانباً وبدأت أقرأ ما أجده أمامي وأراقب كلماتها بلا تحديد.. بلا ضبط أو أي رغبة من أي نوع.. وكنت أسأل نفسي كلما قرأت عملاً فنياً ناجحاً : أليس ثمة سبيل لأن أعرف كيف حدث ذلك..؟
وبعد سنين طويلة مملة.. وآلام لا حد لها، اكتشفت أنني مازلت غير قادر على إيجاد منهج أكاديمي يمكن قبوله، وأن تلك الأشياء – التي قررت التعامل معها – غير قابلة للتحديد المنهجي بأي شكل.. وكان على أن أقرر فيما إذا كنت أرغب في مواصلة البحث وحدي أو أن أتخلى عن الموضوع كلية.. وأذهب للجحيم. وقد رأيت أن لا أذهب إلى هناك الآن بل أبقي معكم ريثما أقول لكم كيف تمت هذه العملية المرهقة.. وماذا بقى لدي منها بصورة ثابتة.. منتظراً أن أجد لديكم استعداداً ما للمضي إلى الخطوة التالية.. ولعل بينكم الآن من يستطيع أن يكون أكثر إيجابية مني. وعلى أي حال: أرجو أن لا ينسى أحد أن ما أقوله في الأيام القادمة يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط: (هذه تجربتي أنا) ولكل منا الحق في أن يقول تجربته على نحو ما.
________________________________________________
* تشير بعض المصادر ان (مقال هذه تجربتي أنا) كان أول مقالات النيهوم بجريدة الحقيقة الليبية والتي نشر فيها مقالاته في الفترة ما بين عامي 1966 و1971.
وعندما قرأت مرة أن الكلمات تتغذى على التجارب انطلقت كالمجنون أجوب الأرض والأحداث وأبحث عن التجارب في شوارع العالم وفي الأزقة وفي سفن الصيد والجامعات عبر آلاف الأميال الموجعة.. وبعد أن قطعت كوماً مقززاً من السنين اكتشفت فجأة أن ذلك كان خداعاً لا قيمة له.. كان كذباً كله منذ البداية.
وكان يجب أن أتوقف، أن أدق رجلي في الأرض مثل مسمارين وأتوقف.. ولكن ثمة أمراً بشعاً كان قد حدث في داخلي، ووجدت نفسي أقف في نقطة الوسط حيث تلتقي جميع الطرق الصاعدة والهابطة.. حيث كان من المفروض أن لا يقف أحد. وفي ملايين اللحظات المتتابعة التي تسير في جميع الاتجاهات اكتشفت برعب قاتل أن تلك منطقة الصفر. وأنني أقف عارياً في فراغ حاد.. ومتوحداً وحدة كاملة . وكان لابد أن يحدث انكسار في داخلي فلم تعد لدي أية قدرة على التكيف تماماً كما ينكسر الشراع المتصلب في وجه الريح.
ولقد حدث الانكسار فعلاً ولكنني لم أغرق بل ظللت أطفو مثل حوت متعفن امتلأت أمعاؤه بمخزون هائل من الهواء. وظلت عيناي مفتوحتين ممتلئتين بالحياة تجوبان المحيط على مدى البصر وتريان إلى فقاقيع الضوء الأزرق الغامق التي شرعت تحتشد في الأفق عبر آلاف من الذكريات المتوهجة والميتة، وآلاف أخرى من الأفكار المتوحشة المنطلقة كالجياد البرية في غير اتزان، ووجوه الأصدقاء والأماكن، وكلمات الود على طول الطريق، وأضواء القطارات والمدن، والحجرات الصغيرة الغارقة في الدخان وروائح النبيذ والسأم، وآلاف الذوداعات المشحونة بالأحزان والتوتر، دنيا كاملة مربكة إلى أبعد الحدود، وعشرات القمم المترامية والشموس الساطعة بلا انقطاع، وملايين حقيقية من الأصوات الحادة المحرقة، لم يكن ثمة نهاية أبداً، لم يكن ثمة حد حقيقي على أي من الممرات.
وكانت رحلتي قد طالت، وتمزقت. وكنت أشعر بوحدة هائلة فجلست في المساء وكتبت إلى أحد أصدقائي، قلت له: (خليفة يا صديقي، أنا ضائع ووحيد مثل ريشة سقطت من جناح طائر، وكلماتي ما تزال، لن أستطيع أن أفعل شيئاً). وكتب صديقي: (لا تعد تقل ذلك.. أن ملايين الطيور تعبر المحيط كل عام، ورقع الأرض المترامية بحزمة من الريش، وبضعة زقزقات..) وفي تعب متناه انطلقت أتبع طريقي.. كانت مشكلتي واضحة تماماً .. ولكني لم أستطيع أن أقرر قط من أين أبدأ في حلها.. وقد بدأ الأمر بالنسبة لي وكأنني أقف في جردل فارغ وسط بئر مظلمة مملوءة بالأصداء.. ولقد خيل إليَّ – عبر ليالي وحدتي – أنني بدأت أضيع برقّة متناهية في عالم أملس تنزلق قدماي على أرضه بلا انقطاع.
كنت أريد أن أعرف – في الدرجة الأولى – كيف استعمل كلماتي بحرية أكثر .. كيف أعطيها كل ما تحتاج إليه من الضوء.. وكنت أحس بأن ثمة قوانين غامضة تتحكم في قدرتها على النمو.. وأنني مطالب بأن أعرف تلك القوانين فوراً، ودون شك من أي نوع إذا كنت أرغب في مواصلة طريقي.
وفي بادئ الأمر خيل إليَّ أنني يجب أن أصرف انتباهي إلى تاريخ اللغة نفسه، ولكن ذلك المنهج بدا بعد شهور قليلة محدود على نحو ما.. كان يمدني بكل شئ عن الكلمة التي أرغب في البحث عنها ، ولكني لم أستطيع أن أنفذ خلاله إلى حقيقة المشكلة ذاتها. وبدأ – في النهاية – منهجاً أكاديمياً عميقاً غير قابل للتطوير بأي شكل. وعدت أبحث عن طريق آخر . وقد تقرر في ذهني أن أشرع في البحث بطريقة مفتوحة منذ البداية.. فتركت كل أشيائي جانباً وبدأت أقرأ ما أجده أمامي وأراقب كلماتها بلا تحديد.. بلا ضبط أو أي رغبة من أي نوع.. وكنت أسأل نفسي كلما قرأت عملاً فنياً ناجحاً : أليس ثمة سبيل لأن أعرف كيف حدث ذلك..؟
وبعد سنين طويلة مملة.. وآلام لا حد لها، اكتشفت أنني مازلت غير قادر على إيجاد منهج أكاديمي يمكن قبوله، وأن تلك الأشياء – التي قررت التعامل معها – غير قابلة للتحديد المنهجي بأي شكل.. وكان على أن أقرر فيما إذا كنت أرغب في مواصلة البحث وحدي أو أن أتخلى عن الموضوع كلية.. وأذهب للجحيم. وقد رأيت أن لا أذهب إلى هناك الآن بل أبقي معكم ريثما أقول لكم كيف تمت هذه العملية المرهقة.. وماذا بقى لدي منها بصورة ثابتة.. منتظراً أن أجد لديكم استعداداً ما للمضي إلى الخطوة التالية.. ولعل بينكم الآن من يستطيع أن يكون أكثر إيجابية مني. وعلى أي حال: أرجو أن لا ينسى أحد أن ما أقوله في الأيام القادمة يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط: (هذه تجربتي أنا) ولكل منا الحق في أن يقول تجربته على نحو ما.
________________________________________________
* تشير بعض المصادر ان (مقال هذه تجربتي أنا) كان أول مقالات النيهوم بجريدة الحقيقة الليبية والتي نشر فيها مقالاته في الفترة ما بين عامي 1966 و1971.