عبدالعزيز بركة ساكن - جوكاستا..

جوكاستا طويلةٌ وفقيرةٌ، وأنا طويلٌ وفقيرٌ. كلانا يغطس في الماء المسود من فعل الطمي إلى نصفه، وبأناملنا الطويلة الرشيقة، نتحسس الأسماك المرعوبة التي تقبع في ظلمة الطمي. الطين اللازِب يخنق الأسماك ويُصعِّب عليها التنفس ويغطي اعينها الصغيرة الحساسة، فتصبح عمياء، فلاتري أيدينا وهي تتربص بها الدوائر، فنقبضها بكل سهولة، تقاوم بعض الشيء تستميت في الخلاص. تقاتل بلزوجة جلدها وبأشواكها السامة المؤذية، ولكن جوعنا وشهيتنا كانتا السلاحان اللذان يقاومان وخذ الاشواك ورعونة الاسماك وشيطانية السم، ومكر اللزوجة.

جوكاستا وأنا طفلان، لا أدرى كم عمرنا ولكننا بكل تأكيد قد عبرنا النصف الآخر من عشرتنا الثانية، فليست لنا شهادتا ميلاد، ولو أنها تبدو أكبر مني عمراً، نسبة لنمو جسدها بصورة تفوق نمو نضجها وعقلها، فكنا أطفالاً. أنا طفل بجسد طفل وعقل رجل، وهي طفلة بجسد فتاة ناضجة وعقل أنثى، وكنتُ اتحسس تلك الفروقات عن طريق النظرات الخبيثة والجمل الداعرة التي يرميها عليها بعض الرجال الناضجين هنا وهنالك، بل حتى أمّها التي كانت تصرخ فيها دائما بأن تغطى: "شطورك العاملة ذي القربة." فكيف تغطى جوكاستا صدرها ولا تستطيع أمّها ان تشتري لها ما يستر نهديها الكبيرين!.
أنا لا يهمني جسد جوكاستا، لم يثرني، بل لم أنتبه لوجوده في الأصل، تهمني أكثر مغامراتنا اليومية، التي ما كُنّا نخوضها من أجل المتعة، بل من أجل توفير ما يملأ بطوننا الصغيرة الفارغة، أو من أجل أن ننجو من الشرور: الشرور التي أسرنا جزءاً أصيلاً منها. جوكاستا وأنا لا نشعر بالأمان.

تحصلنا على جوالين كبيرين من الأسماك. لم نكن نختار نوع الأسماك، كما يفعل بقية أهل القرية المترفين، الذين ما جاءوا لصيد الأسماك الا كنوعٍ من الاحتفال السنوي بالصيد المجاني السهل وتزجية الوقت ومشاهدة ثورة النهر السنوية. جوكاستا وأنا أتينا من أجل الأسماك، بالتالي كل ما نستطيع صيده هو يمثل قيمة لنا، ولو أننا نفضل أسماك البياض نسبة لقلة أشواكها وضعف مقاومتها. على ظهر حمارة أمّيْ السوداء حملنا الأسماك إلى بيتنا، وفي وسط فناء دارنا الشاسعة التي تخلوا من المباني الداخلية سوى حجرة مبنية من المواد المحلية وكوخ صغير يستخدمه ابي كمخزن لبعض المشغولات، وضعنا الأسماء على جوالات الخيش. وغسلناها في تسط كبير بالماءِ العذب، ثم أخذنا كل الملح الذي في بيتنا وبيت أسرة جوكاستا، ونسبة لأن المُلح لم يكن كافياً، ذهبت جوكاستا إلى دكان المساعيد ثم عادت بجوال صغير من الملح وثديين محمرين وشفة متورمة. أنا توقفت عن الذهاب الى دكان المساعيد بعد ان أدمى العجوز قبل سنتين فتحة شرجي. جوكاستا لا تهتم.
حشونا الأسماك بالملح جيِّداً، تركنا قلة منها لكي نطعمها طازجة، حشونا خياشيمها وأحشائها بالملحِ، نثرناه على جلودها ومن ثم لففناها بالخيش جيِّداً في مجموعاتٍ حسب نوع الأسماك، حفرنا حُفرة شاسعة مثل القبر في وسط البيت، في الأرضِ الرميلةالدافئة، ثم وضعنا كل شيء في القبر ملفوفاً بالخيش، وأهلِنا عليه الرمال.
تحتاج الأسماك الى شهور كثيرة لكي تصبح فسيخاً ناضجاً، ونحن صبوران جداً، نفعل ذلك كل عام في صبيحةِ فتح أبواب الخزان من أجل تصريف الطمي، ونجني ثمار صبرنا لاحقاً، فضيلة الفقر إنه يجعل الانسان صبوراً جداً، وربما الفقر هو من صنيعة الصبر أو أحد ابناءه البررة.

جوكاستا وأنا طفلان، بيت أمّيْ وبيت أمّها متجاوران، أبوها وأبي يعملان في موسم الحصاد في المشروعات الزراعية المجاورة لأثيوبيا، أما في الموسم المطير فهما عاطلان ويقومان ببعض المهن الهامشية كعمال مباني، أو يصطادان السمك.أبوها ماهر في تنجيد السرر البلدية وصناعة شباك صيد الأسماك، أبي يعمل معه أحياناً. كلاهما لا يتعاطى الخمر أو التُمبّاك، لا يدخنان ولا يشربان المريسة ولا يصليان ولا يصومان، وأبي دائما ما يشكّك في وجود الرب، لذا يُلقب في القرية؛ بإبليس.
أبي وأبوها صديقان حميمان. جوكاستا وأنا صديقان حميمان أيضاً، أمّها أمّيْ صديقتان لدودتان، تتشاجران كثيراً، ولكن تقتسمان الطعام على قلته، والماء والنار.
قالت لي ذات مرة جوكاستا، إن أمّها تظن أن أمّيْ تعشق أبيها سِرّاً، أنا لا أظن ذلك لأن أمّيْ أجمل من أمّها، ربما الشيء المشترك بأمّيْ وأبيها، انهما مؤمنان بالله ورسوله، وأبي يعلن كفره وقتما و أينما وجد فرصة لذلك.
جوكاستا وأنا ربما كنا في نفس العمر ولكن مما تظنه أمّها وأمّيْ أننا رضعنا من ثدي وأحد، وهو ثدي جارتنا فاطمة بت بشير، لأن فاطمة بت بشير أرضعت تقريباً كل أطفال الجيران مع أطفالها، بل يُقال إنها أرضعت ايضاً عنزة يتيمة من ثدييها وقطتين: إنها أم كل شيءٍ وبشر.

لم أكن أعرف ما حصل بالضبط لجوكاستا، أو أنهم لم يدعوني أعرف ذلك، أو أنهم أخفوا علىّ ما حدث لجوكاستا، أمّيْ قالت:
- اخذها والدها إلى حبوبتها.
- وين حوبتها؟
- في بلد بعيدة.
- وين يعني.
- ما عارفة.
بالطبع لم أنس إنه ليس لوالدها أسرة أو إنه لا يمكن أن يذهب لأسرته، يُقال انه جاء للشرق هارباً من العدالة والثأر، يقولون إنه إرتكب جريمة قتل شنيعة قبل سنوات كثيرة، ربما في صباه، وأن أهل المقتول يطلبونه للثأر منه، والقضاء يطلبه للعدالة.
حدث إختفاء جوكاستا قبل يوم من ميقات نضج الأسماك المدفونة، كما خططنا له أنا وجوكاستا، حيث أنها تكمل شهورها الستة في قبرها الرملي. أخذتٍ أحفر قبر الأسماك وحدي، كانت رائحة الفسيخ طازجة جدا، واتخذت الأسماك اللون الذهبي، كانت جافة تماماً، ولم يعد للملح أي وجود ظاهري انما أصبح جزءاً من تكوين الأسماك. أمّيْ ساعدتني في وضعها على سلة كبيرة حتى نحفظها من الذباب الذي بدأ يتجمهر من كل فج عميق وضحل حول قبر الأسماك، قالت لي:
- إذا حط الذبابُ على الفسيخ سيتحول الى دود.
- هل ستبيعه؟
- نعم، سأبيعه وأرسل القروش إلى جوكاستا، تكون محتاجة لها، أو سأشترى فستان وحذاء وأرسلهم لها.
قالت لي أمي بتأثر:
- جوكاستا بعيدة، مع جدّتها، وهي لا تحتاج لأي شيء هنالك، جدّتها ثرية.
في المَساءِ، عندما عدتُ من السوق، كان في جيبي مبلغاً كبيراً من المال، أعطيتُ امُّ جوكاستا نصفه، واعطيتُ أمّيْ النصف الآخر، ثم ذهبت الى النهر. كنتُ حافي القدمين كعادتي منذ أن اضعتٍ حذائي البلاستيكي على شاطئ النهر ذاته، كنت حزيناً جداً، منذ أن إستيقظتُ في الصباح الباكر وهرولتٍ إلى بيت الجيران ولم أجد جوكاستا هنالك، وقالت لي أمّها:
- ذهبت جوكاستا الى جدتها.

النهرُ كعادته هادئاً، والان قد أصبح ماؤه شفافاً كما هي الحال في الصيف، وسيتحول في شهر يوليه إلى بركٍ صغيرة. خلعتُ جلبابي المهترئ وتركته في الشاطئ وفي لُباسي الداخلي المصنوع من الدمور أخذتُ أسبح، ليس لأعبر النهر، بل أخذتُ أسبح على طول النهر، مع التيار الخفيف. ليست هنالك وُجهة أنوي الوصول إليها، فقط كانت لدي رغبة في المضي بعيداً، الى أبعد ما يكون، وكلما تعبتُ أخرج إلى الشاطئ أجلس قليلاً، ألتقط أنفاسي، أتأمل المكان حولي ثم أواصل السباحة إلى حيث لا منتهى. عندما صرتُ جائعاً جداً ومرهقاً وغابت الشمس وأطبق الظلام على الماءِ والهواءِ والأرضِ والسماءِ، قررتُ أن أعود الى البيت، وحيث لا يمكنني السباحة ضد التيار، فعليّ أن أعود راجلاً على اليابسة. بالطبع انا اعرف المكان جيِّداً، أعرفه مثل كف يدي.
خرجتُ إلى الشاطئ وإتجهتُ جنوباً نحو القرية، أنا لستُ جباناً، ولا أخاف من شيء، فليس لدي ما أخسره، فكل ما كنتُ أمتلكه في هذا العالم ويمتلكني: جوكاستا. الان لا أمتلكُ شيئاً، ولا يمتلكني شيءٌ، لذا لم تخفني أشباح الليل، لا ثعابينه او هوامه، ولا كنتُ اخشي الضياع.
الشيءُ الوحيدُ الذي كنت أتجنبه هو الآبار القديمة المهجورة التي تقبع في مكانٍ ما، قريباً من النهر، لا يدري أحدٌ من الذي حفرها هنالك ولماذا، ولكنهم يقولون إنها بئر الانجليز، كانوا لا يشربون من النهر ولكن من ماء آبار يحفرونها على الشاطئ، ثم كما يقول الناس في القرية إن بها بعض الأسرار، ولا أحد يدري ما هي طبيعة تلك الاسرار، ولكن ما يتفق عليه الجميع ان أرواح الجنود الإنجليز المقتولين أثناء الحرب جميعها تسكن في هذه الآبار، يسمع الناس عادة صراخها في الليل. المهم في الأمر أن لا أحد يقربها لا ليلاً ولا نهاراُ. القرية تبعد عنها زهاء الخمس كيلومترات. لا شيء علىَّ الحذر منه غير تلك الآبار، لا أريد أن أموت مُختنقاً، هذا كل ما في الأمر.

بعد مسيرة ما يقارب نصف الساعة، اعلى شاطئ النهر، سمعتُ الصوت للمرة الأولى، كان واهناً وأشبه بانينِ كلبٍ جريح، ثم أخذ يعلو كلما توغلت في المكان، نعم هي أرواح الجنود وصراخهم الواهن، لا ادري لماذا يصرخون، وقد جاءوا للقتال بأنفسهم، وكانوا يعرفون إن من يقاتل سيُقتل، ما يفيدني من أنينهم هو معرفة موقع البئر حتى أتجنبها، حيث لم تكن للآبار أسيجة، أو حواجز،ولا شيء يميزها عن سطح الأرض. ويُقال إن الكثير من الحيوانات والبشر من المارة الذين يجهلون مواقعها قد سقطوا في داخلها وماتوا، ولم يجرؤ أي شخص أو الحكومة نفسها من إخراج جثامينهم، وتُركوا إلى أن تنفخ الملائكة في الصور إيذاناُ بيوم القيامة التي يخرج فيه الموتى من أينما قبروا، حيث تتجمع عظامهم ويكسوها اللحم والشحم ليرسلوا للجحيم أو الجنة كل حسب عمله في الحياة الدنيا.
أنين الجندي الإنجليزي أصبح أكثر وضوحاً، ولكن ما يحيرني فعلاً إنه يطلق بعض الجمل الكاملة، لم تكن بلغة الفرنجة، بل كانت باللغة العربية المحلية التي نتحدث بها في القرية، ولم يكن الصوت صوت رجل، بل كانت امرأة، ولم ينادي الصوت المجهول، بل كان يكرر إسماً واحداً، أعرفه جيّداً وهو إسمي أنا بالذات: عبدون. نعم إنه صوت جوكاستا. لم أتردد للحظة واحدة، لم أخف، لم أتشكّك، صرختُ بأعلى ما لدي من صوت: - جوكاستا.
صمت الأنين فجأة، عم المكان سكونٌ رهيب، لزمن بدا لي كما لو كان الدهر كله، ناديت وأنا أنظر لعمق البئر المظلم:
- جوكاستا.
ردت بصورة جلية
- نعم، انا هنا يا عبدون، الحمد لله إنك سمعتني.
- دخلتِ كيف؟
- ابوي رماني هنا.
- خليني أشوف حبل وأرجع عشان أطلّعك.
- لا لا ما تمشي، أنا خائفة.
أمّيْ كانت تقول لي الخواف لا يفكر بعقله، وأنا رجل شجاع، على ان أفكر بعقلي، على الرغم من أنني تركتُ المدرسة منذ الفصول الأولى، نفس الأسبوع الذي حُرمت فيه جوكاستا من الذهاب للمدرسة، لكبر ثدييها، كما علل والدها. ولكننا تعلمنا كل شيء من الشارع، حسن التدبير ورجاحة العقل وفهم الحياة والبشر والشر والخير. فالمدرسة لا تعلم البشر غير الثرثرة. فهرولتُ الى القرية، كان أبي نائماً، وحدُها أمّيْ مستيقظة تنتظرني، أمّيْ هي جيشي الوحيد، سألتني بشغفٍ:
- وين تأخرت، قلقت عليك؟
- كنت في البحر!
صاحت ثائرة في غضب:
- مش قلنا ليك ألف مرة ما تمشي للبحر بالليل، إنت ولد مجنون؟
لم أجبها، ذهبتُ إلى سريري في الفناءِ حيث أنّ أمّيْ دائماً ما تعده لي بعد مغيب الشمس، وإدعيتُ الإرهاق الذي كنتُ فعلاً أعاني منه، ثم إضجعتُ على السرير وإدعيتُ النوم، الى أن تأكدتُ بان أمّيْ قد ذهبت في سباتٍ عميقً، نهضتُ بخِفّةِ القط، ونفذتُ خطتي التي كنت قد اشغلت فيها ذهني طوال الطريق من البئر الى البيت.
كان أبي يحتفظ بالشِباَك التي يصنعها وهو وصديقه والد جوكاستا في الكوخ الصغير قريباً من مدخل الدار. لم يكن أخذ الشبكة والحبال بالشيء الصعب، ولكنني أحتاج للنقود ايضاً، أحتاج لكثير من النقود، والحصول عليها على حسب خطتي يحتاج لعملٍ شاقٍ وسريع: النقود في بيت المساعيد، الذي أدمي فتحة شرجي قبل سنتين، وربما أدمى شروج كل أطفال الحي الفقراء الذين يتشهون الحلوى وملمس قطع النقود الصغيرة.

المساعيد رجل كبير في السن لا أعرف كم عمره، يسكن وحده في بيت من الطين، حوله سياج شاسع من اغصان الأشجار الشوكية الجافة، وتنمو في فناء داره أشجار الجوافة والبرتقال والمانجو. سيكون نائما في حجرته الطينية، ويقبع كنزه تحت اللحاف الذي يرقد عليه. ولأن الشبكة ثقيلة الوزن، قلت لنفسي: ابدأ بالمساعيد، فلأحصل على الكنز أولاً.
حملتُ معي مِصباح كهربائي صغير، يخص المساعيد وجدته قرب جثته الطازجة المسجاة على سريره الخشبي الكبير. ساعدني المصباحُ كثيرا في تلمس طريق العودة نحو البئر. ربطتُ نهاية الشبكة على شجرة النيم الوحيدة التي تنمو على حافة البئر، وفي وقت قليل وبسهولة استطاعت جوكاستا أن تتشعبط على الشبكة مثل القط، ثم مددتُ لها يدي عند الفوهة وإنتشلتها.
إحتضنا بعضنا لوقت طويل جداً، ثم أخذنا في البكاء،وأظنني لأول مرة أبكي في حياتي كلها. فوالدتي تؤكد دائما ان البكاء للنساء فقط، ولكنني أيضا لم أر أمّيْ تبكي، بل شاهدتُ أبي يبكي أكثر من مرة، بل كان يبكي دائماً.
يبدو أنَّ ابي كان غضبانا من شيء ما، انه غضب أبدي، غضب لا يستطيع الخلاص منه، إنه غضبان من قوة لا يستطيع مقارعتها، فيبكى حرقة على عجزه، سالتُ أمي مرة:
- لماذا كان ابي يبكي، وانت تقولين لي إنَّ البكاء للنساء؟ قالت لي:
- إن بكاء ابي ليس البكاء الذي تبكيه النساء والأطفال او غيرهم من بشر وحيوانات، إنه بكاء ابيك وحده، ابوك يبكي لكي لا ينفجر الغضب في كبده ويقتله، فسألتها:
- ممن أبي غضبان؟
قالت وهي تستغفر ربها وترجو المغفرة لها ولوالديها:
- أبوكِ غضبان من الله.
نمنا على شاطئ النهر، قريبا من الكبرى القديم. في العراء. حكت لي قصتها كلها، وكيف ان ابيها أراد قلتها لأنه عرف انها حامل سفاحا، وانه ضربها في بطنها عند حافة البئر الى ان نزفت وظن انها ماتت، ثم القاها في البئر، ولحسن حظها لم تكن هنالك كثرة من الماء بل كان قاع البئر مشحونا بالطين والرمل.
- وهل كنت حامل؟
منذ شهرين لم تأتها الدورة الشهرية، ففحصتها والدتها وعرفت أنها ليست عذراء، فتيقنت بأن جوكاستا حبلى، أخبرت والدها مباشرة، ليحل الأمر مع المساعيد ويتزوج البنت، إلّا أن المساعيد نكر كل شيء، وأخبر أبيها بأن بنته مشاع للجميع، وأن الأب وحده الذي لا يعلم ذلك. ولكن جوكاستا إعترفت بأن المساعيد يمارس معها الجنس منذ أن كانت طفلة لم تبلغ الحلم، وأنها لا تعرف شخصاً غيره، مقابل المال والحلوى وبعض الأغراض الصغيرة، فغضب الأب واراد التخلص منها خوف الفضيحة.
قالت لي بهدوء:
- عايزة أقتل المساعيد!.
قلت لها بقدر المستطاع من الهدوء:
- وجدته ميت، وأنا شلت قروشه كلها، ربما يكون أبوكِ قتله.
صمتت لوقتٍ طويل. كان ضوء الشمس قد أنار وجهها تماماً في ذلك الصباح الباكر، إستحممنا في ماءِ النهر البارد، كانت شبه عارية ومرهقة، قلتُ لها:
- نمشي.
- نمشي وين؟
- إلى الحبشة.
قالت بإصرار مرعب:
- ما أمشي لاي مكان إلّا بعد ان أقتل أبي!
قلتُ لها:
- أبوكِ برضو مات.
قالت بصوتٍ منخفض مخنوق وكأنه الهمس:
- منو الكتل أبوي؟
- لا أعرف، ولكنني وجدت أبوكِ والمساعيد ميتين!
عبرنا النهر سباحة وعلى رأسي حقيبة من البلاستيك مملوءة بالنقود وبعض الأشياء النفيسة، فلقد كان المساعيد مغرماً بشراء الذهب والمشغولات النادرة من النساء الفقيرات وأصحاب الحاجة، بأسعار بخسة مستغلا حاجتهم للمال. وفي الحقيبة أيضاً كنت احتفظ بمدية غسلتها جيداً من دم القتيلين.
جوكاستا سباحة ماهرة وانا أيضاً، عبرنا نهر سيتيت الهادئ الحنون. مضينا في خطى سريعة نحو الشرق، كان ضوء الشمس الساطع يجهر اعيننا، ولكنه لم يمنعنا من الغناء، جوكاستا تحب الغناء وتسلق الأشجار: وأنا أحب جوكاستا.

فيينا 12-6-2020م.
#بركة_ساكن
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...