محمد بنيس - ثقافة الفرجة والأشباح

(1)
عـمـلـــت الســيـاسـات الثـقـافـيـة العربية، عبر البلدان والأنظمة، على إبعاد الثقافة عن فعلها. خافت من الثقافة فوضعت لها الأسوار، منعتها باسم الدين، وباسم الأمن، وباسم الأخلاق. خوف مُعمَّم، لأن من معاني الثقافة الحرية، الإبداع، النقد، التجديد، المغامرة. ومثل هذا المعجم يناقض الأسس التي تقوم عليها السلطة العربية، وتتمثل في الخضوع، الجمود، القبول، التقليد، الانكفاء. معجم بكامله يمكن أن يتسع ويتسع، حتى لا حدّ لسلسلة الكلمات التي تتوحد في جذر واحد هو العبودية.
عادة ما نذهب في قراءة السياسات الثقافية نحو مظاهر شكلية، منها البنايات، مثل المكتبات أو المسارح والمعاهد الفنية والمتاحف؛ ومنها الأنشطة، مثل المهرجانات، والمعارض، والندوات، والأعياد والأسابيع الثقافية؛ أو المؤسسات، مثل الجمعيات والأندية؛ أو دعم الكتاب والفنون وإعطاء المنح والجوائز. لا شك أن هذه كلها وسائل تدل على وضع إمكانيات في خدمة الثقافة، منها ما ورثناه عن حضارتنا ومنها ما تعلمناه من أوروبا الحديثة. وفي هذا المستوى تحققت إنجازات تتفاوت في عددها وقيمتها من بلد إلى آخر. من البلدان العربية ما خصّص أكثر من سواه لبناء حياة ثقافية. لكن ما يهم ليس المظاهر وحدها، بل أيضاً الفكرة الموجهة للمجال الثقافي، والعناية المرصودة للثقافة في عموم البلاد العربية.

(2)
قامت فكرة العالم العربي، في العصر الحديث، على الثقافة. بدأً من تحديث اللغة، ثم اتسعت الفكرة فشملت الكتاب والصحافة والفنون. تمت المبادرة، في البداية، على يد الكتاب والأدباء والفنانين والنخبة المتنورة من المجتمع. ثم جاءت الدولة لاحقاً، بعد الاستقلال، لتستلم الثقافة. وعـنـدما استـلـمت الثقافة، من خلال إنشاء وزارة الثقافة بالأساس، أخذت السلطة ترسم، شيئاً فشيئاً، سياستها الثقافية. لم تجعل من مؤسسة الدولة داعماً للفعل الثقافي، الذي بادر المثقفون إلى وضع دعائمه وممارسته، بل وجهت سياستها نحو إخضاع الثقافة لأغراضها ومصالحها في استدامة سيادتها على المجتمع. من هنا أخذ الخلل يتسرَّب إلى الجسم الثقافي، والتناقض يحتدّ بين انطلاقة الفكرة ومآلها على يد السلطة.
نادراً ما توافرت للنخبة إمكانيات مادية تسمح لها بإقامة مشروعها الثقافي باستقلال عن الدولة، ثم لم تتوافر لدينا دولة تعتبر البناء الثقافي مشروعها، أو من ضرورات وجودها، على غرار ما تم في روسيا واليابان والصين. ثمة تفاصيل جزئية تميز هذا البلد عن ذاك، أو أسبقية بلد على آخر. وما يعنينا، هنا، هو المشترك في السياسة الثقافية للدولة العربية. الذي أقصد هو أن الدولة قائمة لدينا على أسس دينية، باختلاف درجة تلك الأسس. وللدين تعطي كامل عنايتها. هكذا، كلما عثرنا على اجتهاد في تأويل الديني وجدنا إلى جانبه قبولاً ببعض مبادئ الفكر السياسي الحديث، وخاصة اعتماد دستور ونظام برلماني، وانفتاحاً على الثقافة. لكن هذا الإطار القانوني الحديث وذاك الهيكل الثقافي، يخفيان معاً، يد الدولة الضاغطة بقوة على الحدود المسموح بها للثقافة.
إن النفاذ إلى هذه الصورة وقراءتها، تحليلاً ونقداً، هو ما شَغَلَ النخبة الثقافية، بقدر ما شَغَلَ البناءُ الديموقراطي الشكلي النخبة السياسة. ورغم صعوبة العثور على المشترك في السياسات الثقافية العربية، بحكم التاريخ والجغرافية والمجتمع، فإن السلطة العربية تتقاسم النظر إلى الثقافة بعين الشك واللا ثقة. ذلك أن مصلحتها تتعارض مع أعلى مبادئ الثقافة الحديثة، التي تلخصها حرية التعبير والتفكير والاعتقاد. من هذا المنظور تحدّدت السياسات الثقافية والعلاقات مع المثقفين.

(3)
أولئك المثقفون، الذين عملوا على تحديث الثقافة العربية، هم الذين كانوا تمكنوا من الاطلاع على أوروبا وثقافتها. أخذوا يدركون عوائق جمود الثقافة العربية التي كانت لها في قديمها المساهمة في تطوير وإبداع الثقافة البشرية خلال العصور الوسطى. ومن ثم نزعوا إلى تحديث هذه الثقافة. أفعال عديدة يعرفها اليوم كل من أخذ بالقليل منها. مؤلفون وأعمال أصبحت من سماتنا. كان هؤلاء راغبين في تحرير ثقافة ومجتمع بقدر ما هم كانوا متشبثين بحريتهم كأفراد وحرية سواهم من الأفراد. إنهم الذين يطلق عليهم اسم الطليعة الثقافية. نشأوا في جميع البلدان العربية، حسب الشروط التي عاشوا فيها. منهم من لم يفارق بلده، فكان له ما كان، ومنهم من غادره إلى المنفى. ويبقى عددهم قليلاً، لكن تأثيرهم كان حاضراً.
وجاءت الدولة، بعد الاستقلال، لتجعل من الثقافة حقلاً تلبي في أحسن الأحوال احتياجاته الأولية، لكنها، في المقابل، سعت إلى ضبطه وفق احتياجاتها هي الأخرى. لقد نزعت عن الثقافة فعلها الحرَّ في إعادة صياغة الرؤيات والقيم والتصورات والجماليات، ومكنتها، في المقابل، من وسائل شكلية، لتصبح الثقافة فرجة والمثقفون أشباحاً.

(4)
هذه السياسة الثقافية عمياء. فهي لم تستطع أن تفهم معنى الثقافة في العصر الحديث ودورها في بناء إنسان جديد ودولة جديدة، في علاقتها بذاتها وبالآخر. لم تتجرأ على تبني قراءة جديدة للدين، أو العلم، أو القيم، أو السلطة ذاتها. سياسة تضع مصالح الفئة فوق مصالح المجتمع. لا تجاوب بينهما ولا تفاعل. وهي، في أحسن الأحوال، سياسة تعامل الثقافة كممارسة مجانية، تنحصر قيمتها في وظيفة إرضاء نزوات بعض الأفراد أو إنتاج أدوات التزيين وأنشطة لتزجية الأوقات بالترفيه.
وما وعيها، اليوم، بما اختارت أن تكون عليه، منذ عقود؟ أقصد باليوم ما نعيشه من تفشي الانغلاق في التعامل مع الدين، واتساع دعوات التكفير، وتبني التطرف والعنف باسم الدين. جميع الوسائل الشكلية التي أقامتها الدولة لنشر الثقافة لم تعد مقبولة من لدن المتطرفين. فالفرجة محاكمة والمثقفون موجودون كأشباح لا أحد يراهم أو يلتفت إليهم. ولا أتخيل السلطة العربية قادرة على طرح السؤال عما قامت به لتسلب الثقافة من الثقافة، ولا عن الفشل الذي وصلت إليه سياستها في تدجين الثقافة والمثقفين بدلاً من فتح الأبواب على حرية الإبداع والتعبير.
(5)
لا يمكن للسلطة أن تفكر في السؤال، لأنها لا تعتقد أن من مهمتها ذلك. لا تحيد عن اختياراتها. وما جاء به الربيع العربي من إمكانيات التغيير في المجتمع والدولة على السواء كان أقوى من زمننا ومن خيال السلطة والمؤسسات السياسية. تلك مأساتنا التي نعيشها جميعاً. وما يبدو، اليوم، اهتماماً بالثقافة، سيؤدي إلى المزيد من الفشل الذي أصبح يعتقلنا. فالمنطق الذي اختارت السلطة أن تتعامل به مع الثقافة من قبل هو نفسه اليوم، بل وربما صارَ أسوأ. إن السياسة التي لا تسمح للثقافة أن تتكلم جهراً في ساحات المدينة، ولا تتركها تدخل إلى المدرسة والبيوت، لا يمكن أن تكون في خدمة الثقافة.



https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=3403910973003704&id=142864669108367
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...