في غمرة الضياع الثقافي الذي توصف به الحياة العربية المعاصرة، على أنه من مظاهر المعاناة الفكرية القلقة في المرحلة الراهنة، تستأثر بعض المفاهيم الثقافية بأهمية تبلغ حد الخطورة، لا لأنها تبدو أشبه بالمفاتيح السحرية لفهم القضايا الأدبية والفنية فحسب، بل لأن الواقع الثقافي قد فرضها على الجميع في أجيال متعاقبة، مثلما يفرض الواقع السياسي أو الاجتماعي كثيراً من القضايا الإنسانية الكبرى في حياة الجماهير. ولا تفسير لمثل هذه الظاهرة "الجماعية" في التجربة الثقافية، إلا أن هناك تغيرات حاسمة تطرأ على "العقلية العربية المعاصرة"، لا تقل شأناً عن ظواهر التبدل في النواحي الأخرى، وهي تقترن بشعار التحرر أو الثورة وبناء الحياة الجديدة.
والحقيقة أن أزمة الضياع تبدأ بالالتباس الذي يهيمن على الفكر العربي، حين يحاول أن يحدد المضمون الواقعي الحي لأي مفهوم ثقافي، فإذا تجاوزنا المفردات التقليدية المألوفة في هذا المجال كالثقافة ذاتها في معانيها المتعددة، وما ندعوه "بالعقلية العربية" وما يوصف منها "بالمعاصرة" وغير ذلك، تبرز مسألة التغير الثقافي في أرضية مثقلة بالتناقضات: إلى أي حد يمكن الحديث عما هو "ثوري" أو "طليعي" في هذه "العقلية" في حين تتكشف سلبياتها، عاماً بعد عام، عن مزيد من الغموض والارتباك، يحولان دون وعي الحقيقة والرؤية الواضحة؟.. لماذا المطالبة الدائمة بأن تهيأ الأذهان للوعي الثوري، وتختمر الأفكار التقدمية في أذهان الجميع، لكي يكون ثمة مجال للتغيرات الجذرية في الواقع، في حين يكتفي المناخ الثقافي في هذا الصدد، بوصاية النخبة من المثقفين أو التزام التيارات العقائدية أو هيمنة الوجدان الجماهيري الغامض؟. ألا يمكن أن يعد هذا الاكتفاء نوعاً من عزل التجارب الثقافية ذاتها –كما يعانيها الجميع في شتى المستويات- عن التأثير المباشر في الأحداث المصيرية؟ وفي الوقت نفسه يُطالب الفكر مثلاً أو الأدب أو الفن "بموقف مصيري" –إذا صح التعبير- يتجاوز حدود العمل الثقافي إلى التزام القضايا التحررية!..
لقد أصبح من المألوف أن نتحدث عن الكلمة التي "تقاوم" أو "ترفض" أو "تقاتل"، وعن القصيدة التي تتحدى المحرمات مثلاً، أو تقحم إيقاع التجربة المعاصرة بين "أنقاض التراث"، وعن الرواية التي تتحدث عن مشكلة الأرض أو تفضح رياء العلاقات البشرية في مرحلة "ما قبل الثورة".. الخ، غير أننا قلما نتساءل عن طبيعة الكلمة في خاصتها التاريخية الحية: إنها تجسد نضج الحس البديعي لدى الكاتب، أو تعبر عن ارتباط الإنسان بالثقافة القومية، أو عن تحرر شخصيته الإنسانية.. الخ..
من خلال هذا التساؤل الأساسي، تأخذ أزمة الضياع أو الاغتراب صيغة أكثر تعقيداً، وأشد ارتباطاً بالمصير الثقافي للأمة. في الملامح الأولى لهذه الصيغة أن الذين لا يملكون التعبير "الأصيل" عن ممارسة إنسانيتهم في حرية، قد يكونون عاجزين عن أن تصبح لهم ثقافة قومية، أو أن يؤلفوا أمة ذات تاريخ متحرر من التبعية!.. ذلك هو موقف الاستعمار الجديد من قضية الثقافة في حياة الشعوب المستقلة حديثاً.
في ندوة عقدتها مجلة "السياسة الدولية" في القاهرة /حزيران 1971/ حول هذا الموضوع، تبرز نقاط أولى في هذا الموضوع يمكن أن تتشعب عنها جميع المشكلات الأخرى:
أولاً- لقد ترك الاستعمار في البلاد "النامية" لغته الأجنبية وبنيانه الفكري. وإذا أتيح لهذه البلاد أن تستخدم لغاتها الأصلية فإن لغة المستعمر القديمة هي سبيل اتصالها بالعالم، كما أن بنية التفكير الأجنبي هي التي تتيح لها استيعاب التجربة الحضارية المعاصرة، مما يعد عاملاً خطيراً في تكوين العقلية الجديدة لشعوبها المستقلة. إن كثيراً منها تعاني الاغتراب في أقسى صوره لأنها قد فقدت لغتها الأصلية أو أصبحت هذه اللغة مظهراً "أثرياً" أصم لما يدعونه بالتراث الشعبي أو الثقافة المحلية الضيقة. وما دامت اللغة هي العنصر "الديناميكي" الحي في التجربة الثقافية، فليس من الصعب أن تصبح هذه الشعوب في ثقافتها "الدخيلة التعبير" امتداداً لثقافة الآخرين، وأن يكون في ذلك ما يشير إلى تبعيتها المتزايدة، على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. الخ، ومع أن اللغة القومية قد استعادت كيانها وحيويتها لدى العرب مثلاً، فإن ما فرض عليها الضياع والاستلاب، خلال السيطرة الاستعمارية، ما يزال يثير الكثير من التساؤلات حول جدارة الشعب بتمثل حضارة العصر، عن طريق لغته وما تركه التراث من بنى التفكير وأساليب الأداء!.. وإذا كانت معركة التعريب في أقطار المغرب سوف تمتص وحدها أجيالاً متعاقبة، وجهوداً خارقة، فإن ترويض العربية في أقطار المشرق، على تمثل التجربة الحضارية الحديثة، يعد أيضاً من مظاهر الكفاح الطويل الأمد، من أجل البناء الثقافي ومن ثم فإن أزمة "حرية التعبير" في الحياة الأدبية على نحو خاص، لا تقتصر على الشروط التي تفسح المجال للكلمة الصادقة، النظيفة، بل إن شيئاً أساسياً من الأزمة، يرجع إلى عجز التعبير ذاته عن الإحساس بحركة التاريخ: أن يقترن باللفظية "الغوغائية"، أو الالتباس المرائي، أو الأداء الخرافي. وهي لا تصدر إلا عن وجدان مستلب "مضيَّع"، يكون فيه الإنسان "أداة" في يد الآخرين، وتكون فيه الثقافة خارج الزمن. فكيف يتاح للأديب العربي، أمام هذه الأزمة، أن يعايش في تجربته الفنية وأدائه، وجدان الإنسان المعاصر؟..
ثانياً- لقد استطاع الاستعمار أن يفرض الكثير من تقاليده الثقافية بما فيها العقلية الحضارية الحديثة، من خلال المثقفين في البلاد النامية. وعلى الرغم من الطابع "الإنساني"، "العقلي" الشامل للحضارة، فإن ظاهرة النخبة المثقفة قد حملت نوعاً من الصراع بين التقاليد "الأجنبية" المزوَّدة "بديناميكية" العصر، وبين التقاليد القومية أو المحلية التي ما تزال تحتفظ بشخصيتها أو تحاول الانبعاث بتراثها البعيد أو تستنجد بخصائصها، على نحو أو آخر، لكي يعبر عن رفضها لكل ألوان التبعية. ومع أن هذا الرفض ينطوي على شيء من السلبية في النطاق الثقافي، وقد يعبر عن الكبرياء القومية أحياناً، فإنه يضع المثقفين دائماً في أزمة الانتماء الثقافي المزدوج أنه يحمِّلهم مسؤولية التمهيد للتغلغل الاستعماري "الجديد" والتنكر للثقافات القومية التي تعاني الجمود والتخلف أحياناً، أو تعجز عن معاصرة العقلية الحضارية في الغالب، وفي الوقت نفسه يُطالبَون بإحياء التراث وتجاوزه إلى البناء الثقافي الجديد.
في هذا الإطار، تثار معظم القضايا المصيرية في الحياة الثقافية أمام الأديب العربي: فإذا أتيح للثقافة العربية أن تستوعب –في تجاربها الأدبية على الأقل- كل حركة التاريخ المعاصر، وتتمثل الحضارة بكل نزعاتها إلى التجديد، أين يقف الالتزام بالكاتب العربي؟..
قد يكون التزام التراث القومي مظهراً للتحرر من الاغتراب، ولكن مثل هذا الالتزام يطرح منذ البداية مشكلة الأصالة، وهي من أكثر المفاهيم عرضة للتضليل. إن الفكر الرجعي مثلاً يلتمس معنى الأصالة في نظرية "الدورة الحضارية المغلقة" للتراث القومي، وهو يبدو من خلالها معجزة لن تستعاد، لا لأنها وحدها "الحلقة الذهبية" في تاريخ الشعب فحسب، بل لأن العصر أيضاً قد أعد من أجل بشر آخرين، يجدون أنفسهم في تقهقر مستمر أمام عنفوان الماضي، وعجز عن تطلعات المستقبل في آن واحد. ذلك هو طابع الجيل التقليدي في الغالب، إنه يعترف بالانحدار أمام منجزات الماضي "الأصيلة"، ويؤكد بأن الأمة كلها تعاني الاغتراب عن حقيقتها، لأنها فقدت لغتها الحقة، وبنية أدائها السليمة، غير أنه يؤكد في الوقت نفسه أن روح العصر تحتم أن يكون الاحتفاظ بالخصائص القديمة المتميزة للغة وبنية التعبير، وطريقة التفكير، مظهراً للحرص على التخلف ذاته.
بهذا التناقض يتجلى العقم في الكثير من القضايا الثقافية التي يطرحها الأدب العربي الحديث:
هل تستطيع القصيدة العربية ببنيتها التقليدية أن تستجيب للتجارب المعاصرة؟
إلى أي حد يسوَّغ للقصة أو الرواية أن تتجاوز روافدها الضحلة في التراث القديم، وتقفز إلى الصيغ المحدثة في تياراتها الجديدة، قبل أن تصنع تراثها الطبيعي المعاصر؟.
لقد حدد ابن خلدون مثلاً، رؤية واضحة للمفاهيم الأدبية تلخص موقف عصره من طبيعة العمل الثقافي، وهي رؤية ما تزال صالحة للتعبير عن صورة الانحدار... فإلى أي حد نستطيع أن نتبين الموقف البديل في حياتنا الثقافية المعاصرة؟.
ينطلق ابن خلدون من حقيقة أولى تتفق ومفهوم البداوة، هي الفعالية العفوية الحرة التي "يولد" بها الإنسان، وتتيح له ممارسة الكلام على أنها ملكة اللسان التي تحمل منذ البداية بنيته في التعبير وأحكامه في البلاغة.
(المقدمة –ف 47)، وتتصف هذه الملكة بالطابع القومي المحض من ناحية، و بأنها تعتمد على "الذوق" في اختيار أشكال الأداء البليغة، من ناحية ثانية. (ف-47).
إلى جانب الملكة والذوق يشير ابن خلدون إلى مفهوم ضمني أكثر عفوية وغموضاً في الوقت نفسه، هو علاقة اللغة بالتجربة الدينية. إن هذه العلاقة هي التي جعلت اللسان العربي يستأثر بصفة الأصالة "الفطرية"، في حين يبدو تاريخ اللغة والأدب في النظم والنثر، مراحل من محاولات التعبير (أو صناعة الكلام) لا غاية لها إلا اتقاء الهجنة والفساد، وما إلى ذلك. إن تاريخ النحو مثلاً –كما يُشرح حتى الآن- ينطلق من مقولة "سلبية" هي الانهيار "اللغوي" المتوقع. وهو ما يسوغ لابن خلدون والأجيال التقليدية التي تبنت شيئاً من نظرته حتى المراحل الراهنة أن تولي "الصيغة" الأدبية كل اهتمامها حين تتحدث عن الأصالة أو التجديد. بل إن ابن خلدون كان أكثر وضوحاً في التأكيد على هذا الموقف "التقييمي" –إذا صح التعبير-. يقول: "إن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر"... "فالمعاني موجودة عند كل واحد في طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى.. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف.. والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام.." الخ.. (ف-48).
في مثل هذه النظرة التي تتفق والنظرية الشكلية في الأدب المعاصر، خلال الثلاثينات من هذا القرن، وتلتقي بعض الشيء مع موجة الرواية الجديدة في الستينات، كما عبر عنها آلان روب غرييه: "لا يهم ماذا يقول الكاتب، بل كيف؟.."، يُدان التراث العربي كله أحياناً بأنه يفتقر إلى المعاناة الفكرية أو الفنية الحرة، التي تتجاوز حدود التجارب "الجماعية" والمعاني "التقليدية" المألوفة التي تصدر عنها.. فهل هناك ما يجعل هذه الإدانة مشروعة، على أنها تنسحب أيضاً على حياتنا الثقافية الجديدة؟.. وإلى أي حد تعد هذه الظاهرة صورة لانغلاق "الوجدان العربي" في تجربته البديعية، عن تفتح الثقافة العالمية المعاصرة؟.
ثالثاً- إن اللغة (القومية) التي يتاح لها من الوجهة التاريخية أن تمثل الطرف الأشد مناعة في مقاومة الاستعمار "الجديد"، والضياع الثقافي بما فيه من محاولة الاستمرار في فرض الاغتراب على الإنسان العربي، إنما تمثل الميدان الأول للامتحان الصعب في حياة المثقفين عامة، والكتاب على نحو خاص. فقد يكون من السهل أن تُستعاد اللغة على أنها وسيلة للتفاهم وتبادل الأفكار والمشاركة في التعبير، غير أن "ممارستها" على الصعيد البديعي ترتبط أشد الارتباط بممارسة الحرية، ليس من أجل التعبير عن الحقيقة الإنسانية في تطلعاتها فحسب، بل لكي تجسد حرية الآخر أيضاً: أن لا تكون –على الأقل- أداة قمع واستلاب، لدى أي كائن بشري آخر. وعلى هذا النحو فلا مجال للحديث عن انحدار العربية بعد أن انحسرت مرحلة "السليقة" البدوية الأصيلة... الخ، ما دامت هناك شعوب قد التقطتها- إذا صح التعبير- ووجدت في بنيانها المتماسك الصارم، وسبلها الأصيلة في الأداء، ما يتيح لكل إنسان "آخر"، أن يعبر عن حقيقته في حرية، وأن يسهم في بناء ثقافي جديد يكون عاملاً في صنع المستقبل بدلاً من أن تكون تجربته الثقافية حاشية على الأحداث تذهب بها أية مرحلة تاريخية عابرة.
وإذا كان لمثل هذه التجربة ما يتيح لها أن تمثل شيئاً من المستقبل، فلا بد لها من التسليم الصادق، بأن الحياة القادرة على الاستمرار والتجدد، تجري أبداً في جذور الماضي البعيدة. وهو شأن اللغة العربية بوصفها أداة للفن، في طابعها الحضاري. فما يبدو لنا نهاية المطاف، يمكن أن يصبح بداية. ومهما تخضع له البلاغة في النثر أو قصيدة الشعر، من الأحكام –على حد التعبير القديم-فإنه لا يعني مثلاً أن استقلال البيت في القصيدة أو وحدة الروي والقافية،.. يعزلان الشاعر عن أية رؤية أخرى للتجربة الفنية تفرض صيغاً جديدة، أو تتيح له أن يعايش معاصريه في الصيغ القديمة ذاتها. كان آراغون يقول: "إني لأهتم أشد الاهتمام بتجارب الذين لم يحدد مصيرهم منذ البداية". ويذكر لوكاتش: "إن رسالة الأدب في كل زمان ومكان، أن يطرح الأسئلة ويثير المشكلات في صور أناس جدد، ومصائر بشرية محدثة".
رابعاً-في البحث عن رؤية جديدة للحياة المعاصرة يجسدها العمل الأدبي، وتحمل في آن واحد، أصالة الملامح القومية واتساع الأرضية "الإنسانية" التي تتحرك عليها في حرية، لا بد من أن تعطى المفاهيم الثقافية المألوفة، معاني جديدة تناقض كل ما تفرضه نظرية "الانهيار". فمن عنفوان اللسان العربي مثلاً وأصالته الحضارية أنه أصبح قاموساً ووضعت "المعاجم" لضبطه، مثلما أنشئت له علوم اللغة والنحو وما إلى ذلك، بهذا أتيح له أن يصبح من ينابيع "التحرر" الثقافي عبر الأجيال المختلفة، وبين البلدان المتباعدة... ومع أن عملية التحرر هذه، يمكن أن تقتصر في النطاق الأدبي على اكتشاف الكلمة الحية، المشدودة إلى واقع التجربة الإنسانية، فإن طابع "الأصالة" فيها، يرجع إلى خاصتها الفنية أو صفتها البديعية. ومن ثم فلا بد من التمييز بين الكلمة التي لا تملك من الجرأة إلا الإشارة الخرساء، والصورة "اللفظية" التي تؤدي دورها في التفاهم العابر أو مشاركة الأفكار في القضايا المألوفة، وبين الكلمة الصريحة الحية، ذات البنية الفنية، تتجاوز كل هذه الحدود لكي تجسد موقف الإنسان من مصيره على النحو الذي يمليه الوجدان البديعي. من أجل هذا الموقف تصبح الكلمة "رؤية" مشرقة، تتمثل حقيقة التجربة بكل رسوخها وحرارتها، وتتخطى معطيات التراث وضياع الواقع الراهن، من أجل ما يتجدد باستمرار في وجود الإنسان، ما ينطوي على بنية واقع آخر لا مكان فيه مع أداء الكلمة لألوان الغموض والخوف من الحقيقة والإشارة والإبهام والتعثر في مجابهة التناقضات الفاجعة التي يعانيها كل واقع إنساني مستلب.. وهو واقع الأديب العربي المعاصر، و هو يعجز عن إدراج اللغة العربية ببنيتها الفنية وانفتاحها الإنساني، في التراث العالمي للعصر، مثلما يعجز عن تجسيد مرحلة الانبعاث الثقافي، أو تجربة الانعتاق من وراثة الانحطاط على الأقل، في الصعيد الأدبي. وليس التلويح بمثل هذا العجز من قبيل التشاؤم، بل إنه مظهر للشعور بالمسؤولية في أبعادها المختلفة، لدى الأديب العربي: أن يجد نفسه أمام كل جيل وافد، ملزماً بإعادة النظر فيما هو "تقدمي"، "مصيري" في النتاج القديم والجديد، يستجيب لنزعات التحرر في الوجدان الجماهيري. إن هذا الوجدان –على ارتباكه ومعاناته ما يزال يحتفظ بالانقياد الفني "للكلمة- الرؤية" تمنحه القدرة على أن يتمثل كل إيقاعات الحياة الإنسانية في مصائرها الكبيرة، ولا سيما حين تكون جدارة الإنسان وكيانه القومي، ومعناه الحضاري، هي أولى قضاياه المصيرية.
خامساً- لئلا ينزلق الحوار الفكري حول قضية الأدب العربي في تكرار المسائل الثقافية الغامضة، (التراث والمعاصرة، الأصالة والتجديد، التقاليد القومية وحرية التعبير، القديم والجديد، الالتزام وحرية الأداء، الأدب والوجدان الجماهيري... الخ) لا بد من التأكيد على منطلق أساسي يفرضه ارتباط العمل الأدبي بفكرة "المصير"، هو أن صناعة الكلمة في رؤية الحقيقة وتبصر المستقبل، تعني في الوقت نفسه صنع الإنسان العربي الجديد. ومن ثم فإن على كل حوار أن يتجاوز "التقييم" التاريخي المرحلي الذي تستأثر باهتمامه غزارة النتاج الأدبي ومحاولة الابتكار فيه، إلى التقييم الفني الصارم في علاقته بمعنى التجربة البديعية في حياة الجماهير، ومن ثم لا بد من الرجوع إلى مفهوم "الإيقاع" الإنساني الأصيل للأثر الفني.. وفي أزمة الاستلاب والضياع، يحمل هذا الإيقاع عن طريق الكلمة وبنيانها الحي، ملامح الإنسان الذي لم يتكون بعد. يقول هلدرلن في التعبير عن وظيفة الشاعر:
"حتى صمت الأثير، كنت أفهمه.. هذا السكون المترامي".
"أما كلمة "الإنسان".. فلم أعرف حقيقتها على الإطلاق!..".
(هيبيريون)
وبهذا التساؤل الصامت يتحدث بول فاليري عن الإنسان أيضاً:
".. ولكنه يختلف عني وعنك... إذا كان له شكل وله صوت.. فإن هناك "الآخر" يأخذ جميع الأشكال وجميع الأصوات..". (السيد تيست- ص92).
مثل هذا "الكائن" الطليق يحدد ملامح الأصالة والإبداع في كل عمل فني، مهما تكن صيغته وبناؤه، وهو ما يفسر استمرار الكثير من هيمنة التراث العربي مثلاً، ولا سيما في الشعر، والكثير من "رؤيته" المشرقة، على الرغم من بنيته الصارمة وتقاليد صياغته. ففي كل أداء بياني –مهما تتكرر معانيه- إيقاع تجربة جديدة يفتح الشاعر آفاقها البعيدة "وليس من الصعب أن نتبين ذلك حتى في النماذج العادية من صناعة الشعر التقليدي، كيف تحمل الكلمة وحدها صورة التغير أمام الزمن. يقول حميد بن ثور:
وكائن لقينا من نعيم ولذة
وأعجبنا المصطاف والمتربع
وقلنا لعل الماء يربو فنقتني
وعل غلاماً ناشئاً يترعرع
أماني عام بعد عام تعلقت
بأمثالها في الناس عاد وتبَّع
ولكنما الدنيا غرور ولا ترى
لها لذة إلا تبيد وتُنزع... الخ
إيقاع قديم التاريخ، ولكن الكلمات الموجزة في أدائه الفني تملك الرؤية المعاصرة كل حين،.. يتساءل آتيماتوف: "كم ينبغي أن يكون النتاج الفني قادراً على إثارة القلق الروحي لدى الآخرين وإغناء عالمهم البديعي!.. إن أشد ما ينكبنا به الأدب "الحديث" هو فيض الأدب "الوسط".. الرؤيا الزائفة التي يكون فيها الزبد أكثر من الماء الحي".
(المؤتمر الخامس لاتحاد الكتاب السوفييت – 1971)
إذا كان مثل هذا "الزبد" تعبيراً عن المتراكم"، "المرتجل"، "المألوف" مما يضاف إلى التراث، فإن المسألة المطروحة على كل جيل –كما يقول ريمون آرون- هي: هل يقبل الماضي أم يرفضه؟.." (18 درساً في المجتمع الصناعي-ص81). وعلى الرغم أنه أصبح من أكثر تساؤلات الثقافة العالمية ابتذالاً في تعبيرها عن أزمة الحضارة الغربية على نحو خاص، ومحاولتها إغراق التجربة العربية بسلبية المفردات "الثقافية" القاتمة، فما يزال هناك مجال للسؤال: إلى أي حد يملك الأديب العربي المعاصر حق الحكم النهائي على التراث، وشرعية رفض الاغتراب الراهن، وهو لم يجسد بعد في عمل مبدع رؤية المستقبل الناصعة؟..
والحقيقة أن أزمة الضياع تبدأ بالالتباس الذي يهيمن على الفكر العربي، حين يحاول أن يحدد المضمون الواقعي الحي لأي مفهوم ثقافي، فإذا تجاوزنا المفردات التقليدية المألوفة في هذا المجال كالثقافة ذاتها في معانيها المتعددة، وما ندعوه "بالعقلية العربية" وما يوصف منها "بالمعاصرة" وغير ذلك، تبرز مسألة التغير الثقافي في أرضية مثقلة بالتناقضات: إلى أي حد يمكن الحديث عما هو "ثوري" أو "طليعي" في هذه "العقلية" في حين تتكشف سلبياتها، عاماً بعد عام، عن مزيد من الغموض والارتباك، يحولان دون وعي الحقيقة والرؤية الواضحة؟.. لماذا المطالبة الدائمة بأن تهيأ الأذهان للوعي الثوري، وتختمر الأفكار التقدمية في أذهان الجميع، لكي يكون ثمة مجال للتغيرات الجذرية في الواقع، في حين يكتفي المناخ الثقافي في هذا الصدد، بوصاية النخبة من المثقفين أو التزام التيارات العقائدية أو هيمنة الوجدان الجماهيري الغامض؟. ألا يمكن أن يعد هذا الاكتفاء نوعاً من عزل التجارب الثقافية ذاتها –كما يعانيها الجميع في شتى المستويات- عن التأثير المباشر في الأحداث المصيرية؟ وفي الوقت نفسه يُطالب الفكر مثلاً أو الأدب أو الفن "بموقف مصيري" –إذا صح التعبير- يتجاوز حدود العمل الثقافي إلى التزام القضايا التحررية!..
لقد أصبح من المألوف أن نتحدث عن الكلمة التي "تقاوم" أو "ترفض" أو "تقاتل"، وعن القصيدة التي تتحدى المحرمات مثلاً، أو تقحم إيقاع التجربة المعاصرة بين "أنقاض التراث"، وعن الرواية التي تتحدث عن مشكلة الأرض أو تفضح رياء العلاقات البشرية في مرحلة "ما قبل الثورة".. الخ، غير أننا قلما نتساءل عن طبيعة الكلمة في خاصتها التاريخية الحية: إنها تجسد نضج الحس البديعي لدى الكاتب، أو تعبر عن ارتباط الإنسان بالثقافة القومية، أو عن تحرر شخصيته الإنسانية.. الخ..
من خلال هذا التساؤل الأساسي، تأخذ أزمة الضياع أو الاغتراب صيغة أكثر تعقيداً، وأشد ارتباطاً بالمصير الثقافي للأمة. في الملامح الأولى لهذه الصيغة أن الذين لا يملكون التعبير "الأصيل" عن ممارسة إنسانيتهم في حرية، قد يكونون عاجزين عن أن تصبح لهم ثقافة قومية، أو أن يؤلفوا أمة ذات تاريخ متحرر من التبعية!.. ذلك هو موقف الاستعمار الجديد من قضية الثقافة في حياة الشعوب المستقلة حديثاً.
في ندوة عقدتها مجلة "السياسة الدولية" في القاهرة /حزيران 1971/ حول هذا الموضوع، تبرز نقاط أولى في هذا الموضوع يمكن أن تتشعب عنها جميع المشكلات الأخرى:
أولاً- لقد ترك الاستعمار في البلاد "النامية" لغته الأجنبية وبنيانه الفكري. وإذا أتيح لهذه البلاد أن تستخدم لغاتها الأصلية فإن لغة المستعمر القديمة هي سبيل اتصالها بالعالم، كما أن بنية التفكير الأجنبي هي التي تتيح لها استيعاب التجربة الحضارية المعاصرة، مما يعد عاملاً خطيراً في تكوين العقلية الجديدة لشعوبها المستقلة. إن كثيراً منها تعاني الاغتراب في أقسى صوره لأنها قد فقدت لغتها الأصلية أو أصبحت هذه اللغة مظهراً "أثرياً" أصم لما يدعونه بالتراث الشعبي أو الثقافة المحلية الضيقة. وما دامت اللغة هي العنصر "الديناميكي" الحي في التجربة الثقافية، فليس من الصعب أن تصبح هذه الشعوب في ثقافتها "الدخيلة التعبير" امتداداً لثقافة الآخرين، وأن يكون في ذلك ما يشير إلى تبعيتها المتزايدة، على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. الخ، ومع أن اللغة القومية قد استعادت كيانها وحيويتها لدى العرب مثلاً، فإن ما فرض عليها الضياع والاستلاب، خلال السيطرة الاستعمارية، ما يزال يثير الكثير من التساؤلات حول جدارة الشعب بتمثل حضارة العصر، عن طريق لغته وما تركه التراث من بنى التفكير وأساليب الأداء!.. وإذا كانت معركة التعريب في أقطار المغرب سوف تمتص وحدها أجيالاً متعاقبة، وجهوداً خارقة، فإن ترويض العربية في أقطار المشرق، على تمثل التجربة الحضارية الحديثة، يعد أيضاً من مظاهر الكفاح الطويل الأمد، من أجل البناء الثقافي ومن ثم فإن أزمة "حرية التعبير" في الحياة الأدبية على نحو خاص، لا تقتصر على الشروط التي تفسح المجال للكلمة الصادقة، النظيفة، بل إن شيئاً أساسياً من الأزمة، يرجع إلى عجز التعبير ذاته عن الإحساس بحركة التاريخ: أن يقترن باللفظية "الغوغائية"، أو الالتباس المرائي، أو الأداء الخرافي. وهي لا تصدر إلا عن وجدان مستلب "مضيَّع"، يكون فيه الإنسان "أداة" في يد الآخرين، وتكون فيه الثقافة خارج الزمن. فكيف يتاح للأديب العربي، أمام هذه الأزمة، أن يعايش في تجربته الفنية وأدائه، وجدان الإنسان المعاصر؟..
ثانياً- لقد استطاع الاستعمار أن يفرض الكثير من تقاليده الثقافية بما فيها العقلية الحضارية الحديثة، من خلال المثقفين في البلاد النامية. وعلى الرغم من الطابع "الإنساني"، "العقلي" الشامل للحضارة، فإن ظاهرة النخبة المثقفة قد حملت نوعاً من الصراع بين التقاليد "الأجنبية" المزوَّدة "بديناميكية" العصر، وبين التقاليد القومية أو المحلية التي ما تزال تحتفظ بشخصيتها أو تحاول الانبعاث بتراثها البعيد أو تستنجد بخصائصها، على نحو أو آخر، لكي يعبر عن رفضها لكل ألوان التبعية. ومع أن هذا الرفض ينطوي على شيء من السلبية في النطاق الثقافي، وقد يعبر عن الكبرياء القومية أحياناً، فإنه يضع المثقفين دائماً في أزمة الانتماء الثقافي المزدوج أنه يحمِّلهم مسؤولية التمهيد للتغلغل الاستعماري "الجديد" والتنكر للثقافات القومية التي تعاني الجمود والتخلف أحياناً، أو تعجز عن معاصرة العقلية الحضارية في الغالب، وفي الوقت نفسه يُطالبَون بإحياء التراث وتجاوزه إلى البناء الثقافي الجديد.
في هذا الإطار، تثار معظم القضايا المصيرية في الحياة الثقافية أمام الأديب العربي: فإذا أتيح للثقافة العربية أن تستوعب –في تجاربها الأدبية على الأقل- كل حركة التاريخ المعاصر، وتتمثل الحضارة بكل نزعاتها إلى التجديد، أين يقف الالتزام بالكاتب العربي؟..
قد يكون التزام التراث القومي مظهراً للتحرر من الاغتراب، ولكن مثل هذا الالتزام يطرح منذ البداية مشكلة الأصالة، وهي من أكثر المفاهيم عرضة للتضليل. إن الفكر الرجعي مثلاً يلتمس معنى الأصالة في نظرية "الدورة الحضارية المغلقة" للتراث القومي، وهو يبدو من خلالها معجزة لن تستعاد، لا لأنها وحدها "الحلقة الذهبية" في تاريخ الشعب فحسب، بل لأن العصر أيضاً قد أعد من أجل بشر آخرين، يجدون أنفسهم في تقهقر مستمر أمام عنفوان الماضي، وعجز عن تطلعات المستقبل في آن واحد. ذلك هو طابع الجيل التقليدي في الغالب، إنه يعترف بالانحدار أمام منجزات الماضي "الأصيلة"، ويؤكد بأن الأمة كلها تعاني الاغتراب عن حقيقتها، لأنها فقدت لغتها الحقة، وبنية أدائها السليمة، غير أنه يؤكد في الوقت نفسه أن روح العصر تحتم أن يكون الاحتفاظ بالخصائص القديمة المتميزة للغة وبنية التعبير، وطريقة التفكير، مظهراً للحرص على التخلف ذاته.
بهذا التناقض يتجلى العقم في الكثير من القضايا الثقافية التي يطرحها الأدب العربي الحديث:
هل تستطيع القصيدة العربية ببنيتها التقليدية أن تستجيب للتجارب المعاصرة؟
إلى أي حد يسوَّغ للقصة أو الرواية أن تتجاوز روافدها الضحلة في التراث القديم، وتقفز إلى الصيغ المحدثة في تياراتها الجديدة، قبل أن تصنع تراثها الطبيعي المعاصر؟.
لقد حدد ابن خلدون مثلاً، رؤية واضحة للمفاهيم الأدبية تلخص موقف عصره من طبيعة العمل الثقافي، وهي رؤية ما تزال صالحة للتعبير عن صورة الانحدار... فإلى أي حد نستطيع أن نتبين الموقف البديل في حياتنا الثقافية المعاصرة؟.
ينطلق ابن خلدون من حقيقة أولى تتفق ومفهوم البداوة، هي الفعالية العفوية الحرة التي "يولد" بها الإنسان، وتتيح له ممارسة الكلام على أنها ملكة اللسان التي تحمل منذ البداية بنيته في التعبير وأحكامه في البلاغة.
(المقدمة –ف 47)، وتتصف هذه الملكة بالطابع القومي المحض من ناحية، و بأنها تعتمد على "الذوق" في اختيار أشكال الأداء البليغة، من ناحية ثانية. (ف-47).
إلى جانب الملكة والذوق يشير ابن خلدون إلى مفهوم ضمني أكثر عفوية وغموضاً في الوقت نفسه، هو علاقة اللغة بالتجربة الدينية. إن هذه العلاقة هي التي جعلت اللسان العربي يستأثر بصفة الأصالة "الفطرية"، في حين يبدو تاريخ اللغة والأدب في النظم والنثر، مراحل من محاولات التعبير (أو صناعة الكلام) لا غاية لها إلا اتقاء الهجنة والفساد، وما إلى ذلك. إن تاريخ النحو مثلاً –كما يُشرح حتى الآن- ينطلق من مقولة "سلبية" هي الانهيار "اللغوي" المتوقع. وهو ما يسوغ لابن خلدون والأجيال التقليدية التي تبنت شيئاً من نظرته حتى المراحل الراهنة أن تولي "الصيغة" الأدبية كل اهتمامها حين تتحدث عن الأصالة أو التجديد. بل إن ابن خلدون كان أكثر وضوحاً في التأكيد على هذا الموقف "التقييمي" –إذا صح التعبير-. يقول: "إن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر"... "فالمعاني موجودة عند كل واحد في طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى.. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف.. والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام.." الخ.. (ف-48).
في مثل هذه النظرة التي تتفق والنظرية الشكلية في الأدب المعاصر، خلال الثلاثينات من هذا القرن، وتلتقي بعض الشيء مع موجة الرواية الجديدة في الستينات، كما عبر عنها آلان روب غرييه: "لا يهم ماذا يقول الكاتب، بل كيف؟.."، يُدان التراث العربي كله أحياناً بأنه يفتقر إلى المعاناة الفكرية أو الفنية الحرة، التي تتجاوز حدود التجارب "الجماعية" والمعاني "التقليدية" المألوفة التي تصدر عنها.. فهل هناك ما يجعل هذه الإدانة مشروعة، على أنها تنسحب أيضاً على حياتنا الثقافية الجديدة؟.. وإلى أي حد تعد هذه الظاهرة صورة لانغلاق "الوجدان العربي" في تجربته البديعية، عن تفتح الثقافة العالمية المعاصرة؟.
ثالثاً- إن اللغة (القومية) التي يتاح لها من الوجهة التاريخية أن تمثل الطرف الأشد مناعة في مقاومة الاستعمار "الجديد"، والضياع الثقافي بما فيه من محاولة الاستمرار في فرض الاغتراب على الإنسان العربي، إنما تمثل الميدان الأول للامتحان الصعب في حياة المثقفين عامة، والكتاب على نحو خاص. فقد يكون من السهل أن تُستعاد اللغة على أنها وسيلة للتفاهم وتبادل الأفكار والمشاركة في التعبير، غير أن "ممارستها" على الصعيد البديعي ترتبط أشد الارتباط بممارسة الحرية، ليس من أجل التعبير عن الحقيقة الإنسانية في تطلعاتها فحسب، بل لكي تجسد حرية الآخر أيضاً: أن لا تكون –على الأقل- أداة قمع واستلاب، لدى أي كائن بشري آخر. وعلى هذا النحو فلا مجال للحديث عن انحدار العربية بعد أن انحسرت مرحلة "السليقة" البدوية الأصيلة... الخ، ما دامت هناك شعوب قد التقطتها- إذا صح التعبير- ووجدت في بنيانها المتماسك الصارم، وسبلها الأصيلة في الأداء، ما يتيح لكل إنسان "آخر"، أن يعبر عن حقيقته في حرية، وأن يسهم في بناء ثقافي جديد يكون عاملاً في صنع المستقبل بدلاً من أن تكون تجربته الثقافية حاشية على الأحداث تذهب بها أية مرحلة تاريخية عابرة.
وإذا كان لمثل هذه التجربة ما يتيح لها أن تمثل شيئاً من المستقبل، فلا بد لها من التسليم الصادق، بأن الحياة القادرة على الاستمرار والتجدد، تجري أبداً في جذور الماضي البعيدة. وهو شأن اللغة العربية بوصفها أداة للفن، في طابعها الحضاري. فما يبدو لنا نهاية المطاف، يمكن أن يصبح بداية. ومهما تخضع له البلاغة في النثر أو قصيدة الشعر، من الأحكام –على حد التعبير القديم-فإنه لا يعني مثلاً أن استقلال البيت في القصيدة أو وحدة الروي والقافية،.. يعزلان الشاعر عن أية رؤية أخرى للتجربة الفنية تفرض صيغاً جديدة، أو تتيح له أن يعايش معاصريه في الصيغ القديمة ذاتها. كان آراغون يقول: "إني لأهتم أشد الاهتمام بتجارب الذين لم يحدد مصيرهم منذ البداية". ويذكر لوكاتش: "إن رسالة الأدب في كل زمان ومكان، أن يطرح الأسئلة ويثير المشكلات في صور أناس جدد، ومصائر بشرية محدثة".
رابعاً-في البحث عن رؤية جديدة للحياة المعاصرة يجسدها العمل الأدبي، وتحمل في آن واحد، أصالة الملامح القومية واتساع الأرضية "الإنسانية" التي تتحرك عليها في حرية، لا بد من أن تعطى المفاهيم الثقافية المألوفة، معاني جديدة تناقض كل ما تفرضه نظرية "الانهيار". فمن عنفوان اللسان العربي مثلاً وأصالته الحضارية أنه أصبح قاموساً ووضعت "المعاجم" لضبطه، مثلما أنشئت له علوم اللغة والنحو وما إلى ذلك، بهذا أتيح له أن يصبح من ينابيع "التحرر" الثقافي عبر الأجيال المختلفة، وبين البلدان المتباعدة... ومع أن عملية التحرر هذه، يمكن أن تقتصر في النطاق الأدبي على اكتشاف الكلمة الحية، المشدودة إلى واقع التجربة الإنسانية، فإن طابع "الأصالة" فيها، يرجع إلى خاصتها الفنية أو صفتها البديعية. ومن ثم فلا بد من التمييز بين الكلمة التي لا تملك من الجرأة إلا الإشارة الخرساء، والصورة "اللفظية" التي تؤدي دورها في التفاهم العابر أو مشاركة الأفكار في القضايا المألوفة، وبين الكلمة الصريحة الحية، ذات البنية الفنية، تتجاوز كل هذه الحدود لكي تجسد موقف الإنسان من مصيره على النحو الذي يمليه الوجدان البديعي. من أجل هذا الموقف تصبح الكلمة "رؤية" مشرقة، تتمثل حقيقة التجربة بكل رسوخها وحرارتها، وتتخطى معطيات التراث وضياع الواقع الراهن، من أجل ما يتجدد باستمرار في وجود الإنسان، ما ينطوي على بنية واقع آخر لا مكان فيه مع أداء الكلمة لألوان الغموض والخوف من الحقيقة والإشارة والإبهام والتعثر في مجابهة التناقضات الفاجعة التي يعانيها كل واقع إنساني مستلب.. وهو واقع الأديب العربي المعاصر، و هو يعجز عن إدراج اللغة العربية ببنيتها الفنية وانفتاحها الإنساني، في التراث العالمي للعصر، مثلما يعجز عن تجسيد مرحلة الانبعاث الثقافي، أو تجربة الانعتاق من وراثة الانحطاط على الأقل، في الصعيد الأدبي. وليس التلويح بمثل هذا العجز من قبيل التشاؤم، بل إنه مظهر للشعور بالمسؤولية في أبعادها المختلفة، لدى الأديب العربي: أن يجد نفسه أمام كل جيل وافد، ملزماً بإعادة النظر فيما هو "تقدمي"، "مصيري" في النتاج القديم والجديد، يستجيب لنزعات التحرر في الوجدان الجماهيري. إن هذا الوجدان –على ارتباكه ومعاناته ما يزال يحتفظ بالانقياد الفني "للكلمة- الرؤية" تمنحه القدرة على أن يتمثل كل إيقاعات الحياة الإنسانية في مصائرها الكبيرة، ولا سيما حين تكون جدارة الإنسان وكيانه القومي، ومعناه الحضاري، هي أولى قضاياه المصيرية.
خامساً- لئلا ينزلق الحوار الفكري حول قضية الأدب العربي في تكرار المسائل الثقافية الغامضة، (التراث والمعاصرة، الأصالة والتجديد، التقاليد القومية وحرية التعبير، القديم والجديد، الالتزام وحرية الأداء، الأدب والوجدان الجماهيري... الخ) لا بد من التأكيد على منطلق أساسي يفرضه ارتباط العمل الأدبي بفكرة "المصير"، هو أن صناعة الكلمة في رؤية الحقيقة وتبصر المستقبل، تعني في الوقت نفسه صنع الإنسان العربي الجديد. ومن ثم فإن على كل حوار أن يتجاوز "التقييم" التاريخي المرحلي الذي تستأثر باهتمامه غزارة النتاج الأدبي ومحاولة الابتكار فيه، إلى التقييم الفني الصارم في علاقته بمعنى التجربة البديعية في حياة الجماهير، ومن ثم لا بد من الرجوع إلى مفهوم "الإيقاع" الإنساني الأصيل للأثر الفني.. وفي أزمة الاستلاب والضياع، يحمل هذا الإيقاع عن طريق الكلمة وبنيانها الحي، ملامح الإنسان الذي لم يتكون بعد. يقول هلدرلن في التعبير عن وظيفة الشاعر:
"حتى صمت الأثير، كنت أفهمه.. هذا السكون المترامي".
"أما كلمة "الإنسان".. فلم أعرف حقيقتها على الإطلاق!..".
(هيبيريون)
وبهذا التساؤل الصامت يتحدث بول فاليري عن الإنسان أيضاً:
".. ولكنه يختلف عني وعنك... إذا كان له شكل وله صوت.. فإن هناك "الآخر" يأخذ جميع الأشكال وجميع الأصوات..". (السيد تيست- ص92).
مثل هذا "الكائن" الطليق يحدد ملامح الأصالة والإبداع في كل عمل فني، مهما تكن صيغته وبناؤه، وهو ما يفسر استمرار الكثير من هيمنة التراث العربي مثلاً، ولا سيما في الشعر، والكثير من "رؤيته" المشرقة، على الرغم من بنيته الصارمة وتقاليد صياغته. ففي كل أداء بياني –مهما تتكرر معانيه- إيقاع تجربة جديدة يفتح الشاعر آفاقها البعيدة "وليس من الصعب أن نتبين ذلك حتى في النماذج العادية من صناعة الشعر التقليدي، كيف تحمل الكلمة وحدها صورة التغير أمام الزمن. يقول حميد بن ثور:
وكائن لقينا من نعيم ولذة
وأعجبنا المصطاف والمتربع
وقلنا لعل الماء يربو فنقتني
وعل غلاماً ناشئاً يترعرع
أماني عام بعد عام تعلقت
بأمثالها في الناس عاد وتبَّع
ولكنما الدنيا غرور ولا ترى
لها لذة إلا تبيد وتُنزع... الخ
إيقاع قديم التاريخ، ولكن الكلمات الموجزة في أدائه الفني تملك الرؤية المعاصرة كل حين،.. يتساءل آتيماتوف: "كم ينبغي أن يكون النتاج الفني قادراً على إثارة القلق الروحي لدى الآخرين وإغناء عالمهم البديعي!.. إن أشد ما ينكبنا به الأدب "الحديث" هو فيض الأدب "الوسط".. الرؤيا الزائفة التي يكون فيها الزبد أكثر من الماء الحي".
(المؤتمر الخامس لاتحاد الكتاب السوفييت – 1971)
إذا كان مثل هذا "الزبد" تعبيراً عن المتراكم"، "المرتجل"، "المألوف" مما يضاف إلى التراث، فإن المسألة المطروحة على كل جيل –كما يقول ريمون آرون- هي: هل يقبل الماضي أم يرفضه؟.." (18 درساً في المجتمع الصناعي-ص81). وعلى الرغم أنه أصبح من أكثر تساؤلات الثقافة العالمية ابتذالاً في تعبيرها عن أزمة الحضارة الغربية على نحو خاص، ومحاولتها إغراق التجربة العربية بسلبية المفردات "الثقافية" القاتمة، فما يزال هناك مجال للسؤال: إلى أي حد يملك الأديب العربي المعاصر حق الحكم النهائي على التراث، وشرعية رفض الاغتراب الراهن، وهو لم يجسد بعد في عمل مبدع رؤية المستقبل الناصعة؟..