يعتبر أحمد بوزفور من بين أهم قصاصي جيل السبعينيات المغاربة، المثابرين حتى الآن. ولعل من بين ما ميز مساره السردي، إخلاصه للقصة القصيرة حصرا، واستثمار كتابته الإبداعية للمورث السردي شعبيا ورسميا، بوعي وفهم وعمق، في البنى السردية لعوالمه القصصية تنويعا لنزوعها التجريبي، متجاوزا المواضعات التي استند إليها المتعالون على ثقافة الشعب، إلى حد تكاد لا تخلو معظم قصصه من تجل أو تجليات من المتخيل الشعبي. وتكفي الإشارة إلى نثار بعض تلك الملامح، المستقاة من الموروث الشعبي، والمستثمرة جماليا في التجربة القصصية لديه، لندرك مدى حضور الروافد الشعبية في هذه التجربة القصصية الفذة، من طقوس واعتقادات ومرددات وأمثال وأساليب وبلاغة شعبية، وحوار عامي مفردات وجملا وإيقاعا. بل وقد صيغ عدد من قصصه وفق نسق الحكاية العجيبة في اكتناف ملحوظ لأجوائها وبنيتها السردية، مثلما هو الحال في قصص (الغابر الظاهر) و(مدخل عن العطش) و(حفريات) من مجموعة "الغابر الظاهر"، وقصتي (نانا) و(الهندي) من مجموعة "صياد النعام"، وقصتي (الغراب) و(النقطة السوداء) من مجموعة "النظر في الوجه العزيز"، وفي قصة (الضاية) من مجموعة "قالت نملة".
ولا غرو، فإن الموروث السردي الشعبي رغم حتمية انحساره، وفقده لدوره الوظيفي التقليدي، بسبب تجاوز العصر له، لعوامل تتقدمها العولمة المقيتة، بات لا يجهلها أحد، سواء كان من المتخصصين أم من المهتمين؛ لكن مع ذلك، فإنه ما يزال يحتفظ بالحبل السري الممتد إلى السرد الرسمي الحديث والمعاصر، على شكل وحدات وظيفية بنيوية، بمثل الصورة التي أمست عليها الأسطورة قديما، حين زالت شروط تداولها، فتحولت رواسبها إلى مكونات هيكلية أساسية في البنية السردية للقصص الشعبي عامة والحكاية العجيبة خاصة. أفلم تتناسل القصة القصيرة الحديثة كما صار مؤكدا ومعروفا، من رحم القصص الشعبي تتقدمه ألف ليلة وليلة، مع أعمال مثل (الديكاميرونLe Décaméron ) لجيوفاني بوكاتشو (1375Boccaccio1313- Giovanni)، و(حكايات كِنْتِرْبُريLes Contes de Canterbury) لجيوفري تشوسر (1342–1400 Geoffrey Chaucer)؟. فمعلوم أن هناك اتفاقا بين معظم الباحثين والمنظرين والنقاد حول هذه الحقيقة. ب. إيخنباوم يقول: ((لقد تطورت القصة القصيرة الإيطالية، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، مباشرة انطلاقا من الخرافة والأحدوثة))(1).
ومن هنا نرى أن القصص الشعبي في إصراره على الوجود بكيفية أو أخرى، قد تحول في عصرنا، بعد فقدان وظائفه المتعددة في المجتمعات الإنسانية الماضية، إلى مجرد حفريات جمالية هي بمثابة مداميك تكوينية، يمكن اللجوء إلى تشغيلها إبداعيا إذا ما فرضت نفسها نصيا، باعتبارها حاجات بنيوية لأي مبدع نزع إلى إثراء تجربته الإبداعية، في مختلف الحقول الفنية سردا وشعرا ومسرحا وتشكيلا وموسيقى، فضلا عن حافز مساهمتها في حفظ الهوية الجمالية الوطنية والقومية، من دون تجاهل للبعد الإنساني طبعا.
ولئن كان ((كل نموذج نصي يتضمن بعض القرارات الموجهة))(2)، وأننا ((حين نحلل نصا فإننا لا نتعامل مع نص خالص وبسيط، بل إننا نطبق بالضرورة إطارا مرجعيا يتم اختياره دون غيره للتحليل))(3)، فمن المفروض أن نتساءل عن أي مرجعية يمكن أن يختارها المتلقي مناطا نصيا ملائما لتفاعله مع بعض قصص أحمد بوزفور التجريبية؟.
بالتأكيد، سوف تعتبر مستنسخات الموروث، المهيمنة على كثير من قصص كاتبنا المغربي هذا، بمثابة إشارات علاماتية كفيلة بأن توجهنا نحو المرجعية المناسبة لمقاربتها، خصوصا حين تعلن بعض قصصه عن مرجعيتها السردية الشعبية بمثل: ((كان حتى كان، فقديم الزمان، كانت ضاية واسعة فوسط الغابة))(4). علما بأن رصيد المتلقي المفترض من مثل بنك هذه المرجعيات الخارقة، من شأنه أن يرخي بظلاله لحظة قراءة وفحص كثير من قصص بوزفور، ويذكّره بأن بعضها قد اقترب كثيرا، في استيعابه للموروث وتوظيفه في تشكيل بنيته السردية، من أن يكون صورا من أشكال وعوالم سردية شعبية صرف، لولا براعة الكاتب المبدع في حرفها عن سياقها، وإعادة صهرها على صورة أشكال قصصية قصيرة مخصبة بأغنى الأسمدة وأمتع النكهات وأعمق الدلالات.
ويجدر بنا أن لا ننسى في السياق ذاته، الإشارة أيضا إلى كون النص الإبداعي، لا يكتفي بإرشاد الناقد نحو علامات تعيين رصيد مرجعيته الأجناسية فقط، بل إنه يرشّح له كذلك الإطار المنهجي المساعد على مقاربته بالتحليل الاستبطاني والكشف عن دلالاته العميقة.
وانطلاقا من هذه القناعة، سنقوم بتشريح مورفولوجي للبنية السردية لنموذج دال من نصوص أحمد بوزفور القصصية، ما دام النوع السردي الشعبي المهيمن بظلاله المستلهمة هنا هو الحكاية العجيبة. كما لا نحتاج لأن نذكّر بأن أفضل ما اجترح لتحديد وضبط هذا النوع الحكائي المفضل عالميا بين أنواع السرد الشعبي، في رأينا على الأقل، هو التنظير المورفولوجي الريادي لبروب، الموسوم بالدقة التنظيرية والوضوح المنهجي، لذلك سنعتمد هنا في اختيار الإجراء المنهجي المؤهل، على بعض ما حدده بروب من آليات مورفولوجية ووحدات وظيفية بنيوية مسعفة.
وقبل أن ننطلق في إضاءة الكيفية التي تمفصلت بها البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، نرى من الأهمية بمكان، التذكير بمفهوم (العجيب)، بوصفه مهيمنا على التجربة السردية الفذة لأحمد بوزفور، ونواة استقطابية في قصته هذه. فنحن نفهم العجيب وفق تعيين تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov(5)، عند تمييزه له عن المفاهيم والمصطلحات المجاورة ((باعتبار العجيب يتعلق بظاهرة مجهولة، لم تر أبدا وتحيل على المستقبل، ولا تفسر إلا بقوانين طبيعية جديدة. عكس الغريب الذي يتعلق بظاهرة تحترم فيها قوانين الواقع بشكل سليم تسمح بتفسير الظواهر الغريبة، حيث يقود ما هو مجهول إلى ما هو معلوم، أي إلى تجربة سابقة، ومن هنا إلى الماضي. بينما لا تستطيع مدة الحيرة التي يثيرها الفانتزي في القارئ إلا أن تقع بوضوح تام في الحاضر ))(6).
ولعل نموذج (الغابر الظاهر) يمدنا بعدد من المؤشرات التي من شأنها أن تبيّن مدى صحة تلكم الحقائق. لاسيما وأن بوزفور قد عكف في كثير من قصصه على استلهام الموروث، كما سبقت الإشارة، مما وفر له دربة إبداعية قادرة على استثماره في كثير من نصوصه القصصية الجيدة. وها هو هنا يتمثل في قصته الجميلة هذه، الموروث السردي الشعبي ببراعة وموهبة استثنائيتين، تركزان على تشغيل العجيب إلى أقصى مدى من التخصيب والإثراء، وفق ما يتم رصده فيما يلي:
أولا: إن هذه القصة، قد لجأت في أسلوبها السردي إلى محاكاة أساليب راوي الحكايات العجيبة، وكذا تراكيب الكتب المقدسة من قرآن (وكانوا إذا لقوا بعضهم قالوا نحن إخوة، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون)، ومن عهد قديم (وأمّاً أكون لك)، وإلى نثر مفردات الموروث الخارق هنا وهناك، من مثل (نار الجن، إبر الجن، سكان الغدران، سكان المكان)، مما ساهم في تقديم صورة مفزعة لفضاء القصة الغابوي الموحش، المملوء بالأشباح والجن والعنف والقتل والمجهول. بله المعجم العامي المندس في الحوار والسرد معا، بصورة ملائمة لنوعية الشخوص الشعبية ولمناخ الحدث العجيب، (يقفقفون، تمارة، الربيعة)، فضلا عن بلاغة التكرار من مثل (الأطفال الشجعان، دخلوا الغابة، الأطفال الصغار الجميلون الشجعان سلموا على الحصى)، و(يانار، إن كنت نار إخوتي فاقتربي اقتربي، إن كنت نار الجن فابتعدي ابتعدي)، وعن توفير الإيقاع السجعي التقليدي لبعض الجمل المنتمية إلى صياغات رواة القصص الشعبي المنغمة المعهودة، مثل (قالوا لها: دعي عنك القيل والقال، ولا تتعلقي بالمحال، فلابد للنساء من الرجال).
ثانيا: تشهر القصة منذ افتتاحيتها، تقاطعها مع الخطاب السردي الشعبي، معلنة عن مرجعيتها العجائبية ـ وليست الأسطورية كما قد يذهب البعض ـ بواسطة هذه العتبة التقليدية المعهودة في الموروث القصصي عامة، وفي الحكاية العجيبة تخصيصا: ((كان حتى كان في قديم الزمان الخ...))(7). ذلك أن البدء بتلك العتبة التقليدية، يجعل قصة بوزفور هذه، تشرف على تخوم الحكاية العجيبة منذ افتتاحيتها. ويتأكد هذا من انتقال الراوي مباشرة إلى تقديم مواصفات لامعقولة مخترقة لسلطة المنطق، لكل من شخوص النساء الثلاث، العرجاء والعوراء والطرشاء؛ فالعرجاء تقفز فوق الحيطان، والعوراء تخيط الكتان، والطرشاء تسمع الخبر أينما كان!. وفعلا يرصد الراوي الطرشاء وهي تسمع حس الخيل عند مرورها، والعوراء تعدّ منها سبعا، والعرجاء تقول هيا نلحق بهم. وحين لحقن بالخيل في الغابة، لم يجدن على متونها سوى ثلاثة أطفال مرتعدين من البرد.
ثالثا: على طريقة استنطاق الطبيعة ومحاورتها في الحكاية العجيبة، وكذا على غرار اختبار البطل في هذا النوع من القصص الشعبي من لدن الشخصية المساعدة، قبل تسليمه الأداة السحرية التي تعينه على تحقيق هدفه، يتوجه الأطفال في قصة بوزفور هذه، بما يشبه ذلك الاختبار، بالسلام على الحصى، وتقبيل الفراشات، ومصافحة الأغصان، ولا يستنكفون عن تسمية الذئب أبا، وسكان المكان (الجن) زوجة الأب، وناموس الغابة الظلم. وبذلك نجحوا في الاختبار الضمني، حيث كان جزاؤهم فوران العشب وضحك الماء ورقص الأشجار.
أيضا نجد ضمن هذا المحمول العجيب المؤنسن لمشمولات الطبيعة، كلا من النساء الثلاث المعاقات وهن يقمن بدور الجوقة في المسرح الكلاسيكي، في مشهد المساءلة الحوارية مع بعض مشمولات الطبيعة أشجارا وأحجارا وبوما، فتتكلم هذه الأخيرة مجيبة على أسئلتهن، بالإخبار بحوافز رحيل الأطفال، مثلما يرحل البطل في الحكاية العجيبة بسبب نقص ما غير محتمل:
((فيا أشجار الغابة العريانة
يا أحجار الغابة السهرانة
ويا بوم الغابة اليقظان
لماذا يخرج في الليل أطفال هذا الزمان؟
قالت الأشجار: ماتت الأم.
قالت الأحجار: تزوج الأب.
قال البوم: لا يرضى الأطفال الظلم.
قالت الأشجار والأحجار والبوم: الحياة حارة))(8).
رابعا: في سياق نفس التجلي للعجيب بالقصة، يتم على مستوى فعل الشخصية المساعدة، الدخول المفاجئ للمرأة الغريبة إلى فضاء القصة، حيث يقع ظلها على كوثر بطلة القصة، محدثا شحنة عالية من التشويق وتوقع العجيب المجهول في روع المتلقي، لكنها تعرض عليها مساعدتها للوصول إلى إخوانها في الغابة، فرارا من معاناتها مع زوجة الأب القاسية وضرب أبيها والأشغال البيتية الشاقة. ومن هنا، تتسبب مساعدتها الخيّرة في ارتخاء التوتر الذي أحدثه شكل ظهورها ووقوع ظلها على كوثر. على أنها تعود فتختفي وسط الغابة فجأة بنفس الطريقة السحرية التي حضرت بها، بعد أن أرشدت البطلة إلى نار إخوانها، إيحاء بكونها جنية خيّرة تجسدت في صورة شخصية بشرية مساعدة.
خامسا: يستمر العجيب في الاشتغال، حين تتحاور البطلة مع نار الإخوان السحرية، تواقة للاهتداء إلى مكانهم، لكن تلك النار كلما خاطبتها كوثر بقولها: ((يانار، إن كنت نار إخوتي فاقتربي اقتربي، إن كنت نار الجن فابتعدي ابتعدي، وكانت النار تبتعد كلما اقتربت كوثر. فلما أجهدها السير والخوف والوحدة سالت على خديها الدموع الصغيرة المرتعشة وقالت: يانار اقتربي... حتى ولو كنت نار الجن اقتربي... وسارت الطفلة والنار نحو بعضهما...))(9).
وقد فرض مكون البعد العجيب هذا، على البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، أن يتشيد نسيجها، في تناص شكلي واضح، على ذات الوحدات الوظيفية والآليات التركيبية البانية للحكاية العجيبة، كما قعّدها فلاديمير بروب، في كتابه الشهير (مورفولوجية الحكاية العجيبة).
فمن البيّن أن البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، تنهض على مكون التثليث المميز لتركيبة الحكاية العجيبة. ولا يتعلق الأمر بهرمية البنية السردية للقصة القصيرة الكلاسيكية (مقدمة، عقدة، خاتمة)، كما حددها إدجار آلان بو، وترسخت في أعمال الرواد أمثال تشيكوف وجي دي موباسان وهنري جيمس، بل إن الأمر يتعلق بشبكة من التثليث مبثوثة في نسيج القصة على مختلف المستويات.
فعلى مستوى وظائف الشخوص، يتحدد عدد النسوة الفاعلات في تحريك الحدث، في ثلاث (الطرشاء، العوراء، العرجاء)، وهن من يستنطق ثلاثي (أشجار الغابة العريانة، وأحجار الغابة السهرانة، وبوم الغابة اليقظان)، وأيضا فإن الأطفال (ثلاثة شجعان: الأقوى، الأجمل، الأذكى).
وعلى مستوى كائنات الطبيعة المؤنسنة المساعدة، تهيمن شبكة التثليث بصورة لافتة، فهناك (الحصى، الفراشات، الأغصان)، والأطفال الثلاثة ((سلموا على الحصى وباسوا الفراشات وصافحوا الأغصان، قالت الثمار: أنا لكم الطعام، قالت الجداول: أنا لكم الشراب، قال العشب الأخضر الطري: أنا لكم الفراش.
لكن الأطفال الشجعان قلبوا الغابة: سموا الذئب أبا، سموا ((سكان المكان)) زوجة أب، وسموا ناموس الغابة الظلم. دقوا الحصى بالخشب، صفروا في القصب، وهزوا بأقدامهم عنق الأرض البليد، ففار العشب وضحك الماء ورقصت الأشجار))(10) .
ونضيف إلى كل ذلك، إن هيكل هذه القصة ذاته يتوزع أفقيا ـ مثلما هي بنية الحكاية العجيبة التثليثية ـ على تشكيلة من ثلاث حلقات مرقمة ومتتالية زمنيا في تكامل بنيوي ملتحم، حيث تتواشج في علاقة بينية وطيدة، رغم تقنية التقطيع وترك الفراغات، بصورة من التعالق تسلمنا فيها كل حلقة إلى الحلقة الموالية، احتراما لمبدإ التعاقب، وفق ما هو معروف في الحكاية العجيبة أيضا.
فلنتأكد إذن من هذه السمة في (الغابر الظاهر)، من خلال مقاربة التمفصلات المورفولوجية الصانعة لهذه البنية السردية التثليثية:
І ـ حلقة أولى: النقص.
ІІ ـ حلقة ثانية: المغامرة.
ІІІ ـ حلقة ثالثة: النتيجة.
إن الحلقة الأولى تتركب في بنيتها السردية من الوحدات الوظيفية التالية:
1ــ المرحلة البدئية: مقدمة القصة مقدمة تقليدية للحكاية العجيبة (كان حتى كان في قديم الزمان، كانت... الخ...).
2ــ النقص: وفاة الأم، زواج الأب، الحياة الحارة للأطفال (يقفقفون من البرد، حفاة، خائفون).
3ــ الخروج: بسبب وفاة الأم وتزوج الأب، يرحل الأطفال إلى الغابة.
4ـ الاختبار: خضوع الأطفال للامتحان ضمنيا (سلموا على الحصى، وباسو الفراشات، وصافحوا الأغصان).
5 ـ المساعدة: الثمار تقدم نفسها طعاما للأطفال الشجعان، والجداول شرابا والعشب الأخضر الطري فراشا (فلدى بروب يقدم النهر وشجرة التفاح والموقد الطعام للبطل)(11).
6 ـ إصلاح: الأطفال الشجعان زرعوا الغابة ففاضت بالخيرات (ففار العشب وضحك الماء ورقصت الأشجار).
7 ـ المعركة: صراع الإخوان (جنت الريح وانفضحت كل الأسرار) (وكانوا إذا لقوا بعضهم قالوا نحن إخوة، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون).
وفي الحلقة الثانية من القصة، ينمو الحدث بالصورة المطردة الثابتة في الحكاية العجيبة، وإن تعقد في غير صالح وحدة إصلاح النقص والإساءة، التي تعد مورفولوجيا الوحدة الوظيفية الجوهرية المميزة لهذه الحكاية، حيث يتم التركيز في القصة على بطلتها كوثر، التي شاء سوء طالعها أن تنهار وثوقيتها في وصولها إلى بر الآمان حين العثور على إخوانها، إذ تدخل وإياهم في صراع درامي، مع ما صحبه من انفعالات وتوتر، انتهي بالإساءة المأساوية غير المنتظرة من ذات إخوان كوثر، الذين يفترض فيهم أن يكونوا في حمايتها وسندا لها، خصوصا بعد فقدان الاستقرار والحماية بموت الأم وزواج الأب، بينما هم هنا موصومون بالتطاحن من أجل ارتكاب زنى المحارم. وإن كان في الإمكان التقاط ما يوحي به الموقف المتأزم من تأويل أعمق، ويتلخص في النظر إلى الأمر في عمقه الترميزي، استنادا إلى التحول القيمي الذي عرفه المجتمع المتطور، وإلى اسم البطلة كوثر. ففقر الإخوة يخلق بينهم تناقضات مصلحية، تجعلهم يتجابهون ويتطاحنون على الكوثر الدال على الوفر والشبع والارتواء، من غير أن ننسى دلالة الفضاء، إذ كل ذلك يحدث في غابة مخيفة باعتبارها معادلا موضوعيا لواقع محترب مختل ومتوحش.
كما أن هذه القصة، استكمالا لنسيج بنيتها السردية، تكرر في حلقتها الثانية، أهم الوحدات الوظيفية السابقة، قبل أن تستأنف حبك الإحداثيات المتبقية في كون القصة. وهنا يجمل بنا أن نذكّر بكون بلاغة التكرار تعد من الأساليب الجمالية الأساسية الصانعة لمعمار الحكاية العجيبة. فقد استندت الحلقة الثانية في قصة (الغابر الظاهر) هي أيضا، إلى هذه الوحدات الوظيفية: النقص، الرحيل، المساعدة، الإصلاح، كما يتضح من الرصد الموالي:
1 ــ إساءة / نقص: البطلة كوثر مقهورة من ناحية الأب وزوجته، مثل حال البنت في الحكاية العجيبة.
2 ـ الرحيل: البطلة ترحل مع المرأة الطيبة الغريبة، وتتبعها طيلة النهار إلى الغابة.
3 ـ المساعدة: الشخصية المساعدة المرأة الغريبة، تقود البطلة (كوثر) إلى مكان إخوانها في الغابة.
4 ـ علامة: الشخصية المساعدة ترشد البطلة إلى شعلة النار الدالة على وجود إخوانها في الغابة. وهذه العلامة تقوم في القصة بمثابة تسليم الأداة السحرية في الحكاية العجيبة.
5 ـ إصلاح: البطلة كوثر تلتقي أخيرا بإخوانها الذين استقبلوها بالأحضان.
ومثل الحكاية العجيبة، حين يحصل البطل على ضالته بعد صعاب مريرة، حيث يتم العثور على الهدف المبحوث عنه، فيصلح النقص، لكنه يفاجأ بقوى شريرة تريد بدافع الطمع والغيرة سلب موضوع البحث منه، وادعاء البطولة المزيفة لنفسها، وغالبا ما تسند هذه الوظيفة إلى الأشرار من إخوان البطل، مما يدفعه للدخول معهم في معركة مصيرية طاحنة، ينتصر فيها؛ كذلك تفعل هذه القصة، حيث يتأزم الموقف فتفاجأ كوثر بعد أن عثرت على إخوانها، وارتاحت للقاء بهم، متداركة ما كانت تعانيه من نقص، بالوضع ينقلب ضد مبتغىاها، متحولا إلى معركة درامية غير متكافئة، أطرافها الإخوان الثلاثة من جهة وأختهم كوثر من جهة ثانية، ثم بين الأخ الأقوى والأخوين الأجمل والأذكى، تنتهي بفقإ الأخ الأكبر والأقوى لعيني أحد أخويه وكسر رجل الأخ الثاني، وقتل كوثر.
وهنا تسلك القصة مفترقا نوعيا للتدليل على أنها قصة قصيرة وليست حكاية عجيبة. فلو أن الأمر كان يتعلق بهذا النوع من القصص الشعبي، لتمكنت البطلة من الهرب في شعاب الغابة، بمساعدة قوى غيبية، والتقت أميرا ينتقم من إخوانها، ويتزوجها، ثم تفوز بالحياة السعيدة (فيعيشان في ثبات ونبات ويخلفان صبيانا وبنات إلى أن يأتيهما مفرق اللذات). فدوما هناك قوة غيبية، أو بشرية أحيانا، يتوقع المتلقي أنها حتما ستخف لإنقاذ بطل الحكاية العجيبة من ورطته، مما يستبعد أي تضامن معه من لدن المتلقي. وبما أن معالجة ذات الموتيفة هنا تتم في نوع آخر من أسرة السرد هو القصة القصيرة، لذلك فإن البطلة المحرومة من أي سلاح، والمعزولة من أي نجدة، بسبب رسالة (الغابر الظاهر) الانتقادية المبطنة، لا تنتصر في معركتها مع إخوانها، بل تنهزم فتقتل، في تخييب صادم لأفق انتظار المتلقي، يثير انفعاله، وينعش فضوله لمعرفة ما سيختاره الراوي من حل أو حلول لذروة التوتر الحاد في الموقف المتأزم.
وكأننا بالقصة تريد أن تقول بمظورها هذا، إن عصر البطولة قد انتهى، وأمسى الإنسان مجردا من أي سلاح مادي ومعنوي للدفاع به عن نفسه، فصار هشا معزولا وغريبا ومحبطا حتى بين أهله. وهو ما يتشخص من خلال استكمال البنية السردية في هذه الحلقة، متشكلة عبر الوحدات الوظيفية التالية:
1 ـ معركة: بين الإخوة وكوثر من جهة، في حين يتعارك الإخوة من أجل الزواج بأختهم، من جهة ثانية.
2 ـ انتصار: الأقوى ينتصر على إخوانه ويدخل بأخته. إنها الغابة، والغلبة للأقوى.
3 ـ إساءة: الأخ يدخل بأخته كوثر، فوجد أخته دون بكارة. وبات يضربها، إلى أن قتلها: درامية مزدوجة (فقدان البكارة، والقتل).
4 ـ إصلاح: الإخوة يتصالحون، ويدفنون أختهم، وبدافع مبيت مغرض يبنون عليها ضريحا بقبة خضراء.
5 ـ جزاء: الإخوة يقتسمون النذور: جزاء غير مستحق، إذ أصبح المجرمون والقتلة والانتهازيون هم من يتلقى الجزاء وليس العقاب، عكس ما يلاقيه الأشرار والأبطال المزيفون في الحكاية العجيبة من عقاب في منتهى القسوة.
وبدل أن يفتضح جرم الإخوان ويعاقبون، باعتبارهم يجسدون على المستوى المورفولوجي للشخصية المعتدية، كما في نهايات الحكاية العجيبة استعادة لتوازن الواقع، يتم تخييب أفق انتظار المتلقي مجددا، خصوصا المطلع على إواليات القصص الشعبي ومورفولوجياته، إذ تتنكب القصة في خاتمتها معاقبة المجرمين، منزاحة نحو تقديمهم أبطالا مزيفين ناجحين في خداعهم دون انفضاح لحقيقتهم ولا عقاب قاس لهم، متمكنين من استثمار الموقف المختل لصالحهم، استغفالا لأصحاب الذهنية الخرافية، في إيحاء شفاف لما أصاب الواقع من عقم واختلال.
وهنا يستجد انزياح ثان في البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، يتعلق الأمر بتهجين مقصود، ممثل في معالجة هذا الموقف السلبي، معالجة لا تخلو من استدعاء وخرق لنوع سردي شعبي مختلف، هو (حكاية الأولياءHagiographie )، المخصص لحكي حيوات الأولياء والصلحاء بأضرحتهم وكراماتهم وتقديسهم. حيث تزيف في خاتمة القصة قيم الصلاح والورع والكرامات والقداسة، وغيرها مما تدلل عليه متون هذا النوع السردي الشعبي تبجيلا وتقديسا؛ وتنقلب إلى صورة مما ينوء به الواقع من زيف وتدليس واتجار واستغلال واستحمار لبسطاء الناس ممن غيّب وعيهم أزمانا طويلة.
على أن هذا الانزياح المستحدث في نهاية القصة، لو أنه حدث بإحدى حكايات عصور ازدهار تداول القصص الشعبي، لما قوبل بالترحاب، بنفس القدر الذي لا نقبل نحن أن تنتهي قصة قصيرة معاصرة مثل (الغابر الظاهر) بنفس النهاية الثابتة المتوقعة دوما في البنية السردية للحكاية العجيبة، مما لا يثير فضول المتلقي وينعش تفاعله.
ونتيجة لهذا الانزياح الثاني، يضاف للإخوان بوصفهم شخوصا أساسيين في البنية السردية للقصة، مستوى وظيفي آخر، إلى جانب المستوى السابق لوظيفة شخصيتهم المعتدية، هو مستوى الشخصية المزيفة، كما يستشف من الشاهد التالي:
((وفي الصباح تصالح الإخوة الثلاثة ودفنوا أختهم، وبنوا على قبرها ضريحا بقبة خضراء، قال الأكبر: كانت ابنتي، قال الأوسط: كانت أختي، قال الأصغر: كانت أمي. طوبوا الطفلة قديسة، وقدموا لها النذور والقرابين وزارتها الغابة حتى امتلأ الصندوق.. وكانوا إذا التقوا حول ((الربيعة)) قالوا نحن إخوة، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.))(12).
ولعل المتلقي المطلع على متون القصص الشعبي، يدرك ما بين نهاية قصة (الغابر الظاهر) وحكاية المثل المصري (تحت القبة شيخ) أو (احنا دافنينه سوا) والمغربي (سيدي اللالي) من تناص بيّن، حيث يدفن الصديقان أو الأخوان حسب الرواية، حيوانا حمارا أو كلبا وربما غيرهما، ويدعيان أنه ولي من أولياء الله الصالحين، ذو كرامات وبركات، فيقبل الناس على التوسل والتبرك بالضريح المزيف، ويثري الأخوان أو الصديقان أيما إثراء، بسبب سذاجة الناس واعتقادهم الأعمى.
وبوجه عام، فإن هذه القصة لا علاقة لها فعليا ببيئة الحكاية العجيبة القديمة، ولا بموضوعها. إذ لا يتجاوز الأمر بعدا رمزيا في استراتيجية القصة، توسلت به من أجل توجيه رسالتها عن الواقع المختل.
وعليه، يمكن القول بأن استدعاء بيئة هذه الحكاية، لا يعدو أن يمثل هنا مجرد فضاء تخييلي تمويهي في الجو العام لقصة (الغابر الظاهر). وتتعزز هذه الفرضية بالمسافة الزمنية التي أحدثها الراوي، حين تموضع في الزمن الحاضر وخارج فضاء القصة، مكتفيا بمسرحة الأحداث والمواقف، انطلاقا من منظوره الحيادي. إذ شرع يروي لنا عن ماض منته، سادت فيه الفوضى والقهر والرعب والاغتصاب والجشع والابتزاز والاستحمار والقتل، وغيرها من ممارسات الظلم والطغيان المبثوثة في كل تضاعيف القصة، عندما افتتحها بعتبة المقدمة التقليدية في القصص الشعبي، المبدوءة بفعل (كان) الناقص، الذي يحيل على زمن ماض مطلق غير محدد، متنصلا تقية من الحاضر المتوحش، ومتعمدا إسقاطه على زمن غابر (كان حتى كان في قديم الزمان).
فأيا كان التماثل بين البنيتين السرديتين للحكاية العجيبة والقصة المدروسة، يجب التأكيد كون بوزفور ليس راوي حكايات، بل قصاصا مبدعا، كما أن قصته هذه لا تعيد إنتاج حكاية عجيبة، بل تعالج تخييليا موضوعا من واقع المرحلة المعيشة، المتسمة بالتخلف والإيغال في ضرب منظومة القيم النبيلة، رغم تغريب زمكانها، واستلهامها للبنية السردية لهذه الحكاية. إن كل ذلك يدخل حقيقة ضمن دائرة ترميز واستلهام أدوات مستعارة من نوع سردي موروث، من أجل بناء نص منتم في ماهيته إلى خطاب نوعي آخر، ليس سوى القصة القصيرة.
ومثل هذا التوجه هو ذاته ما سبق لنجيب محفوظ أن تبناه في روايته (ليالي ألف ليلة)، إلى حد التماهي مع ألف ليلة وليلة، حيث تبدو الرواية للوهلة الأولى بسبب التناص، كأنما هي استنساخ للبنية السردية لهذا النص الموروث، في كل مكوناته شخوصا وزمكانا وتبويبا وعناوين وأحداثا وعجائبية. بيد أننا سرعان ما ندرك عند الاقتراب من خاتمة الرواية، أن الأمر يتعلق بمهارة نجيب محفوظ في إبداع رواية تجريبية معاصرة مدهشة، تتوسل بالبنية السردية لألف ليلة وليلة لا غير، من أجل المعالجة التخييلية اللامباشرة لمشاكل واقع معاصر غارق في مستنقع مفاسده ومظالمه، وأيضا متفائل بالنقيض من ذلك، نقصد يقظة نضالاته؛ وليس من أجل بعث وإعادة إنتاج نص قديم موروث هو ألف ليلة وليلة.
ومن هنا، ألفينا قصة (الظاهر الغابر)، تجسد في رؤيتها الانتقادية ثنائية مختلة، طالما ألفنا شبيهاتها في البنية السردية للحكاية العجيبة، نعني ثنائية (الإساءة والنقص للمسحوقين/ الإصلاح والاستفادة للأقوياء). وبذلك تحقق القصة انزياحا عن الثنائية المثالية للحكاية العجيبة (نقص/ إصلاح)، حين تحول وجهتها نحو الواقع، منتقدة بدلالة سوداوية فساده وشره، حيث تتمكن بنيتها السردية في كل أدواتها ومفاصل نسيجها، من حبك معادلتها الواقعية الخبيئة تحت بنية سردية موروثة تتظاهر بالبراءة: من يعتدي هو من يستفيد.
هوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ب. إيخنباوم: حول نظرية النثر، ضمن كتاب (نظرية المنهج الشكلي)، تر. إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ـ مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط.1، 1982، ص. 108.
2 و3) فولفجانج إيسر: فعل القراءة، تر. عبد الوهاب علوب، سل. المشروع القومي للترجمة، ع. 126، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص. 61.
4) ديوان السندباد، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك، الدار البيضاء، ط. 2، 2009، ص. 328.
(5Voir: Introduction a la litterature Fantastique , Ed. Seuil , Cl. Points , n° 73 , 1970 , france P. 46-47.
6) د. مصطفى يعلى : القصص الشعبي بالمغرب ـ دراسة مورفولوجية، شركة النشر والتوزيع ـ المدارس، الدار البيضاء، 2001، ص. 55.
7) المصدر السابق، ص.147.
8) نفسه، صص. 147 ـ 148.
9) نفسه، ص. 149.
10) نفسه، ص. 148.
11) انظر: مورفولوجيا القصة، تر. د. عبد الكريم حسن و د. سميرة بن عمّو، شراع للدراسة والنشر والتوزيع، دمشق، ط. 1/ 1996، ص. 56.
12) ديوان السندباد، ص. 150.
ولا غرو، فإن الموروث السردي الشعبي رغم حتمية انحساره، وفقده لدوره الوظيفي التقليدي، بسبب تجاوز العصر له، لعوامل تتقدمها العولمة المقيتة، بات لا يجهلها أحد، سواء كان من المتخصصين أم من المهتمين؛ لكن مع ذلك، فإنه ما يزال يحتفظ بالحبل السري الممتد إلى السرد الرسمي الحديث والمعاصر، على شكل وحدات وظيفية بنيوية، بمثل الصورة التي أمست عليها الأسطورة قديما، حين زالت شروط تداولها، فتحولت رواسبها إلى مكونات هيكلية أساسية في البنية السردية للقصص الشعبي عامة والحكاية العجيبة خاصة. أفلم تتناسل القصة القصيرة الحديثة كما صار مؤكدا ومعروفا، من رحم القصص الشعبي تتقدمه ألف ليلة وليلة، مع أعمال مثل (الديكاميرونLe Décaméron ) لجيوفاني بوكاتشو (1375Boccaccio1313- Giovanni)، و(حكايات كِنْتِرْبُريLes Contes de Canterbury) لجيوفري تشوسر (1342–1400 Geoffrey Chaucer)؟. فمعلوم أن هناك اتفاقا بين معظم الباحثين والمنظرين والنقاد حول هذه الحقيقة. ب. إيخنباوم يقول: ((لقد تطورت القصة القصيرة الإيطالية، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، مباشرة انطلاقا من الخرافة والأحدوثة))(1).
ومن هنا نرى أن القصص الشعبي في إصراره على الوجود بكيفية أو أخرى، قد تحول في عصرنا، بعد فقدان وظائفه المتعددة في المجتمعات الإنسانية الماضية، إلى مجرد حفريات جمالية هي بمثابة مداميك تكوينية، يمكن اللجوء إلى تشغيلها إبداعيا إذا ما فرضت نفسها نصيا، باعتبارها حاجات بنيوية لأي مبدع نزع إلى إثراء تجربته الإبداعية، في مختلف الحقول الفنية سردا وشعرا ومسرحا وتشكيلا وموسيقى، فضلا عن حافز مساهمتها في حفظ الهوية الجمالية الوطنية والقومية، من دون تجاهل للبعد الإنساني طبعا.
ولئن كان ((كل نموذج نصي يتضمن بعض القرارات الموجهة))(2)، وأننا ((حين نحلل نصا فإننا لا نتعامل مع نص خالص وبسيط، بل إننا نطبق بالضرورة إطارا مرجعيا يتم اختياره دون غيره للتحليل))(3)، فمن المفروض أن نتساءل عن أي مرجعية يمكن أن يختارها المتلقي مناطا نصيا ملائما لتفاعله مع بعض قصص أحمد بوزفور التجريبية؟.
بالتأكيد، سوف تعتبر مستنسخات الموروث، المهيمنة على كثير من قصص كاتبنا المغربي هذا، بمثابة إشارات علاماتية كفيلة بأن توجهنا نحو المرجعية المناسبة لمقاربتها، خصوصا حين تعلن بعض قصصه عن مرجعيتها السردية الشعبية بمثل: ((كان حتى كان، فقديم الزمان، كانت ضاية واسعة فوسط الغابة))(4). علما بأن رصيد المتلقي المفترض من مثل بنك هذه المرجعيات الخارقة، من شأنه أن يرخي بظلاله لحظة قراءة وفحص كثير من قصص بوزفور، ويذكّره بأن بعضها قد اقترب كثيرا، في استيعابه للموروث وتوظيفه في تشكيل بنيته السردية، من أن يكون صورا من أشكال وعوالم سردية شعبية صرف، لولا براعة الكاتب المبدع في حرفها عن سياقها، وإعادة صهرها على صورة أشكال قصصية قصيرة مخصبة بأغنى الأسمدة وأمتع النكهات وأعمق الدلالات.
ويجدر بنا أن لا ننسى في السياق ذاته، الإشارة أيضا إلى كون النص الإبداعي، لا يكتفي بإرشاد الناقد نحو علامات تعيين رصيد مرجعيته الأجناسية فقط، بل إنه يرشّح له كذلك الإطار المنهجي المساعد على مقاربته بالتحليل الاستبطاني والكشف عن دلالاته العميقة.
وانطلاقا من هذه القناعة، سنقوم بتشريح مورفولوجي للبنية السردية لنموذج دال من نصوص أحمد بوزفور القصصية، ما دام النوع السردي الشعبي المهيمن بظلاله المستلهمة هنا هو الحكاية العجيبة. كما لا نحتاج لأن نذكّر بأن أفضل ما اجترح لتحديد وضبط هذا النوع الحكائي المفضل عالميا بين أنواع السرد الشعبي، في رأينا على الأقل، هو التنظير المورفولوجي الريادي لبروب، الموسوم بالدقة التنظيرية والوضوح المنهجي، لذلك سنعتمد هنا في اختيار الإجراء المنهجي المؤهل، على بعض ما حدده بروب من آليات مورفولوجية ووحدات وظيفية بنيوية مسعفة.
وقبل أن ننطلق في إضاءة الكيفية التي تمفصلت بها البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، نرى من الأهمية بمكان، التذكير بمفهوم (العجيب)، بوصفه مهيمنا على التجربة السردية الفذة لأحمد بوزفور، ونواة استقطابية في قصته هذه. فنحن نفهم العجيب وفق تعيين تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov(5)، عند تمييزه له عن المفاهيم والمصطلحات المجاورة ((باعتبار العجيب يتعلق بظاهرة مجهولة، لم تر أبدا وتحيل على المستقبل، ولا تفسر إلا بقوانين طبيعية جديدة. عكس الغريب الذي يتعلق بظاهرة تحترم فيها قوانين الواقع بشكل سليم تسمح بتفسير الظواهر الغريبة، حيث يقود ما هو مجهول إلى ما هو معلوم، أي إلى تجربة سابقة، ومن هنا إلى الماضي. بينما لا تستطيع مدة الحيرة التي يثيرها الفانتزي في القارئ إلا أن تقع بوضوح تام في الحاضر ))(6).
ولعل نموذج (الغابر الظاهر) يمدنا بعدد من المؤشرات التي من شأنها أن تبيّن مدى صحة تلكم الحقائق. لاسيما وأن بوزفور قد عكف في كثير من قصصه على استلهام الموروث، كما سبقت الإشارة، مما وفر له دربة إبداعية قادرة على استثماره في كثير من نصوصه القصصية الجيدة. وها هو هنا يتمثل في قصته الجميلة هذه، الموروث السردي الشعبي ببراعة وموهبة استثنائيتين، تركزان على تشغيل العجيب إلى أقصى مدى من التخصيب والإثراء، وفق ما يتم رصده فيما يلي:
أولا: إن هذه القصة، قد لجأت في أسلوبها السردي إلى محاكاة أساليب راوي الحكايات العجيبة، وكذا تراكيب الكتب المقدسة من قرآن (وكانوا إذا لقوا بعضهم قالوا نحن إخوة، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون)، ومن عهد قديم (وأمّاً أكون لك)، وإلى نثر مفردات الموروث الخارق هنا وهناك، من مثل (نار الجن، إبر الجن، سكان الغدران، سكان المكان)، مما ساهم في تقديم صورة مفزعة لفضاء القصة الغابوي الموحش، المملوء بالأشباح والجن والعنف والقتل والمجهول. بله المعجم العامي المندس في الحوار والسرد معا، بصورة ملائمة لنوعية الشخوص الشعبية ولمناخ الحدث العجيب، (يقفقفون، تمارة، الربيعة)، فضلا عن بلاغة التكرار من مثل (الأطفال الشجعان، دخلوا الغابة، الأطفال الصغار الجميلون الشجعان سلموا على الحصى)، و(يانار، إن كنت نار إخوتي فاقتربي اقتربي، إن كنت نار الجن فابتعدي ابتعدي)، وعن توفير الإيقاع السجعي التقليدي لبعض الجمل المنتمية إلى صياغات رواة القصص الشعبي المنغمة المعهودة، مثل (قالوا لها: دعي عنك القيل والقال، ولا تتعلقي بالمحال، فلابد للنساء من الرجال).
ثانيا: تشهر القصة منذ افتتاحيتها، تقاطعها مع الخطاب السردي الشعبي، معلنة عن مرجعيتها العجائبية ـ وليست الأسطورية كما قد يذهب البعض ـ بواسطة هذه العتبة التقليدية المعهودة في الموروث القصصي عامة، وفي الحكاية العجيبة تخصيصا: ((كان حتى كان في قديم الزمان الخ...))(7). ذلك أن البدء بتلك العتبة التقليدية، يجعل قصة بوزفور هذه، تشرف على تخوم الحكاية العجيبة منذ افتتاحيتها. ويتأكد هذا من انتقال الراوي مباشرة إلى تقديم مواصفات لامعقولة مخترقة لسلطة المنطق، لكل من شخوص النساء الثلاث، العرجاء والعوراء والطرشاء؛ فالعرجاء تقفز فوق الحيطان، والعوراء تخيط الكتان، والطرشاء تسمع الخبر أينما كان!. وفعلا يرصد الراوي الطرشاء وهي تسمع حس الخيل عند مرورها، والعوراء تعدّ منها سبعا، والعرجاء تقول هيا نلحق بهم. وحين لحقن بالخيل في الغابة، لم يجدن على متونها سوى ثلاثة أطفال مرتعدين من البرد.
ثالثا: على طريقة استنطاق الطبيعة ومحاورتها في الحكاية العجيبة، وكذا على غرار اختبار البطل في هذا النوع من القصص الشعبي من لدن الشخصية المساعدة، قبل تسليمه الأداة السحرية التي تعينه على تحقيق هدفه، يتوجه الأطفال في قصة بوزفور هذه، بما يشبه ذلك الاختبار، بالسلام على الحصى، وتقبيل الفراشات، ومصافحة الأغصان، ولا يستنكفون عن تسمية الذئب أبا، وسكان المكان (الجن) زوجة الأب، وناموس الغابة الظلم. وبذلك نجحوا في الاختبار الضمني، حيث كان جزاؤهم فوران العشب وضحك الماء ورقص الأشجار.
أيضا نجد ضمن هذا المحمول العجيب المؤنسن لمشمولات الطبيعة، كلا من النساء الثلاث المعاقات وهن يقمن بدور الجوقة في المسرح الكلاسيكي، في مشهد المساءلة الحوارية مع بعض مشمولات الطبيعة أشجارا وأحجارا وبوما، فتتكلم هذه الأخيرة مجيبة على أسئلتهن، بالإخبار بحوافز رحيل الأطفال، مثلما يرحل البطل في الحكاية العجيبة بسبب نقص ما غير محتمل:
((فيا أشجار الغابة العريانة
يا أحجار الغابة السهرانة
ويا بوم الغابة اليقظان
لماذا يخرج في الليل أطفال هذا الزمان؟
قالت الأشجار: ماتت الأم.
قالت الأحجار: تزوج الأب.
قال البوم: لا يرضى الأطفال الظلم.
قالت الأشجار والأحجار والبوم: الحياة حارة))(8).
رابعا: في سياق نفس التجلي للعجيب بالقصة، يتم على مستوى فعل الشخصية المساعدة، الدخول المفاجئ للمرأة الغريبة إلى فضاء القصة، حيث يقع ظلها على كوثر بطلة القصة، محدثا شحنة عالية من التشويق وتوقع العجيب المجهول في روع المتلقي، لكنها تعرض عليها مساعدتها للوصول إلى إخوانها في الغابة، فرارا من معاناتها مع زوجة الأب القاسية وضرب أبيها والأشغال البيتية الشاقة. ومن هنا، تتسبب مساعدتها الخيّرة في ارتخاء التوتر الذي أحدثه شكل ظهورها ووقوع ظلها على كوثر. على أنها تعود فتختفي وسط الغابة فجأة بنفس الطريقة السحرية التي حضرت بها، بعد أن أرشدت البطلة إلى نار إخوانها، إيحاء بكونها جنية خيّرة تجسدت في صورة شخصية بشرية مساعدة.
خامسا: يستمر العجيب في الاشتغال، حين تتحاور البطلة مع نار الإخوان السحرية، تواقة للاهتداء إلى مكانهم، لكن تلك النار كلما خاطبتها كوثر بقولها: ((يانار، إن كنت نار إخوتي فاقتربي اقتربي، إن كنت نار الجن فابتعدي ابتعدي، وكانت النار تبتعد كلما اقتربت كوثر. فلما أجهدها السير والخوف والوحدة سالت على خديها الدموع الصغيرة المرتعشة وقالت: يانار اقتربي... حتى ولو كنت نار الجن اقتربي... وسارت الطفلة والنار نحو بعضهما...))(9).
وقد فرض مكون البعد العجيب هذا، على البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، أن يتشيد نسيجها، في تناص شكلي واضح، على ذات الوحدات الوظيفية والآليات التركيبية البانية للحكاية العجيبة، كما قعّدها فلاديمير بروب، في كتابه الشهير (مورفولوجية الحكاية العجيبة).
فمن البيّن أن البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، تنهض على مكون التثليث المميز لتركيبة الحكاية العجيبة. ولا يتعلق الأمر بهرمية البنية السردية للقصة القصيرة الكلاسيكية (مقدمة، عقدة، خاتمة)، كما حددها إدجار آلان بو، وترسخت في أعمال الرواد أمثال تشيكوف وجي دي موباسان وهنري جيمس، بل إن الأمر يتعلق بشبكة من التثليث مبثوثة في نسيج القصة على مختلف المستويات.
فعلى مستوى وظائف الشخوص، يتحدد عدد النسوة الفاعلات في تحريك الحدث، في ثلاث (الطرشاء، العوراء، العرجاء)، وهن من يستنطق ثلاثي (أشجار الغابة العريانة، وأحجار الغابة السهرانة، وبوم الغابة اليقظان)، وأيضا فإن الأطفال (ثلاثة شجعان: الأقوى، الأجمل، الأذكى).
وعلى مستوى كائنات الطبيعة المؤنسنة المساعدة، تهيمن شبكة التثليث بصورة لافتة، فهناك (الحصى، الفراشات، الأغصان)، والأطفال الثلاثة ((سلموا على الحصى وباسوا الفراشات وصافحوا الأغصان، قالت الثمار: أنا لكم الطعام، قالت الجداول: أنا لكم الشراب، قال العشب الأخضر الطري: أنا لكم الفراش.
لكن الأطفال الشجعان قلبوا الغابة: سموا الذئب أبا، سموا ((سكان المكان)) زوجة أب، وسموا ناموس الغابة الظلم. دقوا الحصى بالخشب، صفروا في القصب، وهزوا بأقدامهم عنق الأرض البليد، ففار العشب وضحك الماء ورقصت الأشجار))(10) .
ونضيف إلى كل ذلك، إن هيكل هذه القصة ذاته يتوزع أفقيا ـ مثلما هي بنية الحكاية العجيبة التثليثية ـ على تشكيلة من ثلاث حلقات مرقمة ومتتالية زمنيا في تكامل بنيوي ملتحم، حيث تتواشج في علاقة بينية وطيدة، رغم تقنية التقطيع وترك الفراغات، بصورة من التعالق تسلمنا فيها كل حلقة إلى الحلقة الموالية، احتراما لمبدإ التعاقب، وفق ما هو معروف في الحكاية العجيبة أيضا.
فلنتأكد إذن من هذه السمة في (الغابر الظاهر)، من خلال مقاربة التمفصلات المورفولوجية الصانعة لهذه البنية السردية التثليثية:
І ـ حلقة أولى: النقص.
ІІ ـ حلقة ثانية: المغامرة.
ІІІ ـ حلقة ثالثة: النتيجة.
إن الحلقة الأولى تتركب في بنيتها السردية من الوحدات الوظيفية التالية:
1ــ المرحلة البدئية: مقدمة القصة مقدمة تقليدية للحكاية العجيبة (كان حتى كان في قديم الزمان، كانت... الخ...).
2ــ النقص: وفاة الأم، زواج الأب، الحياة الحارة للأطفال (يقفقفون من البرد، حفاة، خائفون).
3ــ الخروج: بسبب وفاة الأم وتزوج الأب، يرحل الأطفال إلى الغابة.
4ـ الاختبار: خضوع الأطفال للامتحان ضمنيا (سلموا على الحصى، وباسو الفراشات، وصافحوا الأغصان).
5 ـ المساعدة: الثمار تقدم نفسها طعاما للأطفال الشجعان، والجداول شرابا والعشب الأخضر الطري فراشا (فلدى بروب يقدم النهر وشجرة التفاح والموقد الطعام للبطل)(11).
6 ـ إصلاح: الأطفال الشجعان زرعوا الغابة ففاضت بالخيرات (ففار العشب وضحك الماء ورقصت الأشجار).
7 ـ المعركة: صراع الإخوان (جنت الريح وانفضحت كل الأسرار) (وكانوا إذا لقوا بعضهم قالوا نحن إخوة، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون).
وفي الحلقة الثانية من القصة، ينمو الحدث بالصورة المطردة الثابتة في الحكاية العجيبة، وإن تعقد في غير صالح وحدة إصلاح النقص والإساءة، التي تعد مورفولوجيا الوحدة الوظيفية الجوهرية المميزة لهذه الحكاية، حيث يتم التركيز في القصة على بطلتها كوثر، التي شاء سوء طالعها أن تنهار وثوقيتها في وصولها إلى بر الآمان حين العثور على إخوانها، إذ تدخل وإياهم في صراع درامي، مع ما صحبه من انفعالات وتوتر، انتهي بالإساءة المأساوية غير المنتظرة من ذات إخوان كوثر، الذين يفترض فيهم أن يكونوا في حمايتها وسندا لها، خصوصا بعد فقدان الاستقرار والحماية بموت الأم وزواج الأب، بينما هم هنا موصومون بالتطاحن من أجل ارتكاب زنى المحارم. وإن كان في الإمكان التقاط ما يوحي به الموقف المتأزم من تأويل أعمق، ويتلخص في النظر إلى الأمر في عمقه الترميزي، استنادا إلى التحول القيمي الذي عرفه المجتمع المتطور، وإلى اسم البطلة كوثر. ففقر الإخوة يخلق بينهم تناقضات مصلحية، تجعلهم يتجابهون ويتطاحنون على الكوثر الدال على الوفر والشبع والارتواء، من غير أن ننسى دلالة الفضاء، إذ كل ذلك يحدث في غابة مخيفة باعتبارها معادلا موضوعيا لواقع محترب مختل ومتوحش.
كما أن هذه القصة، استكمالا لنسيج بنيتها السردية، تكرر في حلقتها الثانية، أهم الوحدات الوظيفية السابقة، قبل أن تستأنف حبك الإحداثيات المتبقية في كون القصة. وهنا يجمل بنا أن نذكّر بكون بلاغة التكرار تعد من الأساليب الجمالية الأساسية الصانعة لمعمار الحكاية العجيبة. فقد استندت الحلقة الثانية في قصة (الغابر الظاهر) هي أيضا، إلى هذه الوحدات الوظيفية: النقص، الرحيل، المساعدة، الإصلاح، كما يتضح من الرصد الموالي:
1 ــ إساءة / نقص: البطلة كوثر مقهورة من ناحية الأب وزوجته، مثل حال البنت في الحكاية العجيبة.
2 ـ الرحيل: البطلة ترحل مع المرأة الطيبة الغريبة، وتتبعها طيلة النهار إلى الغابة.
3 ـ المساعدة: الشخصية المساعدة المرأة الغريبة، تقود البطلة (كوثر) إلى مكان إخوانها في الغابة.
4 ـ علامة: الشخصية المساعدة ترشد البطلة إلى شعلة النار الدالة على وجود إخوانها في الغابة. وهذه العلامة تقوم في القصة بمثابة تسليم الأداة السحرية في الحكاية العجيبة.
5 ـ إصلاح: البطلة كوثر تلتقي أخيرا بإخوانها الذين استقبلوها بالأحضان.
ومثل الحكاية العجيبة، حين يحصل البطل على ضالته بعد صعاب مريرة، حيث يتم العثور على الهدف المبحوث عنه، فيصلح النقص، لكنه يفاجأ بقوى شريرة تريد بدافع الطمع والغيرة سلب موضوع البحث منه، وادعاء البطولة المزيفة لنفسها، وغالبا ما تسند هذه الوظيفة إلى الأشرار من إخوان البطل، مما يدفعه للدخول معهم في معركة مصيرية طاحنة، ينتصر فيها؛ كذلك تفعل هذه القصة، حيث يتأزم الموقف فتفاجأ كوثر بعد أن عثرت على إخوانها، وارتاحت للقاء بهم، متداركة ما كانت تعانيه من نقص، بالوضع ينقلب ضد مبتغىاها، متحولا إلى معركة درامية غير متكافئة، أطرافها الإخوان الثلاثة من جهة وأختهم كوثر من جهة ثانية، ثم بين الأخ الأقوى والأخوين الأجمل والأذكى، تنتهي بفقإ الأخ الأكبر والأقوى لعيني أحد أخويه وكسر رجل الأخ الثاني، وقتل كوثر.
وهنا تسلك القصة مفترقا نوعيا للتدليل على أنها قصة قصيرة وليست حكاية عجيبة. فلو أن الأمر كان يتعلق بهذا النوع من القصص الشعبي، لتمكنت البطلة من الهرب في شعاب الغابة، بمساعدة قوى غيبية، والتقت أميرا ينتقم من إخوانها، ويتزوجها، ثم تفوز بالحياة السعيدة (فيعيشان في ثبات ونبات ويخلفان صبيانا وبنات إلى أن يأتيهما مفرق اللذات). فدوما هناك قوة غيبية، أو بشرية أحيانا، يتوقع المتلقي أنها حتما ستخف لإنقاذ بطل الحكاية العجيبة من ورطته، مما يستبعد أي تضامن معه من لدن المتلقي. وبما أن معالجة ذات الموتيفة هنا تتم في نوع آخر من أسرة السرد هو القصة القصيرة، لذلك فإن البطلة المحرومة من أي سلاح، والمعزولة من أي نجدة، بسبب رسالة (الغابر الظاهر) الانتقادية المبطنة، لا تنتصر في معركتها مع إخوانها، بل تنهزم فتقتل، في تخييب صادم لأفق انتظار المتلقي، يثير انفعاله، وينعش فضوله لمعرفة ما سيختاره الراوي من حل أو حلول لذروة التوتر الحاد في الموقف المتأزم.
وكأننا بالقصة تريد أن تقول بمظورها هذا، إن عصر البطولة قد انتهى، وأمسى الإنسان مجردا من أي سلاح مادي ومعنوي للدفاع به عن نفسه، فصار هشا معزولا وغريبا ومحبطا حتى بين أهله. وهو ما يتشخص من خلال استكمال البنية السردية في هذه الحلقة، متشكلة عبر الوحدات الوظيفية التالية:
1 ـ معركة: بين الإخوة وكوثر من جهة، في حين يتعارك الإخوة من أجل الزواج بأختهم، من جهة ثانية.
2 ـ انتصار: الأقوى ينتصر على إخوانه ويدخل بأخته. إنها الغابة، والغلبة للأقوى.
3 ـ إساءة: الأخ يدخل بأخته كوثر، فوجد أخته دون بكارة. وبات يضربها، إلى أن قتلها: درامية مزدوجة (فقدان البكارة، والقتل).
4 ـ إصلاح: الإخوة يتصالحون، ويدفنون أختهم، وبدافع مبيت مغرض يبنون عليها ضريحا بقبة خضراء.
5 ـ جزاء: الإخوة يقتسمون النذور: جزاء غير مستحق، إذ أصبح المجرمون والقتلة والانتهازيون هم من يتلقى الجزاء وليس العقاب، عكس ما يلاقيه الأشرار والأبطال المزيفون في الحكاية العجيبة من عقاب في منتهى القسوة.
وبدل أن يفتضح جرم الإخوان ويعاقبون، باعتبارهم يجسدون على المستوى المورفولوجي للشخصية المعتدية، كما في نهايات الحكاية العجيبة استعادة لتوازن الواقع، يتم تخييب أفق انتظار المتلقي مجددا، خصوصا المطلع على إواليات القصص الشعبي ومورفولوجياته، إذ تتنكب القصة في خاتمتها معاقبة المجرمين، منزاحة نحو تقديمهم أبطالا مزيفين ناجحين في خداعهم دون انفضاح لحقيقتهم ولا عقاب قاس لهم، متمكنين من استثمار الموقف المختل لصالحهم، استغفالا لأصحاب الذهنية الخرافية، في إيحاء شفاف لما أصاب الواقع من عقم واختلال.
وهنا يستجد انزياح ثان في البنية السردية لقصة (الغابر الظاهر)، يتعلق الأمر بتهجين مقصود، ممثل في معالجة هذا الموقف السلبي، معالجة لا تخلو من استدعاء وخرق لنوع سردي شعبي مختلف، هو (حكاية الأولياءHagiographie )، المخصص لحكي حيوات الأولياء والصلحاء بأضرحتهم وكراماتهم وتقديسهم. حيث تزيف في خاتمة القصة قيم الصلاح والورع والكرامات والقداسة، وغيرها مما تدلل عليه متون هذا النوع السردي الشعبي تبجيلا وتقديسا؛ وتنقلب إلى صورة مما ينوء به الواقع من زيف وتدليس واتجار واستغلال واستحمار لبسطاء الناس ممن غيّب وعيهم أزمانا طويلة.
على أن هذا الانزياح المستحدث في نهاية القصة، لو أنه حدث بإحدى حكايات عصور ازدهار تداول القصص الشعبي، لما قوبل بالترحاب، بنفس القدر الذي لا نقبل نحن أن تنتهي قصة قصيرة معاصرة مثل (الغابر الظاهر) بنفس النهاية الثابتة المتوقعة دوما في البنية السردية للحكاية العجيبة، مما لا يثير فضول المتلقي وينعش تفاعله.
ونتيجة لهذا الانزياح الثاني، يضاف للإخوان بوصفهم شخوصا أساسيين في البنية السردية للقصة، مستوى وظيفي آخر، إلى جانب المستوى السابق لوظيفة شخصيتهم المعتدية، هو مستوى الشخصية المزيفة، كما يستشف من الشاهد التالي:
((وفي الصباح تصالح الإخوة الثلاثة ودفنوا أختهم، وبنوا على قبرها ضريحا بقبة خضراء، قال الأكبر: كانت ابنتي، قال الأوسط: كانت أختي، قال الأصغر: كانت أمي. طوبوا الطفلة قديسة، وقدموا لها النذور والقرابين وزارتها الغابة حتى امتلأ الصندوق.. وكانوا إذا التقوا حول ((الربيعة)) قالوا نحن إخوة، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.))(12).
ولعل المتلقي المطلع على متون القصص الشعبي، يدرك ما بين نهاية قصة (الغابر الظاهر) وحكاية المثل المصري (تحت القبة شيخ) أو (احنا دافنينه سوا) والمغربي (سيدي اللالي) من تناص بيّن، حيث يدفن الصديقان أو الأخوان حسب الرواية، حيوانا حمارا أو كلبا وربما غيرهما، ويدعيان أنه ولي من أولياء الله الصالحين، ذو كرامات وبركات، فيقبل الناس على التوسل والتبرك بالضريح المزيف، ويثري الأخوان أو الصديقان أيما إثراء، بسبب سذاجة الناس واعتقادهم الأعمى.
وبوجه عام، فإن هذه القصة لا علاقة لها فعليا ببيئة الحكاية العجيبة القديمة، ولا بموضوعها. إذ لا يتجاوز الأمر بعدا رمزيا في استراتيجية القصة، توسلت به من أجل توجيه رسالتها عن الواقع المختل.
وعليه، يمكن القول بأن استدعاء بيئة هذه الحكاية، لا يعدو أن يمثل هنا مجرد فضاء تخييلي تمويهي في الجو العام لقصة (الغابر الظاهر). وتتعزز هذه الفرضية بالمسافة الزمنية التي أحدثها الراوي، حين تموضع في الزمن الحاضر وخارج فضاء القصة، مكتفيا بمسرحة الأحداث والمواقف، انطلاقا من منظوره الحيادي. إذ شرع يروي لنا عن ماض منته، سادت فيه الفوضى والقهر والرعب والاغتصاب والجشع والابتزاز والاستحمار والقتل، وغيرها من ممارسات الظلم والطغيان المبثوثة في كل تضاعيف القصة، عندما افتتحها بعتبة المقدمة التقليدية في القصص الشعبي، المبدوءة بفعل (كان) الناقص، الذي يحيل على زمن ماض مطلق غير محدد، متنصلا تقية من الحاضر المتوحش، ومتعمدا إسقاطه على زمن غابر (كان حتى كان في قديم الزمان).
فأيا كان التماثل بين البنيتين السرديتين للحكاية العجيبة والقصة المدروسة، يجب التأكيد كون بوزفور ليس راوي حكايات، بل قصاصا مبدعا، كما أن قصته هذه لا تعيد إنتاج حكاية عجيبة، بل تعالج تخييليا موضوعا من واقع المرحلة المعيشة، المتسمة بالتخلف والإيغال في ضرب منظومة القيم النبيلة، رغم تغريب زمكانها، واستلهامها للبنية السردية لهذه الحكاية. إن كل ذلك يدخل حقيقة ضمن دائرة ترميز واستلهام أدوات مستعارة من نوع سردي موروث، من أجل بناء نص منتم في ماهيته إلى خطاب نوعي آخر، ليس سوى القصة القصيرة.
ومثل هذا التوجه هو ذاته ما سبق لنجيب محفوظ أن تبناه في روايته (ليالي ألف ليلة)، إلى حد التماهي مع ألف ليلة وليلة، حيث تبدو الرواية للوهلة الأولى بسبب التناص، كأنما هي استنساخ للبنية السردية لهذا النص الموروث، في كل مكوناته شخوصا وزمكانا وتبويبا وعناوين وأحداثا وعجائبية. بيد أننا سرعان ما ندرك عند الاقتراب من خاتمة الرواية، أن الأمر يتعلق بمهارة نجيب محفوظ في إبداع رواية تجريبية معاصرة مدهشة، تتوسل بالبنية السردية لألف ليلة وليلة لا غير، من أجل المعالجة التخييلية اللامباشرة لمشاكل واقع معاصر غارق في مستنقع مفاسده ومظالمه، وأيضا متفائل بالنقيض من ذلك، نقصد يقظة نضالاته؛ وليس من أجل بعث وإعادة إنتاج نص قديم موروث هو ألف ليلة وليلة.
ومن هنا، ألفينا قصة (الظاهر الغابر)، تجسد في رؤيتها الانتقادية ثنائية مختلة، طالما ألفنا شبيهاتها في البنية السردية للحكاية العجيبة، نعني ثنائية (الإساءة والنقص للمسحوقين/ الإصلاح والاستفادة للأقوياء). وبذلك تحقق القصة انزياحا عن الثنائية المثالية للحكاية العجيبة (نقص/ إصلاح)، حين تحول وجهتها نحو الواقع، منتقدة بدلالة سوداوية فساده وشره، حيث تتمكن بنيتها السردية في كل أدواتها ومفاصل نسيجها، من حبك معادلتها الواقعية الخبيئة تحت بنية سردية موروثة تتظاهر بالبراءة: من يعتدي هو من يستفيد.
هوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ب. إيخنباوم: حول نظرية النثر، ضمن كتاب (نظرية المنهج الشكلي)، تر. إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ـ مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط.1، 1982، ص. 108.
2 و3) فولفجانج إيسر: فعل القراءة، تر. عبد الوهاب علوب، سل. المشروع القومي للترجمة، ع. 126، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص. 61.
4) ديوان السندباد، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك، الدار البيضاء، ط. 2، 2009، ص. 328.
(5Voir: Introduction a la litterature Fantastique , Ed. Seuil , Cl. Points , n° 73 , 1970 , france P. 46-47.
6) د. مصطفى يعلى : القصص الشعبي بالمغرب ـ دراسة مورفولوجية، شركة النشر والتوزيع ـ المدارس، الدار البيضاء، 2001، ص. 55.
7) المصدر السابق، ص.147.
8) نفسه، صص. 147 ـ 148.
9) نفسه، ص. 149.
10) نفسه، ص. 148.
11) انظر: مورفولوجيا القصة، تر. د. عبد الكريم حسن و د. سميرة بن عمّو، شراع للدراسة والنشر والتوزيع، دمشق، ط. 1/ 1996، ص. 56.
12) ديوان السندباد، ص. 150.