كان الربيع يرفع عن كتفي الشتاء آخر هبات الريح الباردة، وينفخ دفأه في روح المنزل الدمشقي، سيخرج أفراد العائلة إلى فناء الدار المكشوف، كي يتناولوا فطورهم بين النباتات والعصافير، سيستمتع العفاريت الصغار بأشعة الشمس اللذيذة، وستلاحق الفتيات الصغيرات الفراشات اللاتي قبلن دعوة الزهر المتفتح إلى امتصاص رحيقه.
الهدوء النسبيّ الذي يعمّ المدينة هذه الأيام سيسمح للأسرة بالخروج والتمرد على السجن داخل الغرف.
كانت أجراس الكنائس تُقرع في يوم الجمعة العظيمة، وآياتٌ من القرآن تصدر عن المساجد مع اقتراب موعد أذان الظهر.
وكان الزيت يقطر من أكواع الأطفال، وضحكاتهم تعلو. هدأ الجميع فجأةً وتسمّرت أعينهم، وتجمدت اللقمات المتجهة إلى أفواههم في أيديهم.
لقد سقط شيءٌ ما أمام أعينهم محدثاً دوياً مرعباً، مسحوا أيديهم بثيابهم، وتحلقوا حول ذلك الجسم الغريب الذي خرق الأرض.
دفع الجيران الباب، ثم دخلوا بدافع الاطمئنان والفضول، أحضرت أم طارق طاسة الرعبة وسقت منها الجميع، " إنها قذيفة هاون عيار 120 مم " قال أبو محدين، بينما أصرّ أبو عبدو أنها من عيار 160 مم. فيما بقي أبو طارق صاحب البيت مذهولاً صامتاً ولم يفه بحرف.
" اذبح خروفاً يا أبا طارق "
" أجل أجل، اذبح خروفاً فالقذيفة لم تنفجر، ولم يُصب أحدٌ بمكروه "
" الحمد لله على السلامة يا أبا طارق "
ذهب كل واحدٍ في شأنه، وبقي الذهول مسيطراً على أفراد العائلة، والصمت هو سيد الموقف.
ما الذي يعنيه أن تسقط قذيفةٌ فوق منزلك وترفض أن تنفجر؟
لا بد أن ذلك يعني الكثير؛ تلك القذيفة تحدّت قوانين الفيزياء ورفضت أن تكون أداةً للقتل، وذلك يعني أنها كائنٌ حيّ، له مشاعر وأحاسيس، وينبغي أن يكرّم ويعامل معاملةً تليق به، لقد رفضت أن تكون مثل غيرها من القذائف المستهترة، معدومة المشاعر، التي لا تعرف الرحمة، التي تُرمى بهدف القتل فتنفذ الغرض المطلوب منها وتقتل الأبرياء، أما هذه القذيفة فهي خلوقة وشجاعة وصاحبة موقفٍ وضميرٍ صاحٍ.
مرّ على تلك الحادثة أسبوعٌ، ومازالت العائلة تتحلق حول القذيفة كل صباحٍ وكل مساء، يتفرجون عليها ويبتسمون لها، حتى شعر الجميع بالألفة معها وقرروا تبنيها، فاقتلعوها من الأرض، وتولّت نسمة - الفنانة الصغيرة - رسم وجهٍ جميلٍ لها؛ عينان سوداوان، أنفٌ دقيق، حاجبان سميكان، ثم فمٌ صغير ووجنتان حمراوان وشعرٌ أحمر مستعار. وضعوها في زاويةٍ من زوايا غرفة الضيوف، وأسموها الآنسة ظريفة.
في الصباح يلقون عليها التحية، وعندما يعودون من المدرسة يقبّلونها، وفي المساء يقولون لها: تصبحين على خير.
بعد عدة أشهر، صار كل واحدٍ منهم يدخل غرفة ظريفة ويتكلم معها على انفراد؛ في الصباح، بعد أن يذهب أبو طارق إلى عمله، والأولاد إلى مدارسهم، تجلس أم طارق مع ظريفة بعد أن تأتي بركوة القهوة وفنجانين، تجلسان معاً، تتحدث أم طارق وتنصت ظريفة، تحكي لها عن جاراتها النمامات الثرثارات، اللاتي ينقلن الكلام من بيتٍ إلى بيت، لذلك استغنت عنهن واكتفت بها لتؤنسها وتشاركها قهوتها الصباحية، وتنفّس عنها فتستمع إليها بصدرٍ رحب ولا تفشي أسرارها كما تفعل الجارات الثرثارات، ولا تقاطعها أو تسكتها كما يفعل أبو طارق، تحدثها أيضاً عن الكيلوغرامات الزائدة التي لا تستطيع التخلص منها بالرغم من الأنظمة الغذائية التي تتبعها، وعن شكوكها بزوجها هذه الأيام، وروائح العطور النسائية العالقة بثيابه دوماً.
وفي الظهيرة يأتي الأولاد من مدارسهم، يدخلون إليها واحداً تلو الآخر، يحكون لها عن واجباتهم الكثيرة، وعلاماتهم المتدنية، وعن أولى علامات الحُب، وعن حب الشباب، وعن وجبات الخضار التي تجبرهم والدتهم على تناولها، وكانت ظريفة تنصت لهم ولمشكلاتهم برحابة صدرٍ وابتسامةٍ لا تغادر ثغرها الصغير.
وفي المساء يدخل أبو طارق بعد عودته مباشرةً من العمل، يشكو لها الغلاء وصعوبات المعيشة، وعمله المتعب، ويشكو لها ما واجهه خلال النهار من مشاكل ومتاعب، ويخفض صوته ليحكي لها عن سكرتيرته اللطيفة التي نجحت بإثارة عاصفةٍ هوجاء في قلبه، وعن الكيلوغرامات الزائدة عند أم طارق، هو متأكدٌ من أن ظريفة لن تخبر أحداً بما سمعت، وبما باح لها من أسرار قد تودي بزواجه وإلا لما حدّثها عن أسراره الخطيرة. وفعلاً كانت ظريفة بئراً عميقة؛ تستمع إليه وتصغي من دون أن تنبس بحرف، فيشكرها على إصغائها ويخرج بهدوء.
ملأت ظريفة حياة العائلة الصغيرة، وجعلتها أكثر حماساً وديناميكية، وصارت أهم متنفسٍ للعائلة، وأهم صديق.
اليوم هو عيد ظريفة الأول، أتمّتْ عاماً كاملاً في منزل أبي طارق، قررت الأسرة الاحتفال بها وأحضروا بعض الحلويات والفواكه واجتمعوا في غرفتها، تناولوا الطعام واحتفلوا وضحكوا كثيراً.
لكنّ أمراً خطيراً جعلهم يصمتون فجأةً؛ إنها تبكي، نعم الآنسة ظريفة تبكي، لقد رأوا دموعها بأمّ أعينهم، أخذ كلّ واحدٍ منهم ينظر في أعين الآخرين. لم تخيّب ظريفة ظنّهم، إنها كائنٌ حيّ؛ يحزن ويفرح، يبكي ويضحك. ثمة أمرٌ يبكيها، لعله شعورها بالوحدة والغربة، من يعلم؟
في المساء ذهب كل واحدٍ إلى غرفته، لكن أحداً منهم لم يستطع النوم، كان كلٌّ منهم يفكر بالآنسة ظريفة.
في صباح اليوم التالي، كانت الأسرة مجتمعةً حول الفطور في باحة المنزل حين تسمّرت أعينهم ويبست اللقمات في أفواههم؛ إنه جسمٌ رهيب يسقط أمامهم محدثاً دويّاً مفزعاً، على الفور دخل الجيران؛ " الحمدلله على السلامة "
" إنه صاروخ "
" غالباً كاتيوشا "
" ولم ينفجر "
" الحمدلله لم يُصب أحدٌ بأذى "
" اذبح خروفاً يا رجل"
وبينما كان الجيران يشربون من طاسة الرعبة ويختلفون حول عيار الصاروخ وطرازه ونوعه وميزاته الفنية والتعبوية، كان الأولاد ينتزعونه من الأرض ويتوجهون فوراً إلى الآنسة ظريفة التي أشرقت لرؤيته وابتسمت، أجلسوه بقربها وتولّت نسمة رسم عينين وفمٍ وأنفٍ وشاربين، وأعلنوهما زوجاً وزوجة، ورقصوا حتى المساء في حفلٍ عائليٍّ متواضع، وهكذا عادتِ الابتسامة إلى ثغر الآنسة ظريفة.
الهدوء النسبيّ الذي يعمّ المدينة هذه الأيام سيسمح للأسرة بالخروج والتمرد على السجن داخل الغرف.
كانت أجراس الكنائس تُقرع في يوم الجمعة العظيمة، وآياتٌ من القرآن تصدر عن المساجد مع اقتراب موعد أذان الظهر.
وكان الزيت يقطر من أكواع الأطفال، وضحكاتهم تعلو. هدأ الجميع فجأةً وتسمّرت أعينهم، وتجمدت اللقمات المتجهة إلى أفواههم في أيديهم.
لقد سقط شيءٌ ما أمام أعينهم محدثاً دوياً مرعباً، مسحوا أيديهم بثيابهم، وتحلقوا حول ذلك الجسم الغريب الذي خرق الأرض.
دفع الجيران الباب، ثم دخلوا بدافع الاطمئنان والفضول، أحضرت أم طارق طاسة الرعبة وسقت منها الجميع، " إنها قذيفة هاون عيار 120 مم " قال أبو محدين، بينما أصرّ أبو عبدو أنها من عيار 160 مم. فيما بقي أبو طارق صاحب البيت مذهولاً صامتاً ولم يفه بحرف.
" اذبح خروفاً يا أبا طارق "
" أجل أجل، اذبح خروفاً فالقذيفة لم تنفجر، ولم يُصب أحدٌ بمكروه "
" الحمد لله على السلامة يا أبا طارق "
ذهب كل واحدٍ في شأنه، وبقي الذهول مسيطراً على أفراد العائلة، والصمت هو سيد الموقف.
ما الذي يعنيه أن تسقط قذيفةٌ فوق منزلك وترفض أن تنفجر؟
لا بد أن ذلك يعني الكثير؛ تلك القذيفة تحدّت قوانين الفيزياء ورفضت أن تكون أداةً للقتل، وذلك يعني أنها كائنٌ حيّ، له مشاعر وأحاسيس، وينبغي أن يكرّم ويعامل معاملةً تليق به، لقد رفضت أن تكون مثل غيرها من القذائف المستهترة، معدومة المشاعر، التي لا تعرف الرحمة، التي تُرمى بهدف القتل فتنفذ الغرض المطلوب منها وتقتل الأبرياء، أما هذه القذيفة فهي خلوقة وشجاعة وصاحبة موقفٍ وضميرٍ صاحٍ.
مرّ على تلك الحادثة أسبوعٌ، ومازالت العائلة تتحلق حول القذيفة كل صباحٍ وكل مساء، يتفرجون عليها ويبتسمون لها، حتى شعر الجميع بالألفة معها وقرروا تبنيها، فاقتلعوها من الأرض، وتولّت نسمة - الفنانة الصغيرة - رسم وجهٍ جميلٍ لها؛ عينان سوداوان، أنفٌ دقيق، حاجبان سميكان، ثم فمٌ صغير ووجنتان حمراوان وشعرٌ أحمر مستعار. وضعوها في زاويةٍ من زوايا غرفة الضيوف، وأسموها الآنسة ظريفة.
في الصباح يلقون عليها التحية، وعندما يعودون من المدرسة يقبّلونها، وفي المساء يقولون لها: تصبحين على خير.
بعد عدة أشهر، صار كل واحدٍ منهم يدخل غرفة ظريفة ويتكلم معها على انفراد؛ في الصباح، بعد أن يذهب أبو طارق إلى عمله، والأولاد إلى مدارسهم، تجلس أم طارق مع ظريفة بعد أن تأتي بركوة القهوة وفنجانين، تجلسان معاً، تتحدث أم طارق وتنصت ظريفة، تحكي لها عن جاراتها النمامات الثرثارات، اللاتي ينقلن الكلام من بيتٍ إلى بيت، لذلك استغنت عنهن واكتفت بها لتؤنسها وتشاركها قهوتها الصباحية، وتنفّس عنها فتستمع إليها بصدرٍ رحب ولا تفشي أسرارها كما تفعل الجارات الثرثارات، ولا تقاطعها أو تسكتها كما يفعل أبو طارق، تحدثها أيضاً عن الكيلوغرامات الزائدة التي لا تستطيع التخلص منها بالرغم من الأنظمة الغذائية التي تتبعها، وعن شكوكها بزوجها هذه الأيام، وروائح العطور النسائية العالقة بثيابه دوماً.
وفي الظهيرة يأتي الأولاد من مدارسهم، يدخلون إليها واحداً تلو الآخر، يحكون لها عن واجباتهم الكثيرة، وعلاماتهم المتدنية، وعن أولى علامات الحُب، وعن حب الشباب، وعن وجبات الخضار التي تجبرهم والدتهم على تناولها، وكانت ظريفة تنصت لهم ولمشكلاتهم برحابة صدرٍ وابتسامةٍ لا تغادر ثغرها الصغير.
وفي المساء يدخل أبو طارق بعد عودته مباشرةً من العمل، يشكو لها الغلاء وصعوبات المعيشة، وعمله المتعب، ويشكو لها ما واجهه خلال النهار من مشاكل ومتاعب، ويخفض صوته ليحكي لها عن سكرتيرته اللطيفة التي نجحت بإثارة عاصفةٍ هوجاء في قلبه، وعن الكيلوغرامات الزائدة عند أم طارق، هو متأكدٌ من أن ظريفة لن تخبر أحداً بما سمعت، وبما باح لها من أسرار قد تودي بزواجه وإلا لما حدّثها عن أسراره الخطيرة. وفعلاً كانت ظريفة بئراً عميقة؛ تستمع إليه وتصغي من دون أن تنبس بحرف، فيشكرها على إصغائها ويخرج بهدوء.
ملأت ظريفة حياة العائلة الصغيرة، وجعلتها أكثر حماساً وديناميكية، وصارت أهم متنفسٍ للعائلة، وأهم صديق.
اليوم هو عيد ظريفة الأول، أتمّتْ عاماً كاملاً في منزل أبي طارق، قررت الأسرة الاحتفال بها وأحضروا بعض الحلويات والفواكه واجتمعوا في غرفتها، تناولوا الطعام واحتفلوا وضحكوا كثيراً.
لكنّ أمراً خطيراً جعلهم يصمتون فجأةً؛ إنها تبكي، نعم الآنسة ظريفة تبكي، لقد رأوا دموعها بأمّ أعينهم، أخذ كلّ واحدٍ منهم ينظر في أعين الآخرين. لم تخيّب ظريفة ظنّهم، إنها كائنٌ حيّ؛ يحزن ويفرح، يبكي ويضحك. ثمة أمرٌ يبكيها، لعله شعورها بالوحدة والغربة، من يعلم؟
في المساء ذهب كل واحدٍ إلى غرفته، لكن أحداً منهم لم يستطع النوم، كان كلٌّ منهم يفكر بالآنسة ظريفة.
في صباح اليوم التالي، كانت الأسرة مجتمعةً حول الفطور في باحة المنزل حين تسمّرت أعينهم ويبست اللقمات في أفواههم؛ إنه جسمٌ رهيب يسقط أمامهم محدثاً دويّاً مفزعاً، على الفور دخل الجيران؛ " الحمدلله على السلامة "
" إنه صاروخ "
" غالباً كاتيوشا "
" ولم ينفجر "
" الحمدلله لم يُصب أحدٌ بأذى "
" اذبح خروفاً يا رجل"
وبينما كان الجيران يشربون من طاسة الرعبة ويختلفون حول عيار الصاروخ وطرازه ونوعه وميزاته الفنية والتعبوية، كان الأولاد ينتزعونه من الأرض ويتوجهون فوراً إلى الآنسة ظريفة التي أشرقت لرؤيته وابتسمت، أجلسوه بقربها وتولّت نسمة رسم عينين وفمٍ وأنفٍ وشاربين، وأعلنوهما زوجاً وزوجة، ورقصوا حتى المساء في حفلٍ عائليٍّ متواضع، وهكذا عادتِ الابتسامة إلى ثغر الآنسة ظريفة.