مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -13- (دُعاة الماوراء)

-13- (دُعاة الماوراء)

لقد حدث لزرادشت في ما مضى أن جَنَحَ بوهمه في ما وراء الإنسان مثل كل دعاة الماوراء. خليقة إلهية متألّمة ومعَذّبة بدا لي العالم آنذاك.
حُلماً بدا لي العالم وصنعة إله، دخان متعدّد الألوان أمام عينيّ كائن إلهي قلق.
الخير والشّرّ واللذّة والألم، وأنا وأنت، دخاناً متعدّد الألوان أمام عينيّ مُبدع تراءَت لي جميعها آنذاك. أراد المُبدع أن يحوّل نظره عن ذاته _ فخلق العالم.
عبطةٌ سَكرى يجد المتألّم في تحويل نظره عن ألمه وفي الهروب من نفسه. عبطةٌ سَكرى وتبديدٌ للذات تراءلى لي العالم ذات مرّة.
هذا العالَم الناقص على الدوام صورة لتناقض أبدي، والصورة المنقوصة، الغبطة السكرى لمبدعه المنقوص _ هكذا تراءى لي العالم ذات مرة.
وهكذا جَنَحتُ بوهمي إذاً في ما وراء الإنسان مثل كل دُعاة الماوراء. في ما وراء الإنسان حقاً؟
أه يا إخوتي، حُمقاً وصنيعَةَ إنسان، مثل كل الآلهة، كان ذلك الإله الذي ابتدعتُه!
إنساناً كان، ولاشيء غير جزء بائس من إنسان ومني أنا: من جَمري ورَمادي طَلَعَ لي ذلك الطيف حقاً! وليس من الماوراء جائني!
ما الذي حدث يا إخوتي؟ تحامَلتُ على نفسي، أنا العليل، وحَمَلتُ رمادي إلى الجبل وابتدعتُ لي شعلةً مضيئة. لكن ها أنّ الطيف يُفلتُ منّي!
ألَماً سيكون بالنسبة لي وعذاباً، أن أعتقد، أنا المُعافى الآن في مثل هذا الشبح: ألَماً سيكون بالنسبة ليَ الآن وإهانَةً. هكذا أتكلّم إلى دُعاة الماوراء.
ألَمٌ وعَجزٌ. ذلك هو ما خلق كل هذه العوالم الماورائية، وتلك السعادة الحمقاء المُقتَضَبَة التي لايشعر بها سوى أكثر الناس سَقَمَاً.
إعياءٌ يريد في قفزةٍ أخيرةٍ أن يبلغ المُنتَهى، إعياءُ جاهلٍ في انتفاضة الموت لم يَعُد يريد حتى أن يريد: هو الذي ابتدع كلّ الآلهة وكلّ العوالم الماورائية.
صدّقوني يا إخوتي! إنّه الجسد الذي يَئِسَ من الجسد، والذي يتلمّس آخر الجدران بأصابع عقله المسلوب.
صدّقوني يا إخوتي! إنّه الجسد الذي يَئِسَ من الأرض، هو الذي سَمِعَ احشاء الكائن تتحدّث إليه.
وهكذا أراد أن يقتحم آخر الجدران برأسه _وليس برأسه فقط_، ويمُرَّ إلى "ذلك العالم".
لكنّ "ذلك العالَم" مُحتَجَبٌ عن أنظار البشر، ذلك العالم اللاإنساني المجرّد من كل صفة بشرية، الذي هو عَدَم سماوي، وإنّ أحشاء الوجود لا تتكلّم إلى الإنسان، سوى أن تكون هي ذاتها إنساناً.
حقاً، إنّه لَمِنَ الصعب إقامة الدليل على أيّ وجود، ومن الصعب حمله على الكلام.
أخبِروني أيها الإخوة، أليست أكثر الأشياء غَرابَةً هي تلك التي يقع إثباتها على أفضل وجه؟
أجل، هذه الأنا، وتناقض هذه الأنا وبَلبَلَتها هي التي تتحدّث عن وجودها بأكثر صدق، هذه الأنا المُبدِعَة المُريدة المُقَيّمة، والتي هي مقياس حجم الأشياء وقيمتها.
هذا الكائن الأكثر صدقاً، الأنا _ينطق بجسده، ويريد جسده حتى وهو يقول شعراً ويهيم ويخفق بأجنحةٍ مكسورة.
على الدوام تظلّ تتعلّم كيف تتكلّم بأكثر صدق هذه الأنا: وكلّما تعلّمتَ أكثر كلّما وجدتَ مزيداً من الكلمات وعبارات الإجلال للجسد والأرض.
نَخوَةٌ جديدةٌ علّمتني أناي، وأنا بدوري أعلّم البشر هذه النخوة: لا تدكّوا رؤوسكم في رمل الأشياء السماوية بعد الآن، بل ارفعوها بحرية رؤوساً أرضية تبتدع معنى للأرض!
إرادةً جديدةً أعلّم البشر: أن يريدوا هذه الطريق التي ظلّ الإنسان يسلكها بعفوية، أن يباركوها وألا ينسحبوا متسلّلين جانباً مثل المرضى والمحتضرين!
مرضى ومختضرين أولئك الذين كانوا يحتقرون الجسد والأرض وابتدعوا العالم السماوي وقطرات الدم المخلّصة، لكنّ هذه السموم القاتمة والحلوة قد أخذوها أيضاً من الجسد ومن الأرض!
كانوا يرومون الفرار من بؤسهم، وكانت النجوم بعيدةٌ عنهم، فتنهّدوا إذن: "آهٍ، لو أنّ هناك طُرُقاً سماوية نتسلّل عبرها إلى كيانٍ آخر وسعادةٍ أخرى!" _وهكذا ابتدعوا أحابيلهم وجُرعَةَ شرابهم الدموي!
وإذا هم الآن يتوهّمون التخلّص من جسدهم ومن هذه الأرض، أولئك الجحودون! لكن لمَن يدينون بمَلاصهم وبتشنّج ونشوة غيابهم؟ إنّما لجسدهم ولهذه الأرض.
لكنّ زرادشت حليمٌ تجاه المرضى. وحقاً لايغتاظ لهذا الضرب من سلوانهم وجحودهم. ليُشفوا ويتعافوا ويتغلّبوا على أنفسهم ويبتدعوا لهم جسداً من فضيلةٍ أخرى!
وزرادشت لايغتاظ أيضاً للنقيه عندما يرنو بنظره بتحنانٍ إلى وهمه، وفي منتصف الليل يتسلّل حائماً حول قبر إلهه: لكنْ مَرَضاً وعِلّةَ جسدٍ تظلّ دموعه في نظري.
مرضى كثرون كان هناك على الدوام بين الشعراء والمجذوبين بالعشق الإلهي، بحنقٍ يحقدون على الذي يسعى إلى المعرفة وعلى الفضيلة الجديدة التي اسمها: صدق!.
على الدوام يرنون بنظرهم إلى الوراء باتجاه الأزمنة القاتمة، ذلك أنّ الأوهام والإيمان كانت شيئاً آخر حقاً، فانفلاتات العقل الحمقاء كانت تُعَدّ من صفات المشابهة الإلهية، بينما الشكّ خطيئة.
أعرفهم جيداً أولئك الشبيهين بالآلهة: يريدون أن يؤمن الناس بهم، وأن يكون الشكّ خطيئةً. وأعرف جيداً ما الذي يؤمنون به بدورهم ويفضّلون الإيمان به أكثر من أي شيءٍ آخر.
وفي الحقيقة هم لايؤمنون لا بالعوالم الماورائية ولا بقطرات الدم المخلّصة، بل إنّهم هم أيضاً لايؤمنون بشيء أكثر من إيمانهم بالجسد، وإنّ جسدهم الخاص لهو بالنسبة لهم الشيء في ذاته.
لكنهّ شيء مريض بالنسبة لهم، وبودّهم لو يخرجوا من جِلدتهم. لذلك هم يستمعون إلى الذين يكرزون للموت، ويكرزون بدورهم لعوالم الماوراء.
استمعوا بالأحرى إلى صوت الجسد المُعافى يا إخوتي: إنّه الصوت الأكثر صدقاً وأكثر نقاءً.
بأكثر صدقٍ يتحدّث الجسد المعافى وبأكثر نقاءٍ، هو الأكثر كمالاً، قائم الزاوية: إنّه يتكلّم بمعنى الأرض.
هكذا تكلّم زرادشت؟

#################################

يستخدم نيتشه مصطلح Hinterwelter، وهو مصطلح تصغيري يطلقه الشخص عندما يريد الحَطّ من قيمة الآخر فيصفه بأنّه "قُرَوي"، أو "فَلاح متخلّف"، يعيش في الأقاليم والمقاطعات النائية ويتّسم بالبساطة والسذاجة والبلادة. لذا يستخدم نيتشه هذه الكلمة لِيَسِمَ كلاً من الميتافيزيقيين وعلماء اللاهوت بوصفهم رجالاً متخلّفين وبليدين. ويجب ألا ننسى أنّ أوّل "مؤمن"، إذا جاز التعبير، التقاه زرادشت كان ناسكاً. ويعترف زرادشت بأنّه كان يؤمن في ما مضى بعالمٍ آخر وراء هذا العالم، لكنه ليس عالماً لإلهٍ خالقٍ مُحِبٍّ ومُبدِع، بل "إلهٌ ساخط" يخلق عالَماً ناقصاً أراد أن يحوّل فيه نظره عن ذاته... أي خلقه كمصدر إلهاء عن سخطه وعذابه. يقول نيتشه في كتابه "هذا هو الإنسان" في المقدمة: ((... بمجرّد أن ابتُدِعَت أكذوبة عالَم المُثُل تمّ تجريد الواقع من قيمته ومن معناه ومن حقيقته... "العالم الحقيقي" و"العالم الظاهري" _وبعبارة أكثر وضوحاً: العالَم المُبتَدَع والعالَم الواقعي. _إنّ أكذوبة المُثُل ظلّت إلى حدّ الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع، وعبرها غَدَت الإنسانية نفسها مشوّهة ومزيّفة حتى في غرائزها الأكثر عُمقاً _تزييف قد بَلَغَ حَدَّ تقديس القيم المعكوسة المناقضة لتلك التي كان بإمكانها أن تضمن النّموّ والمستقبل، والحقّ المقدّس في مستقبل)). وفي كتابه "غَسَق الأوثان" يُحَمّل نيتشه أفلاطون مسؤولية ابتداع هذا العالم الموهوم، أو ما ينعته بـ"الخرافة"، "عالَم المُثُل"، ويعتبره بناءً على ذلك "مُنحَطّاً" و"جباناً" إذ يقول: ((أفلاطون جبانٌ أمام الواقع، ونتيجةً لذلك يبحث له عن مَلجأ في عالم المُثُل)).
النقطة المركزية هنا هي أنّه حتى إذا اقتنعَ/آمَنَ المرء بوجود خالق موجود في حيّزٍ ما، أو تخيّل بطريقة ما مجالاً مفارقاً متسامياً أنطولوجياً (على سبيل المثال، من عالم وراء هذا العالَم، فهو أبدي)، فذلك لايعني بأي حالٍ من الأحوال أنّ هذا الخالق خيّر بالمُطلَق (وتسمّى هذه الإشكالية تقليدياً "بإشكالية الشر").
ومع ذلك، سرعان من حمل زرادشت رماده إلى الجبل وتغلّب على نفسه/تجاوز ذاته كشخص متألّم/مُعَذَّب، لقد أدرك أنّ وضع الله المُعَذَّب هو من صنع الإنسان نفسه. إذن فالإيمان بعالم آخر هو نتاج وجود بشري مُعَذَّب ويائِس ومُنهَك وغير صحّي، لَمْ يَعُد يريد أو يرغب، وأنّه "يريد في قفزة أخيرة أن يبلُغَ المُنتهى" لأنّ "النجوم بعيدةٌ جداً". (نلاحظ الرابط مرّةً أخرى مع المهرّج في الديباجة: المهرّج يرغب بالتجاوز، ولكن في حال كان ذلك سهلاً فقط).
ينشأ الإيمان بالله الخالق، أو العالَم الماورائي، حتى يستطيع الإنسان التنازل عن إرادته وجسده (أي الطبيعة المادية، الجوهرية لوجوده) والانضمام إلى عالَم الخَلاص والسعادة. لكنّ الجسد (في مرضه) والأرض (المجال الواصع للذاتية المتأصّلة) هما اللذان خَلَقا هذا العالَم الآخر. وأكثر من ذلك حتى، يقترح زرادشت أنّ "هذا الكائن الأكثر صدقاً والأكثر نقاءً: الأنا" (الذي سيستفيض زرادشت في الشرح عنه في القسم التالي) مازال يتحدّث من الجسد ومن الأرض، ومازال يريد الجسد والأرض، حتى أنّه "يقول شعراً ويهيم ويخفق بأجنحة مكسورة". بعبارة أخرى، إنّ الإيمان بعالَم ما ورائي هو نمط آخر للحياة البشرية والوجود البشري يفعل ما تفعله الحياة دائماً ويجب أن تفعله: إيجاد طريقة للعيش، بما في ذلك "انتفاضة الموت".
بمعنى آخر، إنّها إرادة القوة مرّةً أخرى. لاحظ أنّ "المتشبّهين بالإله" يريدون أن يؤمن الناس بهم وأن يكون "الشكّ خطيئة". المرض والإيمان بالله ليسا شيئاً يحدث بالمقام الأول للأفراد. بل هي ظاهرة اجتماعية وثقافية كاملة ذات مؤسّسات (كالكنيسة) إضافة إلى نشاط ونتاج اجتماعي ثقافي (الوعظ والطقوس) ومجموعة من القيم (الشك خطيئة). وهكذا فإنّ زرادشت "لطيف" مع المرضى: ((زرادشت لايغتاظ أيضاً للنقيه)). كما فعل زرادشت نفسه في الماضي، وسيتحتّم عليه أن يكرّر الأمر مرّةً أخرى في المستقبل، كما في قسم "الناقِه" في الكتاب الثالث. ويناشد زرادشت "يا إخوتي" أن يصغوا إلى صوت الجسد المُعافى لأنّه الصوت الأكثر صدقاً ونقاءً، لأنّه يتكلّم "بمعنى الأرض".
لابد من تفسير بعض الإشارات الواردة في القسم حسب تفسير الأستاذ علي مصباح مترجم الكتاب. مثلاً يرد مصطلح "قطرات الدم المخلّصة": هذه إشارة إلى التأويل الذي يقدّمه بولص عن واقعة صلب المسح والذي يعتبر أنّ المسيح قد وَهَبَ دَمَهُ على الصليب من أجل خلاص البشرية _رسالة بطرس الأولى 1/19 ((إنّكم افتُديتُم لا بأشياء تفنى بفضّة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الآباء، بل بدمٍ كريمٍ كما مَن حَمَلَ بِلا عَيبٍ ولا دَنَسٍ دَمَ المسيح))
ثمّ وَرَدَ تعبير ((وهكذا ابتدعوا أحابيلهم وجرعة شرابهم الدموي!)) وتلك إشارة إلى إنجيل متّى 26/27 ((وأخذ الكأس وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلّكم، لأنّ هذا هو دَمي للعهد الجديد الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا))
في النهاية يتحدّث نيتشه عن الفضيلة الجديدة التي اسمها "الصدق"، فالصدق كفضيلة مقابلة للورع والتقوى وحُبّ الخير والاستقامة الأخلاقية يُعلِنُ نيتشه فضيلة جديدة لم تعرفها إلا الفلسفة الأرسطية ولا الديانة المسيحية، أنظر كتاب "الفَجر"، الجزء الخامس، الشذرة 456: ((لنلاحظ جيداً أنّ الصدق لا ينتمي لا إلى الفضائل السقراطية ولا إلى الفضائل المسيحية، وهي ماتزال غير تامة النضج وغالباً مايتمّ الخَلط بينها وبين أشياء أخرى وعدم الاعتراف بها، بالكاد تكون واعيى بنفسها _شيء في طور الصيرورة بإمكاننا أن نشجّعه أو أن نثبّطه، وذلك بحسب مشاعرنا)).
إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...