إلى روح الولي الصالح أبو العباس السبتي طيب الله ثراه ، الذي أقر عرف العباسية* لفائدة الفقراء والمحتاجين .
اللوحة الأولى
يجلس مع أصدقائه في المقهى ، يرى نفس المتسولين يترددون على نفس الزبائن بشكل يومي . فريق في الصباح ، وفريق في المساء . لتلبية طلباتهم يحتاج الأمر إلى فريق من الموظفين في بيت مال المسلمين ، ومكلفين بمهمة توزيع الصدقات على الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل.
إحدى المتسولات تحمل شهادة طبية داخل غلاف بلاستيكي ، مرت عليها سنوات ، وهي لم تتمكن بعد كل هذه المدة من اقتناء الدواء .
أحد المسولين تقطع به الحبل* ، يحمل حقيبته ، وينتظر كل يوم الحافلة . وبعد انصرام عام ونصف لم يجمع ثمن التذكرة . وسيظل نمط عيشه متوقفا على ثنائية ضدية : وهم العودة إلى القرية مقابل ما يتكرم به زبائن المقاهي.
متسول معتوه ، لن يسلم أحد من لسانه سواء تصدق عليه أو لم يفعل . فبمجرد ما يتجاوز المقهى ، يَشبَعُ سبا وشتما في زبائنها .
اللوحة الثانية
تعود به الذاكرة سنوات إلى الوراء . يتخيل وهو طفل صورة عائشة ريال . أشهر متسولة في تاريخ جامع الفنا . امرأة في أواسط الاربعينات من عمرها ترتدي قميصا باليا ممزقا ومتسخا . شعرها مقصوص ورأسها عار . تعرج بإحدى رجليها ، وتلوي إحدى يديها لتظهر جسدها في حالة إعاقة . لا أحد يستطيع ان يميز إن كانت معاقة بالفعل ، أو أن ما تقوم به من حركات مجرد تمثيل . اللعاب يسيل من فمها على ذقنها ، وينزل إلى صدرها ، ويجعلها تبدو في مظهر مقزز يخيف الاطفال . كان يتحاشى المرور بجانبها . تطوف ساحة جامع الفنا في النهار . وفي المساء تقف بالقرب من باب القصابين ، وأحيانا تقطع إلى باب فتوح ، ثم تعود من نفس الطريق أمام قاعة الزيت . لا تطلب سوى ريال على الله . تعرف كيف تصطاد الزبائن ، خاصة البدويين الذين يزورون المدينة . تحاصرهم وتمسك بجلابيبهم ، ولا تفترق معهم حتى تأخذ منهم ريال على الله . يبتسمون عندما تشد بتلابيب ثيابهم ، ويتحدثون اليها أحيانا ، وهم يستجيبون لطلبها . عبارة واحدة تخرج من بين شفتيها المتشققتين (ريال على الله) . ما تبقى كأنك تستمع إلى صوت إنسان أبكم . عندما يعودون الى قراهم يتحدثون عن عائشة ريال . أصبحت معلمة حضارية بالنسبة اليهم . من زار المدينة ولم ير عائشة ريال كأنه لم يزر مراكش .
البعض يحكي بأنها تنتمي إلى أسرة ميسورة ، وأن ابنتها متزوجة من رجل غني ، زارتها غير ما مرة بساحة جامع الفنا لأخذها إلى البيت ، وكانت دائما ترفض الذهاب معها . والبعض الآخر يعتقد أنها عندما توفيت ، وجدها الناس نائمة على ثروة كبيرة .
اللوحة الثالثة
خمسة أو ستة متسولين عُميان يأتون في أوقات الذروة ، ويجلسون مصطفين عند أول انعطافة من ساحة جامع الفنا امام بائعات القُفَف والطّْبيقات* . بالقرب من سوق اطلع واهبط . يلبسون جلابيب صوفية في الشتاء و(دراعات) من ثوب خفيف في الصيف . كل واحد منهم يغطي رأسه بطاقية ، ويحمل آنية من خشب أو نحاس . يقرؤون القرآن بأصوات خشنة ، وأحيانا يرددون معا نفس العبارات بصوت عال :
ـ صدقة على الوالدين اليوم ليلة الجمعة يرحمهم سيدي ربي .
كلما سقطت قطعة نقدية في آنية أحدهم إلا ويقدمها لقائدهم أو الاعمى الذي ينسق بينهم . بعد آذان العشاء ينصرفون إلى زاوية سيدي بلعباس قبل إقفال أبواب الاسواق التي يمرون منها . يمشون ببطء واحدا خلف الآخر . يتقدمهم زعيمهم او منسقهم . ربما كان يرى بصيصا من نور . كل منهم يضع يده على كتف زميله واليد الأخرى يشد بها العكاز .
اللوحة الرابعة
بين متجر باطا ومقهى الشرق المقابلة لجامع خربوش ، يجلس متسول من نوع خاص . يعرفه أبناء حي سيدي يوب ودرب ضباشي . يفترش جلبابه ، ويشتم شخصا في الخيال ، وينعته بأقذع النعوت التي تخدش حياء السامع . ويستمر في السب والقذف من طلوع الشمس الى آذان العشاء . وعند ختام جلسته يحدد هوية الشخص الذي يشتمه وهو والده . العديد من الناس الذي يتصدقون عليه طيلة النهار لا يعلمون ذلك .
اللوحة الخامسة
في أسواق السمارين والصباغين والصوافين يمر رجل أربعيني يدعوه الصناع بمشقاف . يحمل كل يوم (طنجيته)* في يده . يرمي فيها الخضر التي يتصدق عليه بها بعض بائعي الخضر ، أو قطع صغيرة اللحم غير مرغوب فيها ، يجود عليه بها الجزارون . يقف أحيانا بباب دكان خياط الالبسة التقليدية للنساء (القفطان والتكشيطة والجلباب) . يحل محل متعلم صغير ، يضرب (البرشمان) أي يشد الخيط للمعلم على مسافة قريبة من باب الدكان ، ويعمل على تشبيكه بشكل متناسق مع الخياطة . وأي هفوة قد تعرض المتعلم للعقاب . مشقاف عندما يمر من السوق يمشي مذعورا . رواد السوق من أبناء البلد يستفزونه ببعض العبارات السوقية ، أو يأتونه من الخلف ، ويصفعونه على سطح رأسه الحليق . يمشي سريعا و حافيا . يحزم قميصه من الوسط ويُقصّره حتى الركبتين .
اللوحة السادسة
أخطرهم وأعنفهم ، رجل أطلق عليه أهل المدينة ، لقب (ذهب الكلب) ، يمر دائما من سوق السمارين أو باب فتوح . قوي البنية ، طويل القامة . يمشي بسرعة حافي القدمين . يصفع بقوة من يجده أمامه على قفاه في غفلة منه حتى يقفز من مكانه . البعض يراه قادما فيتحاشاه ، ويفسح له الطريق .
اللوحة السابعة
الصاروخ . هذا ألطفهم . شاب نحيف طويل القامة يمشي هو الأخر حافيا ، معروف في حي سيدي إسحاق والرحبة. تراه دائما مبتسما . يحب النساء والفتيات ، ويتحرش بهن خاصة في فصل الصيف . ولأنه طويل القامة فهو يرمي ببصره إلى صدورهن ، ويحاول إدخال يده لتحسس نهودهن . يهربن منه فيتراجع وهو يضحك .
اللوحة الثامنة
في محطة الحافلات أصناف متخصصة من المتسولين وباعة الاعشاب . كل العاهات التي لا تستطيع ان تنظر إليها يستعرضونها أمامك ورغما عنك.
قرون طويلة من التسول والسعاية لا يملك معها الناس غير ترديد عبارة الله يستر او الله يعفو . ولم يطلب أحد يوما ما من الذين يحكمون البلد ، إصدار قانون يمنع التسول ويحفظ كرامة الناس*.
..........................
* العباسية آلية أقرها الولي الصالح ابو العباس السبتي عندما كان يشتغل بالحسبة فامر كافة الحرفيين والعاملين في مجال السلع الغذائية أن يجعلوا أول إنتاجهم صدقة يتصدقون بها على المحتاجين فسميت هذه العملية بالعباسية نسبة إلى الولي الصالح الذي أقرها .
* تقطع به الحبل : كناية عن مسافر يجتاز مدينة وليس معه شيء يستعين به على سفره.
* الطبيقات : جمع طبيقة تصغير لطبق وتختلف عنه في العلو والشكل الذي يضيق من أسفل ويتوسع من أعلى . ولها غطاء وتصنع من الدوم . يوضع الخبز في قطعة من قماش ويحفظ داخلها.
* الطنجية : إناء من فخار تنصب فيه وجبة شعبية مشهورة في مدينة مراكش .
* التكشيطة : زي نسوي مغربي أرستقراطي
مراكش في 22 اكتوبر 2018
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=184758613150808&id=100048500103201
اللوحة الأولى
يجلس مع أصدقائه في المقهى ، يرى نفس المتسولين يترددون على نفس الزبائن بشكل يومي . فريق في الصباح ، وفريق في المساء . لتلبية طلباتهم يحتاج الأمر إلى فريق من الموظفين في بيت مال المسلمين ، ومكلفين بمهمة توزيع الصدقات على الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل.
إحدى المتسولات تحمل شهادة طبية داخل غلاف بلاستيكي ، مرت عليها سنوات ، وهي لم تتمكن بعد كل هذه المدة من اقتناء الدواء .
أحد المسولين تقطع به الحبل* ، يحمل حقيبته ، وينتظر كل يوم الحافلة . وبعد انصرام عام ونصف لم يجمع ثمن التذكرة . وسيظل نمط عيشه متوقفا على ثنائية ضدية : وهم العودة إلى القرية مقابل ما يتكرم به زبائن المقاهي.
متسول معتوه ، لن يسلم أحد من لسانه سواء تصدق عليه أو لم يفعل . فبمجرد ما يتجاوز المقهى ، يَشبَعُ سبا وشتما في زبائنها .
اللوحة الثانية
تعود به الذاكرة سنوات إلى الوراء . يتخيل وهو طفل صورة عائشة ريال . أشهر متسولة في تاريخ جامع الفنا . امرأة في أواسط الاربعينات من عمرها ترتدي قميصا باليا ممزقا ومتسخا . شعرها مقصوص ورأسها عار . تعرج بإحدى رجليها ، وتلوي إحدى يديها لتظهر جسدها في حالة إعاقة . لا أحد يستطيع ان يميز إن كانت معاقة بالفعل ، أو أن ما تقوم به من حركات مجرد تمثيل . اللعاب يسيل من فمها على ذقنها ، وينزل إلى صدرها ، ويجعلها تبدو في مظهر مقزز يخيف الاطفال . كان يتحاشى المرور بجانبها . تطوف ساحة جامع الفنا في النهار . وفي المساء تقف بالقرب من باب القصابين ، وأحيانا تقطع إلى باب فتوح ، ثم تعود من نفس الطريق أمام قاعة الزيت . لا تطلب سوى ريال على الله . تعرف كيف تصطاد الزبائن ، خاصة البدويين الذين يزورون المدينة . تحاصرهم وتمسك بجلابيبهم ، ولا تفترق معهم حتى تأخذ منهم ريال على الله . يبتسمون عندما تشد بتلابيب ثيابهم ، ويتحدثون اليها أحيانا ، وهم يستجيبون لطلبها . عبارة واحدة تخرج من بين شفتيها المتشققتين (ريال على الله) . ما تبقى كأنك تستمع إلى صوت إنسان أبكم . عندما يعودون الى قراهم يتحدثون عن عائشة ريال . أصبحت معلمة حضارية بالنسبة اليهم . من زار المدينة ولم ير عائشة ريال كأنه لم يزر مراكش .
البعض يحكي بأنها تنتمي إلى أسرة ميسورة ، وأن ابنتها متزوجة من رجل غني ، زارتها غير ما مرة بساحة جامع الفنا لأخذها إلى البيت ، وكانت دائما ترفض الذهاب معها . والبعض الآخر يعتقد أنها عندما توفيت ، وجدها الناس نائمة على ثروة كبيرة .
اللوحة الثالثة
خمسة أو ستة متسولين عُميان يأتون في أوقات الذروة ، ويجلسون مصطفين عند أول انعطافة من ساحة جامع الفنا امام بائعات القُفَف والطّْبيقات* . بالقرب من سوق اطلع واهبط . يلبسون جلابيب صوفية في الشتاء و(دراعات) من ثوب خفيف في الصيف . كل واحد منهم يغطي رأسه بطاقية ، ويحمل آنية من خشب أو نحاس . يقرؤون القرآن بأصوات خشنة ، وأحيانا يرددون معا نفس العبارات بصوت عال :
ـ صدقة على الوالدين اليوم ليلة الجمعة يرحمهم سيدي ربي .
كلما سقطت قطعة نقدية في آنية أحدهم إلا ويقدمها لقائدهم أو الاعمى الذي ينسق بينهم . بعد آذان العشاء ينصرفون إلى زاوية سيدي بلعباس قبل إقفال أبواب الاسواق التي يمرون منها . يمشون ببطء واحدا خلف الآخر . يتقدمهم زعيمهم او منسقهم . ربما كان يرى بصيصا من نور . كل منهم يضع يده على كتف زميله واليد الأخرى يشد بها العكاز .
اللوحة الرابعة
بين متجر باطا ومقهى الشرق المقابلة لجامع خربوش ، يجلس متسول من نوع خاص . يعرفه أبناء حي سيدي يوب ودرب ضباشي . يفترش جلبابه ، ويشتم شخصا في الخيال ، وينعته بأقذع النعوت التي تخدش حياء السامع . ويستمر في السب والقذف من طلوع الشمس الى آذان العشاء . وعند ختام جلسته يحدد هوية الشخص الذي يشتمه وهو والده . العديد من الناس الذي يتصدقون عليه طيلة النهار لا يعلمون ذلك .
اللوحة الخامسة
في أسواق السمارين والصباغين والصوافين يمر رجل أربعيني يدعوه الصناع بمشقاف . يحمل كل يوم (طنجيته)* في يده . يرمي فيها الخضر التي يتصدق عليه بها بعض بائعي الخضر ، أو قطع صغيرة اللحم غير مرغوب فيها ، يجود عليه بها الجزارون . يقف أحيانا بباب دكان خياط الالبسة التقليدية للنساء (القفطان والتكشيطة والجلباب) . يحل محل متعلم صغير ، يضرب (البرشمان) أي يشد الخيط للمعلم على مسافة قريبة من باب الدكان ، ويعمل على تشبيكه بشكل متناسق مع الخياطة . وأي هفوة قد تعرض المتعلم للعقاب . مشقاف عندما يمر من السوق يمشي مذعورا . رواد السوق من أبناء البلد يستفزونه ببعض العبارات السوقية ، أو يأتونه من الخلف ، ويصفعونه على سطح رأسه الحليق . يمشي سريعا و حافيا . يحزم قميصه من الوسط ويُقصّره حتى الركبتين .
اللوحة السادسة
أخطرهم وأعنفهم ، رجل أطلق عليه أهل المدينة ، لقب (ذهب الكلب) ، يمر دائما من سوق السمارين أو باب فتوح . قوي البنية ، طويل القامة . يمشي بسرعة حافي القدمين . يصفع بقوة من يجده أمامه على قفاه في غفلة منه حتى يقفز من مكانه . البعض يراه قادما فيتحاشاه ، ويفسح له الطريق .
اللوحة السابعة
الصاروخ . هذا ألطفهم . شاب نحيف طويل القامة يمشي هو الأخر حافيا ، معروف في حي سيدي إسحاق والرحبة. تراه دائما مبتسما . يحب النساء والفتيات ، ويتحرش بهن خاصة في فصل الصيف . ولأنه طويل القامة فهو يرمي ببصره إلى صدورهن ، ويحاول إدخال يده لتحسس نهودهن . يهربن منه فيتراجع وهو يضحك .
اللوحة الثامنة
في محطة الحافلات أصناف متخصصة من المتسولين وباعة الاعشاب . كل العاهات التي لا تستطيع ان تنظر إليها يستعرضونها أمامك ورغما عنك.
قرون طويلة من التسول والسعاية لا يملك معها الناس غير ترديد عبارة الله يستر او الله يعفو . ولم يطلب أحد يوما ما من الذين يحكمون البلد ، إصدار قانون يمنع التسول ويحفظ كرامة الناس*.
..........................
* العباسية آلية أقرها الولي الصالح ابو العباس السبتي عندما كان يشتغل بالحسبة فامر كافة الحرفيين والعاملين في مجال السلع الغذائية أن يجعلوا أول إنتاجهم صدقة يتصدقون بها على المحتاجين فسميت هذه العملية بالعباسية نسبة إلى الولي الصالح الذي أقرها .
* تقطع به الحبل : كناية عن مسافر يجتاز مدينة وليس معه شيء يستعين به على سفره.
* الطبيقات : جمع طبيقة تصغير لطبق وتختلف عنه في العلو والشكل الذي يضيق من أسفل ويتوسع من أعلى . ولها غطاء وتصنع من الدوم . يوضع الخبز في قطعة من قماش ويحفظ داخلها.
* الطنجية : إناء من فخار تنصب فيه وجبة شعبية مشهورة في مدينة مراكش .
* التكشيطة : زي نسوي مغربي أرستقراطي
مراكش في 22 اكتوبر 2018
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=184758613150808&id=100048500103201