التمثيل هو أقدم الفنون، وهو شكل من أشكال تعبير الإنسان عن نفسه تعبيرا واضحا ومؤثرا. وكان الدافع وراء رغبة الإنسان في التعبير عن نفسه هو حاجته إلى التواصل مع الآخرين، فقبل أن يرسم ويكتب ويغني، لجأ الإنسان إلى السلوك الدرامي الذي نجم عنه فن التمثيل. وأصبح التمثيل مهنة محترمة في المسارح الإغريقية بعد أن خضع للتنظيم والضبط. وعلى هذا فان التمثيل فن يحظى باحترام يعود إلى أزمنة سحيقة بوصفه جزءا من مؤسسة تشكلت قبل استنباط المفاهيم الفلسفية الأساسية وقبل إقامة الكنيسة وقبل وضع أقدم نظام قضائي في العالم. والتمثيل بخصائصه الشبيهة بالسلوك البشري يعتبر أكثر قدرة من أي فن آخر على الكشف عن الجوانب الحياتية والثقافية والوجدانية للإنسان.
دور الممثل
الممثل إنسان فاعل، مكان عمله خشبة المسرح الخالية من أي أثاث في كثير من الأحيان. وينقسم عمله إلى قسمين متتاليين: الأول فترة تحضيرية يدرس فيها الدور ويتدرب عليه، والثاني فترة العرض وفيها يعرض أمام الجمهور ما استعد له. ونحن نحكم على الممثل إن كان بارعا أو عاديا أو ضعيفا ليس بالاعتماد على ما يستطيع أن يكتبه أو يتحدث به عن التمثيل، ولكن بالاعتماد على قدرته على أداء عمله بنجاح أثناء مرحلتي الإعداد والعرض.
وعندما يقف الممثل على الخشبة محاطا بالديكور وبفيض من الضوء ويتحرك ويتكلم في إطار وهم مصطنع هو إنسان غير عادي، بل هو مزيج من المكونات البدنية والنفسية المكثفة، ويتوقف حظه في الحياة على قدرته على تشكيل كلّ فني من عناصر مختلفة كثيرة. وهو يعبر عن هذا المزيج البدني النفسي المكثف من خلال أفعاله على الخشبة، وبعض هذه الأفعال شديد الشبه بمثيلاته في الحياة، في حين أن بعضها الآخر مقيد بضوابط الخشبة وأصول الحرفة. ويؤدي الممثل عمله في ظروف شديدة التوتر، والخطأ الذي يرتكبه في هذه الظروف يبدو اكبر مما هو في الحقيقة. وفي ذهنه كمية كبيرة من الأفكار والخبرات التي يتصل بعضها ببعض في شبكة منظمة تسيطر عليها آليات فيزيولوجية، ولذلك فهو قد يؤدي كل لحظة في العمل الدرامي بالسهولة والتلقائية والكثافة التي يتطلبها فنه.
ومن اجل أن يحقق التجسيد الكامل للدور الذي يؤديه في إطار الخبرة المكثفة لا بد أن يفهم بيئته ويتفاعل معها تفاعلا حساسا وعميقا، ولا بد أن يكون قادرا على اصطفاء المفيد واطراح غير المفيد، ولا بد أن يكون قادرا على تشكيل خبرة درامية، وأخيرا لا بد أن يكون قادرا على أداء دوره بشكل منسجم مع الأدوار الأخرى في العمل المسرحي الذي يعمل فيه. والممثل إنسان بوجوه كثيرة، وهو فرد لا بد أن يظهر وكأنه أفراد كثيرون. فهو يتمتع بجسم لدن ومتيقظ، وبعقل ذكي سريع الاستجابة. ويجب أن يستفيد بفضل حساسيته التي تزداد رهافة بازدياد التوتر من رسائل تحذيرية وتشجيعية يتلقاها مما يدور حوله. وهذا كله بالغ الصعوبة، ولكن الممثل البارع يجعله يبدو وكأنه سهل.
خصائص الممثل
يمتاز الممثل بعدد من خصائص أساسية نذكر منها:
الغريزة الدرامية: وهي خاصة أساسية لكل من يريد احتراف التمثيل. وهي تعني أن على الممثل أن يمتاز بقدرة أو موهبة درامية. وتتفاوت الغريزة الدرامية من حيث عمقها وكثافتها من فرد إلى آخر، فهي قوية وقريبة من السطح عند بعض الممثلين، وضعيفة عند بعض الممثلين الآخرين. وهي أحيانا قوية ولكنها تقع خلف أستار من الرهبة والتردد وعدم الثقة بالنفس. وتكشف الغريزة الدرامية نفسها في جملة من الأشكال: فهي تظهر أحيانا من خلال ميل إلى الفكاهة والهزل وأحيانا من خلال ميل إلى الجد والصرامة. ويتمتع بعض الممثلين بقدرة على الهزل والجد بنسب متساوية تقريبا. ولكن لا بد من وجود غريزة درامية عند الممثل، وإلا فانه يبقى هاويا طيلة حياته.
وتمتاز الغريزة الدرامية بمزايا محددة، فهي تنطلق أساسا من حاجة إلى أداء ادوار مختلفة مقرونة برغبة في مشاركة آخرين في الأداء. وتنطوي الغريزة الدرامية كذلك على إحساس قوي بالصراع، وعلى إحساس بالحيوية سواء كانت بدنية أو روحية. وفيها قدر صحي من الأنانية أو حب الذات، فهي تدفع الممثل إلى إثبات جدارته، والى السعي إلى أن يكون محترما ومحبوبا، والى تجاوز ما هو عادي بحيث يكشف عن معنى ما في ما هو سطحي وما هو عميق من الأفعال والأقوال. وفيها لمسة من الواقعية، ولمسة مما هو خلف الواقعية، أي ما هو ممكن ولكنه غير واقعي. وفيها عناصر لا يمكن وصفها بكلمات.
القدرة على اكتساب مهارات: الخبرة الدرامية فعل استثنائي، والجمهور جماعة استثنائية من البشر. وهذا كله يجعل من المتعذر على الممثل أن يكون شخصا عاديا، ويفرض عليه أن يكون شخصا استثنائيا. وتنبثق فنية أداء الممثل – إلى حد كبير – من أساليب منهجية للتمثيل، فالمنهج يحدد طريقة معالجة الممثل لجسمه أو لصوته أو لشيء من الأشياء بحيث يحقق بذلك هدفا دراميا. وتنمو هذه المهارات والأساليب من أفعال مسيطر عليها سيطرة كاملة ومكررة ومصححة. وهي تنجم عن خبرات ونقد لهذه الخبرات. والهدف من أي منهج أو مهارة هو تحقيق السيطرة، والسيطرة لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق الممارسة والتكرار. وعندما يحقق الممثل السيطرة يستطيع الأداء دون تفكير واع مما يجيز له أن يركز على مزيد من الإبداع في الأداء. وتزداد قيمة المنهج عندما يتمكن الممثل من تطبيقه في اللاشعور.
والمهارات الصوتية هي الوسيلة التي ينظم بها الفنان المبدع قدراته بحيث يستفيد منها فائدة كبرى. والمهارات هنا تساند الإلهام وتوجهه، وهي تمنح الممثل سيطرة على الإبداع الدرامي. والمنهج الدرامي المتبع هو الذي يساعد الممثل على القيام بأداء منسجم وعلى مستوى واحد من الجودة. ويرث كل جيل جديد من الممثلين مناهج ثبتت قيمتها الفنية والعملية من خلال عدد لا يحصى من العروض وعلى مدى أجيال متعاقبة من الممثلين.
الفطنة: ما يعرض اليوم من مسرحيات في مختلف أنحاء العالم لا نجد له مثيلا من حيث التنوع والكثرة في أي حقبة في تاريخ المسرح كله. ويتمتع الممثل اليوم بفرص غنية جدا تفرض التزامات كثيرة وصعبة. ففي كل لحظة يقف فيها الممثل على الخشبة هو يعبر عن شيء ما من خلال الكلمة أو الحركة، ولذلك لا بد أن يكون واعيا لكل ما يعبر عنه.
ولا يقع حفظ كلمات الدور على رأس قائمة ما يتوجب على الممثل أن يقوم به من عمل في مرحلة إعداد الدور. والحفظ هو تمرين ذهني يتطلب بعض الذكاء، غير أن طفلا صغيرا يستطيع أن يحفظ نصا من مسرحية هاملت مثلا دون أن يفهم فهما حقيقيا فحوى النص أو أهميته. فلا بد للممثل من فهم مضمون النص الفكري والفلسفي، بالإضافة إلى الخلفية التي ينطلق منها النص ويتطور. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن حفظ كلمات الدور أمر غير مهم أو أن الكلمات يجب أن لا تحفظ كما كتبها المؤلف. ولكنه يعني أن حفظ الكلمات يجب أن يكون ناتجا عن فهم متعمق للمسرحية، وهو الفهم الذي ينجم عن دراسة مستفيضة للعمل المسرحي. ولا يمكن أن يتجاوز تفسير الممثل لدوره حدود فهمه للشخصية التي يصورها وظروفها المعاشية. صحيح أن تفسيره للدور ذو منشأ انفعالي وبدني، غير أن المفاهيم الأساسية التي تكوّن هذا التفسير هي فكرية في جوهرها، ولذلك فان القدرة الذهنية التي يتمتع بها الممثل هي التي تبلور هذه المفاهيم الأساسية لتصوير شخصيات تختلف اختلاف هاملت ولير.
وينسجم عمل الممثل مع عمل المؤلف ويكمله. فإذا كان الكاتب هو الذي أوجد الفكرة التي يريد التعبير عنها فان الممثل لا يستطيع أن ينقل الفكرة إلى الجمهور بوضوح بمجرد تكراره لكلمات الكاتب. يجب أن يفهم هذه الكلمات، وهذه مسؤولية تقع على كاهله، وهي جزء من الجهد الذي يقوم به أثناء الإعداد للدور. وعلى الممثل أن يرتفع إلى مستوى كتاب مسرحيين من أمثال يوروبيديس وشكسبير وإبسن وشو.
الخيال: والخيال المبدع هو أسمى نشاطات العقل البشري، وبوساطة الخيال يتمكن الإنسان من القفز بين ما هو واقع وما هو ممكن، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. ولتحقيق ذلك يلجأ المرء إلى الخيال للانتقال من سلسلة من الحقائق المعلومة إلى سلسلة من الحقائق أو الأحوال المفترضة. وهذه الحقائق والأحوال المفترضة قد تكون قريبة من نقطة الانطلاق، وقد تكون شديدة البعد عنها.
وقد يكون اللجوء إلى الخيال نادر الحدوث أو غير ضروري في مهن كثيرة، ولكنه جزء لا يتجزأ من عمل الممثل اليومي. وإذا كان الآخرون ينتقلون من جملة من الحقائق إلى جملة أخرى من الحقائق فان الممثل ينتقل من جملة من الحقائق إلى جملة من الأوهام أو الحالات المتخيلة. ويبتكر الخيال – من الناحية الدرامية – صورة بصرية للأشياء والأشخاص والأفعال، وهي صورة جديدة للمبتكر. وتوجيهات الخشبة التي يسجلها الكاتب المسرحي في نصه ما هي إلا جملة من الأوضاع التي توحي للممثل بفعل يجب أن يفهمه ويعمل على أساسه. وبالاعتماد على هذه التوجيهات يتخيل خط الفعل الذي سوف يسير على هديه قبل أن يفعل ذلك في الواقع. والخيال جزء لا يتجزأ من العملية التي يقوم بها لتكوين مفهوم أو فعل قبل الحدث، وهو الذي يرشده ويوجهه. فعن طريق الخيال يصل الممثل إلى طرق مبتكرة لفهم الشخصية التي يؤديها ولتفسيرها ولإيجاد أفعال درامية توجد أمامه هدفا واضحا يسعى إلى بلوغه. ويقدم الخيال للممثل صورة أولية للشخصية على جانب كبيرة من الأهمية. فالفعل المتخيل المبتكر يوجد صورة أولية للشخصية في بادىء الأمر، ولكن هذه الصورة تنمو وتتطور بتقدم الدراسة التي يقوم بها الممثل للمسرحية والدور. وعلى سبيل المثال، تتكشف صورة للأمير هاملت في ذهن الممثل بالاعتماد على ما يطلع عليه من طبيعة الشخصية وما تقوله وما يقال عنها وما تفعله، وذلك قبل أن يجسد الممثل هاملت بجسمه وصوته.
الاحساس المرهف: يتصل الممثل بالعالم الذي حوله بوساطة حواسه، وبوساطة حواسه يتواصل مع ذلك العالم ويجمع ما تتطلبه عملية التمثيل من مواد. وهو يحتاج إلى إحساس مرهف أكثر مما يحتاج إليه الإنسان العادي، شأنه في ذلك شأن أي فنان. ولا يتعين عليه أن ينظر حوله ليرصد أهمية كل حركة من حركات السلوك البشري فحسب، ولكن يتعين عليه أيضا أن يتمكن من الإيحاء بتلك الأهمية على نحو جلي لينقلها إلى الآخرين الذين لا يتمتعون بالضرورة بما يتمتع به هو من قدرة فريدة على الفهم وقدرة على وضع هذا الفهم في شكل فني جميل.
ولا بد أن يدرك الممثل أننا لا نستوعب العالم الذي حولنا عن طريق الذهن فحسب، ولا عن طريق الذهن فقط نفهم فكرة أي مسرحية. إننا نفهم الجوع بالجوع، واللمس باللمس، ومتعة الإبصار بالأبصار، ونفهم الحب بالحب. إننا نفهم بالذهن أشياء "عن" ذلك كله، ولكن للجسم طرقه في الفهم التي لا يجاريه فيها الذهن. وتعمل حواسنا بالاستجابة للمؤثرات الخارجية، وتخلف هذه المؤثرات انطباعها على العضو من الجسم الذي وقعت عليه. وبامكاننا أن نعود فيما بعد لنعاين هذا الانطباع ونستعيد الإحساس ونتذكره سواء كان جوعا أو ألما أو حتى اثر الرياح الباردة على وجوهنا، ونحس بالفرح أو الألم.
القدرة على العمل المضني: تتطلب مهنة التمثيل ساعات طويلة من العمل والجهد والمثابرة. وقبل أن ترفع الستارة في العرض الأول، يكون الممثل قد أمضى أسابيع من الإعداد والدراسة والمناقشة تحت الضغط الذي يفرضه موعد العرض الأول. ولا بد أن يكون الممثل قادرا على تحمل العمل لساعات طويلة، وتحمل عبء تكرار العمل في المشهد الواحد مرة بعد مرة، وتحمل الانتظار وما فيه من توتر ما بين المشاهد للصعود إلى الخشبة. كل ذلك يتطلب مقدرة بدنية وعصبية كبيرة.
المظهر البدني: لا شك أن الطول وتناسق الجسم يعتبران ميزة للممثل. ولكن على كل ممثل أن يسعى جاهدا لتطوير ما يتمتع به من خصائص بدنية. وعلى الممثل الطويل أو القصير أو البدين إلى حد مفرط أن يعي هذه الخصائص وان يعمل على تطوير نفسه في حدود ما تجيزه. وعلى مثل هذا الممثل أن يذكر أنه في تاريخ المسرح الطويل كان هناك ممثلون كثيرون استطاعوا أن يجعلوا المظهر البدني أمرا قليل الأهمية نسبيا نظرا إلى ما كانوا يتمتعون به من جد واجتهاد وتميز كفنانين.
الجمهور شريك في العملية الإبداعية
يحضر الناس إلى المسرح لمشاهدة عرض مسرحي لأنهم يتمتعون بنصيب من الغريزة الدرامية، ولأنهم يرغبون في الحصول على نصيب من الخبرة الدرامية. والجمهور هو النصف الثاني المهم في العملية الإبداعية، وهو المتلقي المتشوق لمشاهدة العرض، الراغب في التخلي عن الاعتقاد – لفترة – بأن الواقع الحقيقي هو وحده الذي يمكن الركون إليه، وفي تبني الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع – عندما يريد – أن يستحدث واقعا آخر.
واستجابة الجمهور للعرض ذات اتجاهين: خارجي وداخلي. تتجلى استجابته الخارجية بالضحك أو التصفيق أو البكاء. أما استجابته الداخلية فهي أنشط حركة وأكثر تنوعا وأعمق أثرا. وإذا قدر لنا أن نلمح ما يدور في داخل المتفرج أثناء العرض فإننا سنرى جملة متشابكة من العمليات الذهنية والانفعالية والحسية، تتصاعد وتزداد تعقيدا قبل أن تهبط وتتلاشى لتفسح المجال لعمليات أخرى. وبفضل هذه العمليات الداخلية يستطيع الجمهور أن يؤدي بعضا من عمل الممثل وأن يساعد فيه. ونعلم أن أحد المنشطات القوية للاستجابة عند المتلقي في أي فن هو قوة الإيحاء. فليس ثمة فكرة أو عاطفة يثيرها الممثل تبقى في شكلها الأصلي عندما يتلقفها الجمهور ويتفاعل معها. فما أن تصل الفكرة إلى المتلقي حتى تبدأ عملية نمو في داخله، وتكبر الأفكار والعواطف وتتوسع بشكل يتناسب مع قوة الإيحاء. ولا فائدة من الذهاب إلى المسرح دون هذه الفرصة للمشاركة.
ومعروف أن المسرح يناقش موضوعات وقضايا ممتعة، ولكن من المعروف أيضا أنه يثير موضوعات وقضايا تتسم بكثير من السوداوية والعنف. ولا شك أن رواد المسرح يعرفون ذلك، وهم يقبلون به ويجهزون أنفسهم له. ومع ذلك فإننا في الحياة نحاول تجنب ما هو غير جميل وما هو حزين ومؤسف ومؤلم، ونحاول تجنب خيبات الأمل واليأس. ولكن المسرح يعنى بهذه الموضوعات على نحو متواصل في ما يعرضه من مسرحيات إلى درجة أن أعظم المسرحيات التي عرضت على الخشبة في مختلف العصور مفعمة باليأس والقتل والموت.
لماذا إذن نحرص على مشاهدة العروض المسرحية بالرغم مما فيها من إحباطات وهزائم وآلام؟ ما هو الممتع في مسرحية سوفوكليس "الملك أوديب" بكل ما فيها من عدوان وقحط وألم وفقدان للبصر؟ وهل الوحدة القاسية التي يعيشها هاملت جذابة بما فيه الكفاية لتجذبنا لمشاهدة المسرحية والمشاركة في الإحساس بتلك الوحدة؟ هل من الممتع حقا أن نشاهد عرضا لمسرحية تنيسي ويليامز "عربة اسمها الرغبة" التي تقطع فيها البطلة بلانش دوبوا صلتها بالواقع وتغمس نفسها في عالم من الجنون، أو أن نشاهد عرضا لمسرحية يوجين أونيل "رحلة يوم طويل إلى الليل" وفيها ما فيها من انحلال وإدمان وانهيار؟ بالرغم من هذا كله نذهب إلى المسرح، ممثلين ومتفرجين، منذ قرون من الزمان لمشاهدة الأشياء نفسها التي نرتعد لها في الحياة ونبذل كل ما في وسعنا لتجنبها. لماذا؟
في المسرح نشبع حاجتنا إلى تجارب إنسانية لا حصر لها دون مجازفة. ومعاناتنا عند مشاهدة الموت والعذاب كما في "هاملت" و"الملك لير" هي معاناة من نوع خاص تنتهي بمجرد انتهاء العرض المسرحي. إننا نستمتع بكل شيء في الخبرة بما في ذلك القتل والموت كما في موت روميو وجولييت، ونحن أحياء وأصحاء. وعلى ذلك فان بامكاننا أن نشارك في الخبرة الدرامية إلى أقصى حد ممكن ونحن في أمان وسلام، ونستطيع أن ننغمس في الخبرة بشكل كامل لعلمنا أن الخبرة لا تعدو كونها خيالا في خيال.
الجمهور والحس المسرحي
يُبقي الحس المسرحي الممثل على صلة مباشرة بجميع عناصر الخبرة الدرامية بما في ذلك العلاقة بينه وبين الجمهور. فعن طريق الاستجابة الجماعية للجمهور يعرف مدى فاعلية ما يعرضه على الخشبة. وبالرجوع إلى ما توفر لديه من خبرات مسرحية يستفيد مما يبديه الجمهور من استجابة للعرض. وبالتالي فانه يتعين عليه أن يتعلم قراءة استجابة الجمهور. عندما يكون الممثل على الخشبة يستطيع أن يحس باستجابة الجمهور على اختلاف أنواعها وأحجامها. ومن اليسير أن يفهم استجابات صارخة كالضحك والبكاء، كما أن التصفيق الحاد عند نهاية مشهد من المشاهد دليل على نجاحه في أداء دوره. والتصفيق المؤدب يختلف عن التصفيق الودّي وكلاهما يختلف عن التصفيق الفاتر.
ويصعب أحيانا قراءة موقف الجمهور من الخبرة المسرحية دون تعبير واضح كالضحك والتصفيق. ولكن الممثل أمام استجابة جماعية، ومن الأسهل قراءة الاستجابة الجماعية من قراءة استجابة فردية. والحقيقة أن الحس المسرحي يمكن أن يطور إلى درجة يمكن بها للممثل أن يتعرف إلى ردود أفعال الجمهور بالاعتماد على ملاحظة أفراد متناثرين هنا وهناك في صالة المسرح. ويستطيع الممثل أن يتعلم الكثير بالوقوف خلف الجمهور في مواجهة الخشبة، فالمراقب الحاذق يستطيع أن يرى من ذلك الموقع العرض على الخشبة والجمهور ككل واحد، ويستطيع أن يرى الخبرة الدرامية برمتها أمامه بشكل مباشر. وبمراقبة عرض بعد عرض من المسرحية ذاتها يستطيع الممثل أن يتمثل جوهر الحس المسرحي.
وعندما يحدث ذلك يدرك الممثل أن هذا التمثيل يشكل كيانه كله، ويدرك عناصر معينة من الحس المسرحي على نحو عقلاني، ولذلك يتمكن من الحديث عن هذه العناصر وأن يشرحها للآخرين. ويدرك أيضا عناصر إضافية على نحو وجداني، ومن هذه العناصر الإحساس بأنه جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية كلها. ويدرك عندئذ كيف أن صورته تتعدد بعدد من في الصالة من جمهور. ويدرك كذلك أشياء أخرى ويستوعب المجرد كما لو أن الجمهور هتف بشكل جماعي وبصوت واحد.
لندن - بريطانيا
zedhakim@yahoo.co.uk
دور الممثل
الممثل إنسان فاعل، مكان عمله خشبة المسرح الخالية من أي أثاث في كثير من الأحيان. وينقسم عمله إلى قسمين متتاليين: الأول فترة تحضيرية يدرس فيها الدور ويتدرب عليه، والثاني فترة العرض وفيها يعرض أمام الجمهور ما استعد له. ونحن نحكم على الممثل إن كان بارعا أو عاديا أو ضعيفا ليس بالاعتماد على ما يستطيع أن يكتبه أو يتحدث به عن التمثيل، ولكن بالاعتماد على قدرته على أداء عمله بنجاح أثناء مرحلتي الإعداد والعرض.
وعندما يقف الممثل على الخشبة محاطا بالديكور وبفيض من الضوء ويتحرك ويتكلم في إطار وهم مصطنع هو إنسان غير عادي، بل هو مزيج من المكونات البدنية والنفسية المكثفة، ويتوقف حظه في الحياة على قدرته على تشكيل كلّ فني من عناصر مختلفة كثيرة. وهو يعبر عن هذا المزيج البدني النفسي المكثف من خلال أفعاله على الخشبة، وبعض هذه الأفعال شديد الشبه بمثيلاته في الحياة، في حين أن بعضها الآخر مقيد بضوابط الخشبة وأصول الحرفة. ويؤدي الممثل عمله في ظروف شديدة التوتر، والخطأ الذي يرتكبه في هذه الظروف يبدو اكبر مما هو في الحقيقة. وفي ذهنه كمية كبيرة من الأفكار والخبرات التي يتصل بعضها ببعض في شبكة منظمة تسيطر عليها آليات فيزيولوجية، ولذلك فهو قد يؤدي كل لحظة في العمل الدرامي بالسهولة والتلقائية والكثافة التي يتطلبها فنه.
ومن اجل أن يحقق التجسيد الكامل للدور الذي يؤديه في إطار الخبرة المكثفة لا بد أن يفهم بيئته ويتفاعل معها تفاعلا حساسا وعميقا، ولا بد أن يكون قادرا على اصطفاء المفيد واطراح غير المفيد، ولا بد أن يكون قادرا على تشكيل خبرة درامية، وأخيرا لا بد أن يكون قادرا على أداء دوره بشكل منسجم مع الأدوار الأخرى في العمل المسرحي الذي يعمل فيه. والممثل إنسان بوجوه كثيرة، وهو فرد لا بد أن يظهر وكأنه أفراد كثيرون. فهو يتمتع بجسم لدن ومتيقظ، وبعقل ذكي سريع الاستجابة. ويجب أن يستفيد بفضل حساسيته التي تزداد رهافة بازدياد التوتر من رسائل تحذيرية وتشجيعية يتلقاها مما يدور حوله. وهذا كله بالغ الصعوبة، ولكن الممثل البارع يجعله يبدو وكأنه سهل.
خصائص الممثل
يمتاز الممثل بعدد من خصائص أساسية نذكر منها:
الغريزة الدرامية: وهي خاصة أساسية لكل من يريد احتراف التمثيل. وهي تعني أن على الممثل أن يمتاز بقدرة أو موهبة درامية. وتتفاوت الغريزة الدرامية من حيث عمقها وكثافتها من فرد إلى آخر، فهي قوية وقريبة من السطح عند بعض الممثلين، وضعيفة عند بعض الممثلين الآخرين. وهي أحيانا قوية ولكنها تقع خلف أستار من الرهبة والتردد وعدم الثقة بالنفس. وتكشف الغريزة الدرامية نفسها في جملة من الأشكال: فهي تظهر أحيانا من خلال ميل إلى الفكاهة والهزل وأحيانا من خلال ميل إلى الجد والصرامة. ويتمتع بعض الممثلين بقدرة على الهزل والجد بنسب متساوية تقريبا. ولكن لا بد من وجود غريزة درامية عند الممثل، وإلا فانه يبقى هاويا طيلة حياته.
وتمتاز الغريزة الدرامية بمزايا محددة، فهي تنطلق أساسا من حاجة إلى أداء ادوار مختلفة مقرونة برغبة في مشاركة آخرين في الأداء. وتنطوي الغريزة الدرامية كذلك على إحساس قوي بالصراع، وعلى إحساس بالحيوية سواء كانت بدنية أو روحية. وفيها قدر صحي من الأنانية أو حب الذات، فهي تدفع الممثل إلى إثبات جدارته، والى السعي إلى أن يكون محترما ومحبوبا، والى تجاوز ما هو عادي بحيث يكشف عن معنى ما في ما هو سطحي وما هو عميق من الأفعال والأقوال. وفيها لمسة من الواقعية، ولمسة مما هو خلف الواقعية، أي ما هو ممكن ولكنه غير واقعي. وفيها عناصر لا يمكن وصفها بكلمات.
القدرة على اكتساب مهارات: الخبرة الدرامية فعل استثنائي، والجمهور جماعة استثنائية من البشر. وهذا كله يجعل من المتعذر على الممثل أن يكون شخصا عاديا، ويفرض عليه أن يكون شخصا استثنائيا. وتنبثق فنية أداء الممثل – إلى حد كبير – من أساليب منهجية للتمثيل، فالمنهج يحدد طريقة معالجة الممثل لجسمه أو لصوته أو لشيء من الأشياء بحيث يحقق بذلك هدفا دراميا. وتنمو هذه المهارات والأساليب من أفعال مسيطر عليها سيطرة كاملة ومكررة ومصححة. وهي تنجم عن خبرات ونقد لهذه الخبرات. والهدف من أي منهج أو مهارة هو تحقيق السيطرة، والسيطرة لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق الممارسة والتكرار. وعندما يحقق الممثل السيطرة يستطيع الأداء دون تفكير واع مما يجيز له أن يركز على مزيد من الإبداع في الأداء. وتزداد قيمة المنهج عندما يتمكن الممثل من تطبيقه في اللاشعور.
والمهارات الصوتية هي الوسيلة التي ينظم بها الفنان المبدع قدراته بحيث يستفيد منها فائدة كبرى. والمهارات هنا تساند الإلهام وتوجهه، وهي تمنح الممثل سيطرة على الإبداع الدرامي. والمنهج الدرامي المتبع هو الذي يساعد الممثل على القيام بأداء منسجم وعلى مستوى واحد من الجودة. ويرث كل جيل جديد من الممثلين مناهج ثبتت قيمتها الفنية والعملية من خلال عدد لا يحصى من العروض وعلى مدى أجيال متعاقبة من الممثلين.
الفطنة: ما يعرض اليوم من مسرحيات في مختلف أنحاء العالم لا نجد له مثيلا من حيث التنوع والكثرة في أي حقبة في تاريخ المسرح كله. ويتمتع الممثل اليوم بفرص غنية جدا تفرض التزامات كثيرة وصعبة. ففي كل لحظة يقف فيها الممثل على الخشبة هو يعبر عن شيء ما من خلال الكلمة أو الحركة، ولذلك لا بد أن يكون واعيا لكل ما يعبر عنه.
ولا يقع حفظ كلمات الدور على رأس قائمة ما يتوجب على الممثل أن يقوم به من عمل في مرحلة إعداد الدور. والحفظ هو تمرين ذهني يتطلب بعض الذكاء، غير أن طفلا صغيرا يستطيع أن يحفظ نصا من مسرحية هاملت مثلا دون أن يفهم فهما حقيقيا فحوى النص أو أهميته. فلا بد للممثل من فهم مضمون النص الفكري والفلسفي، بالإضافة إلى الخلفية التي ينطلق منها النص ويتطور. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن حفظ كلمات الدور أمر غير مهم أو أن الكلمات يجب أن لا تحفظ كما كتبها المؤلف. ولكنه يعني أن حفظ الكلمات يجب أن يكون ناتجا عن فهم متعمق للمسرحية، وهو الفهم الذي ينجم عن دراسة مستفيضة للعمل المسرحي. ولا يمكن أن يتجاوز تفسير الممثل لدوره حدود فهمه للشخصية التي يصورها وظروفها المعاشية. صحيح أن تفسيره للدور ذو منشأ انفعالي وبدني، غير أن المفاهيم الأساسية التي تكوّن هذا التفسير هي فكرية في جوهرها، ولذلك فان القدرة الذهنية التي يتمتع بها الممثل هي التي تبلور هذه المفاهيم الأساسية لتصوير شخصيات تختلف اختلاف هاملت ولير.
وينسجم عمل الممثل مع عمل المؤلف ويكمله. فإذا كان الكاتب هو الذي أوجد الفكرة التي يريد التعبير عنها فان الممثل لا يستطيع أن ينقل الفكرة إلى الجمهور بوضوح بمجرد تكراره لكلمات الكاتب. يجب أن يفهم هذه الكلمات، وهذه مسؤولية تقع على كاهله، وهي جزء من الجهد الذي يقوم به أثناء الإعداد للدور. وعلى الممثل أن يرتفع إلى مستوى كتاب مسرحيين من أمثال يوروبيديس وشكسبير وإبسن وشو.
الخيال: والخيال المبدع هو أسمى نشاطات العقل البشري، وبوساطة الخيال يتمكن الإنسان من القفز بين ما هو واقع وما هو ممكن، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. ولتحقيق ذلك يلجأ المرء إلى الخيال للانتقال من سلسلة من الحقائق المعلومة إلى سلسلة من الحقائق أو الأحوال المفترضة. وهذه الحقائق والأحوال المفترضة قد تكون قريبة من نقطة الانطلاق، وقد تكون شديدة البعد عنها.
وقد يكون اللجوء إلى الخيال نادر الحدوث أو غير ضروري في مهن كثيرة، ولكنه جزء لا يتجزأ من عمل الممثل اليومي. وإذا كان الآخرون ينتقلون من جملة من الحقائق إلى جملة أخرى من الحقائق فان الممثل ينتقل من جملة من الحقائق إلى جملة من الأوهام أو الحالات المتخيلة. ويبتكر الخيال – من الناحية الدرامية – صورة بصرية للأشياء والأشخاص والأفعال، وهي صورة جديدة للمبتكر. وتوجيهات الخشبة التي يسجلها الكاتب المسرحي في نصه ما هي إلا جملة من الأوضاع التي توحي للممثل بفعل يجب أن يفهمه ويعمل على أساسه. وبالاعتماد على هذه التوجيهات يتخيل خط الفعل الذي سوف يسير على هديه قبل أن يفعل ذلك في الواقع. والخيال جزء لا يتجزأ من العملية التي يقوم بها لتكوين مفهوم أو فعل قبل الحدث، وهو الذي يرشده ويوجهه. فعن طريق الخيال يصل الممثل إلى طرق مبتكرة لفهم الشخصية التي يؤديها ولتفسيرها ولإيجاد أفعال درامية توجد أمامه هدفا واضحا يسعى إلى بلوغه. ويقدم الخيال للممثل صورة أولية للشخصية على جانب كبيرة من الأهمية. فالفعل المتخيل المبتكر يوجد صورة أولية للشخصية في بادىء الأمر، ولكن هذه الصورة تنمو وتتطور بتقدم الدراسة التي يقوم بها الممثل للمسرحية والدور. وعلى سبيل المثال، تتكشف صورة للأمير هاملت في ذهن الممثل بالاعتماد على ما يطلع عليه من طبيعة الشخصية وما تقوله وما يقال عنها وما تفعله، وذلك قبل أن يجسد الممثل هاملت بجسمه وصوته.
الاحساس المرهف: يتصل الممثل بالعالم الذي حوله بوساطة حواسه، وبوساطة حواسه يتواصل مع ذلك العالم ويجمع ما تتطلبه عملية التمثيل من مواد. وهو يحتاج إلى إحساس مرهف أكثر مما يحتاج إليه الإنسان العادي، شأنه في ذلك شأن أي فنان. ولا يتعين عليه أن ينظر حوله ليرصد أهمية كل حركة من حركات السلوك البشري فحسب، ولكن يتعين عليه أيضا أن يتمكن من الإيحاء بتلك الأهمية على نحو جلي لينقلها إلى الآخرين الذين لا يتمتعون بالضرورة بما يتمتع به هو من قدرة فريدة على الفهم وقدرة على وضع هذا الفهم في شكل فني جميل.
ولا بد أن يدرك الممثل أننا لا نستوعب العالم الذي حولنا عن طريق الذهن فحسب، ولا عن طريق الذهن فقط نفهم فكرة أي مسرحية. إننا نفهم الجوع بالجوع، واللمس باللمس، ومتعة الإبصار بالأبصار، ونفهم الحب بالحب. إننا نفهم بالذهن أشياء "عن" ذلك كله، ولكن للجسم طرقه في الفهم التي لا يجاريه فيها الذهن. وتعمل حواسنا بالاستجابة للمؤثرات الخارجية، وتخلف هذه المؤثرات انطباعها على العضو من الجسم الذي وقعت عليه. وبامكاننا أن نعود فيما بعد لنعاين هذا الانطباع ونستعيد الإحساس ونتذكره سواء كان جوعا أو ألما أو حتى اثر الرياح الباردة على وجوهنا، ونحس بالفرح أو الألم.
القدرة على العمل المضني: تتطلب مهنة التمثيل ساعات طويلة من العمل والجهد والمثابرة. وقبل أن ترفع الستارة في العرض الأول، يكون الممثل قد أمضى أسابيع من الإعداد والدراسة والمناقشة تحت الضغط الذي يفرضه موعد العرض الأول. ولا بد أن يكون الممثل قادرا على تحمل العمل لساعات طويلة، وتحمل عبء تكرار العمل في المشهد الواحد مرة بعد مرة، وتحمل الانتظار وما فيه من توتر ما بين المشاهد للصعود إلى الخشبة. كل ذلك يتطلب مقدرة بدنية وعصبية كبيرة.
المظهر البدني: لا شك أن الطول وتناسق الجسم يعتبران ميزة للممثل. ولكن على كل ممثل أن يسعى جاهدا لتطوير ما يتمتع به من خصائص بدنية. وعلى الممثل الطويل أو القصير أو البدين إلى حد مفرط أن يعي هذه الخصائص وان يعمل على تطوير نفسه في حدود ما تجيزه. وعلى مثل هذا الممثل أن يذكر أنه في تاريخ المسرح الطويل كان هناك ممثلون كثيرون استطاعوا أن يجعلوا المظهر البدني أمرا قليل الأهمية نسبيا نظرا إلى ما كانوا يتمتعون به من جد واجتهاد وتميز كفنانين.
الجمهور شريك في العملية الإبداعية
يحضر الناس إلى المسرح لمشاهدة عرض مسرحي لأنهم يتمتعون بنصيب من الغريزة الدرامية، ولأنهم يرغبون في الحصول على نصيب من الخبرة الدرامية. والجمهور هو النصف الثاني المهم في العملية الإبداعية، وهو المتلقي المتشوق لمشاهدة العرض، الراغب في التخلي عن الاعتقاد – لفترة – بأن الواقع الحقيقي هو وحده الذي يمكن الركون إليه، وفي تبني الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع – عندما يريد – أن يستحدث واقعا آخر.
واستجابة الجمهور للعرض ذات اتجاهين: خارجي وداخلي. تتجلى استجابته الخارجية بالضحك أو التصفيق أو البكاء. أما استجابته الداخلية فهي أنشط حركة وأكثر تنوعا وأعمق أثرا. وإذا قدر لنا أن نلمح ما يدور في داخل المتفرج أثناء العرض فإننا سنرى جملة متشابكة من العمليات الذهنية والانفعالية والحسية، تتصاعد وتزداد تعقيدا قبل أن تهبط وتتلاشى لتفسح المجال لعمليات أخرى. وبفضل هذه العمليات الداخلية يستطيع الجمهور أن يؤدي بعضا من عمل الممثل وأن يساعد فيه. ونعلم أن أحد المنشطات القوية للاستجابة عند المتلقي في أي فن هو قوة الإيحاء. فليس ثمة فكرة أو عاطفة يثيرها الممثل تبقى في شكلها الأصلي عندما يتلقفها الجمهور ويتفاعل معها. فما أن تصل الفكرة إلى المتلقي حتى تبدأ عملية نمو في داخله، وتكبر الأفكار والعواطف وتتوسع بشكل يتناسب مع قوة الإيحاء. ولا فائدة من الذهاب إلى المسرح دون هذه الفرصة للمشاركة.
ومعروف أن المسرح يناقش موضوعات وقضايا ممتعة، ولكن من المعروف أيضا أنه يثير موضوعات وقضايا تتسم بكثير من السوداوية والعنف. ولا شك أن رواد المسرح يعرفون ذلك، وهم يقبلون به ويجهزون أنفسهم له. ومع ذلك فإننا في الحياة نحاول تجنب ما هو غير جميل وما هو حزين ومؤسف ومؤلم، ونحاول تجنب خيبات الأمل واليأس. ولكن المسرح يعنى بهذه الموضوعات على نحو متواصل في ما يعرضه من مسرحيات إلى درجة أن أعظم المسرحيات التي عرضت على الخشبة في مختلف العصور مفعمة باليأس والقتل والموت.
لماذا إذن نحرص على مشاهدة العروض المسرحية بالرغم مما فيها من إحباطات وهزائم وآلام؟ ما هو الممتع في مسرحية سوفوكليس "الملك أوديب" بكل ما فيها من عدوان وقحط وألم وفقدان للبصر؟ وهل الوحدة القاسية التي يعيشها هاملت جذابة بما فيه الكفاية لتجذبنا لمشاهدة المسرحية والمشاركة في الإحساس بتلك الوحدة؟ هل من الممتع حقا أن نشاهد عرضا لمسرحية تنيسي ويليامز "عربة اسمها الرغبة" التي تقطع فيها البطلة بلانش دوبوا صلتها بالواقع وتغمس نفسها في عالم من الجنون، أو أن نشاهد عرضا لمسرحية يوجين أونيل "رحلة يوم طويل إلى الليل" وفيها ما فيها من انحلال وإدمان وانهيار؟ بالرغم من هذا كله نذهب إلى المسرح، ممثلين ومتفرجين، منذ قرون من الزمان لمشاهدة الأشياء نفسها التي نرتعد لها في الحياة ونبذل كل ما في وسعنا لتجنبها. لماذا؟
في المسرح نشبع حاجتنا إلى تجارب إنسانية لا حصر لها دون مجازفة. ومعاناتنا عند مشاهدة الموت والعذاب كما في "هاملت" و"الملك لير" هي معاناة من نوع خاص تنتهي بمجرد انتهاء العرض المسرحي. إننا نستمتع بكل شيء في الخبرة بما في ذلك القتل والموت كما في موت روميو وجولييت، ونحن أحياء وأصحاء. وعلى ذلك فان بامكاننا أن نشارك في الخبرة الدرامية إلى أقصى حد ممكن ونحن في أمان وسلام، ونستطيع أن ننغمس في الخبرة بشكل كامل لعلمنا أن الخبرة لا تعدو كونها خيالا في خيال.
الجمهور والحس المسرحي
يُبقي الحس المسرحي الممثل على صلة مباشرة بجميع عناصر الخبرة الدرامية بما في ذلك العلاقة بينه وبين الجمهور. فعن طريق الاستجابة الجماعية للجمهور يعرف مدى فاعلية ما يعرضه على الخشبة. وبالرجوع إلى ما توفر لديه من خبرات مسرحية يستفيد مما يبديه الجمهور من استجابة للعرض. وبالتالي فانه يتعين عليه أن يتعلم قراءة استجابة الجمهور. عندما يكون الممثل على الخشبة يستطيع أن يحس باستجابة الجمهور على اختلاف أنواعها وأحجامها. ومن اليسير أن يفهم استجابات صارخة كالضحك والبكاء، كما أن التصفيق الحاد عند نهاية مشهد من المشاهد دليل على نجاحه في أداء دوره. والتصفيق المؤدب يختلف عن التصفيق الودّي وكلاهما يختلف عن التصفيق الفاتر.
ويصعب أحيانا قراءة موقف الجمهور من الخبرة المسرحية دون تعبير واضح كالضحك والتصفيق. ولكن الممثل أمام استجابة جماعية، ومن الأسهل قراءة الاستجابة الجماعية من قراءة استجابة فردية. والحقيقة أن الحس المسرحي يمكن أن يطور إلى درجة يمكن بها للممثل أن يتعرف إلى ردود أفعال الجمهور بالاعتماد على ملاحظة أفراد متناثرين هنا وهناك في صالة المسرح. ويستطيع الممثل أن يتعلم الكثير بالوقوف خلف الجمهور في مواجهة الخشبة، فالمراقب الحاذق يستطيع أن يرى من ذلك الموقع العرض على الخشبة والجمهور ككل واحد، ويستطيع أن يرى الخبرة الدرامية برمتها أمامه بشكل مباشر. وبمراقبة عرض بعد عرض من المسرحية ذاتها يستطيع الممثل أن يتمثل جوهر الحس المسرحي.
وعندما يحدث ذلك يدرك الممثل أن هذا التمثيل يشكل كيانه كله، ويدرك عناصر معينة من الحس المسرحي على نحو عقلاني، ولذلك يتمكن من الحديث عن هذه العناصر وأن يشرحها للآخرين. ويدرك أيضا عناصر إضافية على نحو وجداني، ومن هذه العناصر الإحساس بأنه جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية كلها. ويدرك عندئذ كيف أن صورته تتعدد بعدد من في الصالة من جمهور. ويدرك كذلك أشياء أخرى ويستوعب المجرد كما لو أن الجمهور هتف بشكل جماعي وبصوت واحد.
لندن - بريطانيا
zedhakim@yahoo.co.uk