«.. نعم كنت متفقا مع الأمير حول سلامة معظم وجهات نظره، ولكن موقعي الرسمي آنذاك كان لا يسمح لي بالجهر بذلك، وكان علينا كلانا، أن نستمر في تكثيف الاتصالات في ما بيننا وتبادل الرؤى والخطط لتحقيق ما كنا نعتقده سليما من أفكار ومبادئ بالتدريج وبدون صخب زائد، فمعسكر الخصم كان من القوة بما كان». الكلام هنا لعبد الله إبراهيم متحدثا عن عبد الكريم الخطابي. هذا الكلام يبدو كافيا لفهم الحرج الذي وجد فيه هذا السياسي نفسه بسبب منصبه كوزير أول. لم يكن يحتفظ بعلاقة طيبة مع محيط الحسن الثاني، خصوصا مع مولاي أحمد العلوي، الذي كان مشرفا على الإعلام لعقود.. فهل كان عبد الله ابراهيم غير محظوظ فقط، أم أن لعنة ما كانت تطارده طيلة حياته؟
الكواليس السرية في حياة واحد من أغرب رؤساء الحكومات
في الأوراق التي رفعت عنها الخارجية الأمريكية السرية، بفعل التقادم، توجد ملامح قريبة لعبد الله إبراهيم، الاتحادي الذي قاد حكومة في ظروف عجيبة وغريبة، انتهت ولايتها في غضون سنة، لتتيح المجال للحكومة التي ترأسها الحسن الثاني قبل أن يصبح ملكا.
من يكون هذا الرجل الذي كان ينتمي إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية -قادما إليه بعد معارك كبيرة بين الشورى وبين الاستقلال واعتقالات كثيرة- عندما تم تطويق المطبعة التي كانت تصدر جريدة التحرير، وهي العملية التي نتج عنها اعتقال عدد من أبناء حزب عبد الله إبراهيم، وتقديمهم إلى المحاكمة بتهمة الإساءة إلى الدولة من خلال ما تنشره الجريدة؟ موقف لا يُحسد عليه عبد الله إبراهيم، لأنه كان يمثل إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة أيضا «البروفايل» الاتحادي الذي يجمع بين علاقته بالمناضلين الاتحاديين الشبان المتحمسين، وبين العلاقة التي راكمها بفعل احتكاكه بالملك محمد الخامس، لكن ما ميّز عبد الله إبراهيم عن بوعبيد وبن بركة، أنه كان وزيرا أول، وهي الصفة التي لم يصل إليها أي اتحادي قبله ولا بعده إلا في السنوات الأخيرة من عمر الملك الراحل، عندما جاءت تجربة حكومة التناوب التي كان عبد الرحمن اليوسفي هو البروفايل المعتمد لإنجاحها.
عبد الله إبراهيم الذي توفي سنة 2005، كان شاهدا على محطات سياسية كثيرة، أولها المفاوضات واللقاءات التي كان يعقدها الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من المنفى، لترتيب الأجواء السياسية في المغرب والحصول على الاستقلال من فرنسا. وقتها كان عبد الله إبراهيم قد حصل من التجربة ما يسمح له بدخول محيط الملك الراحل، وفي سنة 1960 سيكون مرافقا له، بصفته وزيرا أول، إلى مصر، حيث سيلتقي مع عبد الكريم الخطابي في أجواء غير عادية، سيعترف خلالها عبد الله إبراهيم لمحمد لومة، الذي أشرف على تسجيل لقاءات خاصة بينه وبين عبد الله إبراهيم، تشكل نواة مذكرات تجربة الأخير.. سيعترف أن علاقته بعبد الكريم الخطابي كانت وطيدة إلى الحد الذي ستجر عليه إحراجا، يتمثل في عدم قدرته على البوح باتفاقه مع عبد الكريم الخطابي في عدد من آرائه.. والسبب هو منصبه الوزاري.
بالعودة إلى نقطة وثائق الخارجية الأمريكية، وإلى بعض المراسلات التي أعدها مكتب السفير الأمريكي في الرباط خلال سنوات الستينات، والتي تعتبر كلها تقارير عن اجتماعاته مع بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين المغاربة، فإن الملامح الخفية لعبد الله إبراهيم كانت واضحة بين السطور..
تقول إحدى المراسلات المرقمة تحت ترتيب 118Q/159، إن أحد المسؤولين العسكريين في القاعدة الأمريكية كان قد التقى بعض العسكريين الفرنسيين، بالإضافة إلى عبد الله إبراهيم برفقة بعض المثقفين المغاربة في إحدى المناسبات في الإقامة الملكية بالرباط، ودار بينهما نقاش مسترسل، حول العلاقات المغربية مع بعض الدول الكبرى، ورؤية الأحزاب السياسية المغربية لهذه العلاقات، لينقل عبد الله إبراهيم خلال اللقاء بعض مخاوفه من محيط الملك الحسن الثاني، مشككا في قدراتهم الدبلوماسية. عبد الله إبراهيم تحدث وقتها باعتباره وزيرا أول، أسبق، وكان، بحسب شهادة هذا المسؤول العسكري، متذمرا مما أسماه «إقصاء» له.
تلتقي بعض جوانب هذا التقرير، الذي لا بد أنه لا يخلو من مصداقية، مع بعض ملامح شخصية عبد الله إبراهيم الذي بقي جانب من حياته غامضا، خصوصا عندما نتحدث عن ماي 1960.. الشهر الذي أعفيت فيه الحكومة التي كان هو على رأسها.
هكذا وصل عبد الله إبراهيم إلى الكرسي المشتعل للوزارة الأولى
لكي تفهم بعض جوانب حياة عبد الله إبراهيم، لا بد أولا أن تعرف المسار الذي بدأه في حياته ليصل إلى منصب الوزير الأول نهاية سنة 1958. فالبداية كانت في مراكش، عندما عاصر تبعات الظهير البربري والمواجهات مع مخازنية الباشا «الكلاوي»، ليجرب الاعتقال السياسي لأول مرة تليها مرات أخرى، تجاوزت ثمانية اعتقالات، قبل أن يستقر به الحال في كرسي الوزارة الأولى، بعد أن أصبح قياديا بارزا في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
تأرجح في البداية بين حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال من خلال أنشطته في الكتلة التي سعى بلافريج إلى حثه على الانضمام إليها، ولم يكن الأخير يعلم أن الحياة تحمل لهما معا الكثير من المفاجآت، لأن عبد الله إبراهيم سيقود حملة معارضة كبيرة وشرسة ضد حكومة بلافريج، نهاية الخمسينات.
دعونا لا نستبق الأمور، فعبد الله إبراهيم، بدأ في كتابة المقالات التي حفرت اسمه بقوة في الساحة، قبل أن يطلب الزعماء السياسيون انضمامه كشاب يمكن الاستفادة من حيويته السياسية لاحقا، خصوصا وأن سنوات الأربعينات والثلاثينات شهدت أحداثا كثيرة، جرته إلى الاعتقال مجددا.
سيغادر عبد الله إبراهيم إلى فرنسا للدراسة، وهناك سيضيف إلى «بروفايله» بعض نقاط القوة التي سيلعب بها لاحقا في الساحة السياسية، وهي التي ستوصله إلى منصب الوزير الأول، بعد أن كان وزيرا في الحكومة التي قبلها، وبدأ يستأنس بالعمل الوزاري.
في حزب الاستقلال، سيتعلم عبد الله إبراهيم أولى قواعد عقد اللقاءات، خصوصا في سنوات الأزمة نهاية الأربعينات، وإلى أن جاءت مرحلة نفي محمد الخامس، وفي الانشقاق الشهير الذي قاده المهدي بن بركة لتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيكون عبد الله إبراهيم على موعد مع أولى المتاعب السياسية في مساره، لأن الانضمام إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كان سببا في ابتعاده عن دائرة القرار التي ضاقت أكثر حتى لا تستوعب رجلا مثله.
بعد تعيين حكومة امبارك البكاي، كان عبد الله إبراهيم، بصفته واحدا من السياسيين الاستقلاليين، يلقي بكامل «شغبه» احتجاجا على أول حكومة بعد استقلال المغرب، ولم يرض حتى بعد التعديل الحكومي الأول. وبعد مجيء حكومة بلافريج، كان عبد الله إبراهيم، يلعب في ملعب آخر، كاتحادي هذه المرة، ليُسقط بلافريج، بعد أن قال لبعض مقربيه إنه لم يكن يريد أن يحصل على وزارة مع بلافريج، في الوقت الذي كان يقال إن عبد الله إبراهيم كان يقود حملته المعارضة للحكومة بشراسة، فقط لأن بلافريج تحفظ على استوزاره.
ستمر الأشهر سريعة ليأتي دجنبر من سنة 1958، ويتم إعفاء حكومة بلافريج، وستثمر حينها مجهودات عبد الله إبراهيم التي بذلها في كفة المعارضة لإسقاط حكومة لم تعمر إلا أشهرا قليلة. وسيكون على عبد الله إبراهيم أن يشرب من الكأس نفسها بعد سنة ونصف السنة، لأن حكومته هي الأخرى لم تعمر طويلا.. هكذا سمحت الظروف بوصوله إلى منصب الوزير الأول، في وقت كانت فيه الدولة تتوجس من الاتحاديين، خصوصا أن نهاية ولايته التي لم تستمر أزيد من سنة ونصف السنة تقريبا، شهدت أحداث تضييق على الاتحاديين، لم تكن في صالح عبد الله إبراهيم.
سنأتي في هذا الملف على ذكر غرائبيات هذا الرجل الذي احترق سريعا فوق كرسي الوزارة، ولم يعد للجلوس عليه مرة أخرى، رغم أن البعض توقعوا له عندما أصبح وزيرا أول، أن يبقى كذلك لفترة ما، خصوصا أنه كان يلازم الملك محمد الخامس، وكانت حظوظه أقوى من سابقيه؟
هل هي لعنة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أخمدت بريق الرجل سريعا، أم أن عبد الله إبراهيم كان مجرد ورقة واحترقت؟
هكذا انطلقت العلاقة بين عبد الله إبراهيم وأمير الريف الخطابي
بقدوم سنوات الخمسينات، كان عبد الله إبراهيم قد أكمل تكوين «بروفايله» الشخصي ليصبح ملائما لتبوؤ منصب هام في الدولة. كانت تفصله ثماني سنوات عن رئاسة الحكومة، حتى يصبح رئيسا للوزراء بعد تجربتي كل من امبارك البكاي، وبلافريج. لكن قبل ذلك، وقبل حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956، كان عبد الله إبراهيم قد استطاع الوصول إلى نخبة الأسماء التي تتحرك باسم المغرب في المحافل الدولية، بعد سنوات قضاها في مراكش بين الكتابة الصحفية والسجن والنفي والدراسة في فرنسا، ثم العودة إلى المغرب.
حدث مرة أن رافق عبد الله إبراهيم، الملك الراحل محمد الخامس إلى مصر، وكانت الزيارة فرصة للقاء بين محمد الخامس وعبد الكريم الخطابي. كيف تم اللقاء بين الرجلين في بيت الخطابي؟ يقول عبد الله إبراهيم إنه زار في البداية بيت عبد الكريم الخطابي لوحده، تمهيدا للقاء بينه وبين الملك محمد الخامس.
المثير أن عبد الله إبراهيم قال في مذكراته، إن عبد الكريم الخطابي قبل عقد اللقاء بينه وبين الملك محمد الخامس على مضض، وإنه لم يكن موافقا في البداية، إلا بعد أن أكد له عبد الله إبراهيم على أهمية اللقاء. لم يفصح عبد الله إبراهيم أبدا عن مضمون الزيارة الأولى ولا الثانية، لأن الخطابي التقى الملك محمد الخامس في بيته بالقاهرة مرتين. المقابلة الأولى كانت مغلقة، أما الثانية فقد حضرها بعض موظفي القصر الملكي والصحافيين أيضا.
يقول عبد الله إبراهيم إنه لاحظ أثناء اللقاء الثاني في دار جمال عبد الناصر، أن الملك الراحل محمد الخامس جلس إلى جانب عبد الكريم الخطابي، وإلى جواره ابنه الأمير مولاي عبد الله.. بعكس اللقاء الأول الذي كان فيه عبد الله إبراهيم يجلس بجانب الملك محمد الخامس مباشرة.
لا شك أن مرتبي البروتوكول الملكي قد أعادوا جدولة شكل الجلسة بين الملك محمد الخامس وعبد الكريم الخطابي، وهو الأمر الذي لم يرق كثيرا لعبد الله ابراهيم حيث رأى فيه إجحافا له، خصوصا أنه، كما قال بنفسه، سعى لترتيب اللقاء منذ البداية. كان يشتم وقتها رائحة طبخة، هي التي ستفسر في ما بعد سر الجفاء بينه وبين مولاي أحمد العلوي.. الرجل المقرب من الملك الحسن الثاني وصانع الصحافة الرسمية.
كيف نشأت العلاقة بين عبد الله إبراهيم وبين أمير الريف إذن؟ بحسب بعض المعطيات التاريخية المتوفرة، ومن بينها وثائق دبلوماسية للخارجية الأمريكية، رفعت عنها السرية قبل حوالي تسع سنوات فقط، فإن عبد الله إبراهيم كانت لديه علاقة وطيدة مع عبد الكريم الخطابي خلال وجوده في مصر، وأنه كان يلتقي أحد أبناء الأمير في الرباط. هذا الأمر أكده عبد الله إبراهيم بنفسه، عندما قال إن ابن الأمير الخطابي، كان يأتي من مصر بانتظام إلى المغرب، وكان يلتقي بعبد الله إبراهيم في جلسات خاصة، يبلغه فيها بعض التوجيهات الشفهية التي كان يرسلها إليه عبد الكريم الخطابي.
الأكثر من هذا أن عبد الله إبراهيم، كان قد توسط لدى الملك الراحل محمد الخامس، لكي يتم ترتيب إعادة ممتلكات عائلة عبد الكريم الخطابي لأبنائه، والتي تعرضت للسرقة والنهب بعد نفيه. وهو ما يعني أن صداقة كبيرة كانت قد نشأت بين الرجلين.
لا يخفى على أحد أن دائرة كبيرة من السرية ظلت جاثمة على ملف عبد الكريم الخطابي، وسر بقاء رفاته في مصر دون المبادرة لإعادته إلى المغرب فور وفاته.. كان موضوع السلاح في الريف والأحداث التي دارت هناك خلال نهاية الخمسينات، مقلقا للغاية، ولا شك أنه لعب دورا في غموض هذه العلاقة، رغم التواصل الذي كان مفتوحا بينه وبين القصر، كما شهد على ذلك عبد الله إبراهيم شخصيا.
المثير في الأمر، أن رئيس الوزراء الأسبق، يقول إنه لم يكن قادرا على الجهر بعلاقته مع عبد الكريم الخطابي، وقال في محادثاته التي جمعها له الباحث محمد لومة، لتكون نواة لمذكراته التي شهد فيها على تجربته السياسية، ما يلي: «.. نعم كنت متفقا مع الأمير حول سلامة معظم وجهات نظره، ولكن موقعي الرسمي آنذاك كان لا يسمح لي بالجهر بذلك، وكان علينا، كلانا، أن نستمر في تكثيف الاتصالات في ما بيننا وتبادل الرؤى والخطط لتحقيق ما كنا نعتقده سليما من أفكار ومبادئ بالتدريج وبدون صخب زائد، فمعسكر الخصم كان من القوة بمكان».
دوامة المؤامرات الكبيرة ضد الدولة
كان وضع عبد الله ابراهيم مختلفا عن وضع عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري وآخرين، وحتى عن المهدي بن بركة الذي كان خلال سنوات 1963 و1964 يعيش متجولا فوق الخريطة قبل أن يستقر في فرنسا، حيث سيختفي أثره نهائيا سنة 1965.
منذ صيف سنة 1958 وعبد الله إبراهيم يقود حملة معارضة كبيرة ضد حكومة بلافريج، وإلى جانبه قياديون آخرون من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولم يتأتَ إسقاط تلك الحكومة إلا في خريف تلك السنة، ليأتي الشتاء بتنصيب عبد الله إبراهيم على رأس حكومة مغربية جديدة.
المثير في الأمر أن بعض الاتهامات وجهت إلى عبد الله إبراهيم الذي سعى إلى إسقاط حكومة بلافريج التي لم يتجاوز عمرها ستة أشهر فقط.. هذه الاتهامات تقول إن عبد الله إبراهيم سعى إلى إسقاط الحكومة وتفجيرها من الداخل، لأنه لم يحظ بأي كرسي وزاري داخلها.. وهو الأمر الذي نفاه عبد الله إبراهيم عن نفسه، واستمر في التبرؤ منه، حتى بعد مرور عقود طويلة على تلك الأحداث، آخرها في سنة 2005 فترة قصيرة فقط قبل وفاته. عبد الله إبراهيم دافع عن نفسه بالقول إنه لم يسع إلى معارضة الحكومة والمطالبة بإسقاطها، لأنه لم يحظ بمنصب وزاري، وقال إنه عُرض عليه أن يكون وزيرا داخلها ورفض قطعا، ليقود حملة معارضة أسقطت تلك الحكومة بعد 6 أشهر فقط على تنصيبها.
سيعيش عبد الله إبراهيم امتحانا عسيرا، يتمثل في اعتقال محمد الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، في إطار ما عرف وقتها بقضية جريدة «التحرير»، والتي كانت تنشر مقالات لم تكن تعجب مولاي أحمد العلوي، الذي كان يمسك كل ما يتعلق بالإعلام في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. هذا الاعتقال جاء سنة بالضبط بعد تعيين حكومة عبد الله إبراهيم، إذ لم تكد سنة 1959 تنتهي، حتى تم تطويق المطبعة التي تُصدر جريدة «التحرير» ليتم اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، وبعدهما بأسبوع فقط، أي في يناير 1960 سيفر المهدي بن بركة بجلده إلى الخارج، وهكذا سيصبح عبد الله ابراهيم في موقف محرج، لأنه يشغل منصب رئيس الوزراء ولم يكن بمقدوره أن يتدخل من أجل رفاقه، خصوصا أنه يشاركهم الكثير من الرؤى والاهتمامات، حتى أن مساره كان شبيها بمسارات الكثيرين منهم.. عموما، فإن عبد الله إبراهيم لم يعمر طويلا على رأس الحكومة، وسيتم إعفاؤه في ماي 1960، لتأتي الحكومة التي كان يرأسها الحسن الثاني عندما كان وليا للعهد، وكأنه يوجه رسالة لعبد الله إبراهيم، مفادها أن القصر لن يسمح مجددا بوجود حكومة خارجة عن رحم الإرادة الملكية، خصوصا أن بعض الأطروحات الاتحادية، تقول إن عبد الله إبراهيم كان «تقدميا، بفلسفة خاصة في تقدير الأمور»، على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، لأنه لم يستقل فور اعتقال عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري وفرار المهدي بن بركة إلى الجزائر. ولم تهدأ العاصفة إلا بطي الملف وإصدار العفو عن الملاحقين، ويعود المهدي بن بركة بعد حوالي السنتين إلى المغرب.. وكان وقتها عبد الله إبراهيم قد غادر الحكومة.
في هذه المرحلة بالذات، أي ما بعد 1962، كان الخناق يشتد على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ليصبح حزبا مغربيا غير مرغوب فيه، وستصدر في حق أعضائه اتهامات ثقيلة تتأرجح بين المس بأمن الدولة وإسقاط النظام، لتصدر أحكام بالإعدام في حق عدد كبير من الاتحاديين. في ماذا كان يفكر عبد الله إبراهيم وقتها؟ لا بد أنه كان يفهم جيدا أن صراعه كمعارض نجح في الوصول إلى كرسي رئاسة الوزراء في وقت سابق، لن يوصله إليه من جديد، لأن المناخ السياسي المغربي تغير كثيرا، خصوصا وأن الذين كان يحاربهم أيام الملك محمد الخامس في الجبهات الخلفية، أصبحوا في الصف الأمامي في السلطة في بداية عهد الملك الحسن الثاني.
العداوة الثابتة مع مولاي أحمد العلوي
حتى قبل أن يصبح عبد الله إبراهيم رئيسا للوزراء، بعد الخلافات الكبيرة التي أدت إلى إنهاء تجربتي حكومتي امبارك البكاي والحكومة الأخرى التي ترأسها بلافريج والتي استبعد منها عبد الله إبراهيم، كان هناك سوء فهم بينه وبين أحمد العلوي، الذي كان ممسكا بحدود المربع الملكي المحيط بالحسن الثاني، منذ أن كان الأخير وليا للعهد ومتحكما في الصحافة الرسمية أيضا. وكان عبد الله إبراهيم يخبر مقربيه، كما أنه قال في بعض أوراق مذكراته، التي جمعها الباحث محمد لومة، إن أحمد العلوي كان لا يضيع فرصة ليخبر جلساءه وأصدقاءه أن حكومة عبد الله إبراهيم لن تعمر طويلا وأن «أيام المشماش» ستنقضي سريعا.
عبد الله إبراهيم، القادم إلى رئاسة الحكومة أواخر أيام سنة 1958، بخلفية نضالية عرف خلالها مرارة الاعتقالات قبل الاستقلال والنفي أيضا، ليحط رحاله مع مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لم يكن ليتوافق مع نموذج أحمد العلوي، الذي كان مشرفا على ديوان الملك الحسن الثاني، قبل أن يصبح وزيرا للإعلام لفترة طويلة. الأول قادم من مدرسة «فائرة» بصمها مساره النضالي في مراكش، وبروز اسمه في مقالات صحفية نشرت في جرائد وطنية وعربية، ثم تجارب الاعتقال إثر المواقف الوطنية، ومرحلة الدراسة في فرنسا ليعود بعدها إلى المغرب. أما مولاي أحمد العلوي، فقد كان عبد الله إبراهيم يتهمه دائما بأنه عاد من فرنسا بدون شهادات لا في الطب ولا في الصحافة، ولم يكن يستسيغ المكانة الاعتبارية التي يحظى بها العلوي لدى الملك الحسن الثاني.
انتماؤه إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لوحده، كان كفيلا بالحكم على العلاقة بينه وبين مولاي أحمد العلوي بالفشل. فرموز الحزب كانوا دائما على علاقة غير مستقرة بالدولة، ولم يكن عبد الله إبراهيم ليخرج عن هذا النهج أيضا، خصوصا أن سنة توليه لرئاسة الحكومة، أي في دجنبر 1958، كانت تشهد زلزالا سياسيا عنيفا في المغرب، بين حزب الاستقلال، الذي يعرفه عبد الله إبراهيم جيدا، وبين إرادة أخرى كانت تدعم عودة امبارك البكاي، حتى بعد فشل نسخة حكومته الثانية.. ورغم ذلك فإن حكومة عبد الله إبراهيم تعرضت هي الأخرى لوابل من الانتقادات لإسقاطها منذ تأسيسها، ولم تشفع لعبد الله إبراهيم تجاربه السابقة التي عاشها وزيرا للشؤون الاجتماعية في النسخة السابقة، لكي يتجنب الارتطام بالجدار.
بحسب المقربين من عبد الله إبراهيم، فإن أحمد العلوي لم يكن بالنسبة إليه إلا رجلا محظوظا بقربه من الحسن الثاني، وليا للعهد، ثم ملكا، وقال عنه أكثر من مرة إنه مجرد مرافق خاص للملك، وليس رجل دولة ولا مؤهلا لتبوؤ المناصب الوزارية. «المضايقات» التي كان ينتهجها مولاي أحمد العلوي في الانتقاص من تجربة عبد الله إبراهيم السياسية كانت على أوجها عندما تنبأ لحكومته بالفشل، وكان عبد الله إبراهيم يعلم أن مولاي أحمد العلوي كان ينتقد جميع الحكومات تقريبا، وازداد التباعد بين الرجلين خلال سنوات الستينات، عندما تأزمت العلاقة بين الدولة وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وواجه الحزب قرارات بسجن أعضائه ورموزه ومنخرطيه.
هل كان عبد الله إبراهيم انقلابيا؟
بعد عودة المهدي بن بركة إلى المغرب من منفاه الأول، حيث عاش فترة في الجزائر وفرنسا، ليعود إلى المغرب عندما لاحت بوادر المصالحة مع الدولة لطي ملف جريدة «التحرير».. كان عبد الله إبراهيم هادئا على غير عادته، رغم أنه لم تمر إلا سنتان على حل الحكومة التي كان هو رئيسا لها.
في ربيع السنة نفسها كان الحزب قد عقد مؤتمره الوطني بشكل غير عادي، وسط أحداث غير عادية.. رغم الهدنة المعلنة مع الدولة.. وقتها، وهذا أمر يشهد عليه قدماء الحزب ومؤسسوه، كان عبد الله إبراهيم قد تحفظ على اعتماد التقرير الذي أعده المهدي بن بركة، ولم يكن أحد يحتاج إلى كثير من الذكاء، ليفهم أن هناك تحفظا على المهدي بن بركة من لدن الجهات الرسمية، حتى بعد عودته إلى المغرب.
من جديد، وجد عبد الله إبراهيم نفسه في موقف محرج، خصوصا أنه لم يقدم أي تفسير للمؤتمرين حول السبب الحقيقي لعدم اعتماد التقرير الذي أعده المهدي بن بركة.
ستجيب السنوات اللاحقة عن هذه القضية، لأن الأمر كان يرتبط بـ«الاختيار الثوري» الذي وقّعه المهدي بن بركة، وسيصبح لوحده تهمة ثقيلة في وجه جميع المنخرطين والقياديين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خصوصا أن السنة الموالية، أي 1963 ستكون مسرحا لتهمة كبيرة وجهت إلى الاتحاديين وأدت إلى اعتقال أزيد من مائة شخص، من بينهم قياديون بارزون في الحزب، وصدر الحكم ضد نسبة مهمة منهم بالإعدام.. أحدهم كان محمد الفقيه البصري الذي فر إلى الجزائر حتى لا تطوله المشنقة، علما أن عبد الله إبراهيم كان أحد أصدقائه المقربين، وشاركه مخاض ميلاد الحكومات التي شارك فيها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
إلى هذا الحد كان عبد الله إبراهيم منصهرا داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رغم أنه بقي بعيدا عن أجواء المحاكمات والاعتقالات؟ ربما يكون منصبه السابق والأمور الكثيرة التي كان شاهدا عليها أيام الملك الراحل محمد الخامس، إلى جانب المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، كفيلة بإبعاده عما كان يتورط فيه «شبان» الحزب المتحمسون، والذين كان على رأسهم وقتها كل من عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري. قد يكون الأمر محصورا في هذا التعليل المرتبط بجيلي الحزب، لكن السياسة تقول إن الأمر كان أكبر من هذه التأويلات، لأن عبد الله إبراهيم كان قد دخل في حالة من «الحكمة» عندما تم توقيف تجربته الحكومية التي لم تعمر إلا سنة واحدة، ليشرب من الكأس ذاتها التي ذاقها قبله امبارك البكاي، ثم بلافريج، وتأتي بعده مباشرة الحكومة التي ترأسها الحسن الثاني أيام كان وليا للعهد. فهل فهم عبد الله إبراهيم قبل الجميع أن رؤيته وفهمه لمنصب رئيس الوزراء، كانا يختلفان تماما عن التصور الذي كان يضعه له الملك الحسن الثاني؟ إذا صح هذا الطرح فإنه لا يجوز، إنصافا للتاريخ على الأقل، أن ينعت أحد عبد الله إبراهيم بالرجل الانقلابي، حتى لو كان قياديا بارزا داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي وجهت إلى كل الذين نشطوا داخله، تهم ثقيلة تبدأ بزعزعة الأمن العام للبلد، وتنتهي عند محاولة قلب النظام.
الكواليس السرية في حياة واحد من أغرب رؤساء الحكومات
في الأوراق التي رفعت عنها الخارجية الأمريكية السرية، بفعل التقادم، توجد ملامح قريبة لعبد الله إبراهيم، الاتحادي الذي قاد حكومة في ظروف عجيبة وغريبة، انتهت ولايتها في غضون سنة، لتتيح المجال للحكومة التي ترأسها الحسن الثاني قبل أن يصبح ملكا.
من يكون هذا الرجل الذي كان ينتمي إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية -قادما إليه بعد معارك كبيرة بين الشورى وبين الاستقلال واعتقالات كثيرة- عندما تم تطويق المطبعة التي كانت تصدر جريدة التحرير، وهي العملية التي نتج عنها اعتقال عدد من أبناء حزب عبد الله إبراهيم، وتقديمهم إلى المحاكمة بتهمة الإساءة إلى الدولة من خلال ما تنشره الجريدة؟ موقف لا يُحسد عليه عبد الله إبراهيم، لأنه كان يمثل إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة أيضا «البروفايل» الاتحادي الذي يجمع بين علاقته بالمناضلين الاتحاديين الشبان المتحمسين، وبين العلاقة التي راكمها بفعل احتكاكه بالملك محمد الخامس، لكن ما ميّز عبد الله إبراهيم عن بوعبيد وبن بركة، أنه كان وزيرا أول، وهي الصفة التي لم يصل إليها أي اتحادي قبله ولا بعده إلا في السنوات الأخيرة من عمر الملك الراحل، عندما جاءت تجربة حكومة التناوب التي كان عبد الرحمن اليوسفي هو البروفايل المعتمد لإنجاحها.
عبد الله إبراهيم الذي توفي سنة 2005، كان شاهدا على محطات سياسية كثيرة، أولها المفاوضات واللقاءات التي كان يعقدها الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من المنفى، لترتيب الأجواء السياسية في المغرب والحصول على الاستقلال من فرنسا. وقتها كان عبد الله إبراهيم قد حصل من التجربة ما يسمح له بدخول محيط الملك الراحل، وفي سنة 1960 سيكون مرافقا له، بصفته وزيرا أول، إلى مصر، حيث سيلتقي مع عبد الكريم الخطابي في أجواء غير عادية، سيعترف خلالها عبد الله إبراهيم لمحمد لومة، الذي أشرف على تسجيل لقاءات خاصة بينه وبين عبد الله إبراهيم، تشكل نواة مذكرات تجربة الأخير.. سيعترف أن علاقته بعبد الكريم الخطابي كانت وطيدة إلى الحد الذي ستجر عليه إحراجا، يتمثل في عدم قدرته على البوح باتفاقه مع عبد الكريم الخطابي في عدد من آرائه.. والسبب هو منصبه الوزاري.
بالعودة إلى نقطة وثائق الخارجية الأمريكية، وإلى بعض المراسلات التي أعدها مكتب السفير الأمريكي في الرباط خلال سنوات الستينات، والتي تعتبر كلها تقارير عن اجتماعاته مع بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين المغاربة، فإن الملامح الخفية لعبد الله إبراهيم كانت واضحة بين السطور..
تقول إحدى المراسلات المرقمة تحت ترتيب 118Q/159، إن أحد المسؤولين العسكريين في القاعدة الأمريكية كان قد التقى بعض العسكريين الفرنسيين، بالإضافة إلى عبد الله إبراهيم برفقة بعض المثقفين المغاربة في إحدى المناسبات في الإقامة الملكية بالرباط، ودار بينهما نقاش مسترسل، حول العلاقات المغربية مع بعض الدول الكبرى، ورؤية الأحزاب السياسية المغربية لهذه العلاقات، لينقل عبد الله إبراهيم خلال اللقاء بعض مخاوفه من محيط الملك الحسن الثاني، مشككا في قدراتهم الدبلوماسية. عبد الله إبراهيم تحدث وقتها باعتباره وزيرا أول، أسبق، وكان، بحسب شهادة هذا المسؤول العسكري، متذمرا مما أسماه «إقصاء» له.
تلتقي بعض جوانب هذا التقرير، الذي لا بد أنه لا يخلو من مصداقية، مع بعض ملامح شخصية عبد الله إبراهيم الذي بقي جانب من حياته غامضا، خصوصا عندما نتحدث عن ماي 1960.. الشهر الذي أعفيت فيه الحكومة التي كان هو على رأسها.
هكذا وصل عبد الله إبراهيم إلى الكرسي المشتعل للوزارة الأولى
لكي تفهم بعض جوانب حياة عبد الله إبراهيم، لا بد أولا أن تعرف المسار الذي بدأه في حياته ليصل إلى منصب الوزير الأول نهاية سنة 1958. فالبداية كانت في مراكش، عندما عاصر تبعات الظهير البربري والمواجهات مع مخازنية الباشا «الكلاوي»، ليجرب الاعتقال السياسي لأول مرة تليها مرات أخرى، تجاوزت ثمانية اعتقالات، قبل أن يستقر به الحال في كرسي الوزارة الأولى، بعد أن أصبح قياديا بارزا في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
تأرجح في البداية بين حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال من خلال أنشطته في الكتلة التي سعى بلافريج إلى حثه على الانضمام إليها، ولم يكن الأخير يعلم أن الحياة تحمل لهما معا الكثير من المفاجآت، لأن عبد الله إبراهيم سيقود حملة معارضة كبيرة وشرسة ضد حكومة بلافريج، نهاية الخمسينات.
دعونا لا نستبق الأمور، فعبد الله إبراهيم، بدأ في كتابة المقالات التي حفرت اسمه بقوة في الساحة، قبل أن يطلب الزعماء السياسيون انضمامه كشاب يمكن الاستفادة من حيويته السياسية لاحقا، خصوصا وأن سنوات الأربعينات والثلاثينات شهدت أحداثا كثيرة، جرته إلى الاعتقال مجددا.
سيغادر عبد الله إبراهيم إلى فرنسا للدراسة، وهناك سيضيف إلى «بروفايله» بعض نقاط القوة التي سيلعب بها لاحقا في الساحة السياسية، وهي التي ستوصله إلى منصب الوزير الأول، بعد أن كان وزيرا في الحكومة التي قبلها، وبدأ يستأنس بالعمل الوزاري.
في حزب الاستقلال، سيتعلم عبد الله إبراهيم أولى قواعد عقد اللقاءات، خصوصا في سنوات الأزمة نهاية الأربعينات، وإلى أن جاءت مرحلة نفي محمد الخامس، وفي الانشقاق الشهير الذي قاده المهدي بن بركة لتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيكون عبد الله إبراهيم على موعد مع أولى المتاعب السياسية في مساره، لأن الانضمام إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كان سببا في ابتعاده عن دائرة القرار التي ضاقت أكثر حتى لا تستوعب رجلا مثله.
بعد تعيين حكومة امبارك البكاي، كان عبد الله إبراهيم، بصفته واحدا من السياسيين الاستقلاليين، يلقي بكامل «شغبه» احتجاجا على أول حكومة بعد استقلال المغرب، ولم يرض حتى بعد التعديل الحكومي الأول. وبعد مجيء حكومة بلافريج، كان عبد الله إبراهيم، يلعب في ملعب آخر، كاتحادي هذه المرة، ليُسقط بلافريج، بعد أن قال لبعض مقربيه إنه لم يكن يريد أن يحصل على وزارة مع بلافريج، في الوقت الذي كان يقال إن عبد الله إبراهيم كان يقود حملته المعارضة للحكومة بشراسة، فقط لأن بلافريج تحفظ على استوزاره.
ستمر الأشهر سريعة ليأتي دجنبر من سنة 1958، ويتم إعفاء حكومة بلافريج، وستثمر حينها مجهودات عبد الله إبراهيم التي بذلها في كفة المعارضة لإسقاط حكومة لم تعمر إلا أشهرا قليلة. وسيكون على عبد الله إبراهيم أن يشرب من الكأس نفسها بعد سنة ونصف السنة، لأن حكومته هي الأخرى لم تعمر طويلا.. هكذا سمحت الظروف بوصوله إلى منصب الوزير الأول، في وقت كانت فيه الدولة تتوجس من الاتحاديين، خصوصا أن نهاية ولايته التي لم تستمر أزيد من سنة ونصف السنة تقريبا، شهدت أحداث تضييق على الاتحاديين، لم تكن في صالح عبد الله إبراهيم.
سنأتي في هذا الملف على ذكر غرائبيات هذا الرجل الذي احترق سريعا فوق كرسي الوزارة، ولم يعد للجلوس عليه مرة أخرى، رغم أن البعض توقعوا له عندما أصبح وزيرا أول، أن يبقى كذلك لفترة ما، خصوصا أنه كان يلازم الملك محمد الخامس، وكانت حظوظه أقوى من سابقيه؟
هل هي لعنة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أخمدت بريق الرجل سريعا، أم أن عبد الله إبراهيم كان مجرد ورقة واحترقت؟
هكذا انطلقت العلاقة بين عبد الله إبراهيم وأمير الريف الخطابي
بقدوم سنوات الخمسينات، كان عبد الله إبراهيم قد أكمل تكوين «بروفايله» الشخصي ليصبح ملائما لتبوؤ منصب هام في الدولة. كانت تفصله ثماني سنوات عن رئاسة الحكومة، حتى يصبح رئيسا للوزراء بعد تجربتي كل من امبارك البكاي، وبلافريج. لكن قبل ذلك، وقبل حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956، كان عبد الله إبراهيم قد استطاع الوصول إلى نخبة الأسماء التي تتحرك باسم المغرب في المحافل الدولية، بعد سنوات قضاها في مراكش بين الكتابة الصحفية والسجن والنفي والدراسة في فرنسا، ثم العودة إلى المغرب.
حدث مرة أن رافق عبد الله إبراهيم، الملك الراحل محمد الخامس إلى مصر، وكانت الزيارة فرصة للقاء بين محمد الخامس وعبد الكريم الخطابي. كيف تم اللقاء بين الرجلين في بيت الخطابي؟ يقول عبد الله إبراهيم إنه زار في البداية بيت عبد الكريم الخطابي لوحده، تمهيدا للقاء بينه وبين الملك محمد الخامس.
المثير أن عبد الله إبراهيم قال في مذكراته، إن عبد الكريم الخطابي قبل عقد اللقاء بينه وبين الملك محمد الخامس على مضض، وإنه لم يكن موافقا في البداية، إلا بعد أن أكد له عبد الله إبراهيم على أهمية اللقاء. لم يفصح عبد الله إبراهيم أبدا عن مضمون الزيارة الأولى ولا الثانية، لأن الخطابي التقى الملك محمد الخامس في بيته بالقاهرة مرتين. المقابلة الأولى كانت مغلقة، أما الثانية فقد حضرها بعض موظفي القصر الملكي والصحافيين أيضا.
يقول عبد الله إبراهيم إنه لاحظ أثناء اللقاء الثاني في دار جمال عبد الناصر، أن الملك الراحل محمد الخامس جلس إلى جانب عبد الكريم الخطابي، وإلى جواره ابنه الأمير مولاي عبد الله.. بعكس اللقاء الأول الذي كان فيه عبد الله إبراهيم يجلس بجانب الملك محمد الخامس مباشرة.
لا شك أن مرتبي البروتوكول الملكي قد أعادوا جدولة شكل الجلسة بين الملك محمد الخامس وعبد الكريم الخطابي، وهو الأمر الذي لم يرق كثيرا لعبد الله ابراهيم حيث رأى فيه إجحافا له، خصوصا أنه، كما قال بنفسه، سعى لترتيب اللقاء منذ البداية. كان يشتم وقتها رائحة طبخة، هي التي ستفسر في ما بعد سر الجفاء بينه وبين مولاي أحمد العلوي.. الرجل المقرب من الملك الحسن الثاني وصانع الصحافة الرسمية.
كيف نشأت العلاقة بين عبد الله إبراهيم وبين أمير الريف إذن؟ بحسب بعض المعطيات التاريخية المتوفرة، ومن بينها وثائق دبلوماسية للخارجية الأمريكية، رفعت عنها السرية قبل حوالي تسع سنوات فقط، فإن عبد الله إبراهيم كانت لديه علاقة وطيدة مع عبد الكريم الخطابي خلال وجوده في مصر، وأنه كان يلتقي أحد أبناء الأمير في الرباط. هذا الأمر أكده عبد الله إبراهيم بنفسه، عندما قال إن ابن الأمير الخطابي، كان يأتي من مصر بانتظام إلى المغرب، وكان يلتقي بعبد الله إبراهيم في جلسات خاصة، يبلغه فيها بعض التوجيهات الشفهية التي كان يرسلها إليه عبد الكريم الخطابي.
الأكثر من هذا أن عبد الله إبراهيم، كان قد توسط لدى الملك الراحل محمد الخامس، لكي يتم ترتيب إعادة ممتلكات عائلة عبد الكريم الخطابي لأبنائه، والتي تعرضت للسرقة والنهب بعد نفيه. وهو ما يعني أن صداقة كبيرة كانت قد نشأت بين الرجلين.
لا يخفى على أحد أن دائرة كبيرة من السرية ظلت جاثمة على ملف عبد الكريم الخطابي، وسر بقاء رفاته في مصر دون المبادرة لإعادته إلى المغرب فور وفاته.. كان موضوع السلاح في الريف والأحداث التي دارت هناك خلال نهاية الخمسينات، مقلقا للغاية، ولا شك أنه لعب دورا في غموض هذه العلاقة، رغم التواصل الذي كان مفتوحا بينه وبين القصر، كما شهد على ذلك عبد الله إبراهيم شخصيا.
المثير في الأمر، أن رئيس الوزراء الأسبق، يقول إنه لم يكن قادرا على الجهر بعلاقته مع عبد الكريم الخطابي، وقال في محادثاته التي جمعها له الباحث محمد لومة، لتكون نواة لمذكراته التي شهد فيها على تجربته السياسية، ما يلي: «.. نعم كنت متفقا مع الأمير حول سلامة معظم وجهات نظره، ولكن موقعي الرسمي آنذاك كان لا يسمح لي بالجهر بذلك، وكان علينا، كلانا، أن نستمر في تكثيف الاتصالات في ما بيننا وتبادل الرؤى والخطط لتحقيق ما كنا نعتقده سليما من أفكار ومبادئ بالتدريج وبدون صخب زائد، فمعسكر الخصم كان من القوة بمكان».
دوامة المؤامرات الكبيرة ضد الدولة
كان وضع عبد الله ابراهيم مختلفا عن وضع عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري وآخرين، وحتى عن المهدي بن بركة الذي كان خلال سنوات 1963 و1964 يعيش متجولا فوق الخريطة قبل أن يستقر في فرنسا، حيث سيختفي أثره نهائيا سنة 1965.
منذ صيف سنة 1958 وعبد الله إبراهيم يقود حملة معارضة كبيرة ضد حكومة بلافريج، وإلى جانبه قياديون آخرون من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولم يتأتَ إسقاط تلك الحكومة إلا في خريف تلك السنة، ليأتي الشتاء بتنصيب عبد الله إبراهيم على رأس حكومة مغربية جديدة.
المثير في الأمر أن بعض الاتهامات وجهت إلى عبد الله إبراهيم الذي سعى إلى إسقاط حكومة بلافريج التي لم يتجاوز عمرها ستة أشهر فقط.. هذه الاتهامات تقول إن عبد الله إبراهيم سعى إلى إسقاط الحكومة وتفجيرها من الداخل، لأنه لم يحظ بأي كرسي وزاري داخلها.. وهو الأمر الذي نفاه عبد الله إبراهيم عن نفسه، واستمر في التبرؤ منه، حتى بعد مرور عقود طويلة على تلك الأحداث، آخرها في سنة 2005 فترة قصيرة فقط قبل وفاته. عبد الله إبراهيم دافع عن نفسه بالقول إنه لم يسع إلى معارضة الحكومة والمطالبة بإسقاطها، لأنه لم يحظ بمنصب وزاري، وقال إنه عُرض عليه أن يكون وزيرا داخلها ورفض قطعا، ليقود حملة معارضة أسقطت تلك الحكومة بعد 6 أشهر فقط على تنصيبها.
سيعيش عبد الله إبراهيم امتحانا عسيرا، يتمثل في اعتقال محمد الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، في إطار ما عرف وقتها بقضية جريدة «التحرير»، والتي كانت تنشر مقالات لم تكن تعجب مولاي أحمد العلوي، الذي كان يمسك كل ما يتعلق بالإعلام في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. هذا الاعتقال جاء سنة بالضبط بعد تعيين حكومة عبد الله إبراهيم، إذ لم تكد سنة 1959 تنتهي، حتى تم تطويق المطبعة التي تُصدر جريدة «التحرير» ليتم اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، وبعدهما بأسبوع فقط، أي في يناير 1960 سيفر المهدي بن بركة بجلده إلى الخارج، وهكذا سيصبح عبد الله ابراهيم في موقف محرج، لأنه يشغل منصب رئيس الوزراء ولم يكن بمقدوره أن يتدخل من أجل رفاقه، خصوصا أنه يشاركهم الكثير من الرؤى والاهتمامات، حتى أن مساره كان شبيها بمسارات الكثيرين منهم.. عموما، فإن عبد الله إبراهيم لم يعمر طويلا على رأس الحكومة، وسيتم إعفاؤه في ماي 1960، لتأتي الحكومة التي كان يرأسها الحسن الثاني عندما كان وليا للعهد، وكأنه يوجه رسالة لعبد الله إبراهيم، مفادها أن القصر لن يسمح مجددا بوجود حكومة خارجة عن رحم الإرادة الملكية، خصوصا أن بعض الأطروحات الاتحادية، تقول إن عبد الله إبراهيم كان «تقدميا، بفلسفة خاصة في تقدير الأمور»، على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، لأنه لم يستقل فور اعتقال عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري وفرار المهدي بن بركة إلى الجزائر. ولم تهدأ العاصفة إلا بطي الملف وإصدار العفو عن الملاحقين، ويعود المهدي بن بركة بعد حوالي السنتين إلى المغرب.. وكان وقتها عبد الله إبراهيم قد غادر الحكومة.
في هذه المرحلة بالذات، أي ما بعد 1962، كان الخناق يشتد على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ليصبح حزبا مغربيا غير مرغوب فيه، وستصدر في حق أعضائه اتهامات ثقيلة تتأرجح بين المس بأمن الدولة وإسقاط النظام، لتصدر أحكام بالإعدام في حق عدد كبير من الاتحاديين. في ماذا كان يفكر عبد الله إبراهيم وقتها؟ لا بد أنه كان يفهم جيدا أن صراعه كمعارض نجح في الوصول إلى كرسي رئاسة الوزراء في وقت سابق، لن يوصله إليه من جديد، لأن المناخ السياسي المغربي تغير كثيرا، خصوصا وأن الذين كان يحاربهم أيام الملك محمد الخامس في الجبهات الخلفية، أصبحوا في الصف الأمامي في السلطة في بداية عهد الملك الحسن الثاني.
العداوة الثابتة مع مولاي أحمد العلوي
حتى قبل أن يصبح عبد الله إبراهيم رئيسا للوزراء، بعد الخلافات الكبيرة التي أدت إلى إنهاء تجربتي حكومتي امبارك البكاي والحكومة الأخرى التي ترأسها بلافريج والتي استبعد منها عبد الله إبراهيم، كان هناك سوء فهم بينه وبين أحمد العلوي، الذي كان ممسكا بحدود المربع الملكي المحيط بالحسن الثاني، منذ أن كان الأخير وليا للعهد ومتحكما في الصحافة الرسمية أيضا. وكان عبد الله إبراهيم يخبر مقربيه، كما أنه قال في بعض أوراق مذكراته، التي جمعها الباحث محمد لومة، إن أحمد العلوي كان لا يضيع فرصة ليخبر جلساءه وأصدقاءه أن حكومة عبد الله إبراهيم لن تعمر طويلا وأن «أيام المشماش» ستنقضي سريعا.
عبد الله إبراهيم، القادم إلى رئاسة الحكومة أواخر أيام سنة 1958، بخلفية نضالية عرف خلالها مرارة الاعتقالات قبل الاستقلال والنفي أيضا، ليحط رحاله مع مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لم يكن ليتوافق مع نموذج أحمد العلوي، الذي كان مشرفا على ديوان الملك الحسن الثاني، قبل أن يصبح وزيرا للإعلام لفترة طويلة. الأول قادم من مدرسة «فائرة» بصمها مساره النضالي في مراكش، وبروز اسمه في مقالات صحفية نشرت في جرائد وطنية وعربية، ثم تجارب الاعتقال إثر المواقف الوطنية، ومرحلة الدراسة في فرنسا ليعود بعدها إلى المغرب. أما مولاي أحمد العلوي، فقد كان عبد الله إبراهيم يتهمه دائما بأنه عاد من فرنسا بدون شهادات لا في الطب ولا في الصحافة، ولم يكن يستسيغ المكانة الاعتبارية التي يحظى بها العلوي لدى الملك الحسن الثاني.
انتماؤه إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لوحده، كان كفيلا بالحكم على العلاقة بينه وبين مولاي أحمد العلوي بالفشل. فرموز الحزب كانوا دائما على علاقة غير مستقرة بالدولة، ولم يكن عبد الله إبراهيم ليخرج عن هذا النهج أيضا، خصوصا أن سنة توليه لرئاسة الحكومة، أي في دجنبر 1958، كانت تشهد زلزالا سياسيا عنيفا في المغرب، بين حزب الاستقلال، الذي يعرفه عبد الله إبراهيم جيدا، وبين إرادة أخرى كانت تدعم عودة امبارك البكاي، حتى بعد فشل نسخة حكومته الثانية.. ورغم ذلك فإن حكومة عبد الله إبراهيم تعرضت هي الأخرى لوابل من الانتقادات لإسقاطها منذ تأسيسها، ولم تشفع لعبد الله إبراهيم تجاربه السابقة التي عاشها وزيرا للشؤون الاجتماعية في النسخة السابقة، لكي يتجنب الارتطام بالجدار.
بحسب المقربين من عبد الله إبراهيم، فإن أحمد العلوي لم يكن بالنسبة إليه إلا رجلا محظوظا بقربه من الحسن الثاني، وليا للعهد، ثم ملكا، وقال عنه أكثر من مرة إنه مجرد مرافق خاص للملك، وليس رجل دولة ولا مؤهلا لتبوؤ المناصب الوزارية. «المضايقات» التي كان ينتهجها مولاي أحمد العلوي في الانتقاص من تجربة عبد الله إبراهيم السياسية كانت على أوجها عندما تنبأ لحكومته بالفشل، وكان عبد الله إبراهيم يعلم أن مولاي أحمد العلوي كان ينتقد جميع الحكومات تقريبا، وازداد التباعد بين الرجلين خلال سنوات الستينات، عندما تأزمت العلاقة بين الدولة وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وواجه الحزب قرارات بسجن أعضائه ورموزه ومنخرطيه.
هل كان عبد الله إبراهيم انقلابيا؟
بعد عودة المهدي بن بركة إلى المغرب من منفاه الأول، حيث عاش فترة في الجزائر وفرنسا، ليعود إلى المغرب عندما لاحت بوادر المصالحة مع الدولة لطي ملف جريدة «التحرير».. كان عبد الله إبراهيم هادئا على غير عادته، رغم أنه لم تمر إلا سنتان على حل الحكومة التي كان هو رئيسا لها.
في ربيع السنة نفسها كان الحزب قد عقد مؤتمره الوطني بشكل غير عادي، وسط أحداث غير عادية.. رغم الهدنة المعلنة مع الدولة.. وقتها، وهذا أمر يشهد عليه قدماء الحزب ومؤسسوه، كان عبد الله إبراهيم قد تحفظ على اعتماد التقرير الذي أعده المهدي بن بركة، ولم يكن أحد يحتاج إلى كثير من الذكاء، ليفهم أن هناك تحفظا على المهدي بن بركة من لدن الجهات الرسمية، حتى بعد عودته إلى المغرب.
من جديد، وجد عبد الله إبراهيم نفسه في موقف محرج، خصوصا أنه لم يقدم أي تفسير للمؤتمرين حول السبب الحقيقي لعدم اعتماد التقرير الذي أعده المهدي بن بركة.
ستجيب السنوات اللاحقة عن هذه القضية، لأن الأمر كان يرتبط بـ«الاختيار الثوري» الذي وقّعه المهدي بن بركة، وسيصبح لوحده تهمة ثقيلة في وجه جميع المنخرطين والقياديين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خصوصا أن السنة الموالية، أي 1963 ستكون مسرحا لتهمة كبيرة وجهت إلى الاتحاديين وأدت إلى اعتقال أزيد من مائة شخص، من بينهم قياديون بارزون في الحزب، وصدر الحكم ضد نسبة مهمة منهم بالإعدام.. أحدهم كان محمد الفقيه البصري الذي فر إلى الجزائر حتى لا تطوله المشنقة، علما أن عبد الله إبراهيم كان أحد أصدقائه المقربين، وشاركه مخاض ميلاد الحكومات التي شارك فيها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
إلى هذا الحد كان عبد الله إبراهيم منصهرا داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رغم أنه بقي بعيدا عن أجواء المحاكمات والاعتقالات؟ ربما يكون منصبه السابق والأمور الكثيرة التي كان شاهدا عليها أيام الملك الراحل محمد الخامس، إلى جانب المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، كفيلة بإبعاده عما كان يتورط فيه «شبان» الحزب المتحمسون، والذين كان على رأسهم وقتها كل من عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري. قد يكون الأمر محصورا في هذا التعليل المرتبط بجيلي الحزب، لكن السياسة تقول إن الأمر كان أكبر من هذه التأويلات، لأن عبد الله إبراهيم كان قد دخل في حالة من «الحكمة» عندما تم توقيف تجربته الحكومية التي لم تعمر إلا سنة واحدة، ليشرب من الكأس ذاتها التي ذاقها قبله امبارك البكاي، ثم بلافريج، وتأتي بعده مباشرة الحكومة التي ترأسها الحسن الثاني أيام كان وليا للعهد. فهل فهم عبد الله إبراهيم قبل الجميع أن رؤيته وفهمه لمنصب رئيس الوزراء، كانا يختلفان تماما عن التصور الذي كان يضعه له الملك الحسن الثاني؟ إذا صح هذا الطرح فإنه لا يجوز، إنصافا للتاريخ على الأقل، أن ينعت أحد عبد الله إبراهيم بالرجل الانقلابي، حتى لو كان قياديا بارزا داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي وجهت إلى كل الذين نشطوا داخله، تهم ثقيلة تبدأ بزعزعة الأمن العام للبلد، وتنتهي عند محاولة قلب النظام.