وجدت في قصائده فيضا من بهاء الحرف ، وزادا معتبرا يبهج ذائقتي الباحثة عن الجمال والاختلاف . شعره يدور في فلك التميز ويرسم مداره الصحيح مطعم أيضا بالوطنية وقضايا مجتمعه ، موهبة طاغية وذكاء متقد على مدى عقود من الزمن .متفرد بأسلوبه أرهف قلمه السّيال في كتابة أجود القصائد ،محملا قلبه الحساس ما تراه عيناه من حال أوضاع واقعه رائيا لحال مجتمع مواسيا بيراعه مخففا ...
من بيئة صحراوية موغلة في الأصالة و الهدوء وبالتحديد من مدينة جامعة وادي السوف مولده بالتحديد عام 1953 م تعلم من والده القيم النبيلة والتطلع للمستقبل بعين الأمل المشرق وهو يتذكر ما كان يقول له من كلام مطعم بالدّرر:"أن أبتسم وأنا في قمة الحزن، أن أمنح وأنا محتاج،... علمنا الإيثار واللافت في الأمر أن والدي علمني هذه القيم بمسلكياته وممارساته اليومية ودون توجيه ثقيل الظل " …1
من يجالس الشاعر سليمان جوادي يستشف مناحي ثقافته واتساعها وهو الصادق في نقل وتجسيد الموضوعات التي يتطرق إليها .كان موفقا مبدعا في صياغتها بأساليب بديعة مشوقة ، رسم علاقة الإنسان بوطنه ورسم شوق المحبّ لمحبوبته وهو القائل : " مليون تجربة في الحبّ أكتمها " 2
حاضر في المشهد العربي الرّاهن بنصوصه ،فهـو يرضيك إذهالا وإرضاءً.السؤال الذي يسيطر منذ وهلة تصفح منتجه الشعري بمن تأثر؟ ومما نهل في بداية حياته الإبداعية ؟وكيف استقام له الحرف العربي فطوعه،فأخذ منه ما أراد وكيف لصائغ درر مثله أن يرضي ضائقة القارئ النخبوي ويشده إليه ؟ وما هي الموارد التي استقى منها منتجه الشعري ؟ وإن كان الجواب معروفا وبينا وصريحا .
فظل القدامى من الشعراء يبدو واضحا ، وإن وجد لنفسه بعد ذلك
مسارا متميزا وحافلا، وإن طوع أيضا القصيدة الغنائية وأصبح فارسها الوفي، أولاها اهتمامه فنصبته سلطانها المدلل ، جادت له بخيراتها وأمطرت عليه من فيض مُزنها .
فإن صح أن نسمي أن للشاعر العربي سليمان جوادي مدرسة تخرج منها العديد من الشعراء الذين يتبعون أثره منهم من أفلح ومنهم من لم يفلح ... ولنا في دواوينه التي سنأخذ منها الكثير من القصائد خير دليل وهو الذي أثرى الساحة الأدبية الجزائرية والعربية بالكثير منها..
فكلما استمتعت وجدت ما يمكن أن يميز تفرده ، ويثري تجربته يستحوذ عليك الإعجاب و التأثر وأيضا الإفادة ، دون أن يتسلل إليك التماثل أو التقليد يقول أفلاطون في الشعر والشعراء :" إنهم يتخذون من الألفاظ والعبارات أدوات تلوين الأشياء كالرّسام وتؤثر في السامعين عن طريق الوزن و النغم ،و في الوزن تقوم قوتهم الشعرية المؤثرة لأننا إذا نزعنا عن القصائد الألوان و الأوزان لأصبحت كلاما منثورا عاديا ".
فالشعر عند الشاعر ليس في حاجة إلى تفصيل فكلما قل التفصيل كما هو معروف كلما ازداد التأثير واتضحت عمق التجربة لديه ..
ذلك ما يقوله د عز الدين إسماعيل : (كثرة التفصيلات لا تترك عملاً للإيحاء الذي تتمتع به لغة الشعر والذي يعتمد على الصور الفنية كالاستعارة وغيرها. ولذا فإن التعبير المباشر ليس تعبيراً شعرياً، وحياة الألفاظ الطويلة وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتأريخي وأسطوري، كل ذلك يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية، والغموض أو التعقيد مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز ".
الراحل عبد الرحمن الأبنودي لما سئل عن من يقول الشعر إذ قال "هو وظيفة بيولوجية وفكرية وطبيعية كأنها استنشاق هواء جميل أو شرب ماء
عذب أو أكل فاكهة أو القيام بأية عملية تدفع بالإنسان إلى الحياة " 5
. لذلك نجد الشعر مرتبط بذات الإنسان ومرتبط بواقعه وحياته ...نموذج تحليل أسلوبي لقصيدة :
(أفتش عن غير وجهي) :
لأضغط عن كفهم جيدا
و لأحضنهم جيدا
و لأدخلهم في بقاياي
أنشرهم في دمائي
أفتش عن رجل
غير هذا الذي يسكن الحزن فيه ليسكنني
فيسر الأحبة عند لقائي
.........................
يا باقة من ضياء تلاشت
و يا فرحة في قلوب العذارى تداعت
و يا وطنا كان يؤوي الجميع
و لكنه حين قيل انتهى
لم يعره الجميع التفاتة
فما أفظع الناس في عصرنا
و أحد الشماتة
…
سليمان
يا رجلا كان يسكنني
قبل بضع سنين
يصرح أن ليس أدعى إلى الحزن
من رجل لا يحب
و ها أنت بالحب تشقى
و يعلن أن ليس مثل الوفاء
سبيلا إلى رغد العيش
لكن وفاؤك
شخص فيك العذاب و أبقى
سليمان
قد قيل والعلم لله
أنك ترفض عصرك
ترفض جيلك
ترفض جسمك
ترفض أن تفضل العمر ظلا
سليمان قيل اختفيت
لتظهر أجلى
و قيل اختفيت ليصبح شعرك
بعد ظهورك أحلى
و قيل بأنك تمسك بالسنوات
تقيدها
كي تظل مدى الدهر طفلا
…
سليمان
بلقيسك الآن راحلة
لسليمان آخر
كان يمطرها بالقصائد
و الأغنيات الجميلة و الورد
يمنحها ما تريد
من العشق و الانتشاء
يعلمها منطق الطير
يرفعها فوق ألف بساط
و يحملها نحو ألف سماء
سليمان
بلقيس تبحث عن رجل
يملك الخاتم النبوي
له الفلك و الريح
و الصافنات الجياد مسخرة
و له هيبة الأنبياء
و صعلكة الشعراء
و بلقيس إذ تركت سبأ
فلأن سليمان أغلى من الملك
و الحب أخلد من عرشها
و لأن سليمان
يعرف كيف يروض قلب النساء
…
سليمان
يا فرحا قد يجيء
و يا شعلة قد تضيء
و يا بسمة قد ترف على شفة الأشقياء
حنانيك كن شاعرا مثلما كنت
كن جذوة ترفض الانطفاء
حنانيك كن قدرا
وجوادا يغامر ضد الفناء
العنوان على مستوى البنية جاء في صيغة جملة فعلية استهلها الشاعر بفعل مضارع " أفتش " يدل في الأصل على وقوع حدث أو الاتصاف بصفة في الزمن الحاضر أو المستقبل .
ويقول رولان بارت عن العنوان : " أن العنوان يفتح شهية القراءة "
" فالعنوان يمثل مؤشرا سيميولوجيا ذا ضغط إعلامي موجه إلى المتلقى بمحاصرته في دلالة بعينها ، تتنامى في متن الخطاب الشعري في وضوح أحيانا وفي خفاء أحيانا أخرى".
تجرد المضارع من القرائن فإنه يدل على الحاضر غالبا،وقد يدل على المستقبل وذلك راجع لسياق الكلام .
وقد حرص الشاعر على تعميق الجانب التواصلي حيث جاء الفاعل ضمير مستتر تقديره وشبه الجملة " عن غير وجهي " في محل نصب مفعول به
غير اسم مجرور وجهي نضاف والياء مضاف إليه..
ذات الشاعر – أنا- هذه الدلالة التواصلية توحي بحاجة الشاعر إلى تعميق الارتباط بالزمان على المستوى الشعوري و التأملي - عن غير وجهي –
بالنسبة للبناء النظمي نجد هذا النص أن بناءه الوزني على تفعيلة بحر المتقارب ، وقد أظهر لنا المظهر الصوتي الخارجي
للقصيدة ، مسلك الشاعر ووفائه لقصيدة التفعيلة التي ما انفكت تفتح آفق ورؤية جديدة نلمسها بوضوح على مستوى جمالية اللّغة الشعرية .
تكرار الحروف كالراء والسين العين والكاف و القاف و الميم...وما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر زاوج بين الحروف المهموسة والحروف الجهرية كون ذلك يخدم الإيقاع الداخلي للقصيدة .فقصائد الحب تكون عادة كلها رقة وهمس وهي أيضا
وسيلة الشاعر لإظهار مشاعره لمن يحب ، وأيضا نجد تواتر هذه الحروف مع الإيقاع الداخلي للقصيدة يمنحها ديمومة الاستمرارية والثبات .
نجد تكرار الحروف التي تدل على لإيقاع الداخلي :
أنك ترفض عصرك
ترفض جيلك
ترفض جسمك
ترفض أن تفضل العمر ظلا
سليمان قيل اختفيت
لتظهر أجلى
و قيل اختفيت ليصبح شعرك
بعد ظهورك أحلى
تكرار حرف الراء ...
كما نجد تكرار السين في في هذا المقطع ، وكذا في قوله " يرفعها فوق ألف بساط ويحملها نحو ألف سماء سليمان بلقيس تبحث عن رجل "
" و يا شعلة قد تضيء " " و يا بسمة قد ترف على شفة الأشقياء
حنانيك كن شاعرا مثلما كنت " تكرار الشين و ...الخ
استخدام الشاعر لياء المتكلم على غرار " وجهي – ثغري - كقي – يسكنني - بقاياي – لقائي---" هذا في المقاطع الأولى وقي مقاطع آخري نجد استعماله ل الهمزة ...ساهمت هذه الحروف في إبراز مسارات توقف الدفقة الشعرية في القصيدة .
على مستوى الكلمة نجد توظيفه لعنصر التوازي في لمقطع الأول تكرار " أفتش " عدة مرات وتكرار" سليمان " وكذا " بلقيس"
كما نجد تكرار عبارة ك أفتش عن غير..." " للفت انتباه القارئ
فهي تحقق الانسجام الإيقاعي الداخلي وتساهم في تقوية الإحساس بوحدة النص الدلالية ، وتصبح بمثابة الكلمات المفتاحية في القصيدة فلا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها.
أفتش عن غير وجهي
لألقى الأحبة مبتسما
مثلما عهدوني
أفتش عن غير ثغري
لألقي التحية دون ارتباك
أفتش عن غير كفي
ويقول أيضا ----تكرار العبارة " أفتش عنك سليمان "
أفتش عنك سليمان
يا رجلا ضيعته المدينة
و المشكلات الصغيرة و الحب
أي والذي نفس قاتلتي بيديه
أضاعك عن جسدي الحب
أفسد ما فيك من هوس و جنون
و أعدم ما خبأته شفاهك للأخريات
أفتش عنك سليمان
من خلال محور الذات " الشاعر" ومحاور أخرى دلالية فنية توزع النص وشكل مركزه " فالحقل الدلالي هو مجموعة من الكلمات التي تشتمل على مفاهيم تندرج تحت مفهوم عام يحدد الحقل .." 3
في معجم الحب ومما يتعلق به نجد ه معجمه ثريا :- العشق - الانتشاء –الأحبة – الحب
الوفاء – العذاب - ...
ومعجم الطبيعة : السماء – الريح – الفلك –
معجم الإنسان : سليمان – بلقيس – نساء – رجلا – طفلا
معجم يدل على الجسد: الوجه – الثغر- الكف- دماء – الجسد..- جسم
معجم يدل على المكان : المدينة – الوطن -
نخلص إلى أن كل هذه المعاجم الفنية متلازمة ...دون أن نجد معجم مهيمن على النص . بالنسبة للبناء التركيبي للنص يحدد بنمطين هما : نمط الجملة الفعلية وما يكشفه لنا من جانب حدثي والفضاء الزمني الذي يؤطر مستويات النص الفعل الماضي يتكرر أكثر من .... والفعل المضارع يتكرر أكثر من ...الفعل الأمر يكاد ينعدم .
النمط الثاني يتعلق بالجملة الاسمية وما يعكسه من جانب تقريري إخباري ، تكرر الجمل الاسمية نحو " يا رجلا كان يسكنني" " يا رجلا ضيعته المدينة" و الاسم المعرفة : سليمان والاسم النكرة : رجل
مقام النص يأخذ طابعا زمنيا ولهذا كانت حاجة الشاعر لتوظيف الفعل المضارع بكثافة على غرار
أبحث / أفتش / ترفض/ يعلن / يصرح ...
ومن الإشارات التركيبية البارزة في النص : التقديم والتأخير :
تقديم للفاعل عن الفعل في قوله " بلقيس تبحث عن رجل "
وهذا التقديم جاء لاهتمام الشاعر بصانع الحدث وأسئلة مقلقة كثيرة من حيث الأسلوب التركيبي حافظت الجملة على نمطها
الخبري ومرد ذلك لإبراز مقصدية الخطاب وهي البوح للمرسل إليه بمشاعره وأسئلة مقلقة يطرحها.
على مستوى بمنية الضمير المقطع الأول الذي يعتبر مقدمة النص اعتمد الشاعر فيه ضمير المتكلم وقد كرر الفعل الماضي أفتش عدة مرات فهي مؤشرات لفظية تدل على بحثه عن ذاته عن وجوده عن شخصه وبقاياه المادية وجهه وكفه وثغره ....عن رجل هو ذاته لكن ضيعه...يحافظ الشاعرعلى المنطق السردي الذي اعتمدته الذات الشاعرة .....
على المستوى الدلالي : بالنسبة للعنوان الذي يعد عتبة الولوج للمتن أي الولوج للفضاء الدلالي للقصيدة من خلاله يمكن الوقوف على الشفرات الدلالية للنص فيحيلنا على بنيتين دلاليتين ، بنية الذات الشاعرة وبنية شبه الجملة " عن غير وجهي " جاء العنوان رمزي إيحائي ..." فجاء العنوان على مستوى البنية التركيبة جملة فعلية.
العلاقة بين وجدات النص الدلالية : على مستوى هرمية النص جعل الشاعر وحدات النص تتناسق وتحقق الانسجام
فكل المقاطع تكشف عن الموقف الشعوري ورفض الشاعر لواقع مرير وبحثه المستمر عن ذاته ..
بالنسبة للصورة الشعرية : بالنسبة لعنوان القصيدة جاء بلغة مجازية أي غير صريح ، هناك انزياح الألفاظ اسلوبيا وخروجها عن المألوف أي من باب استعمال اللفظ في غیر ما وضع له أصلا " على غرار :
فالنص يتمتع بشعرية وجمالية مكثفة " .....وقد تنوعت الصور الغنية الواردة في النص ، فمنها ما ينتمي لحقل التشبيه و التشبيه البليغ على غرار جوادا يغامر ضد الفناء" .
ومنها جانب ينتمي لحقل الاستعارة كقوله : " كان يمطرها بالقصائد" " وقيل أنك تمسك بالسنوات وتقيدها" "
" يا رجلا ضيعته المدينة والمشكلات الصغيرة والحب " النص ثري بالمجاز ....الصور الغنية التي قدمها الشاعر لم تقدم المعاني جاهزة تدور في فللك أسئلة الذات والحيرة .
المراجع :
1 – 2 من صفحة الشعر الفيسبوكية .
3 – أحمد مختار عمر : علم الدلالة – علم الكتب مصر ط 6 -2006 ص 79 .
4 – صلاح عبد الصبور الأعمال السابقة الهيئة المصرية العانة للكتب ص 187.
5 - أمل دنقل الأعمال الشعرية الكاملة المجلس الأعلى للثقافة 2003 ص 172.
6 - قصيدة " أفتش عن غير وجهي " موقع أرشيف الإسلام / قسم أرشيف الأدب العربي.
من بيئة صحراوية موغلة في الأصالة و الهدوء وبالتحديد من مدينة جامعة وادي السوف مولده بالتحديد عام 1953 م تعلم من والده القيم النبيلة والتطلع للمستقبل بعين الأمل المشرق وهو يتذكر ما كان يقول له من كلام مطعم بالدّرر:"أن أبتسم وأنا في قمة الحزن، أن أمنح وأنا محتاج،... علمنا الإيثار واللافت في الأمر أن والدي علمني هذه القيم بمسلكياته وممارساته اليومية ودون توجيه ثقيل الظل " …1
من يجالس الشاعر سليمان جوادي يستشف مناحي ثقافته واتساعها وهو الصادق في نقل وتجسيد الموضوعات التي يتطرق إليها .كان موفقا مبدعا في صياغتها بأساليب بديعة مشوقة ، رسم علاقة الإنسان بوطنه ورسم شوق المحبّ لمحبوبته وهو القائل : " مليون تجربة في الحبّ أكتمها " 2
حاضر في المشهد العربي الرّاهن بنصوصه ،فهـو يرضيك إذهالا وإرضاءً.السؤال الذي يسيطر منذ وهلة تصفح منتجه الشعري بمن تأثر؟ ومما نهل في بداية حياته الإبداعية ؟وكيف استقام له الحرف العربي فطوعه،فأخذ منه ما أراد وكيف لصائغ درر مثله أن يرضي ضائقة القارئ النخبوي ويشده إليه ؟ وما هي الموارد التي استقى منها منتجه الشعري ؟ وإن كان الجواب معروفا وبينا وصريحا .
فظل القدامى من الشعراء يبدو واضحا ، وإن وجد لنفسه بعد ذلك
مسارا متميزا وحافلا، وإن طوع أيضا القصيدة الغنائية وأصبح فارسها الوفي، أولاها اهتمامه فنصبته سلطانها المدلل ، جادت له بخيراتها وأمطرت عليه من فيض مُزنها .
فإن صح أن نسمي أن للشاعر العربي سليمان جوادي مدرسة تخرج منها العديد من الشعراء الذين يتبعون أثره منهم من أفلح ومنهم من لم يفلح ... ولنا في دواوينه التي سنأخذ منها الكثير من القصائد خير دليل وهو الذي أثرى الساحة الأدبية الجزائرية والعربية بالكثير منها..
فكلما استمتعت وجدت ما يمكن أن يميز تفرده ، ويثري تجربته يستحوذ عليك الإعجاب و التأثر وأيضا الإفادة ، دون أن يتسلل إليك التماثل أو التقليد يقول أفلاطون في الشعر والشعراء :" إنهم يتخذون من الألفاظ والعبارات أدوات تلوين الأشياء كالرّسام وتؤثر في السامعين عن طريق الوزن و النغم ،و في الوزن تقوم قوتهم الشعرية المؤثرة لأننا إذا نزعنا عن القصائد الألوان و الأوزان لأصبحت كلاما منثورا عاديا ".
فالشعر عند الشاعر ليس في حاجة إلى تفصيل فكلما قل التفصيل كما هو معروف كلما ازداد التأثير واتضحت عمق التجربة لديه ..
ذلك ما يقوله د عز الدين إسماعيل : (كثرة التفصيلات لا تترك عملاً للإيحاء الذي تتمتع به لغة الشعر والذي يعتمد على الصور الفنية كالاستعارة وغيرها. ولذا فإن التعبير المباشر ليس تعبيراً شعرياً، وحياة الألفاظ الطويلة وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتأريخي وأسطوري، كل ذلك يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية، والغموض أو التعقيد مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز ".
الراحل عبد الرحمن الأبنودي لما سئل عن من يقول الشعر إذ قال "هو وظيفة بيولوجية وفكرية وطبيعية كأنها استنشاق هواء جميل أو شرب ماء
عذب أو أكل فاكهة أو القيام بأية عملية تدفع بالإنسان إلى الحياة " 5
. لذلك نجد الشعر مرتبط بذات الإنسان ومرتبط بواقعه وحياته ...نموذج تحليل أسلوبي لقصيدة :
(أفتش عن غير وجهي) :
لأضغط عن كفهم جيدا
و لأحضنهم جيدا
و لأدخلهم في بقاياي
أنشرهم في دمائي
أفتش عن رجل
غير هذا الذي يسكن الحزن فيه ليسكنني
فيسر الأحبة عند لقائي
.........................
يا باقة من ضياء تلاشت
و يا فرحة في قلوب العذارى تداعت
و يا وطنا كان يؤوي الجميع
و لكنه حين قيل انتهى
لم يعره الجميع التفاتة
فما أفظع الناس في عصرنا
و أحد الشماتة
…
سليمان
يا رجلا كان يسكنني
قبل بضع سنين
يصرح أن ليس أدعى إلى الحزن
من رجل لا يحب
و ها أنت بالحب تشقى
و يعلن أن ليس مثل الوفاء
سبيلا إلى رغد العيش
لكن وفاؤك
شخص فيك العذاب و أبقى
سليمان
قد قيل والعلم لله
أنك ترفض عصرك
ترفض جيلك
ترفض جسمك
ترفض أن تفضل العمر ظلا
سليمان قيل اختفيت
لتظهر أجلى
و قيل اختفيت ليصبح شعرك
بعد ظهورك أحلى
و قيل بأنك تمسك بالسنوات
تقيدها
كي تظل مدى الدهر طفلا
…
سليمان
بلقيسك الآن راحلة
لسليمان آخر
كان يمطرها بالقصائد
و الأغنيات الجميلة و الورد
يمنحها ما تريد
من العشق و الانتشاء
يعلمها منطق الطير
يرفعها فوق ألف بساط
و يحملها نحو ألف سماء
سليمان
بلقيس تبحث عن رجل
يملك الخاتم النبوي
له الفلك و الريح
و الصافنات الجياد مسخرة
و له هيبة الأنبياء
و صعلكة الشعراء
و بلقيس إذ تركت سبأ
فلأن سليمان أغلى من الملك
و الحب أخلد من عرشها
و لأن سليمان
يعرف كيف يروض قلب النساء
…
سليمان
يا فرحا قد يجيء
و يا شعلة قد تضيء
و يا بسمة قد ترف على شفة الأشقياء
حنانيك كن شاعرا مثلما كنت
كن جذوة ترفض الانطفاء
حنانيك كن قدرا
وجوادا يغامر ضد الفناء
العنوان على مستوى البنية جاء في صيغة جملة فعلية استهلها الشاعر بفعل مضارع " أفتش " يدل في الأصل على وقوع حدث أو الاتصاف بصفة في الزمن الحاضر أو المستقبل .
ويقول رولان بارت عن العنوان : " أن العنوان يفتح شهية القراءة "
" فالعنوان يمثل مؤشرا سيميولوجيا ذا ضغط إعلامي موجه إلى المتلقى بمحاصرته في دلالة بعينها ، تتنامى في متن الخطاب الشعري في وضوح أحيانا وفي خفاء أحيانا أخرى".
تجرد المضارع من القرائن فإنه يدل على الحاضر غالبا،وقد يدل على المستقبل وذلك راجع لسياق الكلام .
وقد حرص الشاعر على تعميق الجانب التواصلي حيث جاء الفاعل ضمير مستتر تقديره وشبه الجملة " عن غير وجهي " في محل نصب مفعول به
غير اسم مجرور وجهي نضاف والياء مضاف إليه..
ذات الشاعر – أنا- هذه الدلالة التواصلية توحي بحاجة الشاعر إلى تعميق الارتباط بالزمان على المستوى الشعوري و التأملي - عن غير وجهي –
بالنسبة للبناء النظمي نجد هذا النص أن بناءه الوزني على تفعيلة بحر المتقارب ، وقد أظهر لنا المظهر الصوتي الخارجي
للقصيدة ، مسلك الشاعر ووفائه لقصيدة التفعيلة التي ما انفكت تفتح آفق ورؤية جديدة نلمسها بوضوح على مستوى جمالية اللّغة الشعرية .
تكرار الحروف كالراء والسين العين والكاف و القاف و الميم...وما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر زاوج بين الحروف المهموسة والحروف الجهرية كون ذلك يخدم الإيقاع الداخلي للقصيدة .فقصائد الحب تكون عادة كلها رقة وهمس وهي أيضا
وسيلة الشاعر لإظهار مشاعره لمن يحب ، وأيضا نجد تواتر هذه الحروف مع الإيقاع الداخلي للقصيدة يمنحها ديمومة الاستمرارية والثبات .
نجد تكرار الحروف التي تدل على لإيقاع الداخلي :
أنك ترفض عصرك
ترفض جيلك
ترفض جسمك
ترفض أن تفضل العمر ظلا
سليمان قيل اختفيت
لتظهر أجلى
و قيل اختفيت ليصبح شعرك
بعد ظهورك أحلى
تكرار حرف الراء ...
كما نجد تكرار السين في في هذا المقطع ، وكذا في قوله " يرفعها فوق ألف بساط ويحملها نحو ألف سماء سليمان بلقيس تبحث عن رجل "
" و يا شعلة قد تضيء " " و يا بسمة قد ترف على شفة الأشقياء
حنانيك كن شاعرا مثلما كنت " تكرار الشين و ...الخ
استخدام الشاعر لياء المتكلم على غرار " وجهي – ثغري - كقي – يسكنني - بقاياي – لقائي---" هذا في المقاطع الأولى وقي مقاطع آخري نجد استعماله ل الهمزة ...ساهمت هذه الحروف في إبراز مسارات توقف الدفقة الشعرية في القصيدة .
على مستوى الكلمة نجد توظيفه لعنصر التوازي في لمقطع الأول تكرار " أفتش " عدة مرات وتكرار" سليمان " وكذا " بلقيس"
كما نجد تكرار عبارة ك أفتش عن غير..." " للفت انتباه القارئ
فهي تحقق الانسجام الإيقاعي الداخلي وتساهم في تقوية الإحساس بوحدة النص الدلالية ، وتصبح بمثابة الكلمات المفتاحية في القصيدة فلا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها.
أفتش عن غير وجهي
لألقى الأحبة مبتسما
مثلما عهدوني
أفتش عن غير ثغري
لألقي التحية دون ارتباك
أفتش عن غير كفي
ويقول أيضا ----تكرار العبارة " أفتش عنك سليمان "
أفتش عنك سليمان
يا رجلا ضيعته المدينة
و المشكلات الصغيرة و الحب
أي والذي نفس قاتلتي بيديه
أضاعك عن جسدي الحب
أفسد ما فيك من هوس و جنون
و أعدم ما خبأته شفاهك للأخريات
أفتش عنك سليمان
من خلال محور الذات " الشاعر" ومحاور أخرى دلالية فنية توزع النص وشكل مركزه " فالحقل الدلالي هو مجموعة من الكلمات التي تشتمل على مفاهيم تندرج تحت مفهوم عام يحدد الحقل .." 3
في معجم الحب ومما يتعلق به نجد ه معجمه ثريا :- العشق - الانتشاء –الأحبة – الحب
الوفاء – العذاب - ...
ومعجم الطبيعة : السماء – الريح – الفلك –
معجم الإنسان : سليمان – بلقيس – نساء – رجلا – طفلا
معجم يدل على الجسد: الوجه – الثغر- الكف- دماء – الجسد..- جسم
معجم يدل على المكان : المدينة – الوطن -
نخلص إلى أن كل هذه المعاجم الفنية متلازمة ...دون أن نجد معجم مهيمن على النص . بالنسبة للبناء التركيبي للنص يحدد بنمطين هما : نمط الجملة الفعلية وما يكشفه لنا من جانب حدثي والفضاء الزمني الذي يؤطر مستويات النص الفعل الماضي يتكرر أكثر من .... والفعل المضارع يتكرر أكثر من ...الفعل الأمر يكاد ينعدم .
النمط الثاني يتعلق بالجملة الاسمية وما يعكسه من جانب تقريري إخباري ، تكرر الجمل الاسمية نحو " يا رجلا كان يسكنني" " يا رجلا ضيعته المدينة" و الاسم المعرفة : سليمان والاسم النكرة : رجل
مقام النص يأخذ طابعا زمنيا ولهذا كانت حاجة الشاعر لتوظيف الفعل المضارع بكثافة على غرار
أبحث / أفتش / ترفض/ يعلن / يصرح ...
ومن الإشارات التركيبية البارزة في النص : التقديم والتأخير :
تقديم للفاعل عن الفعل في قوله " بلقيس تبحث عن رجل "
وهذا التقديم جاء لاهتمام الشاعر بصانع الحدث وأسئلة مقلقة كثيرة من حيث الأسلوب التركيبي حافظت الجملة على نمطها
الخبري ومرد ذلك لإبراز مقصدية الخطاب وهي البوح للمرسل إليه بمشاعره وأسئلة مقلقة يطرحها.
على مستوى بمنية الضمير المقطع الأول الذي يعتبر مقدمة النص اعتمد الشاعر فيه ضمير المتكلم وقد كرر الفعل الماضي أفتش عدة مرات فهي مؤشرات لفظية تدل على بحثه عن ذاته عن وجوده عن شخصه وبقاياه المادية وجهه وكفه وثغره ....عن رجل هو ذاته لكن ضيعه...يحافظ الشاعرعلى المنطق السردي الذي اعتمدته الذات الشاعرة .....
على المستوى الدلالي : بالنسبة للعنوان الذي يعد عتبة الولوج للمتن أي الولوج للفضاء الدلالي للقصيدة من خلاله يمكن الوقوف على الشفرات الدلالية للنص فيحيلنا على بنيتين دلاليتين ، بنية الذات الشاعرة وبنية شبه الجملة " عن غير وجهي " جاء العنوان رمزي إيحائي ..." فجاء العنوان على مستوى البنية التركيبة جملة فعلية.
العلاقة بين وجدات النص الدلالية : على مستوى هرمية النص جعل الشاعر وحدات النص تتناسق وتحقق الانسجام
فكل المقاطع تكشف عن الموقف الشعوري ورفض الشاعر لواقع مرير وبحثه المستمر عن ذاته ..
بالنسبة للصورة الشعرية : بالنسبة لعنوان القصيدة جاء بلغة مجازية أي غير صريح ، هناك انزياح الألفاظ اسلوبيا وخروجها عن المألوف أي من باب استعمال اللفظ في غیر ما وضع له أصلا " على غرار :
فالنص يتمتع بشعرية وجمالية مكثفة " .....وقد تنوعت الصور الغنية الواردة في النص ، فمنها ما ينتمي لحقل التشبيه و التشبيه البليغ على غرار جوادا يغامر ضد الفناء" .
ومنها جانب ينتمي لحقل الاستعارة كقوله : " كان يمطرها بالقصائد" " وقيل أنك تمسك بالسنوات وتقيدها" "
" يا رجلا ضيعته المدينة والمشكلات الصغيرة والحب " النص ثري بالمجاز ....الصور الغنية التي قدمها الشاعر لم تقدم المعاني جاهزة تدور في فللك أسئلة الذات والحيرة .
المراجع :
1 – 2 من صفحة الشعر الفيسبوكية .
3 – أحمد مختار عمر : علم الدلالة – علم الكتب مصر ط 6 -2006 ص 79 .
4 – صلاح عبد الصبور الأعمال السابقة الهيئة المصرية العانة للكتب ص 187.
5 - أمل دنقل الأعمال الشعرية الكاملة المجلس الأعلى للثقافة 2003 ص 172.
6 - قصيدة " أفتش عن غير وجهي " موقع أرشيف الإسلام / قسم أرشيف الأدب العربي.