أحمد إبراهيم الفقيه - المهدي القنطراري ودوره في اسقاط هتلر

كان ركن الخطابة في حديقة هايد بارك بمدينة لندن، يشكل معلماً من معالم الاستقطاب السياحي، يقصده القادمون إلى العاصمة البريطانية من العالم الثالث، لاستنشاق عبير الحرية ومشاهدة أناس يخوضون في القضايا السياسية والدينية، دون حسيب ولا رقيب، ويتحسرون لأنهم في بلدانهم يحاسبون على كل همسة يهمسون بها لا ترضي الحاكم، كما يمكن لكلمة واحدة أن تكون سبباً في سجن أو إعدام المواطن، وكان أكبر زحام عربي عرفه هذا الركن حصل بعد حرب يونيو 67 فيما سمي بالنكسة، واحتدم فيه النقاش بين العرب وخصومهم أنصار إسرائيل، حيث كانت المشاعر في أوج غليانها، وكان الناس القادمون من الشرق الأوسط يقصدون ركن الخطابة يومي السبت والأحد وهم يتربصون ببعضهم البعض، وكان البوليس حاضراً لفض أي اشتباك لأن النقاش أحياناً يحتدم ويتحول إلى عراك بالأيدي وليس بالألفاظ فقط، وكنت موجوداً أيامها للدراسة، مفجوعا بالهزيمة التي مني بها العرب على أيدي الجيش الاسرائيلي، أحرص كل عطلة اسبوع على ركوب القطار ومغادرة مدينة الدراسة لانكستر للمشاركة في معارك الهايد بارك السياسية، حيث كنت التقي بأصدقاء عرب في حالة استنفار دائم للمواجهة والدخول في نقاش فكري مع الأطراف المعادية للقضايا العربية، ونشأت في إحدى الأيام حلقة نقاش حول طرد اليهود من ليبيا، وكانت القضية ساخنة، لم تمض سوى أشهر قليلة على حدوث النزوح اليهودي من ليبيا وإفراغها من آخر يهودي كان يعيش بها، وأحضر اليهود المتضررون، خطيباً انجليزياً، صاحب بلاغة وفصاحة، صنع لنفسه منبراً، وانبرى يتحدث عن الممارسات النازية التي مارسها الليبيون ضد شركائهم في الوطن من أتباع سيدنا موسى وممن استوطنوا ليبيا منذ العصر الروماني، سابقين على سكانها العرب، ولم يكن موجوداً في هذه الحلقة غيري من الليبيين وعرب لا خبرة لهم بالمشهد الليبي في تلك الأيام، فكنت معنياً دون غيري بالتصدي له، وكشف أكاذيب الاضطهاد والطرد والمصادرة التي يروج لها، إلا أن أنصاره الكثيرين من يهود وانجليز وأجانب، كانوا يتصدون لي ويطالبونني بالسكوت لأنني أقاطع الخطيب، ولا يريدون لي أن أرد وأفند ما يقول، إلى حد التهديد بالعنف لإسكاتي، لذلك صممت في المرة القادمة على استنفار عدد من الدارسين الليبيين في بريطانيا، جاءوا يعززون موقفي، ويشكلون طوق حماية لي، ويصنعون دوشة تمنع الخطيب من الكلام قبل أن يسمع كلامي، مما حدا به أن يسمح لي بالتعقيب بعد إتمام خطبته، وكانت الأطروحة التي أرد بها على ما يقوله الخطيب، هي أن الحكومة في ليبيا هيأت لليهود أماكن آمنة لإقامتهم وحمايتهم من غضب الناس، وسبب الغضب، أن بعض المنتمين للفكر الصهيوني من يهود ليبيا كان يرسلون أولادهم إلى اسرائيل للدخول في الجيش بعد تلقي التدريب العسكري في القاعدة الأمريكية بطرابلس، وكان كلامي معززاً بقصاصات من صحف بريطانية تقول هذا الكلام أقدمه للخطيب ليطلع عليه أنصاره، وكنت أقول أيضا أنني أتحدى أن يأتي يهودي واحد ليذكر أن الدولة الليبية، صادرت منه فلساً أو أممت عقاراً أو صادرت قطعة أثاث أو منعته من بيع أملاكه وتحويل فلوسها إلى الخارج، وأن كل من غادر طرابلس، ترك توكيلاً لأحد المكاتب القانونية، يتولى بيع ما تركه خلفه من عقار أو ممتلكات اخرى.

وحدث أن كنت أعرف فتي من يهود طرابلس كان يدرس اللغة في لندن، فاتصلت به أسأله إن كان يستطيع أن يأتي معي إلى ركن الخطابة ليؤكد ما كنت أقوله، فكان وجوده معي باعتباره من أبناء الجالية اليهودية، ووقوفه إلى جانبي، وشهادته ضد ادعاءات الخطيب، شهادة صاعقة له ولأنصاره، أصابت الحاضرين من غير أطراف الصراع بالاندهاش والإعجاب، وصار جمهور المنبر، بما فيهم الخطيب نفسه، ينصتون باحترام وانتباه لما أقوله، وانصرف تفكيري كله إلى كيف أستفيد من هذا التعاطف الذي حصلت عليه، وأكسب مزيداً من الأنصار إلى صفي، ولم ينجدني إلا بطل من أبطال طفولتي في القرية العم المهدي القنطراري، وسر تسميته أنه عاش مغترباً عن عشيرته عشرة أعوام فصار الناس ينسبونه إلى هذه العشيرة حتى ضاع اسمه وصار يتسمى بها حين عاد، بحكاياته عن الحرب العالمية الثانية التي خاض غمارها مع الإيطاليين، قبل أن يسلم نفسه إلى الجيش الثالث ليكون عنصراً من عناصر الجيش السنوسي الذي يحارب مع البريطانيين تحت قيادة مونتجومري، وكان استخدامه الغالب لهم خلف خطوط الأعداء، ويقول أنه ورفاقه من الليبيين هم الذين أفسدوا على هتلر خططه في كسب الحرب وكسروه مرتين، مرة عندما تخلوا عن جيش المحور الذي يقوده الجنرال جرسياني وأسلموا أنفسهم لأعدائه، فاضطر إلى الانسحاب من جبهة الصحراء الغربية والتراجع ألفي كيلو ميتر هارباً من المعركة قاصداً الحدود التونسية، مما اضطر هتلر إلى جلب أعظم قائد من قواده هو رومل لقيادة الفيلق الافريقي واسترداد المواقع التي فقدها جرسياني، إلا أن الجيش الليبي كان له بالمرصاد، لأنه كان يواجه جيش الحلفاء في الجبهة وينتصر عليه ثم يريد العودة إلى خطوط الإمداد فيجد أن الليبيين قد دمروها، وكان آخرها في حرب العلمين عندما كان هو مهدي القنطراري شريكاً في عملية تدمير خزانات الوقود التي تمد جيش رومل في المعركة بالوقود، حتى فوجيء بأنه لم يعد يملك وقوداً لتحريك آلياته، وصار يستنجد بهتلر في برقياته يريد عصير البرتقال لأن هذه هي التسمية الكودية للوقود، لكن الوقت كان قد تأخر، وكان جيش الحلفاء يتحرك باتجاه الآليات الألمانية التي تحولت إلى مجرد حديد خردة، وتحقق الانتصار الساحق في الحرب الذي كان بداية الهزيمة لهتلر في حروبه, وكان عمي المهدي فخوراً بما قال أنه سمعه من الجنرال مونتي، كما كان يسمي مونتجومري، عندما قال إن الدور الأساسي في هزيمة هتلر كان لأعضاء الفريق الليبي في الحرب، وبالتالي هم من أسقط النازية وحرر العالم من شرورها.

ولكن هذا الكلام الذي سمعته طفلاً يريد أن أجد له توثيقاً ليصبح قابلاً للإعادة والتداول بين الناس، ولهذا ذهبت إلى استاذ خبير بليبيا وسبق أن عمل بالتدريس فيها ورغم تخصصه في الجغرافيا فهو عارف بالتاريخ وأشرف على أكثر من رسالة جامعية عن الحرب التي دارت في الصحراء الغربية وانتصار العلمين، فقلت له عما أريد، وأعطاني عنوان كتاب ورد فيه كلام يشبه ما سمعته من عمي المهدي القنطراري، فذهبت إلى المكتبة لأجد الكتاب وأكتشف أن المؤلف كان يهودياً بريطانياً، مما يعطي شهادته قوة ومصداقية، وأقرأ الجزء الذي كتبه عن الليبيين الفاعل والمؤثر في إسقاط الزعيم النازي ادولف هتلر، الذي أقام المحارق لليهود في المانيا وبولندا، فصورت كل صفحات هذا الجزء، وأنفقت مبلغا في طبع نسخ تزيد على الثلاثين، لتوزيعها على الحاضرين في الحلقة، لأن الكاتب يقول أن هزيمة هتلر في العلمين، واندحار قواته التي كان يقودها أحد عباقرة الاستراتيجية العسكرية، ثعلب الصحراء أروين رومل، كان المسمار الأول في نعش النازية وبداية النهاية للحرب التي خسرها الفوهرر. وأن هذه الهزيمة لم تكن لتتحقق لولا بطولة أبناء ليبيا المشاركين في الحرب، مشيراً إلى دورهم في هزيمة جرسياني، حيث أنه في يوم واحد كما يقول المؤلف أسلم أكثر من ثلاثين ألف مجند ليبي مع الإيطاليين أنفسهم إلى جيش الحلفاء، ليصبحوا جنوداً يحاربون معه، ويرتدون على الايطاليين ويطاردونهم عبر الصحراء، حتى أخرجوهم من الحرب، فاستخدم الجيش النازي ثغر ميناء طبرق لإنزال الفيلق الافريقي بقيادة رومل الذي جاء من مناطق نورماندي في فرنسا، بعد أن أظهر براعة في إدارة المعارك هناك، وكان قادراً على اكتساح جبهة الحلفاء وإنزال الخسائر بها، إلى حد هدد بهزيمتهم، والوصول بجيشه إلى القاهرة، إلا أن الليبيين، باعتبارهم خبراء بأرض بلادهم كانوا قد انتشروا خلف خطوطه، بناء على خطة محكمة وضعها الجنرال مونتجمري، تحتاج إلى التضحية والاستبسال وروح الفداء التي أثبت الليبيون أنهم أهل لها وقادرون عليها، فوصلوا إلى كل خزانات الوقود وأشعلوا فيها النيران تاركين جيش رومل مجرد ديكور لآليات عسكرية، فجاء النصر يسيراً لجيش الحلفاء واكتسحوا الجبهة وتحرك جيشهم من العلمين لا يوقفه أحد حتى حدود ليبيا مع تونس، حيث كان الانزال الأمريكي قد أفرغ ذلك الجزء من الشمال الافريقي من جيوش المحور.

وكان ذهول الحاضرين كبيراً لما قلت، خاصة بعد أن تولى الخطيب نفسه توزيع ما تم تصويره على ثلاثين واحداً من أنصاره، وقرأ مقاطع من شهادة هذا الكاتب اليهودي الذي يتحدث عن دور الليبيين في إنهاء النازية وإسقاط هتلر، إلى حد أن عدداً من اليهود أنفسهم ممن كانوا يهددونني باستخدام العنف والطرد من الحديقة، جاءوا يهنئونني ويحتضنوني، تحية لما فعل رجال من أبناء وطني في هزيمة النازية وإسقاط زعيمها الإبليسي ادولف هتلر، وكان أوج هذا الاعتراف، هو هبوط الخطيب من فوق منبره، ليقول لي أنه يعتذر عما قاله عن نازية الشعب الليبي، وأنه منذ اليوم سيختار موضوعاً آخر لخطبته، دليلاً على اقتناعه بكلامي. فقلت له أنني لست صاحب الفضل في ذلك، وإنما صاحب الفضل عم من أعمامي في بلدة مزده اسمه الحاج المهدي القنطراري، عليه رضوان الله.

_________________________
الفصول الأربعة، العدد 119 – ديسمبر 2018




ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...