قبل أيام؛ كنتُ في بيت أهلي، وأفضى الحديث مع إخوتي إلى ذكر (فارس)، ابن حيّنا، ذلك الشاب الصغير الذي رفض الذهاب إلى الجيش وأحرق نفسه أوائل أيام العام 1994.
روى أخي (سليم) -الذي كان صديقه المقرّب- بعض المواقف الطريفة التي جمعتهما معاً في المدرسة وخارجها والتي تسبّب فيها (فارس) بمعاقبتهما أو تعرضهما للضرب. ابتسم (سليم) بمرارة وقال: كانت به رعونة. لم يكن طبيعياً تماماً. فليرحمه الله.
في مساء اليوم التالي، ألحّت عليّ فكرة كتابة قصة عن (فارس). لم تكن لدي فكرة واضحة عن القصة، وكان يعوزني الكثير من التفاصيل.
بعثتُ على الماسنجر رسالة لـ (سليم) طالباً تزويدي بكل ما يتذكره عن انتحار (فارس). فأرسل لي :
(( ... قبل دقائق من انتحاره؛ جاء (فارس) إليّ. كنت أجلس على الرصيف، أدخن خلسة. حين رأيته يخرج من زقاقه ويتجه نحوي، كتمتُ ضحكي. فمشيته كانت كمن يخطو لمبارزة وملابسه المبعثرة وشعره المنسدل؛ الملتصق برقبته ووجهه كانا مبللين. حسبتُ أن هيئته هذه نتيجة مشاجرة مع أهله. وقف أمامي وقال:
- انطيني جداحة، بسرعة.
سألته ببرود عما ينوي فعله بها، فقال:
- أريد أحرق روحي.
لا أتذكر الكلمات التي سخرتُ بها منه. لكنني أتذكر طلبي منه التعقل والالتحاق بوحدته، خاصة أنه لم تكن هناك حرب، صاح بي:
- سليم، عوفني بحالي. انطيني الجداحة.
أعطيته الولاعة بلامبالاة فأخذها وعاد إلى بيته. بعد دقائق سمعنا الصراخ والعويل من بيته... أظن أن لي يداً في انتحاره. سخريتي وتشكيكي بعزمه على الانتحار ربما عدّهما انتقاصاً من رجولته وتحدياً لإرادته ودفعتاه لإثبات خطئي... لم أخبر أحداً بهذه الحادثة.. أشعر بتأنيب الضمير.))
ذيّل (سليم) رسالته بملاحظة: إن لـ (نصره) أخت (فارس) الصغرى، التي لابد أنني أتذكرها، صفحة على (الفيس بوك) وأن من الممكن أن تزودني بتفاصيل أخرى أكثر. ترددتُ كثيراً قبل أن أفعل. كتبتْ لي:
((.... لم يكن ينوي الانتحار حقاً. كان يهدد بذلك ليُترك وشأنه.
الرفاق الحزبيون كانوا يأتون لبيتنا. سمعتهم مرة يقولون لأبي إن ما يمنعهم من اقتحام بيتنا واعتقال فارس هو كوننا عائلة طيبة وشريفة. أبواي كانا يستعطفان (فارس). أبي كان يكرر:( وليدي، استر علينا).
في يوم انتحاره؛ عاد (فارس) إلى البيت قبيل الظهر؛ هائجاً. ملابسه ممزقة ومتربة. الدم يسيل من أنفه وفمه. حطّم زجاج نافذة وكسر بعض الأشياء. كان يصرخ ( عوفوني بحالي). صبَّ جأم غضبه هذه المرة على أمي حتى أنه نعتها بابنة الكلب وبالساقطة. انزوى يبكي بهدوء وقد غمره الحزن. دخل الحمام فحسبتُ أنه سيستحم لكنه خرج وصعد إلى سطح البيت. انشغلتُ مع أمي وأخواتي في غرفة أمي. سمعناه ينزل الدرج ويخرج من البيت. بعد دقائق سمعنا صوت أحدهم في البيت. خرجتُ أستطلع الأمر. لمحتُ باب السطح مفتوحة. لابد أن (فارساً) نسى اغلاقها. صعدتُ الدرج وأغلقتها. رأيتُ باب الحمام مفتوحة وآنيتي الحمام مملوءتان بالماء. ارتجت باب السطح بقوة، مرة مرتان ثلاث. اضطربتُ. صعدتُ وفتحتُ الباب، لكن الأوان قد فات.
كان خطط أنه بعد أن يُشعل النار في جسده؛ سينزل الدرج ويدخل الحمام ليُطفأ النار بالماء الذي ملأ به الآنيتين!
هل كان سينجح لو لم أغلق الباب؟
كان يريد تحذيرنا. لم يكن ينوي الانتحار حقاً. لن أسامح نفسي أبداً.))
في نهاية رسالتها، أشارت (نصره) عليّ أن أحدث خالها (عامراً) لمزيد من التفاصيل، إذ كان يوليه عنايته وكان الأكثر تأثراً من بين أخوالها بانتحار (فارس). كنتُ أعرف (عامراً) منذ أيام الدراسة الابتدائية. كتبتُ له فردّ عليّ:
((... لم أقف على سبب رفض (فارس) الالتحاق بوحدته. من معرفتي به؛ خمنتُ أنه ربما يتعرض للسخرية والإذلال هناك. وكنتُ فكرتُ في الذهاب إلى وحدته والحديث مع الضباط بهذا الخصوص.
أبواه لم يتمكنا من حمله على الذهاب إلى وحدته، فلجأتْ أمه إلينا. كان قد صدر قبل يومين قرارُ قطع صيوان الأذن ووشم الجبهة بحق المتخلف والفار من الخدمة العسكرية ومن يؤويهم أو يتستر عليهم. اتفقتُ مع أخويّ على ارغام (فارس) تسليم نفسه إلى السلطات قبل مضي سبعة أيام على اصدار القرار وهي المدة التي حددها القرار لتجنب العقوبة.
وجدناه عند مدخل حيِّه. كان عنيداً ولم يفلح حديثنا معه في تليين موقفه وانتهى الأمر بنا إلى ضربه. كنتُ أنا من بادر إلى توجيه الضربة الأولى له. كان يصرخ: (عوفوني بحالي)
أنا من يتحمل وزر انتحاره. لم يستطع تحمل عار ضربهِ أمام الناس. انتحر بعد ساعة.
لا أستطيع نسيان نظراته المندهشة؛ المنكسرة .صرختهُ لاتزال ترن في أذني حتى اليوم.))
ها قد تجمعت لدي مادة لابأس بها، يمكن الشروع منها في بناء القصة. ما أن وضعت القلم على الورقة حتى وردتني رسالة على الماسنجر. الرسالة مرسلة من حساب وهمي ونصها يقول:
- دعني وشأني.
تحذير لا يمكن تجاهله، ينبغي أخذه على محمل الجد.
هذا ما فكرتُ به ، غير أني سرعان ما قررتُ ألا أتركه لشأنه أنا أيضاً. تناولتُ القلم وبدأتُ:
(قبل ايام؛ كنتُ في بيت أهلي، وأفضى الحديث مع أخوتي إلى ذكر (فارس)، ابن حيّنا، ذلك الشاب الصغير الذي رفض الذهاب إلى الجيش وأحرق نفسه أوائل أيام العام 1994)
روى أخي (سليم) -الذي كان صديقه المقرّب- بعض المواقف الطريفة التي جمعتهما معاً في المدرسة وخارجها والتي تسبّب فيها (فارس) بمعاقبتهما أو تعرضهما للضرب. ابتسم (سليم) بمرارة وقال: كانت به رعونة. لم يكن طبيعياً تماماً. فليرحمه الله.
في مساء اليوم التالي، ألحّت عليّ فكرة كتابة قصة عن (فارس). لم تكن لدي فكرة واضحة عن القصة، وكان يعوزني الكثير من التفاصيل.
بعثتُ على الماسنجر رسالة لـ (سليم) طالباً تزويدي بكل ما يتذكره عن انتحار (فارس). فأرسل لي :
(( ... قبل دقائق من انتحاره؛ جاء (فارس) إليّ. كنت أجلس على الرصيف، أدخن خلسة. حين رأيته يخرج من زقاقه ويتجه نحوي، كتمتُ ضحكي. فمشيته كانت كمن يخطو لمبارزة وملابسه المبعثرة وشعره المنسدل؛ الملتصق برقبته ووجهه كانا مبللين. حسبتُ أن هيئته هذه نتيجة مشاجرة مع أهله. وقف أمامي وقال:
- انطيني جداحة، بسرعة.
سألته ببرود عما ينوي فعله بها، فقال:
- أريد أحرق روحي.
لا أتذكر الكلمات التي سخرتُ بها منه. لكنني أتذكر طلبي منه التعقل والالتحاق بوحدته، خاصة أنه لم تكن هناك حرب، صاح بي:
- سليم، عوفني بحالي. انطيني الجداحة.
أعطيته الولاعة بلامبالاة فأخذها وعاد إلى بيته. بعد دقائق سمعنا الصراخ والعويل من بيته... أظن أن لي يداً في انتحاره. سخريتي وتشكيكي بعزمه على الانتحار ربما عدّهما انتقاصاً من رجولته وتحدياً لإرادته ودفعتاه لإثبات خطئي... لم أخبر أحداً بهذه الحادثة.. أشعر بتأنيب الضمير.))
ذيّل (سليم) رسالته بملاحظة: إن لـ (نصره) أخت (فارس) الصغرى، التي لابد أنني أتذكرها، صفحة على (الفيس بوك) وأن من الممكن أن تزودني بتفاصيل أخرى أكثر. ترددتُ كثيراً قبل أن أفعل. كتبتْ لي:
((.... لم يكن ينوي الانتحار حقاً. كان يهدد بذلك ليُترك وشأنه.
الرفاق الحزبيون كانوا يأتون لبيتنا. سمعتهم مرة يقولون لأبي إن ما يمنعهم من اقتحام بيتنا واعتقال فارس هو كوننا عائلة طيبة وشريفة. أبواي كانا يستعطفان (فارس). أبي كان يكرر:( وليدي، استر علينا).
في يوم انتحاره؛ عاد (فارس) إلى البيت قبيل الظهر؛ هائجاً. ملابسه ممزقة ومتربة. الدم يسيل من أنفه وفمه. حطّم زجاج نافذة وكسر بعض الأشياء. كان يصرخ ( عوفوني بحالي). صبَّ جأم غضبه هذه المرة على أمي حتى أنه نعتها بابنة الكلب وبالساقطة. انزوى يبكي بهدوء وقد غمره الحزن. دخل الحمام فحسبتُ أنه سيستحم لكنه خرج وصعد إلى سطح البيت. انشغلتُ مع أمي وأخواتي في غرفة أمي. سمعناه ينزل الدرج ويخرج من البيت. بعد دقائق سمعنا صوت أحدهم في البيت. خرجتُ أستطلع الأمر. لمحتُ باب السطح مفتوحة. لابد أن (فارساً) نسى اغلاقها. صعدتُ الدرج وأغلقتها. رأيتُ باب الحمام مفتوحة وآنيتي الحمام مملوءتان بالماء. ارتجت باب السطح بقوة، مرة مرتان ثلاث. اضطربتُ. صعدتُ وفتحتُ الباب، لكن الأوان قد فات.
كان خطط أنه بعد أن يُشعل النار في جسده؛ سينزل الدرج ويدخل الحمام ليُطفأ النار بالماء الذي ملأ به الآنيتين!
هل كان سينجح لو لم أغلق الباب؟
كان يريد تحذيرنا. لم يكن ينوي الانتحار حقاً. لن أسامح نفسي أبداً.))
في نهاية رسالتها، أشارت (نصره) عليّ أن أحدث خالها (عامراً) لمزيد من التفاصيل، إذ كان يوليه عنايته وكان الأكثر تأثراً من بين أخوالها بانتحار (فارس). كنتُ أعرف (عامراً) منذ أيام الدراسة الابتدائية. كتبتُ له فردّ عليّ:
((... لم أقف على سبب رفض (فارس) الالتحاق بوحدته. من معرفتي به؛ خمنتُ أنه ربما يتعرض للسخرية والإذلال هناك. وكنتُ فكرتُ في الذهاب إلى وحدته والحديث مع الضباط بهذا الخصوص.
أبواه لم يتمكنا من حمله على الذهاب إلى وحدته، فلجأتْ أمه إلينا. كان قد صدر قبل يومين قرارُ قطع صيوان الأذن ووشم الجبهة بحق المتخلف والفار من الخدمة العسكرية ومن يؤويهم أو يتستر عليهم. اتفقتُ مع أخويّ على ارغام (فارس) تسليم نفسه إلى السلطات قبل مضي سبعة أيام على اصدار القرار وهي المدة التي حددها القرار لتجنب العقوبة.
وجدناه عند مدخل حيِّه. كان عنيداً ولم يفلح حديثنا معه في تليين موقفه وانتهى الأمر بنا إلى ضربه. كنتُ أنا من بادر إلى توجيه الضربة الأولى له. كان يصرخ: (عوفوني بحالي)
أنا من يتحمل وزر انتحاره. لم يستطع تحمل عار ضربهِ أمام الناس. انتحر بعد ساعة.
لا أستطيع نسيان نظراته المندهشة؛ المنكسرة .صرختهُ لاتزال ترن في أذني حتى اليوم.))
ها قد تجمعت لدي مادة لابأس بها، يمكن الشروع منها في بناء القصة. ما أن وضعت القلم على الورقة حتى وردتني رسالة على الماسنجر. الرسالة مرسلة من حساب وهمي ونصها يقول:
- دعني وشأني.
تحذير لا يمكن تجاهله، ينبغي أخذه على محمل الجد.
هذا ما فكرتُ به ، غير أني سرعان ما قررتُ ألا أتركه لشأنه أنا أيضاً. تناولتُ القلم وبدأتُ:
(قبل ايام؛ كنتُ في بيت أهلي، وأفضى الحديث مع أخوتي إلى ذكر (فارس)، ابن حيّنا، ذلك الشاب الصغير الذي رفض الذهاب إلى الجيش وأحرق نفسه أوائل أيام العام 1994)