[18]
عَن شجرة الجبل
هذا القسم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقسم السادس ويضمّ بعض الإشارات إلى الديباجة، ولاسيما البهلواني فوق الحبل المشدود. الشاب مثالٌ آخر على الإنسان الذي يُسحَقُ تحت وطء إدراكه أنّه مستعدٌ "لتجاوز ذاته" من دون أن يجد في داخله الوسائل التي تساعده لتحقيق ذلك. إذ يتشارك هذا الشاب مع المجرم الشاحب الصراع الداخلي بين الرغبة في النمو والتغلّب على ذاته وتجاوزها من حهة، والاحتقار المُنكِر للحياة من جهةٍ أخرى، ممّا يؤدّي بكليهما إلى مأزق "عُصابي". لكن هناك فرق بينهما في الحقيقة. فالمجرم الشاحب قضية خاسرة، لا أمَلَ يُرجى منه، كومة من الأمراض والأسقام، ورغبات في الثأر والانتقام. لكنّ حالة الشاب ليس ميئوساً منها تماماً. إذ أنّه يمتلك وعياً معيّناً لصراعه الداخلي، أو بالأحرى سيساعده زرادشت على فهمه. زرادشت هو مُعالجه النفساني. لهذا يقترب منه زرادشت إذ من المفيد إرشاد الشاب ومساعدته.
في موضعٍ لاحقٍ في نفس القسم، يكرّمه زرادشت (ويمازحه) حتى أنّه يمشي معه (ويا لَهُ من شَرَفٌ عظيم وكبير، إذ نلاحظ لاحقاً كيف أنّ زرادشت سيتخلّى عن تلاميذه ويتركهم ويمضي بعيداً عنهم). هنا، ولأوّل مرة حتى الآن، نلاحظ وجود علاقة أو تواصل حقيقي وفعلي بين زرادشت وإنسان آخر/تلميذ، والذي قد يعزّز مسألة حياة الإنسان ونموّه. وعلى الرغم من أنّ الاستعارة للمَثَل مُستَعارة مرّةً أخرى من عالم الطبيعة السويسرية، إلا أنّه من حيث الجودة والنغمة، ذو طابع صيني. إنّه يعيد إلى الأذهان تجربة بريخت التعليمية للمسرح الملحمي بعنصره الأساسي المتمثّل في جعله "يبدو غريباً" كوسيلة لمزيد من الفهم، كما جرى على سبيل المثال في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" أو "مسرحيات تعليمية Lehrstücke".
يقارن زرادشت بين وضع الشاب وحالة الشجرة المنعزلة على سفح جبل مرتفع يطلّ على وادٍ. وهذه هي المستويات الثلاثة للمقارنة بين الشجرة والإنسان على مستوى الأمثولة: أولاً، كلاهما "مَحنِيٌّ ومُعَذَّب" بواسطة قوى طبيعية خارجة عن إرادتيهما، وكلٌ منهما يتفاعل مع ذلك بالرغبة في أن يصبح أطول وأقوى.
تسعى إرادة القوّة في الحياة إلى تغيير موضوعها من أجل زيادة شعورها بالقوة: ولايمكنها ذلك إلا إذا واجهت مقاومة أو معارضة شديدة، وبالتالي، خطراً داهماً. كثيراً ما ترد على لسان زرادشت عبارة "أفضل عدوَ" (حتى أنّ صورة الشجرة وردت في القسم التاسع عشر من كتاب العلم المرح). ثانياً، يكون الإنسان مثل الشجرة عندما يريد تحقيق مستويات أعلى وأرقى من الإنجاز: كالشجرة التي تزداد طولاً، فهو يحتاج إلى ضرب جذوره اعمق في الظلام، وبالتالي "في الشر". الأمر الذي يحمل مَعنَيين اثنين: يعني أنّ الروح الحُرّة ستتعرّض للتهديد من الداخل من خلال أنواع جديدة من الإغراءات أو الرذائل (كالاحتقار، أو الحسد)، كما أنّه يعني أيضاً أنّ تقدّم الحياة يجب أن ينبع بالضرورة على حساب تلك القيم التي تحملها أشكال الحياة الأخرى، وبالتالي يتمّ تهديدها من الخارج من قبل أولئك الذين يطلقون على أنفسهم لقب "صالحين".
ثالثاً، تريد الشجرة والإنسان أن يزدادا طولاً بحيث يرتفعان ويرتقيا فوق كل ما يحيط بهما وهما "ينتظران أوّل صاعقة". كما أنّ العُزلَةَ هي أحد الشروط الرئيسية لتجاوز الذات والتغلّب عليها. ومن خلال هذه الصور المجازية، ندخل مجال الأساطير، وفي الوقت نفسه مجال العلوم الحديثة، أي ظواهر الغلاف الجوي الكهربائية. الصاعقة كظاهرة طبيعية مُدهشة (رائعة/استثنائية) وكمجاز للحيوية العفوية الذاتية، إذ يُعَدّ البرق أو الصاعقة أحد الاستعارات المفضّلة للأدب الرومانسي، وبشكل خاص الـأدب القوطي. كقصّة الدكتور فرانكنشتاين وهايبيريون.
يجب أن ينهار نمط الحياة القديم من أجل عملية التحوّل. وتشير القصة الرمزية إلى لحظة متقدّمة في التأليه الديونيزي للطبيعة حيث يتّحد العالم مع نفسه ف وحدة دائمة لا تَنفَصم، ثم ستظهر أشكال جديدة. لكنّ الشاب منزعجٌ جداً من رؤية المعنى الإيجاب المُبهِج في صورة زرادشت: لايمكنه إلا التفكير في حسده لكل ما ينمو، ويتصوّر تدميره وهلاكه. إنّه ينهار ويبكي. وعلة زرادشت أن يأخذه بعيداً لتهدئته. لذلك، وبطريقةٍ ما، نجد أنّ تعاليم زرادشت هنا عن طريق الأمثال قد فشلت فشلاً ذريعاً ولم تؤتِ بنتيجة: الشاب يواصل إساءة فهم وتفسير معنى المَثَل. وينبغي مقارنة ذلك بسؤال القراءة والكتابة في القسم السابق.
يقوم زرادشت هنا بما زعم أنّه لن يفعله أو يُقدِمَ عليه في القسم السابق: لقد جَرّد حديثه من الكثير من دعائمه المجازية والاستعارية، والأمثال الماثورة، و"الجلجة" الشعرية. فالشاب لايزال "سجيناً في نظره... سجين يهفو بخياله إلى الحرية"، لايزال يتعيّن عليه تطهير نفسه من أجل النضال الحُرّ. ويناشد زرادشت الشاب، باسم محبّته وأمله، ألا يتخلّى عن أمله وحبّه.
ينتهي الخطاب بتقديم زرادشت لمفهوم الرجل "النبيل" مقابل الرجل "الصالح" حكيم الأخلاق والقضاة "الصالحون". إنّهم يجترّون "القديم" وبيذلون جهدهم أن يظلّ ذلك القديم مُصاناً، في حين أنّ الرجل "النبيل" ((يريد شيئاً جديداً أو يُبدع فضيلة جديدة)). لذلك فإنّ الرجل النبيل هو رجل ثوري، لكن حتّى النبيل لايستطيع أن يكتفي بما حقّقه من أمجاد، ويغتَرُّ بعدها على كل الآمال السامية، التي يطمح إليها من أجل التفوّق على الإنسانية وبلوغ مرحلة الإنسان الأعلى. قد يغترّ ويحيد عن طريق النمو بالمشاعر السلبية، ويعيد تعريف روحه النبيلة وفضيلته على أنّها مجرّد نزوة.
يؤكّد الأستاذ علي مصباح تفسيره لمفهوم النبالة في هامش تعليقه على عبارة نيتشه إذ يقول: ((النبالة هنا ليست بمعنى اللقب الاجتماعي الأرستقراطي، أي نبالة مرتبة اجتماعية "أو نَبالة دَم موروثة"، بل هي تلك "النبالة الجديدة" التي تتحدّد بالأخلاقيات الجديدة التي يضعها نيتشه)) [صـ92]
رأى زرادشت أنّ الشاب يستحقّ أن يخاطَبَ بهذه الطريقة. ولايزال هناك أمل في علاجه وتقويمه _وإلا فإنّ زرادشت سيكون مذنباً بارتكاب جريمك شَفَقَة أخرى (الجريمة الأولى هي حمله لجثّة البهلواني ومحاولة دفنه). يجب ألا تفوتنا هذه اللحظات التي يسخر فيها نيتشه من نبيّه والناطق بلسانه، ولاينبغي أن تفوتنا حقيقة أنّ هذا التهكّم الذاتي ما هو إلا جزء من الاستراتيجية التربوية لنيتشه/زرادشت.
إبراهيم قيس جركس 2020
عَن شجرة الجبل
هذا القسم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقسم السادس ويضمّ بعض الإشارات إلى الديباجة، ولاسيما البهلواني فوق الحبل المشدود. الشاب مثالٌ آخر على الإنسان الذي يُسحَقُ تحت وطء إدراكه أنّه مستعدٌ "لتجاوز ذاته" من دون أن يجد في داخله الوسائل التي تساعده لتحقيق ذلك. إذ يتشارك هذا الشاب مع المجرم الشاحب الصراع الداخلي بين الرغبة في النمو والتغلّب على ذاته وتجاوزها من حهة، والاحتقار المُنكِر للحياة من جهةٍ أخرى، ممّا يؤدّي بكليهما إلى مأزق "عُصابي". لكن هناك فرق بينهما في الحقيقة. فالمجرم الشاحب قضية خاسرة، لا أمَلَ يُرجى منه، كومة من الأمراض والأسقام، ورغبات في الثأر والانتقام. لكنّ حالة الشاب ليس ميئوساً منها تماماً. إذ أنّه يمتلك وعياً معيّناً لصراعه الداخلي، أو بالأحرى سيساعده زرادشت على فهمه. زرادشت هو مُعالجه النفساني. لهذا يقترب منه زرادشت إذ من المفيد إرشاد الشاب ومساعدته.
في موضعٍ لاحقٍ في نفس القسم، يكرّمه زرادشت (ويمازحه) حتى أنّه يمشي معه (ويا لَهُ من شَرَفٌ عظيم وكبير، إذ نلاحظ لاحقاً كيف أنّ زرادشت سيتخلّى عن تلاميذه ويتركهم ويمضي بعيداً عنهم). هنا، ولأوّل مرة حتى الآن، نلاحظ وجود علاقة أو تواصل حقيقي وفعلي بين زرادشت وإنسان آخر/تلميذ، والذي قد يعزّز مسألة حياة الإنسان ونموّه. وعلى الرغم من أنّ الاستعارة للمَثَل مُستَعارة مرّةً أخرى من عالم الطبيعة السويسرية، إلا أنّه من حيث الجودة والنغمة، ذو طابع صيني. إنّه يعيد إلى الأذهان تجربة بريخت التعليمية للمسرح الملحمي بعنصره الأساسي المتمثّل في جعله "يبدو غريباً" كوسيلة لمزيد من الفهم، كما جرى على سبيل المثال في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" أو "مسرحيات تعليمية Lehrstücke".
يقارن زرادشت بين وضع الشاب وحالة الشجرة المنعزلة على سفح جبل مرتفع يطلّ على وادٍ. وهذه هي المستويات الثلاثة للمقارنة بين الشجرة والإنسان على مستوى الأمثولة: أولاً، كلاهما "مَحنِيٌّ ومُعَذَّب" بواسطة قوى طبيعية خارجة عن إرادتيهما، وكلٌ منهما يتفاعل مع ذلك بالرغبة في أن يصبح أطول وأقوى.
تسعى إرادة القوّة في الحياة إلى تغيير موضوعها من أجل زيادة شعورها بالقوة: ولايمكنها ذلك إلا إذا واجهت مقاومة أو معارضة شديدة، وبالتالي، خطراً داهماً. كثيراً ما ترد على لسان زرادشت عبارة "أفضل عدوَ" (حتى أنّ صورة الشجرة وردت في القسم التاسع عشر من كتاب العلم المرح). ثانياً، يكون الإنسان مثل الشجرة عندما يريد تحقيق مستويات أعلى وأرقى من الإنجاز: كالشجرة التي تزداد طولاً، فهو يحتاج إلى ضرب جذوره اعمق في الظلام، وبالتالي "في الشر". الأمر الذي يحمل مَعنَيين اثنين: يعني أنّ الروح الحُرّة ستتعرّض للتهديد من الداخل من خلال أنواع جديدة من الإغراءات أو الرذائل (كالاحتقار، أو الحسد)، كما أنّه يعني أيضاً أنّ تقدّم الحياة يجب أن ينبع بالضرورة على حساب تلك القيم التي تحملها أشكال الحياة الأخرى، وبالتالي يتمّ تهديدها من الخارج من قبل أولئك الذين يطلقون على أنفسهم لقب "صالحين".
ثالثاً، تريد الشجرة والإنسان أن يزدادا طولاً بحيث يرتفعان ويرتقيا فوق كل ما يحيط بهما وهما "ينتظران أوّل صاعقة". كما أنّ العُزلَةَ هي أحد الشروط الرئيسية لتجاوز الذات والتغلّب عليها. ومن خلال هذه الصور المجازية، ندخل مجال الأساطير، وفي الوقت نفسه مجال العلوم الحديثة، أي ظواهر الغلاف الجوي الكهربائية. الصاعقة كظاهرة طبيعية مُدهشة (رائعة/استثنائية) وكمجاز للحيوية العفوية الذاتية، إذ يُعَدّ البرق أو الصاعقة أحد الاستعارات المفضّلة للأدب الرومانسي، وبشكل خاص الـأدب القوطي. كقصّة الدكتور فرانكنشتاين وهايبيريون.
يجب أن ينهار نمط الحياة القديم من أجل عملية التحوّل. وتشير القصة الرمزية إلى لحظة متقدّمة في التأليه الديونيزي للطبيعة حيث يتّحد العالم مع نفسه ف وحدة دائمة لا تَنفَصم، ثم ستظهر أشكال جديدة. لكنّ الشاب منزعجٌ جداً من رؤية المعنى الإيجاب المُبهِج في صورة زرادشت: لايمكنه إلا التفكير في حسده لكل ما ينمو، ويتصوّر تدميره وهلاكه. إنّه ينهار ويبكي. وعلة زرادشت أن يأخذه بعيداً لتهدئته. لذلك، وبطريقةٍ ما، نجد أنّ تعاليم زرادشت هنا عن طريق الأمثال قد فشلت فشلاً ذريعاً ولم تؤتِ بنتيجة: الشاب يواصل إساءة فهم وتفسير معنى المَثَل. وينبغي مقارنة ذلك بسؤال القراءة والكتابة في القسم السابق.
يقوم زرادشت هنا بما زعم أنّه لن يفعله أو يُقدِمَ عليه في القسم السابق: لقد جَرّد حديثه من الكثير من دعائمه المجازية والاستعارية، والأمثال الماثورة، و"الجلجة" الشعرية. فالشاب لايزال "سجيناً في نظره... سجين يهفو بخياله إلى الحرية"، لايزال يتعيّن عليه تطهير نفسه من أجل النضال الحُرّ. ويناشد زرادشت الشاب، باسم محبّته وأمله، ألا يتخلّى عن أمله وحبّه.
ينتهي الخطاب بتقديم زرادشت لمفهوم الرجل "النبيل" مقابل الرجل "الصالح" حكيم الأخلاق والقضاة "الصالحون". إنّهم يجترّون "القديم" وبيذلون جهدهم أن يظلّ ذلك القديم مُصاناً، في حين أنّ الرجل "النبيل" ((يريد شيئاً جديداً أو يُبدع فضيلة جديدة)). لذلك فإنّ الرجل النبيل هو رجل ثوري، لكن حتّى النبيل لايستطيع أن يكتفي بما حقّقه من أمجاد، ويغتَرُّ بعدها على كل الآمال السامية، التي يطمح إليها من أجل التفوّق على الإنسانية وبلوغ مرحلة الإنسان الأعلى. قد يغترّ ويحيد عن طريق النمو بالمشاعر السلبية، ويعيد تعريف روحه النبيلة وفضيلته على أنّها مجرّد نزوة.
يؤكّد الأستاذ علي مصباح تفسيره لمفهوم النبالة في هامش تعليقه على عبارة نيتشه إذ يقول: ((النبالة هنا ليست بمعنى اللقب الاجتماعي الأرستقراطي، أي نبالة مرتبة اجتماعية "أو نَبالة دَم موروثة"، بل هي تلك "النبالة الجديدة" التي تتحدّد بالأخلاقيات الجديدة التي يضعها نيتشه)) [صـ92]
رأى زرادشت أنّ الشاب يستحقّ أن يخاطَبَ بهذه الطريقة. ولايزال هناك أمل في علاجه وتقويمه _وإلا فإنّ زرادشت سيكون مذنباً بارتكاب جريمك شَفَقَة أخرى (الجريمة الأولى هي حمله لجثّة البهلواني ومحاولة دفنه). يجب ألا تفوتنا هذه اللحظات التي يسخر فيها نيتشه من نبيّه والناطق بلسانه، ولاينبغي أن تفوتنا حقيقة أنّ هذا التهكّم الذاتي ما هو إلا جزء من الاستراتيجية التربوية لنيتشه/زرادشت.
إبراهيم قيس جركس 2020