زرادشت، الشخصية المركزية في كتاب نيتشه الأهم "هكذا تكلّم رزادشت" (كُتِبَ على أربعة أجزاء خلال الفترة مابين ١٨٨٣-١٨٨٥)، إلا أنّه تمّ تقديم شخصية زرادشت لأول مرة في القسم الختامي للطبعة الأولى من كتاب "العلم المرح" (١٨٨٢) شذرة ٣٤٢، وهذه الشذرة تشبه إلى حد كبير افتتاحية كتاب "هكذا تكلّم زرادشت".
((٣٤٢- لمّا بلغ زرادشت الثلاثين من عمره غادر موطنه الأصلي وبحيرة إيرمي وصعد الجبل. هناك تمتّه بحكمته ووحدته وَلَم يَعِيَ ذلك قط طيلة عشر سنين. لكن قلبه تغيّر في الأخير - وذاتَ صباح استيقظ مع بزوغ الفجر وذهب قُدّام الشمس وخاطبها قائلاً "أيها الكوكب العظيم! ماذا كانت ستكون غبطتك لو لم يكن هؤلاء الذين تنيرهم! لقد طلعتَ هنا، في اتجاه مغارتي، طيلة عشر سنين: وقد كنتَ مُتخَماً بضوئك وبطريقك، بدوني أنا، بدون نسوي وأفعواني. لكننا كنّا ننتظرك كل صباح، كنّا نُخَلّصكَ من اشمئزازك، ونُبركَكَ في المقابل. هذا ما في الأمر. إنّي أتقزّز من حكمتي، مثل النحلة جمعَتْ من العسل الكثير، أنا في حاجة إلى بسط يداي، أريدُ أن أعطي وأوزّع إلى أن يستمتع العُقلاء من بين الناس بجنونهم مرّةً أخرى، ويستمتع الفقراء بغناهم مرّةً أخرى. فيما يخصّني أنا، أريد أن أهبط إلى الأعماق: مثلما تفعل أنت في المساء حين تمرّ أنت وراء البحر وتجلب النور حتى للعالم الجهنّمي، أيّها الكوكب الفيّاض! -لابُدّ لي، مثلك، أن أميل، كما يقول الناس، في أنجاه أولئك الذين أريد أن أنزل وسطهم. هكذا أباركُكِ أيّتها العين الهادئة التي تتحمّل، دون حقد، رؤية غبطة عظيمة جداً! فباركي الكأس التي ترغب أن تطفح حتى يسيل منها الماء بحراً ذهبياً فينشر انعكاس مُتعَتِكِ في كل مكان! هو كذلك! هذه الكأس تريد أن تُفرَغَ من جديد ، وزوادشت يريد أن يعود إنساناً" هكذا بدأ أفول رزادشت)).
كان زرادشت نبيّاً ومعلّماً دينياً فارسياً في القرن السادس قبل الميلاد. وكانت السمة المركزية في تعاليم زرادشت التاريخية هي النظرة الأحادية للعالم، حيث أنّ قوى النور/الخير في صراع أزلي وأبدي مع قوى الظلام/ الشر. أمّا زرادشت نيتشه فيبشّر بطريق تجاوز هذا الصراع والتغلّب عليه، والمُضيّ إلى ماوراء الخير والشر (وهو امتياز مَنَحَه إياه بما أنه كان خالقه). نص زرادشت هو مزيج مذهل من المحاكاة التوراتية التهكمية الساخرة، والتكهّنات الفلسفية، والتأمّل النفسي.
يتكوّن النص من ديباجة وخُطَب وأمثال، وتأطيرها ضمن إطار سرد مهمة زرادشت التي فحواها إعلان التغلّب على الإنسانية وتجاوزها. في مواضع أخرى من النص يتمّ معالجة العديد من القضايا المختلفة الأخرى (نظرات حول طبيعة القيم، والمرأة، والذات، والجسد، والحداثة، والسياسة، والدولة). وأعلن أيضاً عن فلسفات كالعَود الأبدي وإرادة القوة. من الواضح أنّ بعض نقاش النص تتطلّب صبراً أقل من غيرها: فقد مات الله، كما أعلن زرادشت بصراحة عند بداية النص تقريباً. في الواقع، إنّ كتابات موت الإله: إرادة الحقيقة ونظام العلوم التي تستند إليها لايمكن أن تفلت كلياً من هيمنة الميتافيزيقا. قد يتّضح أنّ الله نفسه هو "أكبر كذباتنا ديمومةً". وكون تعبيرها صريحاً إلى هذا الحد، يتمّ الكشف عن إرادة الحقيقة كشيء يحتاج إلى "نقد" (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، شذرة ٢٤) وبذلك، لا يعني نيتشه أنها شيء يجب انتقاده بلا هوادة. بل المقصود النقد بالمعنى الكانطي للكلمة. وكما سبق وقلنا، هذا يهدف، في حالة نيتشه، إلى استكشاف مجال إرادة الحقيقة بهدف تحديد قيمتها وحدودها. علينا باختصار معالجة مسألة قيمة الحقيقة ضمن مجالها الخاص - وهو مجال الفكر الذي صاغته لنا. في عصر الحداثة، يعني هذا الانطلاق من موقف الإلحاد النزيه (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، شذرة٢٧).
# موت الإله
======
جنباً إلى جنب مع العبارة من كتاب "غسق الأوثان"، ((ما لا يقتلني يجعلني أكثر قوّة)) [أمثال ولواذع، شذرة٨] يُعلن المجنون في كتاب "العلم المرح"، شذرة ١٢٥، أنّ "الله مات" ربما يغلّف نيتشه كما هو مُتَعارَف عليه في المخيال الشعبي. ما قد يعنيه مفهوم "موت الإله" وما يمكن تفسيره من قبل العامّة أو القرّاء المهملين والمتسرّعين أمران مختلفان تماماً. لسببٍ واحد، لا يعني ذلك الإعلان أنّ هناك كائن حي فعلي اسمه الله قد مات فعلاً. بالأحرى، يشير مفهوم الإله إلى زوال الإيمان بالحقائق الميتافيزيقية التي عملت حتى الآن على دعم قيم المسيحية وبالتالي الثقافة الأوروبية. تمّت الإشارة إليه أولاً في الشذرة ١٠٨ من كتاب "العلم المرح":
((صراعات جديدة - بعد أن مات بوذا أُظهِرَ ظلَّهُ في مغارةٍ طيلة قرون _ [وكان] ظلاً رهيباً ومخيفاً. لقد مات الإله: لكن هاتِهِ هي طبيعة الناس بحيث ستكون هناك، ربما طيلة ألفيات، مَغارتت يُعرَض فيها ظلّه. _أمّا نحن_ فيجب علينا أن نهزم ظلّه كذلك))
يقدّم الإيمان بالله على أنه "ظل" يُلقي نفسه على فهمنا ومستقبله. بمعنى آخر، إنه ليس شيئاً يمكن الهروب والإفلات منه بسهولة. إنّ تصرّفاتنا ورغباتنا وطُرُقنا المعتادة في التصرّف والتفكير والقيام بالأمور، وبالتالي تفسير بيئتنا وأنفسنا، تمنع الهروب المباشر من عواقب اعتناق المعتقدات الميتافيزيقية. فقط لأننا وصلنا لنقطة لم يَعُد فيها أحد يؤمن بالله لايعني أنّ كل ما يرتبط بهذا الإيمان قد يختفي معه (يناقش نيتشه مفهوم "أخلاقية" مشاعر الذنب في المقال الثاني من كتاب جينيالوجيا الأخلاق). ويشير مقطع من كتاب "الفجر" إلى نقطة مماثلة: ((فيمَ نخالف الصواب. -إننا مستمرّون في استنتاج عواقب الأحكام التي نعتبرها خاطئة، والعقائد التي لَمْ نَعُد نؤمن بها، -باستخدام عواطفنا)) [شذرة٩٩]. ووفقاً لهذا الرأي، نحن مخلوقات تهيمن عليها تصرفاتها وانفعالاتها وعواطفها وجميع العادات التي تنبثق عنها، نحن لسنا مخلوقات عقلانية. نحن نصدر أحكام مُسبقة وبالتالي نقيس أهمية الأشياء وفقاً لهيمنة بعض المشاعر والعواطف والعادات. هذا ليس أقلّها فيما يتعلّق بتلآثار التي تنطوي عليها هذه العادات في الحكم على الطريقة التي ننظر بها إلى الأخلاق:
((قديماً آمَنَ أناسٌ نبلاء وحكماء بتناغم الأفلاك: ولايزال أناسٌ نُبلاء وحكماء يؤمنون "بالقيمة الأخلاقية للوجود". وسيأتي الذي لن تدرك فيه آذانهم ذلك التناغم! عندها سيستيقظون ويُدركون أنّ أذنهم كانت تحلم)) [الفجر، شذرة١٠٠]
بالنسبة لنيتشه إنّ الإيمان بالإله المسيحي وتأكيد النظرة الميتافيزيقية التي تزعم بوجود مستقل للقيم عن الأشخاص الذين يقومون بعملية التقييم يسيران معاً يداً بيد. لايمكن للمرء التأكيد على أحدهما من دون الآخر: فالأخلاق المسيحية والميتافيزيقا وجهان لعملة واحدة. كما أنهما تتغلغلان في أعماق محيطنا الثقافي وبالتالي تشكّلان أساس العديد من معتقداتنا التي لا تقبل الجدال فيها.
لكن ما مدى تأثير الميتافيزيقا في تفكيرنا؟ أو إلى أي حدّ تؤثر فينا؟ ضَع في اعتبارك المقطع التالي أدناه من كتاب العلم المرح:
((تحذير - لنحذر التفكير في كون العالم كائناً حياً. إلى أين سيتوسّع؟ بأي شيء سيتغذّى؟ كيف سيستطيع أن ينمو ويتكاثر؟ إننا، من جهةٍ أخرى، نعلم تقريباً ما هو العضوي: وما مدركه متفرّعاً للغاية، متأخّراً، نادراً، عَرَضياً على قشرة الأرض، أسنذهب إلى حدّ تفسيره على اعتباره أنه الأساسي، الكوني، الأزلي، كما يفعله أولئك الذين يسمّون الكون جهازاً عصبياً؟ هذا شيء يثير اشمئزازي. لنحذر الاعتقاد لأول وهلة أنّ الكون عبارة عن آلة: إنه لم ينشأ لغاية ما بكل تأكيد، ونحن نشرّفه كثيراً إذ نمنحه اسم "آلك". [...] إنّ طبيعة كل العالم هي منذ الأزل طبيعة الفوضى ليس بسبب غياب الحاجة لكن بسبب غياب النظام، التمفصُل، الشكل، الجمال، الحكمة، وذلك مهما تكن مقولاتنا الجمالية الإنسانية. [...] كيف سنجرؤ على لوم الكون أو الثناء عليه؟ لنحذر مؤاخذته على قلّة مروئته أو قلّة غباوته أو عكسهما: فما هو بكامل ولا جميل ولا نبيل، ولايريد أن يصير شيئاً من هذا القبيل، إنه لايطمح إطلاقاً لأن يُحاكي الإنسان. إنه ليس مصاباً نهائياً من أحكامنا الجمالية أو الأخلاقية. وزيادةً على ذلك ليست له غريزة البقاء [وليست له] قطعاً دوافع ما، إنه لا يعرف قانوناً قط. لنحذر أن نُعلِنَ أنَّ هناك قوانين في الطبيعة. ليست هناك إلا حاجات: هناك، لا أحد يحكم، لا أحد يطيع، لا أحد ينتهك [القانون]. منذ أن تَعْلَم أنه ليس هناك غاية فإنّك ستَعلم أنّ لت صدفة هناك. لأنّ كلمة الصدفة ليس لها معنىً إلا بالقياس إلى عالم الغايات. لنحذر القول أنّ الموتَ نقيضٌ للحياة، الحَيّ ليس إلا نوعاً ممّا هو ميّت، ونوعاً نادراً جداً. _لنحذر الظن أنّ العالم أبداً يخلق شيئاً جديداً، ليست هناك مادة دائمة بشكل أزلي، المادة خطأ مثل إله الإيليين، متى إذن سنتخلّص من حذرنا ومن همومنا؟ متى تكفّ كل ظلال الإله هاته عن حجب النور عنّا؟ متى سنزيل صفة الألوهية كليةً عن الطبيعة؟ متى سيُسمَحُ لنا بأن نتطبّع، نحن الناس، مع الطبيعة الخالصة المكتشفة من جديد، المُحَرّرة من جديد)) [شذرة ١٠٩]
بالنسبة لنيتشه، نحن تفكّر ميتافيزيقياً بشتّى أنواع الطرق، وربّما بشكلٍ خاص في الطريقة التي نتأمّل فيها الطبيعة. حتى عندما نفكّر في سياق المصطلحات التي تبدو بعيدة عن التجسيم والتحديد التي يميّز الكثير من المفاهيم الميتافيزيقية، فإننا نقع في شِراكها. إنّ الحديث عن الكون كونه محكوماً "بالقوانين" كما يفعل علماء الطبيعة هو التفكير بطريقة لا تخلو من ميتافيزيقا. هذا لأنّ الأعتقاد بأنّ القوانين غير شخصية تحكم الكون هو امتداد للرغبة في فهم الطبيعة بمصطلحات ملائمة للمشاغل الإنسانية. التفكير بهذه الطريقة يعني العيش في ظلّ الإيمان بالله، إنّ إعلان موت الإله يترتّب عليه إعلان أنّ المرء قد أدرك حدّ طريقة التفكير التي تميّز فهمنا لذاتنا بشكل أعمق. إنّه يعني اتخاذ الخطوة الأولى على طريق "تجنيس" الجنس البشري، أي إعادة التفكير في الأسئلة المتعلّقة بعلاقتنا بالعالم ومَن نحن. ومع ذلك للحديث عن عالم لا يخلو من الهدف ومن ثمّ الصدفة أيضاً، عن عالم لا يستوجب تطبيق حتى المفاهيم الميكانيكية البدائية عليه (وحيث ينبغي للمرء أن يضيف أنّ المفهوم التقليدي "للإرادة" غير ضروري لايخلو من خطر. الشخص الوحيد الذي يعبّر عن حدود الميتافيزيقا يخاطر بالظهور وكأنه شخص غريب الأطوار إلى حدٍ ما. فنظرته إلى العالم تستدعي أن ننسب له سمة الجنون:
((الأخرق - أما سمعتم بذلك الرجل الأخرق الذي، بعد أن أوقد فانوسه في وضح النهار، صار يجري في ساحة السوق ويصيح دون توقف: "أبحثُ عن الإله! إنّي أبحثُ عن الإله!" -ولمّا كان كثيرون ممّن لايؤمنون بالإله متجمّعون هناك بالضبط فقد أثار ضحكاً كثيراً. هل فقدناه؟ قال أحدهم. هل شرد مقل طفل؟ سأل آخر. أم هل يختفي في مكانٍ ما؟ هل هو خائفٌ منّا؟ هل أبحَر؟ هل هاجَر؟ _هكذا كانوا يصيحون ويضحكون جميعاً في ذات الوقت. سارع الأخرق إلى وسطهم واخترقهم بنظراته. "أين الله؟" صاح فيهم، "أنا سأقول لكم، لقد قتلناه! أنتم وأنا! نحن كلّنا هُمْ قَتَلَتَه! ولكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نُفرِغَ البحر مَنْ أعطانا الإسفنجة لمحو الأفق كله؟ ماذا فعلنا بإبعادنا هاته الأرض عن شمسها؟ إلى أين تسير الآن؟ إلى أي شيءٍ تقودنا حركتها؟ أبعيداً عن كل الشموس؟ ألَم تندفع في منحدر طويل؟ وذلك إلى الخلف، إلى الجانب، إلى الأمام، إلى كل الجوانب؟ أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألَسنا نتيه كما لو عَبْر عدمٍ مُطلَق؟ ألا نحسّ نفس الفراغ؟ أليس للجوّ أبرَدَ ممّا كان؟ أليس الوقتُ ليلاً باستمرار ويصير ليلاً أكثر فأكثر؟ ألا يجب أن نوقِدَ القواميس منذ الصباح؟ ألا نسمع شيئاً بَعدُ من ضوضاء الرّمّاسين الذين دفنوا الإله؟ ألا نشمّ شيئاً من التدعّص الإلهي؟ -فالآلهة أيضاً تتدعّص! مات الإله [و] يظلّ الإله ميتاً! ونحن هُمْ الذين قتلناه! كيف سنُعَزّي أنفسنا نحن أكبر القَتَلَة؟ إنّ أقدَسَ وأقوى ما مَلَكَ العالمُ إلى الآن قد نَزَفَ دَمَهُ بطعنات مُدانا -مَنْ سيمسَحُ هذا الدم عن أيدينا؟ أيُّ ماءٍ سيُطَهِّرُنا؟ أيَّة مراسيم تكفيرية، أيَّة ألعاب مقدّسة يجب علينا أن نبتكر؟ وعِظَمُ هاته الفعلة، أليس شيئاً يفوق طاقتنا؟ الا يجب علينا نحن أن نصير آلهة كي نبدو جديرين بهاته الفعلة؟ لم تحدث أبداً فعلة أعظم من هاته - وكل مَنْ سيولد بعدها سينتمي، بمقتضى هاته الفعلة نفسها، لتاريخ أسمى ممّا كان عليه التاريخ حتى الآن!". هنا توقّف الرجل الأخرق وتأمّل مستمعيه: هُمْ بدورهم ركنوا إلى الصمت وصاروا ينظرون إليه دون أن يفهموا.)) [شذرة ١٢٥]
وكما يليق بشيء يحمل مضامين جنونية، فإنّ "موت الله" يعلنها المجنون هنا في المجال العام في السوق. ومع ذلك لابد للمرء أن يستنتج أنّ المجنون هو نيتشه (ربما بكون ذلك مغرياً في ضوء انهياره العقلي اللاحق). إنّ ما يفدّمه لنا هو هو بالأحرى أداة أدبية. تمّ تصميم هذه الأداة للتأكيد على النقطة التي تقول بأنّ الإيماءة الأولية التي تشير إلى "تجنيس" البشرية، والتي لا تتطلّب أكثر من نزع التأليه عن الطبيعة [العلم المرح، شذرة ١٠٩] مقلقة للغاية. هذا لأنّ مثل هذه البادرة يجب أن تظهر وكأنها تجلب معها أشياء تبدو غير طبيعية، أي الآثار التي تتعارض مع الميول العميقة التي تشكّل نمط حياتنا اليومية.
وفقاً لحكاية المجنون، فقد دخلنا عصراً تلاشى فيه الإيمان بالله. كيف حدث ذلك؟ الأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو أنّ المجنون يدّعي أننا نحن الذين قتلنا الله. بمعنى أبسط، بدأ العلم الحديث، وفقاً لنيتشه، في شرح العالم بطريقة لم تَعُد تتطلّب مفهوم الألوهية الحية لتحريك أعماله الداخلية. لقد أصبح الله فائضاً عن الحاجة، لكنّ عواقب هذا التأكيد غامضة في الوقت الحاضر على الأقل. ومن ثم قبل أن يغادر المجنون يرمي فانوس على الأرض ويقول:
"لقد حَلَلتُ قبل الأوان"، قال إثر ذلك، "لَمْ يَحِن أواني بَعدُ. هذا الحَدَث الرائع مايزال يمشي ويسافر - لم يبلغ آذان الناس بعد. يَلزَم الصاعقة والرعد بعض الوقت، يَلزم ضوء النجوم بعض الوقت، يلزم الأفعال بعض الوقت، يلزمها كلها بعض الوقت، بعد تمامها، لِتُرى وتُسمَع. هاته الفعلة أبعد عنهم من النجوم الأشدُّ بُعداً - ومع ذلك فإنهم هُمْ الذين قاموا بها!" ويُحكى أيضاً أنّ الرجل الأخرق دخل في نفس اليوم مختلف الكنائس حيث رتّل صلاة جنائزية للإله، ولمّا طُرِدَ خارجاً وأُرغِمَ على تبرير سلوكه لم يَكُفَّ عن تكرار: "ما هي هاته الكنائس إذن إن لم تَكُن مدافن وقبور الإله؟")) [شذرة ١٢٥]
هل يمثّل موت الله كارثة؟ ليس للجميع على مايبدو، كما تخبرنا افتتاحية الكتاب الخامس من كتاب "العلم المرح" شذرة ٣٤٣:
((ما آلَ إليه مرحُنا - يبدأ منذ الآن أكبر عهدٍ حديث العهد في بَسط ظلّه على أوروبا - إذا علّمنا أنّ "الإله قد مات"، أنّ الاعتقاد في الإله المسيحي قد فُقِدَت فيه الثقة - يبدو فعلاً لبعض النادرين، على الأقل، المُزَوَّدين بشَكٍّ نَفَّاذٍ بما فيه الكفاية، بنظر جد دقيق لرؤية هذا المشهد، أنّ شمساً قد أفَلَتْ، أنَّ ثقة عميقة قديمة قد تحوّلت إلى شكّ: لهؤلاء سيبدو عالمنا يوماً عن يومٍ شفقياً أكثر، حَذِراً أكثر، غريباً أكثر، "قديماً أكثر". لكن في التقرير الأساسي يمكننا أن نقول: إنّ الحَدَث في حَدّ ذاته كبيرٌ جداً، بعيدٌ جداً، ويتجاوز كثيراً القدرة المفهومية للعدد الكبير [من الناس] لكي نستطيع أن نزعم أنّ الخبر قد وصل منه بعد، بل أقل من ذلك، أن نزعم أنّ أحداً قد فطنَ لِمَا وقع فعلاً - كما لم يفطن لكل ما يجب أن ينهار منذ الآن بمجرّد أن ينهار الاعتقاد، لأنّه أُسِّسَ وبُنِيَ عليه، بل تشابَكَ فيه تقريباً: أخلاقنا الأوروبية في كليتها مثلاً. هذا التوالي الطويل والغزير من القطيعة، من التدمير، من الأفول، من الهَزّات، الذي يجب توقّعه من الآن فصاعداً: مَنذَا إذن يتنبأ به بكثيرٍ من اليقين ليظهر كالمعلم المعلِن عن منطق الرعب هذا، كَنَبيِّ التعتيم، نبيِّ خسوفِ شمسٍ لَمْ يحدث مثله قط في هذا العالم؟... حتى نحن حازرو الألغاز، نحن الذين وُلِدنا متنبّئين، الذين نعيش نوعاً ما في انتظار فوق الجبال، متموضعين بين اليوم والغد، وكما لو كنّا متوتّرين بسبب التناقض بين اليوم والغد، نحن الطلائع، نحن ذرّية القرن القادم السابقة لأوانها، الذين علينا منذ الآن أن نكون قادرين على مواجهة الظلال التي هي على وشك تغطية أوروبا: كيف يحدث أنه حتى نحن نفكّر في تصاعد هذا التعميم دون أن نكون قد تأثّرنا له حقيقةً، وخاصةً دون هَم ولا خوف على أنفسنا؟ ربما سنتحمّل بشدّة أثر العواقب المباشرة للحَدَث - العواقب المباشرة التي ليست بالنسبة لنا، عكس ما قد يُنتَظَر منها، لا مكدّرة ولا معتّمة إطلاقاً، بل إنّما كنور، كغبطة، كارتياح، كابتهاج، كَطَمأنَة، كفجر من نوع جديد لا يوصَف إلا بصعوبة... في الواقع، إننا نحن الفلاسفة، نحن "العقول الحرة" عند سماع خبر أنّ "الإله القديم قد مات". نحسّ وكأنّ فجر جديد قد لمستنا: يفيض قلبنا، لهذا الخبر، بالشكران، بالدهشة، بالتوجّس، بالانتظار _ها هو هذا الأفق صافٍ من جديد، وإن لم يَكُنْ صافياً تماماً، ها هي ذي سُفُنُنا حرّةً في استئناف سباقها، في استئناف سباقها مهما كلّفها الأمر، ها هي ذي كل جرأة المعرفة قد سُمِحَ بها، والبحر بحرنا، ها هو ذا مفتوح من جديد، ربما لم يكن هناك أبدا "بحر مفتوح" بمثل هذا الشكل))
وبالتالي فإنّ موت الله قبل كل شيء من الأفضل إدراكه على أنه حَدَث. وبشكلٍ أكير تحديداً، إنه حَدَث ثقافي قد تنتج عنه آثاراً مدمّرة: إنّ تدمير الإيمان يجلب معه فقدان شرعية القيم التي استمدّت تبريرها وشرعيتها من هذا الإيمان، ومن ثم يتمّ تحدّي تبرير هيمنة أوروبا المسيحية وثقافتها. إنّ تدمير القيم المسيحية أمر خطير، لأنه سيقود المرء إلى العدمية، والاعتقاد بأنّ لاشيء حقيقي وكل شيء مباح. ومع ذلك فإنه أمرٌ مُبهِجٌ أيضاً، لأنه بموت مثل هذه القيم التقليدية تأتي الدعوة للتجربة، والشروع في مغامرة فكرية لايحدّها أفق الأخلاق والقيم التقليدية، وهي نتيجة ستأخذ نيتشه إلى عالَم التجربة. هل يتجاوز للمرء الميتافيزيقا ويتغلّب عليها ببساطة بمجرّد الشروع في مغامرات العقل التي جعلها موت الإله أمراً ممكناً؟ أمّا تأكيد هذا الاستنتاج فسيكون في منتهى السهولة. انظر الشذرة ٣٤٤ من كتاب "العلم المرح".
إبراهيم قيس جركس ٢٠٢٠
((٣٤٢- لمّا بلغ زرادشت الثلاثين من عمره غادر موطنه الأصلي وبحيرة إيرمي وصعد الجبل. هناك تمتّه بحكمته ووحدته وَلَم يَعِيَ ذلك قط طيلة عشر سنين. لكن قلبه تغيّر في الأخير - وذاتَ صباح استيقظ مع بزوغ الفجر وذهب قُدّام الشمس وخاطبها قائلاً "أيها الكوكب العظيم! ماذا كانت ستكون غبطتك لو لم يكن هؤلاء الذين تنيرهم! لقد طلعتَ هنا، في اتجاه مغارتي، طيلة عشر سنين: وقد كنتَ مُتخَماً بضوئك وبطريقك، بدوني أنا، بدون نسوي وأفعواني. لكننا كنّا ننتظرك كل صباح، كنّا نُخَلّصكَ من اشمئزازك، ونُبركَكَ في المقابل. هذا ما في الأمر. إنّي أتقزّز من حكمتي، مثل النحلة جمعَتْ من العسل الكثير، أنا في حاجة إلى بسط يداي، أريدُ أن أعطي وأوزّع إلى أن يستمتع العُقلاء من بين الناس بجنونهم مرّةً أخرى، ويستمتع الفقراء بغناهم مرّةً أخرى. فيما يخصّني أنا، أريد أن أهبط إلى الأعماق: مثلما تفعل أنت في المساء حين تمرّ أنت وراء البحر وتجلب النور حتى للعالم الجهنّمي، أيّها الكوكب الفيّاض! -لابُدّ لي، مثلك، أن أميل، كما يقول الناس، في أنجاه أولئك الذين أريد أن أنزل وسطهم. هكذا أباركُكِ أيّتها العين الهادئة التي تتحمّل، دون حقد، رؤية غبطة عظيمة جداً! فباركي الكأس التي ترغب أن تطفح حتى يسيل منها الماء بحراً ذهبياً فينشر انعكاس مُتعَتِكِ في كل مكان! هو كذلك! هذه الكأس تريد أن تُفرَغَ من جديد ، وزوادشت يريد أن يعود إنساناً" هكذا بدأ أفول رزادشت)).
كان زرادشت نبيّاً ومعلّماً دينياً فارسياً في القرن السادس قبل الميلاد. وكانت السمة المركزية في تعاليم زرادشت التاريخية هي النظرة الأحادية للعالم، حيث أنّ قوى النور/الخير في صراع أزلي وأبدي مع قوى الظلام/ الشر. أمّا زرادشت نيتشه فيبشّر بطريق تجاوز هذا الصراع والتغلّب عليه، والمُضيّ إلى ماوراء الخير والشر (وهو امتياز مَنَحَه إياه بما أنه كان خالقه). نص زرادشت هو مزيج مذهل من المحاكاة التوراتية التهكمية الساخرة، والتكهّنات الفلسفية، والتأمّل النفسي.
يتكوّن النص من ديباجة وخُطَب وأمثال، وتأطيرها ضمن إطار سرد مهمة زرادشت التي فحواها إعلان التغلّب على الإنسانية وتجاوزها. في مواضع أخرى من النص يتمّ معالجة العديد من القضايا المختلفة الأخرى (نظرات حول طبيعة القيم، والمرأة، والذات، والجسد، والحداثة، والسياسة، والدولة). وأعلن أيضاً عن فلسفات كالعَود الأبدي وإرادة القوة. من الواضح أنّ بعض نقاش النص تتطلّب صبراً أقل من غيرها: فقد مات الله، كما أعلن زرادشت بصراحة عند بداية النص تقريباً. في الواقع، إنّ كتابات موت الإله: إرادة الحقيقة ونظام العلوم التي تستند إليها لايمكن أن تفلت كلياً من هيمنة الميتافيزيقا. قد يتّضح أنّ الله نفسه هو "أكبر كذباتنا ديمومةً". وكون تعبيرها صريحاً إلى هذا الحد، يتمّ الكشف عن إرادة الحقيقة كشيء يحتاج إلى "نقد" (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، شذرة ٢٤) وبذلك، لا يعني نيتشه أنها شيء يجب انتقاده بلا هوادة. بل المقصود النقد بالمعنى الكانطي للكلمة. وكما سبق وقلنا، هذا يهدف، في حالة نيتشه، إلى استكشاف مجال إرادة الحقيقة بهدف تحديد قيمتها وحدودها. علينا باختصار معالجة مسألة قيمة الحقيقة ضمن مجالها الخاص - وهو مجال الفكر الذي صاغته لنا. في عصر الحداثة، يعني هذا الانطلاق من موقف الإلحاد النزيه (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، شذرة٢٧).
# موت الإله
======
جنباً إلى جنب مع العبارة من كتاب "غسق الأوثان"، ((ما لا يقتلني يجعلني أكثر قوّة)) [أمثال ولواذع، شذرة٨] يُعلن المجنون في كتاب "العلم المرح"، شذرة ١٢٥، أنّ "الله مات" ربما يغلّف نيتشه كما هو مُتَعارَف عليه في المخيال الشعبي. ما قد يعنيه مفهوم "موت الإله" وما يمكن تفسيره من قبل العامّة أو القرّاء المهملين والمتسرّعين أمران مختلفان تماماً. لسببٍ واحد، لا يعني ذلك الإعلان أنّ هناك كائن حي فعلي اسمه الله قد مات فعلاً. بالأحرى، يشير مفهوم الإله إلى زوال الإيمان بالحقائق الميتافيزيقية التي عملت حتى الآن على دعم قيم المسيحية وبالتالي الثقافة الأوروبية. تمّت الإشارة إليه أولاً في الشذرة ١٠٨ من كتاب "العلم المرح":
((صراعات جديدة - بعد أن مات بوذا أُظهِرَ ظلَّهُ في مغارةٍ طيلة قرون _ [وكان] ظلاً رهيباً ومخيفاً. لقد مات الإله: لكن هاتِهِ هي طبيعة الناس بحيث ستكون هناك، ربما طيلة ألفيات، مَغارتت يُعرَض فيها ظلّه. _أمّا نحن_ فيجب علينا أن نهزم ظلّه كذلك))
يقدّم الإيمان بالله على أنه "ظل" يُلقي نفسه على فهمنا ومستقبله. بمعنى آخر، إنه ليس شيئاً يمكن الهروب والإفلات منه بسهولة. إنّ تصرّفاتنا ورغباتنا وطُرُقنا المعتادة في التصرّف والتفكير والقيام بالأمور، وبالتالي تفسير بيئتنا وأنفسنا، تمنع الهروب المباشر من عواقب اعتناق المعتقدات الميتافيزيقية. فقط لأننا وصلنا لنقطة لم يَعُد فيها أحد يؤمن بالله لايعني أنّ كل ما يرتبط بهذا الإيمان قد يختفي معه (يناقش نيتشه مفهوم "أخلاقية" مشاعر الذنب في المقال الثاني من كتاب جينيالوجيا الأخلاق). ويشير مقطع من كتاب "الفجر" إلى نقطة مماثلة: ((فيمَ نخالف الصواب. -إننا مستمرّون في استنتاج عواقب الأحكام التي نعتبرها خاطئة، والعقائد التي لَمْ نَعُد نؤمن بها، -باستخدام عواطفنا)) [شذرة٩٩]. ووفقاً لهذا الرأي، نحن مخلوقات تهيمن عليها تصرفاتها وانفعالاتها وعواطفها وجميع العادات التي تنبثق عنها، نحن لسنا مخلوقات عقلانية. نحن نصدر أحكام مُسبقة وبالتالي نقيس أهمية الأشياء وفقاً لهيمنة بعض المشاعر والعواطف والعادات. هذا ليس أقلّها فيما يتعلّق بتلآثار التي تنطوي عليها هذه العادات في الحكم على الطريقة التي ننظر بها إلى الأخلاق:
((قديماً آمَنَ أناسٌ نبلاء وحكماء بتناغم الأفلاك: ولايزال أناسٌ نُبلاء وحكماء يؤمنون "بالقيمة الأخلاقية للوجود". وسيأتي الذي لن تدرك فيه آذانهم ذلك التناغم! عندها سيستيقظون ويُدركون أنّ أذنهم كانت تحلم)) [الفجر، شذرة١٠٠]
بالنسبة لنيتشه إنّ الإيمان بالإله المسيحي وتأكيد النظرة الميتافيزيقية التي تزعم بوجود مستقل للقيم عن الأشخاص الذين يقومون بعملية التقييم يسيران معاً يداً بيد. لايمكن للمرء التأكيد على أحدهما من دون الآخر: فالأخلاق المسيحية والميتافيزيقا وجهان لعملة واحدة. كما أنهما تتغلغلان في أعماق محيطنا الثقافي وبالتالي تشكّلان أساس العديد من معتقداتنا التي لا تقبل الجدال فيها.
لكن ما مدى تأثير الميتافيزيقا في تفكيرنا؟ أو إلى أي حدّ تؤثر فينا؟ ضَع في اعتبارك المقطع التالي أدناه من كتاب العلم المرح:
((تحذير - لنحذر التفكير في كون العالم كائناً حياً. إلى أين سيتوسّع؟ بأي شيء سيتغذّى؟ كيف سيستطيع أن ينمو ويتكاثر؟ إننا، من جهةٍ أخرى، نعلم تقريباً ما هو العضوي: وما مدركه متفرّعاً للغاية، متأخّراً، نادراً، عَرَضياً على قشرة الأرض، أسنذهب إلى حدّ تفسيره على اعتباره أنه الأساسي، الكوني، الأزلي، كما يفعله أولئك الذين يسمّون الكون جهازاً عصبياً؟ هذا شيء يثير اشمئزازي. لنحذر الاعتقاد لأول وهلة أنّ الكون عبارة عن آلة: إنه لم ينشأ لغاية ما بكل تأكيد، ونحن نشرّفه كثيراً إذ نمنحه اسم "آلك". [...] إنّ طبيعة كل العالم هي منذ الأزل طبيعة الفوضى ليس بسبب غياب الحاجة لكن بسبب غياب النظام، التمفصُل، الشكل، الجمال، الحكمة، وذلك مهما تكن مقولاتنا الجمالية الإنسانية. [...] كيف سنجرؤ على لوم الكون أو الثناء عليه؟ لنحذر مؤاخذته على قلّة مروئته أو قلّة غباوته أو عكسهما: فما هو بكامل ولا جميل ولا نبيل، ولايريد أن يصير شيئاً من هذا القبيل، إنه لايطمح إطلاقاً لأن يُحاكي الإنسان. إنه ليس مصاباً نهائياً من أحكامنا الجمالية أو الأخلاقية. وزيادةً على ذلك ليست له غريزة البقاء [وليست له] قطعاً دوافع ما، إنه لا يعرف قانوناً قط. لنحذر أن نُعلِنَ أنَّ هناك قوانين في الطبيعة. ليست هناك إلا حاجات: هناك، لا أحد يحكم، لا أحد يطيع، لا أحد ينتهك [القانون]. منذ أن تَعْلَم أنه ليس هناك غاية فإنّك ستَعلم أنّ لت صدفة هناك. لأنّ كلمة الصدفة ليس لها معنىً إلا بالقياس إلى عالم الغايات. لنحذر القول أنّ الموتَ نقيضٌ للحياة، الحَيّ ليس إلا نوعاً ممّا هو ميّت، ونوعاً نادراً جداً. _لنحذر الظن أنّ العالم أبداً يخلق شيئاً جديداً، ليست هناك مادة دائمة بشكل أزلي، المادة خطأ مثل إله الإيليين، متى إذن سنتخلّص من حذرنا ومن همومنا؟ متى تكفّ كل ظلال الإله هاته عن حجب النور عنّا؟ متى سنزيل صفة الألوهية كليةً عن الطبيعة؟ متى سيُسمَحُ لنا بأن نتطبّع، نحن الناس، مع الطبيعة الخالصة المكتشفة من جديد، المُحَرّرة من جديد)) [شذرة ١٠٩]
بالنسبة لنيتشه، نحن تفكّر ميتافيزيقياً بشتّى أنواع الطرق، وربّما بشكلٍ خاص في الطريقة التي نتأمّل فيها الطبيعة. حتى عندما نفكّر في سياق المصطلحات التي تبدو بعيدة عن التجسيم والتحديد التي يميّز الكثير من المفاهيم الميتافيزيقية، فإننا نقع في شِراكها. إنّ الحديث عن الكون كونه محكوماً "بالقوانين" كما يفعل علماء الطبيعة هو التفكير بطريقة لا تخلو من ميتافيزيقا. هذا لأنّ الأعتقاد بأنّ القوانين غير شخصية تحكم الكون هو امتداد للرغبة في فهم الطبيعة بمصطلحات ملائمة للمشاغل الإنسانية. التفكير بهذه الطريقة يعني العيش في ظلّ الإيمان بالله، إنّ إعلان موت الإله يترتّب عليه إعلان أنّ المرء قد أدرك حدّ طريقة التفكير التي تميّز فهمنا لذاتنا بشكل أعمق. إنّه يعني اتخاذ الخطوة الأولى على طريق "تجنيس" الجنس البشري، أي إعادة التفكير في الأسئلة المتعلّقة بعلاقتنا بالعالم ومَن نحن. ومع ذلك للحديث عن عالم لا يخلو من الهدف ومن ثمّ الصدفة أيضاً، عن عالم لا يستوجب تطبيق حتى المفاهيم الميكانيكية البدائية عليه (وحيث ينبغي للمرء أن يضيف أنّ المفهوم التقليدي "للإرادة" غير ضروري لايخلو من خطر. الشخص الوحيد الذي يعبّر عن حدود الميتافيزيقا يخاطر بالظهور وكأنه شخص غريب الأطوار إلى حدٍ ما. فنظرته إلى العالم تستدعي أن ننسب له سمة الجنون:
((الأخرق - أما سمعتم بذلك الرجل الأخرق الذي، بعد أن أوقد فانوسه في وضح النهار، صار يجري في ساحة السوق ويصيح دون توقف: "أبحثُ عن الإله! إنّي أبحثُ عن الإله!" -ولمّا كان كثيرون ممّن لايؤمنون بالإله متجمّعون هناك بالضبط فقد أثار ضحكاً كثيراً. هل فقدناه؟ قال أحدهم. هل شرد مقل طفل؟ سأل آخر. أم هل يختفي في مكانٍ ما؟ هل هو خائفٌ منّا؟ هل أبحَر؟ هل هاجَر؟ _هكذا كانوا يصيحون ويضحكون جميعاً في ذات الوقت. سارع الأخرق إلى وسطهم واخترقهم بنظراته. "أين الله؟" صاح فيهم، "أنا سأقول لكم، لقد قتلناه! أنتم وأنا! نحن كلّنا هُمْ قَتَلَتَه! ولكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نُفرِغَ البحر مَنْ أعطانا الإسفنجة لمحو الأفق كله؟ ماذا فعلنا بإبعادنا هاته الأرض عن شمسها؟ إلى أين تسير الآن؟ إلى أي شيءٍ تقودنا حركتها؟ أبعيداً عن كل الشموس؟ ألَم تندفع في منحدر طويل؟ وذلك إلى الخلف، إلى الجانب، إلى الأمام، إلى كل الجوانب؟ أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألَسنا نتيه كما لو عَبْر عدمٍ مُطلَق؟ ألا نحسّ نفس الفراغ؟ أليس للجوّ أبرَدَ ممّا كان؟ أليس الوقتُ ليلاً باستمرار ويصير ليلاً أكثر فأكثر؟ ألا يجب أن نوقِدَ القواميس منذ الصباح؟ ألا نسمع شيئاً بَعدُ من ضوضاء الرّمّاسين الذين دفنوا الإله؟ ألا نشمّ شيئاً من التدعّص الإلهي؟ -فالآلهة أيضاً تتدعّص! مات الإله [و] يظلّ الإله ميتاً! ونحن هُمْ الذين قتلناه! كيف سنُعَزّي أنفسنا نحن أكبر القَتَلَة؟ إنّ أقدَسَ وأقوى ما مَلَكَ العالمُ إلى الآن قد نَزَفَ دَمَهُ بطعنات مُدانا -مَنْ سيمسَحُ هذا الدم عن أيدينا؟ أيُّ ماءٍ سيُطَهِّرُنا؟ أيَّة مراسيم تكفيرية، أيَّة ألعاب مقدّسة يجب علينا أن نبتكر؟ وعِظَمُ هاته الفعلة، أليس شيئاً يفوق طاقتنا؟ الا يجب علينا نحن أن نصير آلهة كي نبدو جديرين بهاته الفعلة؟ لم تحدث أبداً فعلة أعظم من هاته - وكل مَنْ سيولد بعدها سينتمي، بمقتضى هاته الفعلة نفسها، لتاريخ أسمى ممّا كان عليه التاريخ حتى الآن!". هنا توقّف الرجل الأخرق وتأمّل مستمعيه: هُمْ بدورهم ركنوا إلى الصمت وصاروا ينظرون إليه دون أن يفهموا.)) [شذرة ١٢٥]
وكما يليق بشيء يحمل مضامين جنونية، فإنّ "موت الله" يعلنها المجنون هنا في المجال العام في السوق. ومع ذلك لابد للمرء أن يستنتج أنّ المجنون هو نيتشه (ربما بكون ذلك مغرياً في ضوء انهياره العقلي اللاحق). إنّ ما يفدّمه لنا هو هو بالأحرى أداة أدبية. تمّ تصميم هذه الأداة للتأكيد على النقطة التي تقول بأنّ الإيماءة الأولية التي تشير إلى "تجنيس" البشرية، والتي لا تتطلّب أكثر من نزع التأليه عن الطبيعة [العلم المرح، شذرة ١٠٩] مقلقة للغاية. هذا لأنّ مثل هذه البادرة يجب أن تظهر وكأنها تجلب معها أشياء تبدو غير طبيعية، أي الآثار التي تتعارض مع الميول العميقة التي تشكّل نمط حياتنا اليومية.
وفقاً لحكاية المجنون، فقد دخلنا عصراً تلاشى فيه الإيمان بالله. كيف حدث ذلك؟ الأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو أنّ المجنون يدّعي أننا نحن الذين قتلنا الله. بمعنى أبسط، بدأ العلم الحديث، وفقاً لنيتشه، في شرح العالم بطريقة لم تَعُد تتطلّب مفهوم الألوهية الحية لتحريك أعماله الداخلية. لقد أصبح الله فائضاً عن الحاجة، لكنّ عواقب هذا التأكيد غامضة في الوقت الحاضر على الأقل. ومن ثم قبل أن يغادر المجنون يرمي فانوس على الأرض ويقول:
"لقد حَلَلتُ قبل الأوان"، قال إثر ذلك، "لَمْ يَحِن أواني بَعدُ. هذا الحَدَث الرائع مايزال يمشي ويسافر - لم يبلغ آذان الناس بعد. يَلزَم الصاعقة والرعد بعض الوقت، يَلزم ضوء النجوم بعض الوقت، يلزم الأفعال بعض الوقت، يلزمها كلها بعض الوقت، بعد تمامها، لِتُرى وتُسمَع. هاته الفعلة أبعد عنهم من النجوم الأشدُّ بُعداً - ومع ذلك فإنهم هُمْ الذين قاموا بها!" ويُحكى أيضاً أنّ الرجل الأخرق دخل في نفس اليوم مختلف الكنائس حيث رتّل صلاة جنائزية للإله، ولمّا طُرِدَ خارجاً وأُرغِمَ على تبرير سلوكه لم يَكُفَّ عن تكرار: "ما هي هاته الكنائس إذن إن لم تَكُن مدافن وقبور الإله؟")) [شذرة ١٢٥]
هل يمثّل موت الله كارثة؟ ليس للجميع على مايبدو، كما تخبرنا افتتاحية الكتاب الخامس من كتاب "العلم المرح" شذرة ٣٤٣:
((ما آلَ إليه مرحُنا - يبدأ منذ الآن أكبر عهدٍ حديث العهد في بَسط ظلّه على أوروبا - إذا علّمنا أنّ "الإله قد مات"، أنّ الاعتقاد في الإله المسيحي قد فُقِدَت فيه الثقة - يبدو فعلاً لبعض النادرين، على الأقل، المُزَوَّدين بشَكٍّ نَفَّاذٍ بما فيه الكفاية، بنظر جد دقيق لرؤية هذا المشهد، أنّ شمساً قد أفَلَتْ، أنَّ ثقة عميقة قديمة قد تحوّلت إلى شكّ: لهؤلاء سيبدو عالمنا يوماً عن يومٍ شفقياً أكثر، حَذِراً أكثر، غريباً أكثر، "قديماً أكثر". لكن في التقرير الأساسي يمكننا أن نقول: إنّ الحَدَث في حَدّ ذاته كبيرٌ جداً، بعيدٌ جداً، ويتجاوز كثيراً القدرة المفهومية للعدد الكبير [من الناس] لكي نستطيع أن نزعم أنّ الخبر قد وصل منه بعد، بل أقل من ذلك، أن نزعم أنّ أحداً قد فطنَ لِمَا وقع فعلاً - كما لم يفطن لكل ما يجب أن ينهار منذ الآن بمجرّد أن ينهار الاعتقاد، لأنّه أُسِّسَ وبُنِيَ عليه، بل تشابَكَ فيه تقريباً: أخلاقنا الأوروبية في كليتها مثلاً. هذا التوالي الطويل والغزير من القطيعة، من التدمير، من الأفول، من الهَزّات، الذي يجب توقّعه من الآن فصاعداً: مَنذَا إذن يتنبأ به بكثيرٍ من اليقين ليظهر كالمعلم المعلِن عن منطق الرعب هذا، كَنَبيِّ التعتيم، نبيِّ خسوفِ شمسٍ لَمْ يحدث مثله قط في هذا العالم؟... حتى نحن حازرو الألغاز، نحن الذين وُلِدنا متنبّئين، الذين نعيش نوعاً ما في انتظار فوق الجبال، متموضعين بين اليوم والغد، وكما لو كنّا متوتّرين بسبب التناقض بين اليوم والغد، نحن الطلائع، نحن ذرّية القرن القادم السابقة لأوانها، الذين علينا منذ الآن أن نكون قادرين على مواجهة الظلال التي هي على وشك تغطية أوروبا: كيف يحدث أنه حتى نحن نفكّر في تصاعد هذا التعميم دون أن نكون قد تأثّرنا له حقيقةً، وخاصةً دون هَم ولا خوف على أنفسنا؟ ربما سنتحمّل بشدّة أثر العواقب المباشرة للحَدَث - العواقب المباشرة التي ليست بالنسبة لنا، عكس ما قد يُنتَظَر منها، لا مكدّرة ولا معتّمة إطلاقاً، بل إنّما كنور، كغبطة، كارتياح، كابتهاج، كَطَمأنَة، كفجر من نوع جديد لا يوصَف إلا بصعوبة... في الواقع، إننا نحن الفلاسفة، نحن "العقول الحرة" عند سماع خبر أنّ "الإله القديم قد مات". نحسّ وكأنّ فجر جديد قد لمستنا: يفيض قلبنا، لهذا الخبر، بالشكران، بالدهشة، بالتوجّس، بالانتظار _ها هو هذا الأفق صافٍ من جديد، وإن لم يَكُنْ صافياً تماماً، ها هي ذي سُفُنُنا حرّةً في استئناف سباقها، في استئناف سباقها مهما كلّفها الأمر، ها هي ذي كل جرأة المعرفة قد سُمِحَ بها، والبحر بحرنا، ها هو ذا مفتوح من جديد، ربما لم يكن هناك أبدا "بحر مفتوح" بمثل هذا الشكل))
وبالتالي فإنّ موت الله قبل كل شيء من الأفضل إدراكه على أنه حَدَث. وبشكلٍ أكير تحديداً، إنه حَدَث ثقافي قد تنتج عنه آثاراً مدمّرة: إنّ تدمير الإيمان يجلب معه فقدان شرعية القيم التي استمدّت تبريرها وشرعيتها من هذا الإيمان، ومن ثم يتمّ تحدّي تبرير هيمنة أوروبا المسيحية وثقافتها. إنّ تدمير القيم المسيحية أمر خطير، لأنه سيقود المرء إلى العدمية، والاعتقاد بأنّ لاشيء حقيقي وكل شيء مباح. ومع ذلك فإنه أمرٌ مُبهِجٌ أيضاً، لأنه بموت مثل هذه القيم التقليدية تأتي الدعوة للتجربة، والشروع في مغامرة فكرية لايحدّها أفق الأخلاق والقيم التقليدية، وهي نتيجة ستأخذ نيتشه إلى عالَم التجربة. هل يتجاوز للمرء الميتافيزيقا ويتغلّب عليها ببساطة بمجرّد الشروع في مغامرات العقل التي جعلها موت الإله أمراً ممكناً؟ أمّا تأكيد هذا الاستنتاج فسيكون في منتهى السهولة. انظر الشذرة ٣٤٤ من كتاب "العلم المرح".
إبراهيم قيس جركس ٢٠٢٠