-20-
عن الحرب والشعوب المحاربة
أولاً وقبل أن نُشرع في شرح هذا الفصل المُمَشكَل لابدّ أن نبيّن رأي نيتشه في الإنسان المحارب، أو بالأحرى مفهوم الإنسان المحارب، إذ يقول مترجم الكتاب الأستاذ علي مصباح في هامشه ((مفهوم المحارب أو المقاتل لدى نيتشه يتميّز عن الجندي أو العسكري، بل هو الإنسان الذي يجنّد كل قواه وطاقاته الإثباتية من أجل التطوّر والتجاوز)) ويقول نيتشه في كتابه "غَسَق الأوثان"، قسم تسكّعات رجل غير ملائم للعصر، الشذرة38، مفهومي للحرية: وإنّ الحرب تربّي الإنسان على الحرية. إذاً ما هي الحرية؟ هي أن تكون للإنسان إرادة مسؤولية ذاتية. أن يظلّ الإنسان متمسّكاً بالمسافة التي تفصلنا عن بعضنا. أن يكون المرء لامبالياً تجاه الجهد والقسوة والحرمان وحتى تجاه الحياة نفسها... الإنسان الحُرّ محارب. ماهو المقياس الذي تقاس به الحرية لدى الأفراد كما لدى الشعوب؟ إنّه حجم الممانعة التي ينبغي التغلّب عليها وتجاوزها. ومدى الجهد الذي يتطلّبه البقاء في المرتبة العليا. على المرء أن يبحث عن الصنف الأرقى للإنسان الحُرّ هناك حيث يتمّ التوقف إلى التغلّب على أرقى أنواع الصمود والممانعة: على بُعد خمس خطوات من الاستبداد، وفي موقع ملاصق لِعَتَبَة خطر العبودية... لقد كان للجماعات الأرستقراطية من نوع أهالي روما وفينيسيا أن يفهموا معنى الحرية كما أفهم أنا شخصياً عبارة الحرية هذه... كشيء يملكه شخص ولايمتلكه، شيء يريده المرء، شيء يُنتَزَع...))
إنّ هذا القسم والقسم التالي ينظران في مشكلة التجاوز من زاوية الجماعة الاجتماعية. هنا يظهر إلى المشهد نيتشه "السياسي. ويمكن تفسير هذا القسم على أنّه ميل عميق ومقلق نحو النزعه العسكرية الأمانية-الفاشية... إلا أنّه في الحقيقة نقد للشخصية الألمانية والطابع الألماني.
الألمان، في أحسن الأحوال وخلال المستقبل المنظور، هُم مجرّد جِمال. فمنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، وبعد تجربته المؤلمة في الحرب الفرنسية البروسية، كان نيتشه يطوّر وصفاً للإنسان "الأوروبي الجديد". ويقصد بهذه النظرة الحديثة التي ترفض كل القوميات باعتبارها أموراً رومنسية خَرقاء، وبدلاً من ذلك يرى مستقبل الحضارة الأوروبية في نفس الإطار الذي يرى فيه مستقبل البشرية جمعاء. يكمن هذا المستقبل "الجيّد" فقط في الابتكار/التدبير التجريبي لشكل جديد وشامل لثقافة عموم أوروبا، وفي النهاية: الإنسانية.
إنّ عالم البشر عند زرادشت هو عالم مُرَتّب هَرَمياً تتطوّر فيه الأنواع المختلفة من البشرية وفقاً لخصائصها النفسية الجوهرية، وذلك ينطبق على البشر كأفراد وجماعات اجتماعية أو وطنية، وسوف تساهم جميعها، بطرقها المختلفة والخاصة، في تحقيق مستقبل الإنسان الأعلى، حتى لو كانوا سائسي جِمال قذرين ومسمّمين، مثل الرعاع في الكتاب الثاني، القسم السادس. هنا "الحرب" تعني مفهوماً ونشاطاً يميّز نظام قيم زرادشت بدرجة أكبر من "السلام" تعني بالمعنى الحرفي والمجازي. فبالمعنى الحرفي كان نيتشه يضع في ذهنه النزعة الألمانية العسكرية المتفشّية التي لعبت دور العنصر الرئيسي في هندسة عملية التوحيد الوطني الألماني عام 1871.
يجعل نيتشه هنا زرادشت لسان حاله ينطق بخطبة تهكّمية عصماء ضدّ الشعب الألماني المحارب. كتب نيتشه/زرادشت وهو قاطنٌ في جبال سويسرا المحايدة دوماً، وهو يتطلّع إلى ألمانيا من بعيد، من الناحية السيكولوجية والجغرافية على حدٍ سواء. ولهجة زرادشت المتكبّرة والمتغطرسة تؤكّد على ذلك... ويستكمل هذا المعنى الحرفي للحرب المعنى المجازي وهو المعنى الأكثر أهمية: إذ يُشار إلى ذلك بعبارة ((لتخوضوا حَربكم، والكل من أجل فكرتكم)). ويقول زرادشت أنّه "أفضل عدوّ" لهذا الشعب، وهي فكرة جرى تطويرها بمزيد من التفصيل لاحقاً، قسم "عن الصديق". وعلى هذا النحو، يحقّ له الآن أن يقول "الحقيقة". عندما قال لاحقاً في الخطاب ((لتبحثوا عن عدوّكم))، ويشير زرادشت أيضاً إلى أنّهم يبحثون عنه باعتباره "أفضل أعدائهم"، وهو انعكاس للمعاملة التي تلقّاها نبي نيتشه في بلده.
مايلي هو برنامج لتثقيف الشعب الألماني لإرادة الانتقال من شعب يخضع للطاعة العمياء لجنود يُشبهون النمل (حالتهم الحالية: "أرى جنوداً كثيرين، وأنا أرغب في رؤية كثير من المحاربين") أكثر من كونهم يشبهون شَعباً من المحاربين. الدرس الأول الذي يجب تعلّمه هو ألا يخجلوا من الحقد والحسد، لأنّهم لن يكونوا أبداً "عظماء أو كباراً بما فيه الكفاية" للتغلّب عليها.
الحقد/الاحتقار هو تقدير للعدوّ (فيما بعد في نفس القسم يتميّز عن احتقار العدوّ، ممّا يؤدّي إلى دوّامة الانتقام)، الحسد هو الاعتراف بنُبل ورفعة الآخرين. بعبارة أخرى، إذا فهمنا الفكرة بشكل صحيح، فهذه سمات إيجابية، بل فضائل _كالمحاربين تماماً. بعد ذلك، بما أنّهم لايستطيعون أن يكونوا "قدّيسي معرفة" ليُمنكنهم على الأقل أن يكونوا "الجنود المقاتلين من أجلها". هذه إهانة شديدة موجّهة للألمان عندما يجادل زرادشت/نيتشه أنّ الألمان لايملكون القدرة على التعامل بشكلٍ ملائم مع تراثهم العريق من التنوير الفلسفي. إلى جانب ذلك هم أيضاً "قميئون" جداً للانضمام إلى مجتمع التحوّلات، يقول نيتشه إنّه ليس هناك الكثير ممّا يمكنهم فعله حيال قمائتهم وقبحهم، باستثناء جملة ((لتلتحفوا إذاً بالجليل السامي يا إخوتي إلحافَ القميئين))... إنّها قطعة رائعة من النقد الجمالي بأسلوب حركة التهكّم.
ينادي في النهاية زرادشت نداءه لإخوانه قائلاً: ((لتعيشوا حياتكم إذاً حياة طاعة وقتال، مالَنَا والعيش طويلاً! وأيّ جندي يريد أن يُرفَقَ به وتُصان سَلامته)).
حياة القتال والمعاناة والبطولة الحربية كَمَعبَر نحو السعادة التي تتأتّى للمرء من المعرفة، المعرفة التي يكتسبها من الصراع من أجل تجاوز الذات، هذه الثيمة تعود كثيراً في فلسفة نيتشه. انظر على سبيل المثال كتاب "العلم المرح"، الكتاب الرابع، شذرة 324: ((كلا إنّ الحياة لم تصبني بخيبة الأمل! بل إنني ما أنفَكّ أجدها سنة بعد سنة أكثر حقيقانية، مرغوبة أكثر وأكثر سراً _منذ ذلك اليوم الذي ارتادني فيه المُحَرّر الأكبر، تلك الفكرة بأنّ الحيلة ينبغي أن تكون تجراباً يقوم به الساعي إلى المعرفة، وليست لاواجباً ولاقَدَرَاً ولاخدعةً! _أمّا عن المعرفة ذاتها: قد تكون شيئاً مغايراً بالنسبة لآخرين غيري، شيئاً مثل سريرٍ للراحة، أو الطريق إلى سرير للراحة، أو تسلية أو وقتَ فراغ _فهي بالنسبة لي عالم من المخاطر والانتصارات تجد فيها المشاعر البطواية أيضاً حَلَبَة للرقص والعَبَث. "الحياة كوسيلة للمعرفة" _عندما يكون المرء حاملاً لهذا المبدأ في قلبه سيكون بوسعه لا أن يكون باسلاً فحسب، بل أن يعيش مرحاً أيضاً، وأن يَضحَكَ بمرح! وَمَنْ ذا الذي يمكنه أصلاً أن يعرف كيف يحيا مَرِحَاً ويضحك بمرح إن لم يكن أولاً وقبل كل شيء على دراية جيدة بالحرب والانتصار؟))
إبراهيم قيس جركس 2020
عن الحرب والشعوب المحاربة
أولاً وقبل أن نُشرع في شرح هذا الفصل المُمَشكَل لابدّ أن نبيّن رأي نيتشه في الإنسان المحارب، أو بالأحرى مفهوم الإنسان المحارب، إذ يقول مترجم الكتاب الأستاذ علي مصباح في هامشه ((مفهوم المحارب أو المقاتل لدى نيتشه يتميّز عن الجندي أو العسكري، بل هو الإنسان الذي يجنّد كل قواه وطاقاته الإثباتية من أجل التطوّر والتجاوز)) ويقول نيتشه في كتابه "غَسَق الأوثان"، قسم تسكّعات رجل غير ملائم للعصر، الشذرة38، مفهومي للحرية: وإنّ الحرب تربّي الإنسان على الحرية. إذاً ما هي الحرية؟ هي أن تكون للإنسان إرادة مسؤولية ذاتية. أن يظلّ الإنسان متمسّكاً بالمسافة التي تفصلنا عن بعضنا. أن يكون المرء لامبالياً تجاه الجهد والقسوة والحرمان وحتى تجاه الحياة نفسها... الإنسان الحُرّ محارب. ماهو المقياس الذي تقاس به الحرية لدى الأفراد كما لدى الشعوب؟ إنّه حجم الممانعة التي ينبغي التغلّب عليها وتجاوزها. ومدى الجهد الذي يتطلّبه البقاء في المرتبة العليا. على المرء أن يبحث عن الصنف الأرقى للإنسان الحُرّ هناك حيث يتمّ التوقف إلى التغلّب على أرقى أنواع الصمود والممانعة: على بُعد خمس خطوات من الاستبداد، وفي موقع ملاصق لِعَتَبَة خطر العبودية... لقد كان للجماعات الأرستقراطية من نوع أهالي روما وفينيسيا أن يفهموا معنى الحرية كما أفهم أنا شخصياً عبارة الحرية هذه... كشيء يملكه شخص ولايمتلكه، شيء يريده المرء، شيء يُنتَزَع...))
إنّ هذا القسم والقسم التالي ينظران في مشكلة التجاوز من زاوية الجماعة الاجتماعية. هنا يظهر إلى المشهد نيتشه "السياسي. ويمكن تفسير هذا القسم على أنّه ميل عميق ومقلق نحو النزعه العسكرية الأمانية-الفاشية... إلا أنّه في الحقيقة نقد للشخصية الألمانية والطابع الألماني.
الألمان، في أحسن الأحوال وخلال المستقبل المنظور، هُم مجرّد جِمال. فمنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، وبعد تجربته المؤلمة في الحرب الفرنسية البروسية، كان نيتشه يطوّر وصفاً للإنسان "الأوروبي الجديد". ويقصد بهذه النظرة الحديثة التي ترفض كل القوميات باعتبارها أموراً رومنسية خَرقاء، وبدلاً من ذلك يرى مستقبل الحضارة الأوروبية في نفس الإطار الذي يرى فيه مستقبل البشرية جمعاء. يكمن هذا المستقبل "الجيّد" فقط في الابتكار/التدبير التجريبي لشكل جديد وشامل لثقافة عموم أوروبا، وفي النهاية: الإنسانية.
إنّ عالم البشر عند زرادشت هو عالم مُرَتّب هَرَمياً تتطوّر فيه الأنواع المختلفة من البشرية وفقاً لخصائصها النفسية الجوهرية، وذلك ينطبق على البشر كأفراد وجماعات اجتماعية أو وطنية، وسوف تساهم جميعها، بطرقها المختلفة والخاصة، في تحقيق مستقبل الإنسان الأعلى، حتى لو كانوا سائسي جِمال قذرين ومسمّمين، مثل الرعاع في الكتاب الثاني، القسم السادس. هنا "الحرب" تعني مفهوماً ونشاطاً يميّز نظام قيم زرادشت بدرجة أكبر من "السلام" تعني بالمعنى الحرفي والمجازي. فبالمعنى الحرفي كان نيتشه يضع في ذهنه النزعة الألمانية العسكرية المتفشّية التي لعبت دور العنصر الرئيسي في هندسة عملية التوحيد الوطني الألماني عام 1871.
يجعل نيتشه هنا زرادشت لسان حاله ينطق بخطبة تهكّمية عصماء ضدّ الشعب الألماني المحارب. كتب نيتشه/زرادشت وهو قاطنٌ في جبال سويسرا المحايدة دوماً، وهو يتطلّع إلى ألمانيا من بعيد، من الناحية السيكولوجية والجغرافية على حدٍ سواء. ولهجة زرادشت المتكبّرة والمتغطرسة تؤكّد على ذلك... ويستكمل هذا المعنى الحرفي للحرب المعنى المجازي وهو المعنى الأكثر أهمية: إذ يُشار إلى ذلك بعبارة ((لتخوضوا حَربكم، والكل من أجل فكرتكم)). ويقول زرادشت أنّه "أفضل عدوّ" لهذا الشعب، وهي فكرة جرى تطويرها بمزيد من التفصيل لاحقاً، قسم "عن الصديق". وعلى هذا النحو، يحقّ له الآن أن يقول "الحقيقة". عندما قال لاحقاً في الخطاب ((لتبحثوا عن عدوّكم))، ويشير زرادشت أيضاً إلى أنّهم يبحثون عنه باعتباره "أفضل أعدائهم"، وهو انعكاس للمعاملة التي تلقّاها نبي نيتشه في بلده.
مايلي هو برنامج لتثقيف الشعب الألماني لإرادة الانتقال من شعب يخضع للطاعة العمياء لجنود يُشبهون النمل (حالتهم الحالية: "أرى جنوداً كثيرين، وأنا أرغب في رؤية كثير من المحاربين") أكثر من كونهم يشبهون شَعباً من المحاربين. الدرس الأول الذي يجب تعلّمه هو ألا يخجلوا من الحقد والحسد، لأنّهم لن يكونوا أبداً "عظماء أو كباراً بما فيه الكفاية" للتغلّب عليها.
الحقد/الاحتقار هو تقدير للعدوّ (فيما بعد في نفس القسم يتميّز عن احتقار العدوّ، ممّا يؤدّي إلى دوّامة الانتقام)، الحسد هو الاعتراف بنُبل ورفعة الآخرين. بعبارة أخرى، إذا فهمنا الفكرة بشكل صحيح، فهذه سمات إيجابية، بل فضائل _كالمحاربين تماماً. بعد ذلك، بما أنّهم لايستطيعون أن يكونوا "قدّيسي معرفة" ليُمنكنهم على الأقل أن يكونوا "الجنود المقاتلين من أجلها". هذه إهانة شديدة موجّهة للألمان عندما يجادل زرادشت/نيتشه أنّ الألمان لايملكون القدرة على التعامل بشكلٍ ملائم مع تراثهم العريق من التنوير الفلسفي. إلى جانب ذلك هم أيضاً "قميئون" جداً للانضمام إلى مجتمع التحوّلات، يقول نيتشه إنّه ليس هناك الكثير ممّا يمكنهم فعله حيال قمائتهم وقبحهم، باستثناء جملة ((لتلتحفوا إذاً بالجليل السامي يا إخوتي إلحافَ القميئين))... إنّها قطعة رائعة من النقد الجمالي بأسلوب حركة التهكّم.
ينادي في النهاية زرادشت نداءه لإخوانه قائلاً: ((لتعيشوا حياتكم إذاً حياة طاعة وقتال، مالَنَا والعيش طويلاً! وأيّ جندي يريد أن يُرفَقَ به وتُصان سَلامته)).
حياة القتال والمعاناة والبطولة الحربية كَمَعبَر نحو السعادة التي تتأتّى للمرء من المعرفة، المعرفة التي يكتسبها من الصراع من أجل تجاوز الذات، هذه الثيمة تعود كثيراً في فلسفة نيتشه. انظر على سبيل المثال كتاب "العلم المرح"، الكتاب الرابع، شذرة 324: ((كلا إنّ الحياة لم تصبني بخيبة الأمل! بل إنني ما أنفَكّ أجدها سنة بعد سنة أكثر حقيقانية، مرغوبة أكثر وأكثر سراً _منذ ذلك اليوم الذي ارتادني فيه المُحَرّر الأكبر، تلك الفكرة بأنّ الحيلة ينبغي أن تكون تجراباً يقوم به الساعي إلى المعرفة، وليست لاواجباً ولاقَدَرَاً ولاخدعةً! _أمّا عن المعرفة ذاتها: قد تكون شيئاً مغايراً بالنسبة لآخرين غيري، شيئاً مثل سريرٍ للراحة، أو الطريق إلى سرير للراحة، أو تسلية أو وقتَ فراغ _فهي بالنسبة لي عالم من المخاطر والانتصارات تجد فيها المشاعر البطواية أيضاً حَلَبَة للرقص والعَبَث. "الحياة كوسيلة للمعرفة" _عندما يكون المرء حاملاً لهذا المبدأ في قلبه سيكون بوسعه لا أن يكون باسلاً فحسب، بل أن يعيش مرحاً أيضاً، وأن يَضحَكَ بمرح! وَمَنْ ذا الذي يمكنه أصلاً أن يعرف كيف يحيا مَرِحَاً ويضحك بمرح إن لم يكن أولاً وقبل كل شيء على دراية جيدة بالحرب والانتصار؟))
إبراهيم قيس جركس 2020