نحنيت بثقلي وثقل عدتي التي أحمل جزء منها على كتفي والجزء الآخر على يدي ، كنت راجعة من المدرسة وعدتي دفاتر الواجبات ، أوراق الامتحانات ، سجل الدرجات ، شكاوى أولياء الأمور ، وبجانبه هم ثقيل يعيي روحي المهلهلة ، وبقايا ذاكرة ، هذا كل ما احمله يومياً في نفس الشارع ونفس الخطوات ، ونفس الوجوه ، حتى ذلك اليوم القائظ من شهر رمضان وتحديداً بعد خروجي من باب المدرسة ، رباط جزمتي اللعين ما انفك يعرقل سير خطواتي ، التي لم تتعثر منذ سبع سنوات ونصف ، فأنا أعرف نتوءات الشارع أخاديد البالوعات ، الحفر ، أرصفة القمامات، المستنقعات ، كل شيء فيه أعرفه معرفة آلية ، وفي ذلك اليوم تعثرت مرات عديدة وتطاير مع تعثري كل شيء حوته عدتي ، هذا ما جعلني أدنو من سور منزل لم ألحظ ضخامته وأنه محاط بأشجار السرو ، والكافور ، وأشجار أخرى لا اعرف مسمياتها ، وكذلك أسواره المسيجة بالأسلاك الشائكة إلا بعد أن أتممت وثاق رباط جزمتي ، انحنيت لأخذ حمولتي رأيت حذائي لم يحكم بعد.
مرة أخرى دنوت وبينما أنا أوثقه سمعت من خلف سور المنزل الكبير تأهباً يشبه حالة استنفار ما قبل الحرب .
في الانحناءة الأولى كنت أسمع أصواتاً ، وحركة كثيرة صاخبة لم آبه لها ، وفي الانحناءة الثانية الأصوات تعالت ، أقدام تطرق بعنف ، تهز الجدران وقامات الأشجار ، كلمات بأوامر صارمة ، أصوات تبثها إرسالات بين التشويش ، وقليل من الوضوح ، أنين سيارات كسيارات الإطفاء ، كلمات تجلجل ( تمام يا أفندم ) ثم خطوات منتظمة سريعة وقوية .
تساءلت ، لكن لم أجد الإجابة قلت لنفسي : لربما كانت ثكنة عسكرية .. لا يهم فالثكنات العسكرية في ( تنكا بلاد النامس ) تتوازي مع عدد السكان .
استدركت مسرعة ألملم عدتي وبقايا نفسي المتناثرة هنا و هناك خشية أن يكون ذلك المنزل فعلاً ثكنة عسكرية ، حتى أنني لم انظر إلى حذائي لأتأكد من أنى أوثقته جيداً .
صوت جهوري يخرج من مكبر الصوت .
نريدها حية ، وحذار من هروبها ،لا نريد دماء أيضاً .
هممت بأن أخطو بحمولتي الثقيلة .
صف من العسكر يحوطني كيف حضروا ، ومن أين أتوا لا أعرف ، بنادقهم صوبت إلى وجهي . ارتعدت مفاصلي ، ذبت أشلاءً ، تلونت قسماتي ، أحسست بذلك من صفرة يدي ، وبرودتهما التي سرت في كل جسمي أما روحي ، فلا أدري بأي ارض سكنت وبأي أرض تلوذ .
فتشت عن ريق يبلل فمي الجاف لم أجد سوى ارتعاشات تصك أسناني ومفاصلي وجفاف شمس الظهيرة يشوي كل شيء .
خطوت خطوتي الثانية لثقتي أن ذلك الحشد ، وتلك البنادق ، وتلك النظرات والآليات المختلفة ليست موجهة الي البتة ، وبرغم ذلك كاد الخوف يأكلني .
وضع كبيرهم بندقيته على عتبات أقدامه الغليظة ، بينما ظلت بقية البنادق مشرعة نحوي ، وبصوت جهوري : إلى اين ؟ تلفت حولي خطوت الخطوة الثانية فما زال إيماني الراسخ أن ذلك السؤال ليس موجها إلي ، ربما لإنسان خلفي أو أمامي ، أو في أي اتجاه آخر ، ومن جوف الضوضاء والصخب ، خرج السؤال مرة أخرى :
إلى أين ؟
إذن السؤال موجه لي – هكذا حدثت نفسي ، فقد خطى ذلك الرجل المزدان بالنياشين ، والمسدس المتدلى من خاصرته اليسرى خطوتين نحوي ، حتى كاد يلامسني .
- أنا .. ! أجبته
- رد بسخرية .. لا .. أنا .
- تذكرت حلم الليلة الماضية ، جمهرة الناس تدق طبولها على رأسي أنا أتخبط وأبحث عن طريق في خطوط متشابكة ، تصفع وجهي ، تصعد الضجيج ، وترميني في هوة سحيقة بعدها فتح لي باب واسع على هيئة حذاء عميق برباط مهمل .
- أم الصبيان ، قفي .
- من غمرة الارتجافات ، ركضت لساني ، هلعة تدب البحث في زوايا فمي لتحظى بقليل من بلل ، نظرت إلى رباط جزمتي ، والى الوجوه الصارمة التقاسيم وعتادها الثقيل الذي لم ار مثله إلا في نشرات الأخبار والأفلام البوليسية .
- أنا .. ؟ أجبته .
صرخ وفمه معكوم بالغضب .. نعم أنت .
-اذهب إلى بيتي
-أببساطة هكذا ؟
- وماالمانع؟
- لا… لا.. ليست لدينا أية موانع ، ولكن بالضبط قولي لنا من أنت ؟ ولحساب من تعملين ؟ وأية جهة تمول أعمالك ؟ نظرت إلى عدتي التي اشتد ثقلها..
- أنا مدرسة أعمل لحساب التربية والتعليم .
- تر.. ب.. يه..، وت.. ع..تع.. ها..ها.. لم أسمع .. بالله عليك أعيدي , وأشجيني ، تربية وتعليم ماذا .. !! اتعلمين أن ، اجابتك عن غباء أو تغابي تعرفينه جيداً .
صرخ في وجهي:
- من أرسلك ومن هم زملاؤك أيتها الـ…
لاول مرة أشتم بسباب مقذع …لا.لا. عفوا.. بل لمرة ثانية فالمرة الاولى كانت من قبل طالبة صغيرة قيل أن أباها رجل عتيد في السلطه .
تلقفت الهواء الحار الموجود فزاد من ضيقي وكتم أنفاسي .
- من أرسلك ومن هم زملاؤك !؟
اجيبي .
الـ.. ال الخدمة المدنية من أرسلتني .
لم يأبه لإجابتي فقد أتاه رجل مدجج بالسلاح همس في أذنه نادي بعد ذلك على اثنين من العسكر آمراً إياهم :
- فتشوها .. قد تكون رجلاً متنكراً وحذار فربما تحمل متفجرات هلع يسابق قامتي ، وقامات الاشجار ، أصرخ صراخاً يطاول الضوضاء الصاخبه .
عم تبحثون .. أريد أن اصوم رمضان ، لست سوى مدرسة هامتها حطام ذاكره .. نعم حطام ذاكره ..حطام ذاكرة .
يخفت صوتي ، أحبالي الصوتية تشد استغاثتي للأسفل ، يذوي صوتي ، يتحول نشيجا ً دامعاً تكوم بين طيات قيظ الظهيرة وقلبي المرتجف رعباً.
أدخلوني غرفة شبه مظلمة عبثوا بأجهزة اصدرت أصواتا بذبذبات خرجت بعدها وسط استبشار الجنديين ليقولا لكبيرهم : ليست سوى أمراة عجفاء كما قلت أيها الضابط – مثل (أم الصبيان ) مجردة من أي سلاح أنثوي أوحتى حربي ..
شارة الابتسامة تكلل وجهيهما.
تبرع جنديان نحيفان برمي دفاتر طالباتي توسلت إليهم أن يترفقوا بها لم يعرني أحد أية التفاتة الاوامر التي كان يصدرها كبيرهم غطت على كل الكلمات أوصلوني مكاناً لا اعرفه ، كنت معصوبة العينين اتلمس جسدي علني أحلم أو اشاهد فيلما مثيراً .
- هاهي سيدي.
أبعدت عصابة عيني رجل وضئ الطلعة يتقدمه كرشه تحوطه كراسي وثيرة كان يعبث بولاعة مذهبة هز رأسه بعد أن غرس عينية الحادتين في كل منابتي .
- يا لكم من أذكياء كلفوك بهذه المؤامرة القذرة كيف قبلت أجيبي.
- انا .. أ... ن.. ن... أنا عم تتحدث يا أخي ؟ أنا لست سوى مدرسة .
- لست بأخيك صاح في وجهي فاختفت معالم وجهه الوضاءه .
- أنا العقيد " مسعد المزاغط"
يا سيادة العقيد ، هو رباط جزمتي اللعين أوثقته لأواصل السير ليتني واصلت سيري متعثرة أوحتى حافية القدمين قاطعني بوجه متجهم قائلاً : اصرفي قليلا عن تمنياتك الآن فنحن ندرك مثل هذه الألاعيب . ألا اخبرتنا عمن أرسلك للتجسس على منزل الافندم وتفجيره ...؟
روعت أزداد فمي المشق هواء لاسعا زاده تشققاً .
- ما.. ما.. ماذا تقول .. ال.. ال.. أيها .. هي ربطة الجز.. الجزمة ليس إلا .. أن .. أنح .. انحنيت لأوثقها فقد عثرتني وطايرت معها عدتي
- خذوها وستبوح بعد ذلك .
- تواصلي مع العالم غدا مقطوعا .. حتى حواسي فقدت وظائفها ووجودي تحدد بهالة هلع مشوبة بالذهول وعتاد ومعدات ثقيلة لا أعرف مسمياتها وجوه جامدة ومساحة سؤال تبحث عن اجابه.
بعدها أعادوني لنفس الغرفة وزادت مساحة الوجود عندي قليلاً فقد رأيت الغرفة بشكل مختلف عن الأولى .
رأيت صورة الزعيم تأخذ مساحة نصف الجدار، شهادات التقدير ، كثير من النياشين ، بضع ايات قرآنية .
أما علم " تنكا بلاد النامس" فقد اخذ ركنا رفع على سارية مذهبة .
- الان ستتكلمين .. اليس كذلك؟
- ياسيادة العقيد .. ال.. ال.. ال..
زأر في وجهي.. ألم تحفظي إسمي بعد ؟
- أنا العقيد " مسعد المزاغط" فهمت مسعد ال م زاغ ط هيا أجيبي ..
- هيا أجيبي .
- صدقني.. لا أعرف عن أي شيء تتحدثون.. أعرف قط أن رباط جزمتي كنت قد .. أمعلوماتك توقفت عند ربطة جزمتك فقط ، إذا لو كررت هذه الجملة سأرمي بك للكلاب الضاله .
نكست رأسي أرضاً شريط يمر من بقايا ذاكرتي طفلتي الرضيعة ، دفاتر الطالبات أسوار المدرسة المسيجة بالقمامات ، اللحم المكتظ داخل الفصول شفاههن المدلاة أعينهن الجاحظة ، السبورة المحطمة ، كتاب الفلسفة في لباس الفلسفة .أمن المعقول أني أشاهد فيلما خبيثا عجن الحقيقة بالخيال.. أم .. آه لوكنت أؤمن بالشياطين وأم الصبيان كما قال ال.. ال.. اسميه ماذا يا الهي .. كنت سأرتاح .. أخ.. " يلعن أبو الفلسفة " .. رفع احدهم رأسي بقوة قطع حبل أفكاري وجعل عروق رقبتي تصدر أصواتاً بعدها أيقنت إني لا أحلم أو أشاهد فيلما خبيثاً أو أقرأ رواية بوليسية . إني أتلظى في قعر جزمة عمقها سحيق .. سحيق.
- بسرعة أجيبي " الافندم " . يريد أن يعرف الحقيقة فهو قلق ازاء هذه القضيه .
لم أنبس ببنت شفه أعدت تنكيس رأسي ، غرسته في منابت أقدامي وأرضية الغرفة صفعة قوية تحرك الوجود أمامي خرجت صورها تتسابق أمام عيني الذوايتين .
- هيا أجيبي .. زعق القائد .
- رباط.. جز.. جز.. متي ك.. كنت قد.. أوثقت .. أوثقته.
- خذوها وامحو ذاكرة رباط جزمتها .
دموعي تسبقني . صوتي الباكي يصرخ صرخات متقطعه :
هي رضيعة سال حليبها منذ أكملت ربط جزمتي عند ذلك السور الكبير .
يصدر لأحدهم: دَوّن كل شئ خاص بها، حتى إيماءاتها.. أريد بيانات دقيقة عنها، فهي حذرة.. ربما دربت بشكل بالغ الدقة. بل لا شك في ذلك.
ها .. " رباط الجزمة" شفرة بينك، وبين من أرسلوك ، .. أليس كذلك؟
التأتأة محور الإجابة: أنا … أنا.. أيها.. أنا.. لست أيها.. أل.أل.
أنسيت اسمي. لن أكرره مرة أخرى، لكنك ستذكرينه فوراً.
رفع يديه الغليظتين نحو رقبتي، عصرها عصرا، جعلت عيوني تخرج من محجريهما.
هيا اسمي ماذا. تحسست رقبتي بعد أن ارجعت عيني سالمة إلى مكانها: قد عرفته. نعم عرفته، إسمك المزاغط عفواً العقيد مسعد المزاغط.
قد قيل عنك في التقرير، أنك كتبت، وفعلت، وووو فتح عينيه كأنه يبحث عن شئ ما، وجمعت توقيعات علتها بيانات شجب واستنكار ، وأروقة الجامعة، والكليات الأخرى تشهد بذلك.
أجيبي- صرخ بغيض محموم:
- ما سر عدائك للعسكر.
أخفي معالم الحليب الذي بلل ثيابي، وترك بقعاً جافة عليها صور طفلتي، عيناها الدامعتان لسانها الجاف يلوب يبحث عن حلماتي بقوة شدتا عيني نحو صدري، وبنفس القوة وأكثر غرست في ثناياه.
- ما سر عدائك للعسكر.. أجيبي؟
بصاق، صفعات، ركلات، رأسي يرطم على الجدار، سباب بذئ وعيناي مثبتتان في صدري، الضرب المبرح يتوالى، بعنف يرفع رأسي سرعان ما يجذبه صدري.
فجأة توقف كل شئ، لم يهمني سر الهدوء، بل سر من جعل حليب طفلتي يتدفق عند قدمي، وأماكن متفرقة من أرضية الغرفة الواسعة .
خطوات هادئة أسمعها تأتي نحوي ترفع رأسي بهدوء، وبحنان غريب.
- نعتذر لك، أيتها الأستاذة المبجلة، فلست أنت المقصودة.. ربما ربطة جزمتك من.. من لا يهم ولا بأس عليك وأعذرينا فالخوف والحيطة الشديدان على شخصيتنا، هما من أوصلك إلى هنا- وبتعطف يواصل حديثه الممل.. أعداؤه كثيرون يا عزيزتي. نعم ، ويتربصون به، فسامحينا، وسندفع لك تعويضاً عما لحق بك.
- هيا مروا بتعويض لأستاذة الفلسفة المبجلة مبلغ وقدره .
خرجت أحمل أكياساً ثقيلة، قيل إنها كل ما تحويه عدتي، عدا شكاوى أولياء الأمور، فقد فقدت أثناء التحقيق، ثم رموا لي بملاحظة هامة من أن سجل الدرجات قد عدلت موازينه.
كنت حافية القدمين عندما لامست قدماي عتبة بوابة ذلك المبنى الضخم الذي يشبه القلعة. فقد امتنعت عن لبس أي حذاء، وكان أول شيء فعلته أن رفعت هامتي، رأيت الشمس فقط، أما عداها من الأشياء، والموجودات، فقد تحولت إلى أحذية غليظة، وثقت رباطاتها بأحكام وفي اليوم التالي لخروجي رأوني في إحدى الجولات الرئيسية ارسم رباطات أحذية على زجاج السيارات، والجدران والنوافذ، والشوارع ، واللافتات وإشارات المرور،أوزع دفاتر الطالبات، وأوراق امتحاناتهن ودرجات نصف العام الدراسي، ثم بعد ذلك اختفيت .
* من قعر االجزمة في ( تنكا بلاد النامس )
مرة أخرى دنوت وبينما أنا أوثقه سمعت من خلف سور المنزل الكبير تأهباً يشبه حالة استنفار ما قبل الحرب .
في الانحناءة الأولى كنت أسمع أصواتاً ، وحركة كثيرة صاخبة لم آبه لها ، وفي الانحناءة الثانية الأصوات تعالت ، أقدام تطرق بعنف ، تهز الجدران وقامات الأشجار ، كلمات بأوامر صارمة ، أصوات تبثها إرسالات بين التشويش ، وقليل من الوضوح ، أنين سيارات كسيارات الإطفاء ، كلمات تجلجل ( تمام يا أفندم ) ثم خطوات منتظمة سريعة وقوية .
تساءلت ، لكن لم أجد الإجابة قلت لنفسي : لربما كانت ثكنة عسكرية .. لا يهم فالثكنات العسكرية في ( تنكا بلاد النامس ) تتوازي مع عدد السكان .
استدركت مسرعة ألملم عدتي وبقايا نفسي المتناثرة هنا و هناك خشية أن يكون ذلك المنزل فعلاً ثكنة عسكرية ، حتى أنني لم انظر إلى حذائي لأتأكد من أنى أوثقته جيداً .
صوت جهوري يخرج من مكبر الصوت .
نريدها حية ، وحذار من هروبها ،لا نريد دماء أيضاً .
هممت بأن أخطو بحمولتي الثقيلة .
صف من العسكر يحوطني كيف حضروا ، ومن أين أتوا لا أعرف ، بنادقهم صوبت إلى وجهي . ارتعدت مفاصلي ، ذبت أشلاءً ، تلونت قسماتي ، أحسست بذلك من صفرة يدي ، وبرودتهما التي سرت في كل جسمي أما روحي ، فلا أدري بأي ارض سكنت وبأي أرض تلوذ .
فتشت عن ريق يبلل فمي الجاف لم أجد سوى ارتعاشات تصك أسناني ومفاصلي وجفاف شمس الظهيرة يشوي كل شيء .
خطوت خطوتي الثانية لثقتي أن ذلك الحشد ، وتلك البنادق ، وتلك النظرات والآليات المختلفة ليست موجهة الي البتة ، وبرغم ذلك كاد الخوف يأكلني .
وضع كبيرهم بندقيته على عتبات أقدامه الغليظة ، بينما ظلت بقية البنادق مشرعة نحوي ، وبصوت جهوري : إلى اين ؟ تلفت حولي خطوت الخطوة الثانية فما زال إيماني الراسخ أن ذلك السؤال ليس موجها إلي ، ربما لإنسان خلفي أو أمامي ، أو في أي اتجاه آخر ، ومن جوف الضوضاء والصخب ، خرج السؤال مرة أخرى :
إلى أين ؟
إذن السؤال موجه لي – هكذا حدثت نفسي ، فقد خطى ذلك الرجل المزدان بالنياشين ، والمسدس المتدلى من خاصرته اليسرى خطوتين نحوي ، حتى كاد يلامسني .
- أنا .. ! أجبته
- رد بسخرية .. لا .. أنا .
- تذكرت حلم الليلة الماضية ، جمهرة الناس تدق طبولها على رأسي أنا أتخبط وأبحث عن طريق في خطوط متشابكة ، تصفع وجهي ، تصعد الضجيج ، وترميني في هوة سحيقة بعدها فتح لي باب واسع على هيئة حذاء عميق برباط مهمل .
- أم الصبيان ، قفي .
- من غمرة الارتجافات ، ركضت لساني ، هلعة تدب البحث في زوايا فمي لتحظى بقليل من بلل ، نظرت إلى رباط جزمتي ، والى الوجوه الصارمة التقاسيم وعتادها الثقيل الذي لم ار مثله إلا في نشرات الأخبار والأفلام البوليسية .
- أنا .. ؟ أجبته .
صرخ وفمه معكوم بالغضب .. نعم أنت .
-اذهب إلى بيتي
-أببساطة هكذا ؟
- وماالمانع؟
- لا… لا.. ليست لدينا أية موانع ، ولكن بالضبط قولي لنا من أنت ؟ ولحساب من تعملين ؟ وأية جهة تمول أعمالك ؟ نظرت إلى عدتي التي اشتد ثقلها..
- أنا مدرسة أعمل لحساب التربية والتعليم .
- تر.. ب.. يه..، وت.. ع..تع.. ها..ها.. لم أسمع .. بالله عليك أعيدي , وأشجيني ، تربية وتعليم ماذا .. !! اتعلمين أن ، اجابتك عن غباء أو تغابي تعرفينه جيداً .
صرخ في وجهي:
- من أرسلك ومن هم زملاؤك أيتها الـ…
لاول مرة أشتم بسباب مقذع …لا.لا. عفوا.. بل لمرة ثانية فالمرة الاولى كانت من قبل طالبة صغيرة قيل أن أباها رجل عتيد في السلطه .
تلقفت الهواء الحار الموجود فزاد من ضيقي وكتم أنفاسي .
- من أرسلك ومن هم زملاؤك !؟
اجيبي .
الـ.. ال الخدمة المدنية من أرسلتني .
لم يأبه لإجابتي فقد أتاه رجل مدجج بالسلاح همس في أذنه نادي بعد ذلك على اثنين من العسكر آمراً إياهم :
- فتشوها .. قد تكون رجلاً متنكراً وحذار فربما تحمل متفجرات هلع يسابق قامتي ، وقامات الاشجار ، أصرخ صراخاً يطاول الضوضاء الصاخبه .
عم تبحثون .. أريد أن اصوم رمضان ، لست سوى مدرسة هامتها حطام ذاكره .. نعم حطام ذاكره ..حطام ذاكرة .
يخفت صوتي ، أحبالي الصوتية تشد استغاثتي للأسفل ، يذوي صوتي ، يتحول نشيجا ً دامعاً تكوم بين طيات قيظ الظهيرة وقلبي المرتجف رعباً.
أدخلوني غرفة شبه مظلمة عبثوا بأجهزة اصدرت أصواتا بذبذبات خرجت بعدها وسط استبشار الجنديين ليقولا لكبيرهم : ليست سوى أمراة عجفاء كما قلت أيها الضابط – مثل (أم الصبيان ) مجردة من أي سلاح أنثوي أوحتى حربي ..
شارة الابتسامة تكلل وجهيهما.
تبرع جنديان نحيفان برمي دفاتر طالباتي توسلت إليهم أن يترفقوا بها لم يعرني أحد أية التفاتة الاوامر التي كان يصدرها كبيرهم غطت على كل الكلمات أوصلوني مكاناً لا اعرفه ، كنت معصوبة العينين اتلمس جسدي علني أحلم أو اشاهد فيلما مثيراً .
- هاهي سيدي.
أبعدت عصابة عيني رجل وضئ الطلعة يتقدمه كرشه تحوطه كراسي وثيرة كان يعبث بولاعة مذهبة هز رأسه بعد أن غرس عينية الحادتين في كل منابتي .
- يا لكم من أذكياء كلفوك بهذه المؤامرة القذرة كيف قبلت أجيبي.
- انا .. أ... ن.. ن... أنا عم تتحدث يا أخي ؟ أنا لست سوى مدرسة .
- لست بأخيك صاح في وجهي فاختفت معالم وجهه الوضاءه .
- أنا العقيد " مسعد المزاغط"
يا سيادة العقيد ، هو رباط جزمتي اللعين أوثقته لأواصل السير ليتني واصلت سيري متعثرة أوحتى حافية القدمين قاطعني بوجه متجهم قائلاً : اصرفي قليلا عن تمنياتك الآن فنحن ندرك مثل هذه الألاعيب . ألا اخبرتنا عمن أرسلك للتجسس على منزل الافندم وتفجيره ...؟
روعت أزداد فمي المشق هواء لاسعا زاده تشققاً .
- ما.. ما.. ماذا تقول .. ال.. ال.. أيها .. هي ربطة الجز.. الجزمة ليس إلا .. أن .. أنح .. انحنيت لأوثقها فقد عثرتني وطايرت معها عدتي
- خذوها وستبوح بعد ذلك .
- تواصلي مع العالم غدا مقطوعا .. حتى حواسي فقدت وظائفها ووجودي تحدد بهالة هلع مشوبة بالذهول وعتاد ومعدات ثقيلة لا أعرف مسمياتها وجوه جامدة ومساحة سؤال تبحث عن اجابه.
بعدها أعادوني لنفس الغرفة وزادت مساحة الوجود عندي قليلاً فقد رأيت الغرفة بشكل مختلف عن الأولى .
رأيت صورة الزعيم تأخذ مساحة نصف الجدار، شهادات التقدير ، كثير من النياشين ، بضع ايات قرآنية .
أما علم " تنكا بلاد النامس" فقد اخذ ركنا رفع على سارية مذهبة .
- الان ستتكلمين .. اليس كذلك؟
- ياسيادة العقيد .. ال.. ال.. ال..
زأر في وجهي.. ألم تحفظي إسمي بعد ؟
- أنا العقيد " مسعد المزاغط" فهمت مسعد ال م زاغ ط هيا أجيبي ..
- هيا أجيبي .
- صدقني.. لا أعرف عن أي شيء تتحدثون.. أعرف قط أن رباط جزمتي كنت قد .. أمعلوماتك توقفت عند ربطة جزمتك فقط ، إذا لو كررت هذه الجملة سأرمي بك للكلاب الضاله .
نكست رأسي أرضاً شريط يمر من بقايا ذاكرتي طفلتي الرضيعة ، دفاتر الطالبات أسوار المدرسة المسيجة بالقمامات ، اللحم المكتظ داخل الفصول شفاههن المدلاة أعينهن الجاحظة ، السبورة المحطمة ، كتاب الفلسفة في لباس الفلسفة .أمن المعقول أني أشاهد فيلما خبيثا عجن الحقيقة بالخيال.. أم .. آه لوكنت أؤمن بالشياطين وأم الصبيان كما قال ال.. ال.. اسميه ماذا يا الهي .. كنت سأرتاح .. أخ.. " يلعن أبو الفلسفة " .. رفع احدهم رأسي بقوة قطع حبل أفكاري وجعل عروق رقبتي تصدر أصواتاً بعدها أيقنت إني لا أحلم أو أشاهد فيلما خبيثاً أو أقرأ رواية بوليسية . إني أتلظى في قعر جزمة عمقها سحيق .. سحيق.
- بسرعة أجيبي " الافندم " . يريد أن يعرف الحقيقة فهو قلق ازاء هذه القضيه .
لم أنبس ببنت شفه أعدت تنكيس رأسي ، غرسته في منابت أقدامي وأرضية الغرفة صفعة قوية تحرك الوجود أمامي خرجت صورها تتسابق أمام عيني الذوايتين .
- هيا أجيبي .. زعق القائد .
- رباط.. جز.. جز.. متي ك.. كنت قد.. أوثقت .. أوثقته.
- خذوها وامحو ذاكرة رباط جزمتها .
دموعي تسبقني . صوتي الباكي يصرخ صرخات متقطعه :
هي رضيعة سال حليبها منذ أكملت ربط جزمتي عند ذلك السور الكبير .
يصدر لأحدهم: دَوّن كل شئ خاص بها، حتى إيماءاتها.. أريد بيانات دقيقة عنها، فهي حذرة.. ربما دربت بشكل بالغ الدقة. بل لا شك في ذلك.
ها .. " رباط الجزمة" شفرة بينك، وبين من أرسلوك ، .. أليس كذلك؟
التأتأة محور الإجابة: أنا … أنا.. أيها.. أنا.. لست أيها.. أل.أل.
أنسيت اسمي. لن أكرره مرة أخرى، لكنك ستذكرينه فوراً.
رفع يديه الغليظتين نحو رقبتي، عصرها عصرا، جعلت عيوني تخرج من محجريهما.
هيا اسمي ماذا. تحسست رقبتي بعد أن ارجعت عيني سالمة إلى مكانها: قد عرفته. نعم عرفته، إسمك المزاغط عفواً العقيد مسعد المزاغط.
قد قيل عنك في التقرير، أنك كتبت، وفعلت، وووو فتح عينيه كأنه يبحث عن شئ ما، وجمعت توقيعات علتها بيانات شجب واستنكار ، وأروقة الجامعة، والكليات الأخرى تشهد بذلك.
أجيبي- صرخ بغيض محموم:
- ما سر عدائك للعسكر.
أخفي معالم الحليب الذي بلل ثيابي، وترك بقعاً جافة عليها صور طفلتي، عيناها الدامعتان لسانها الجاف يلوب يبحث عن حلماتي بقوة شدتا عيني نحو صدري، وبنفس القوة وأكثر غرست في ثناياه.
- ما سر عدائك للعسكر.. أجيبي؟
بصاق، صفعات، ركلات، رأسي يرطم على الجدار، سباب بذئ وعيناي مثبتتان في صدري، الضرب المبرح يتوالى، بعنف يرفع رأسي سرعان ما يجذبه صدري.
فجأة توقف كل شئ، لم يهمني سر الهدوء، بل سر من جعل حليب طفلتي يتدفق عند قدمي، وأماكن متفرقة من أرضية الغرفة الواسعة .
خطوات هادئة أسمعها تأتي نحوي ترفع رأسي بهدوء، وبحنان غريب.
- نعتذر لك، أيتها الأستاذة المبجلة، فلست أنت المقصودة.. ربما ربطة جزمتك من.. من لا يهم ولا بأس عليك وأعذرينا فالخوف والحيطة الشديدان على شخصيتنا، هما من أوصلك إلى هنا- وبتعطف يواصل حديثه الممل.. أعداؤه كثيرون يا عزيزتي. نعم ، ويتربصون به، فسامحينا، وسندفع لك تعويضاً عما لحق بك.
- هيا مروا بتعويض لأستاذة الفلسفة المبجلة مبلغ وقدره .
خرجت أحمل أكياساً ثقيلة، قيل إنها كل ما تحويه عدتي، عدا شكاوى أولياء الأمور، فقد فقدت أثناء التحقيق، ثم رموا لي بملاحظة هامة من أن سجل الدرجات قد عدلت موازينه.
كنت حافية القدمين عندما لامست قدماي عتبة بوابة ذلك المبنى الضخم الذي يشبه القلعة. فقد امتنعت عن لبس أي حذاء، وكان أول شيء فعلته أن رفعت هامتي، رأيت الشمس فقط، أما عداها من الأشياء، والموجودات، فقد تحولت إلى أحذية غليظة، وثقت رباطاتها بأحكام وفي اليوم التالي لخروجي رأوني في إحدى الجولات الرئيسية ارسم رباطات أحذية على زجاج السيارات، والجدران والنوافذ، والشوارع ، واللافتات وإشارات المرور،أوزع دفاتر الطالبات، وأوراق امتحاناتهن ودرجات نصف العام الدراسي، ثم بعد ذلك اختفيت .
* من قعر االجزمة في ( تنكا بلاد النامس )