حنان الوادعي - فرص كثيرة للموت

انتظرَ كثيراً، تماماً حيث تلك الشظايا تتطاير في كل مكان، وأغمض عينيه حتى لا يسمع تلك الأصوات المفزوعة التي كانت تناديه أن يعود! كان واضحاً أنه يريد أن يموت، فلماذا يكترث الغرباء والجيران لموتنا، وخاصة أنك بعد أن ترضخ لتوسلاتهم، الصادقة غالباً، سيديرون لك ظهورهم بعدها مباشرة وسيكون عليك أن تشرب القهوة وحيداً مرة أخرى!
تذكر بأنه أصلاً لا يشرب القهوة!

ثم إنه ينتظر الموت وعليه أن يفكر في شيء آخر، شيء يليق بهذه اللحظة التي لن تتكرر...
بماذا كانت تفكر هي قبل أن تموت؟
قالت له مرة: قبل الحرب كنت دائماً أفكر في الطلاق منك... الآن، لم تعد تلحّ عليّ الفكرة وكأنك لم تعد مهماً.
لم يقدر على مجاراتها في حزنها الكثيف على فقدان جنين لم يكن قد بلغ إلا بضعة أسابيع. لقد انتظرا تلك اللحظة طويلاً. لكن الحرب لا تعلم هذا! أما هو، فلا يفهم لماذا كانت حزينة إلى تلك الدرجة!
كان حزنها صامتاً. وهذا كان مرهقاً أكثر، فلو كانت تصيح وتحكي، لوجد سبيلاً للتخفيف عنها! لكن ما عساه يقول في حضرة هذا الحزن الكثير الصامت.
يعرف أنها تلوم نفسها. هي من أصرت على السفر برّاً، قالت له إنها لن تلد طفلها تحت الصواريخ وفي مستشفيات صارت تفتقر إلى أدنى مستوى من التجهيزات الطبية الأساسية وفي بلد تفشت فيه الكوليرا مثلما تفشت فيه الكراهية. وعندما أبدى تحفظه بسبب الطريق الطويل ونقاط التفتيش، وطلب منها أن تنتظر شهرين أو ثلاثة فربما أعادوا فتح المطار، نظرت إليه طويلاً ثم قالت بتحدّ: سأسافر وحدي إن كنت تفضل البقاء!
وفي منتصف الطريق، عادا أدراجهما بلا جنين وبصمت باذخ!
لم تكن الحرب هي سبب تعثر العلاقة بينهما. يحدث كثيراً أن تنشب حرب في مدينة نصف سكانها متعثرون في علاقاتهم لسبب أو لآخر. كانا من هذا النصف، والفرق هنا أن الحرب بينهما كانت صامتة... لا صواريخ ولا قنابل ولا أصوات طائرات حربية مرعبة! فقط صمت طويل بدأ قبل الحرب بسنوات، ولم يبد أي منهما الرغبة في قطعه، وكان ذلك الطفل، الذي لم يحتمل مشقة الطريق، هو الأمل الذي تعلّقا به سرّاً، ظناً بأن صراخه قد يكسر ذلك الصمت بينهما ولو قليلاً.
في الليلة التي سبقت موتها، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحاً، وطائرات آل سعود لم تتوقف عن التحليق منذ أكثر من ساعتين!
دخلت عليه وهو كعادته يجلس في مكتبه، وشاشة الكمبيوتر مفتوحة. كان يكتب شيئاً، توقف عندما رآها وارتسمت علامات الدهشة والتساؤل على ملامحه! قالت له بهدوء:
ــ كان علينا أن نفترق منذ سنوات، لكننا لم نفعل. مثل ملايين من الفاشلين غيرنا كنا ننتظر معجزة ما... حدثاً ما... مصيبة ما ترجع الأمور كما كانت! لا شيء يرجع كما كان! كنت قبل قليل أشاهد صورنا القديمة. هل تعرف ما هو أكثر شيء تغيّر فينا! تلك النظرة الشغوفة بالحياة في أعيننا... ماتت! ماتت بالتدريج كما يبدو، لأنها لو ماتت في لحظة واحدة، لكنا أدركنا هذا تماماً وشيعناها بطريقة لائقة جنباً إلى جنب مع علاقتنا! لا أعرف لماذا فعلت بك هذا، ولا لماذا فعلت بي هذا! لقد توقفت عن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة منذ زمن! لكني كنت على وشك طلب الطلاق قبل أن تندلع الحرب، بيد أن أصوات الصواريخ شغلت تفكيري، ثم فجأة لم أعد أراك... كأنك لم تعد موجوداً ولا مهماً!
ثم... انهمرت دموعها، لكن ظل صوتها ثابتاً وهي تتابع: ثم جاء أمر ذلك الحمل الذي انتظرناه طويلاً. لم أقدر أن أمنع نفسي من التفكير بأن صراخ ذلك الطفل سيوقظ الصوت الذي مات بيننا ويعيد ولو شيئاً من الحياة لتلك النظرة الميتة في أعيننا. لقد حزنت لموته... وأعرف بأنك كالعادة حاولت أن تفهم ولم تقدر، ثم كالعادة أيضاً وجدت أنك فعلت ما عليك وتركتني لأحلّ مشكلة حزني بنفسي! دعك من هذا كله، هذا حديث فيه ترف كبير، بينما كل هذه الطائرات تحوم الآن فوق رؤوسنا. فقط أتمنى أن تقبل اعتذاري الصادق، كان عليّ أن أكون شجاعة أكثر وأواجه حقيقة أنك لم تعد تحبني... على الأقل كما كنت في السابق! وهذا يحدث، يحدث كثيراً... نعم كان عليّ أن أتركك في تلك اللحظة التي اكتشفت فيها أنك كنت تكذب. لكنني لم أفعل.
لم تنتظر تعليقه على كلامها، غادرت الغرفة بسرعة كأنها خائفة أن يكدر جوابه قرارها!
كان دائماً لا يجد ما يقول، ويظل ينظر إليها كأنه ينتظر عوناً خفياً ليتدخل بدلاً منه، ويقول شيئاً ينهي به الموقف! إلا هذه المرة كان يريد أن يلحق بها ويعتذر هو الآخر بأنه أخفق كثيراً وأنه أيضاً كان عليه أن يكون أكثر شجاعة ويواجه نفسه بأنه لم يعد يحبها كما كان، أو كما ينبغي أو كما تستحق. وأنه حقاً لا يعرف السبب! ستكون المرة الأولى التي لن يكذب فيها. لكنه لم يلحق بها ولم يقل شيئاً... ظل جالساً كما هو ينظر إليها وهي تتوارى.
هل سيتكل على الوقت كالعادة! تذكر في بداية خلافاتهما عندما كان ينتظر أياماً ليبادر بالحديث وتدريجياً تعود الأمور إلى مجاريها، بينما في الحقيقة كان المجرى يجف يوماً بعد آخر... حتى جف إلى الأبد بعدما تحولت الأيام إلى أسابيع، ثم تحولت الأسابيع إلى أشهر طويلة. ورغم كل هذا، كانت هي دائماً من تحاول جبر الكسر، ثم مع مرور السنين توقفت عن المحاولة واستسلمت للصمت.
لو كان لحق بها في تلك الليلة، لكان اعتذر كثيراً، ولربما كان ضمّها أيضاً وبكى وطلب منها أن تنام إلى جانبه لآخر مرة قبل أن يفترقا إلى الأبد. لكنه لم يفعل، تركها تذهب إلى تلك الغرفة الباردة لتنام وحيدة، كما صارت تنام كل ليلة منذ عامين.
عندما أخرجوه من تحت الأنقاض، مسح الغبار عن عينيه ونظر مباشرة إلى ذلك الجزء من البيت... اختفى!
ماتت إذاً! بينما كان هو حياً إلا من موت سيرافقه كثيرا وسينجو منه أكثر لكنه سيظل يجرب الموت كلما سنحت له الفرصة!
وهذه اللحظة هي فرصة عظيمة، أغمض عينيه مبتسماً... شعر بأن هذه المرة لن تخطئه الشظايا.


*روائية يمنية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...