ما حلمت في منامي ذات حلم أن أكون شاعرا أو قاصّا . ربما كان الحلم لغاية المرحلة الثانوية أن أكون مخرجا . ممثلا . سياسيا . فنانا تشكيليا .
في بدء العقد الثاني من عمري ، كان اجتياح الكيان الإسرائيلي لجنوب لبنا ، وكانت المنظمات الفلسطينية تقاوم الاجتياح عام 1982 ، وكان الحماس الوطني ، وتضامني مع حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان ، أن كتبت مشاعري الوطنية على الورق ، فقرأها صاحب مكتبة كان جارا لي فأعجبته واحتفظ بها . بعد يومين أو ثلاثة أيام ، وإذ بالرجل يرسل لي نسخة من جريدة الدستور ، ليخبرني بأني قصتي قد تم نشرها في الصحيفة . وكان المحرر الثقافي آنذاك القاص المرحوم خليل السواحري . مما زاد من فرحي ، أن كاتبا وقاصا مبدعا ، بحجم قامة خليل السواحري ، قد نالت إعجابه ، قصتي التي وصلته بعنوان ( حلما بانتصار ) .
مرّ عام واحد فقط ، وإذ بي أكتب مجموعة قليلة من القصص ، بعض هذه القصص لم يتجاوز حجمها صفحة واحدة فقط ، وبعضها أكثر من صفحة . وفي ذات يوم زارنا قريب مثقف وصاحب مطبعة . اطلع الرجل على مجموعة القصص تلك ، وطلب مني أن تقوم مطبعته بنشرها . خفت في البداية ، حيث كانت دائرة المطبوعات والنشر آنذاك ، لم تكن لتسمح بالنشر ، إلا ضمن شروط ومحاذير كثيرة . فتكفل صاحب المطبعة بكافة الاجراءات .
كان صف الحروف وتنسيقها آنذاك يدويا حرفا . حرفا . وتم طباعة المجموعة التي حملت عنوان ( حبك قدري ) ، نهاية عام 1983 وتحمل بعض أخطاء الطباعة .
نصحني بعض الأصدقاء بزيارة رابطة الكتّاب الأردنيين في عمان ، وكانت في الجبل اللويبدة في مبناها القديم . فغامرت بالزيارة ، وحملت مجموعة من النسخ ، وأنا لا أعرف أحدا من الكُتاب والأدباء الأردنيين معرفة شخصية ولم ألتق أحدا منهم ، إلا من خلال إصداراتهم الورقية آنذاك .
دخلت المقر على استحياء ، ووجدت بعض الأدباء جالسين في الشرفة ، ما عرفت أحدا منهم حينها ، فكان منهم على ما أذكر المرحوم مؤنس الرزاز . والمرحوم جمال ناجي وأمين المكتبة عبد السلام سكر ، وأشاروا لي نحو غرفة مكتب ، دون أي اهتمام بشاب صغير في بدايات العشرين ، يحمل تحت إبطه كيسا ورقيا .
توجهت نحو غرفة المكتب ، فوجدته شابا مبتسما ، وبادر بمصافحتي ، وعرفني بنفسه ، فكان أ. محمد المشايخ . أعطيته كل ما أحمل من نسخ ، وخرجتُ .
بعد فترة وجيزة لا تتجاوز الشهر ، كان أن قرأتُ خبرا في عمود صحفي للأستاذ المشايخ يكتب عن مجموعتي ( حبك قدري ) مشكورا . وكتب آخرون . البعض مدح المجموعة قليلا . البعض بقي محايدا في رأيه . الأستاذ والصديق يوسف الغزو كتب عن ( حبك قدري ) ، وبالعامية ( شرشح ) المجموعة في جريدة الدستور في قراءة نقدية للمجموعة . وقد مدح بعض الأدباء فيما بعد ، بعض القصص التي لا يتجاوز حجمها الصفحة الواحدة ، على أنها قصص قصيرة جدا ، تشبه قصص الأديب السوري زكريا تامر والأديب الفلسطيني محمود شقير ، إلا أن الإحباط أصابني ، وتخيلت أن العالم كله قد قرأ القراءة النقدية للغزو ، وبأني لن أكون كاتبا ، فأقسمت أن لا أعود لكتابة القصص ( وحردتُ ) .
في الفترة التي تخرجتُ فيها ، وعملت معلما ، مارستُ مهنة الصحافة محررا ثقافيا في مجلة الشريعة ، وقد كانت تصدر في عمان ، ثم حاولت كتابة الدراما التلفزيونية وللمسرح ، فلم أنجح في وقتها . وقررتُ وقتها الانتحار الثقافي والانسحاب تماما من الساحة الثقافية محبطا . إذ كان من الصعب في منتصف الثمانينات الانخراط في الوسط الثقافي ، لأسباب عديدة ، سأجيئ على ذكرها لاحقا .
سافرت بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية معلما معارا ، في قرية نائية جدا تابعة لمدينة خميس مشيط في أبها . وكانت الظروف المعيشية قاسية جدا ، فكان من السهل أن تتعثر قدماي بأفعى ، وهذا حدث معي فعلا . ففي إحدى المرات ، كنت عائدا من المدرسة لبيتي وقت الظهر سيرا على قدمي ، ولا أرى شيئا بسبب انعكاس الشمس على رمال قاسية الملامح ، وفي الرمال ذرات من الذهب ، تزيد من صعوبة الرؤية ، وإذ بأفعى تنزلق من بين قدمي هاربة ، بعد أن ضربت بقدمي ، فسألتها هامسا : مَن يخاف مِن مَن ؟ أنا أم أنت ؟ ابتسمت في سري وتابعت سيري . فكتبتها قصة .
وفي ذات يوم ركبتُ في ( جيب ) ، سيارة كانت تشبه سيارة اللجنة ، والمقصود باللجنة ، هي مَن تقوم بترحيل المغتربين ممن لا يوجد لديهم إقامة تسمح لهم بالإقامة والعمل في السعودية . فقابلنا شخصا كان ملثم الوجه يشبه الأخوة الصعايدة المصريين ، فسألناه نستدل الطريق المؤدي لوجهتنا وسط الصحراء ، فأشار لنا باتجاه مخالف لمكان وجهتنا ، قاصدا أن يسمح له الوقت بإخبار العمال من الاخوة السودانيين والمصريين بالاختباء ، اعتقادا منه أننا لجنة الترحيل .
عدنا سريعا ، فرأينا الأخوة العمال الهاربين ، بعضهم اختبأ في البراميل ، وأخرون اختبأوا بالحقر . تألمت كثيرا من أجلهم وكتبتُ قصة . ولكل قصة كتبتها كان لها قصة .
في ذلك العام نفسه ، عام 1988 نشرتُ قصصا قصيرة جدا ، وتحت مسمى قصص قصيرة جدا ، في مجلة اليقظة الكويتية آنذاك ... بقيتُ أكتبُ لنفسي ، ولم أعد لكتابة القصص سوى بعض القصص القصيرة جدا في مجلة اليقظة الكويتية ، وغيرها . إلى أن أكملتُ العام الدراسي ، وعدت لعمان ، وبما وفرته خلال العام الدراسي من العمل في ضنك العيش ، دفعتُ نصف ما تمّ توفيره ، أجرة لطباعة المجموعة الثانية وكانت بعنوان ( همسة في زمن الضجيج ) . ولها مجموعة من الحكايات...
• محمد عارف مشّة
( قصة نشر أول مجموعاتي القصصية ـ حبك قدري 1983 )
في بدء العقد الثاني من عمري ، كان اجتياح الكيان الإسرائيلي لجنوب لبنا ، وكانت المنظمات الفلسطينية تقاوم الاجتياح عام 1982 ، وكان الحماس الوطني ، وتضامني مع حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان ، أن كتبت مشاعري الوطنية على الورق ، فقرأها صاحب مكتبة كان جارا لي فأعجبته واحتفظ بها . بعد يومين أو ثلاثة أيام ، وإذ بالرجل يرسل لي نسخة من جريدة الدستور ، ليخبرني بأني قصتي قد تم نشرها في الصحيفة . وكان المحرر الثقافي آنذاك القاص المرحوم خليل السواحري . مما زاد من فرحي ، أن كاتبا وقاصا مبدعا ، بحجم قامة خليل السواحري ، قد نالت إعجابه ، قصتي التي وصلته بعنوان ( حلما بانتصار ) .
مرّ عام واحد فقط ، وإذ بي أكتب مجموعة قليلة من القصص ، بعض هذه القصص لم يتجاوز حجمها صفحة واحدة فقط ، وبعضها أكثر من صفحة . وفي ذات يوم زارنا قريب مثقف وصاحب مطبعة . اطلع الرجل على مجموعة القصص تلك ، وطلب مني أن تقوم مطبعته بنشرها . خفت في البداية ، حيث كانت دائرة المطبوعات والنشر آنذاك ، لم تكن لتسمح بالنشر ، إلا ضمن شروط ومحاذير كثيرة . فتكفل صاحب المطبعة بكافة الاجراءات .
كان صف الحروف وتنسيقها آنذاك يدويا حرفا . حرفا . وتم طباعة المجموعة التي حملت عنوان ( حبك قدري ) ، نهاية عام 1983 وتحمل بعض أخطاء الطباعة .
نصحني بعض الأصدقاء بزيارة رابطة الكتّاب الأردنيين في عمان ، وكانت في الجبل اللويبدة في مبناها القديم . فغامرت بالزيارة ، وحملت مجموعة من النسخ ، وأنا لا أعرف أحدا من الكُتاب والأدباء الأردنيين معرفة شخصية ولم ألتق أحدا منهم ، إلا من خلال إصداراتهم الورقية آنذاك .
دخلت المقر على استحياء ، ووجدت بعض الأدباء جالسين في الشرفة ، ما عرفت أحدا منهم حينها ، فكان منهم على ما أذكر المرحوم مؤنس الرزاز . والمرحوم جمال ناجي وأمين المكتبة عبد السلام سكر ، وأشاروا لي نحو غرفة مكتب ، دون أي اهتمام بشاب صغير في بدايات العشرين ، يحمل تحت إبطه كيسا ورقيا .
توجهت نحو غرفة المكتب ، فوجدته شابا مبتسما ، وبادر بمصافحتي ، وعرفني بنفسه ، فكان أ. محمد المشايخ . أعطيته كل ما أحمل من نسخ ، وخرجتُ .
بعد فترة وجيزة لا تتجاوز الشهر ، كان أن قرأتُ خبرا في عمود صحفي للأستاذ المشايخ يكتب عن مجموعتي ( حبك قدري ) مشكورا . وكتب آخرون . البعض مدح المجموعة قليلا . البعض بقي محايدا في رأيه . الأستاذ والصديق يوسف الغزو كتب عن ( حبك قدري ) ، وبالعامية ( شرشح ) المجموعة في جريدة الدستور في قراءة نقدية للمجموعة . وقد مدح بعض الأدباء فيما بعد ، بعض القصص التي لا يتجاوز حجمها الصفحة الواحدة ، على أنها قصص قصيرة جدا ، تشبه قصص الأديب السوري زكريا تامر والأديب الفلسطيني محمود شقير ، إلا أن الإحباط أصابني ، وتخيلت أن العالم كله قد قرأ القراءة النقدية للغزو ، وبأني لن أكون كاتبا ، فأقسمت أن لا أعود لكتابة القصص ( وحردتُ ) .
في الفترة التي تخرجتُ فيها ، وعملت معلما ، مارستُ مهنة الصحافة محررا ثقافيا في مجلة الشريعة ، وقد كانت تصدر في عمان ، ثم حاولت كتابة الدراما التلفزيونية وللمسرح ، فلم أنجح في وقتها . وقررتُ وقتها الانتحار الثقافي والانسحاب تماما من الساحة الثقافية محبطا . إذ كان من الصعب في منتصف الثمانينات الانخراط في الوسط الثقافي ، لأسباب عديدة ، سأجيئ على ذكرها لاحقا .
سافرت بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية معلما معارا ، في قرية نائية جدا تابعة لمدينة خميس مشيط في أبها . وكانت الظروف المعيشية قاسية جدا ، فكان من السهل أن تتعثر قدماي بأفعى ، وهذا حدث معي فعلا . ففي إحدى المرات ، كنت عائدا من المدرسة لبيتي وقت الظهر سيرا على قدمي ، ولا أرى شيئا بسبب انعكاس الشمس على رمال قاسية الملامح ، وفي الرمال ذرات من الذهب ، تزيد من صعوبة الرؤية ، وإذ بأفعى تنزلق من بين قدمي هاربة ، بعد أن ضربت بقدمي ، فسألتها هامسا : مَن يخاف مِن مَن ؟ أنا أم أنت ؟ ابتسمت في سري وتابعت سيري . فكتبتها قصة .
وفي ذات يوم ركبتُ في ( جيب ) ، سيارة كانت تشبه سيارة اللجنة ، والمقصود باللجنة ، هي مَن تقوم بترحيل المغتربين ممن لا يوجد لديهم إقامة تسمح لهم بالإقامة والعمل في السعودية . فقابلنا شخصا كان ملثم الوجه يشبه الأخوة الصعايدة المصريين ، فسألناه نستدل الطريق المؤدي لوجهتنا وسط الصحراء ، فأشار لنا باتجاه مخالف لمكان وجهتنا ، قاصدا أن يسمح له الوقت بإخبار العمال من الاخوة السودانيين والمصريين بالاختباء ، اعتقادا منه أننا لجنة الترحيل .
عدنا سريعا ، فرأينا الأخوة العمال الهاربين ، بعضهم اختبأ في البراميل ، وأخرون اختبأوا بالحقر . تألمت كثيرا من أجلهم وكتبتُ قصة . ولكل قصة كتبتها كان لها قصة .
في ذلك العام نفسه ، عام 1988 نشرتُ قصصا قصيرة جدا ، وتحت مسمى قصص قصيرة جدا ، في مجلة اليقظة الكويتية آنذاك ... بقيتُ أكتبُ لنفسي ، ولم أعد لكتابة القصص سوى بعض القصص القصيرة جدا في مجلة اليقظة الكويتية ، وغيرها . إلى أن أكملتُ العام الدراسي ، وعدت لعمان ، وبما وفرته خلال العام الدراسي من العمل في ضنك العيش ، دفعتُ نصف ما تمّ توفيره ، أجرة لطباعة المجموعة الثانية وكانت بعنوان ( همسة في زمن الضجيج ) . ولها مجموعة من الحكايات...
• محمد عارف مشّة
( قصة نشر أول مجموعاتي القصصية ـ حبك قدري 1983 )