قال صَفّىّ الدين الحِلّى فى كتابه “العاطل الحالى والمُرَخَّص الغالى”: ( أول ما نظموا الأزجال جعلوها قصائد مقصدة وأبياتا مجردة على عروض العرب بقافية واحدة كالقريض، لا تغايره بغير اللحن واللفظ العامى، وسموها القصائد الزجلية ثم عدلوا عن الوزن العربى الواحد اٍلى المقطوعات المختلفة القوافى والأوزان )1 ، وعلى سبيل التمثيل يستشهد صفى الدين الحِلى بثلاث عشرة قصيدة زجلية لمدغليس, وقد أكد د. عبد العزيز الأهوانى فى كتابه “الزجل فى الأندلس” عدم صحة رأى صفى الدين الحِلّى حيث قال : ( ولكننا نعلم أن مدغليس قد ظهر فى زمن متأخر عن ابن قزمان، كما صرح بذلك ابن سعيد فى “المقتطف” وعلى هذا فالتمثيل بقصائد مدغليس يثبت وجود القصائد الزجلية، ولكنه لا يثبت سبقها على الأزجال ذات المقطوعات، وقد اعترف صفى الدين نفسه بذلك )4 ، ويؤيد د. محمد عبَّاسة رأى د. الأهوانى وابن سعيد ويقول أن ( القصائد الزجلية التي ذكرها صفي الدين الحلي قد ظهرت في مرحلة من مراحل تطوّر الزجل، لأنه لا يمكن أن نعد مدغليس الذي جاء بعد أبي بكر بن قزمان من منشئي الزجل )5, واٍضافة لما سبق فاٍن ابن خلدون قد ربط فى مقدمته بين نشأة الموشح ونشأة الزجل الذى صاغه أهل الأندلس على منوال الموشح الفصيح، والمعروف أن الموشح فن شعرى خارج على وحدة الوزن والقافية ويُنظَم فى شكل مقطوعات, وقد تحدث ابن خلدون فى مقدمته عن القصائد الزجلية فى القرن السابع الهجرى ولم يقل أنها أصل الزجل بل سماها “طريقة زجلية” حيث قال : ( وهذه الطريقة الزجلية هى فن العامة بالأندلس من الشعر وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها فى سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العامية ويسمونه الشعر الزجلى )6, وبناءا على ما سبق من آراء الباحثين القدماء والمحدثين فاٍن القصيدة الزجلية ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة نوع من أنواع الزجل ,وليست هى أصل الزجل, ولم يتبع رأى صفى الدين الحِلّى فى نشأة الزجل من نقاد وشعراء العصر المملوكى غير ابن حجة الحموى
ويتكون البيت الواحد فى الزجل من عدة شطرات بعضها يسمى أغصانا وبعضها يسمى أقفالا, وتختلف قوافى الأغصان من بيت لآخر فى النص الزجلى الواحد بينما تتفق جميع قوافى الأقفال فى كل الأبيات, وكان للزجل ذى المقطوعات عدة طرق فى بنائه الفنى تختلف فيما بينها وفقا لعدد شطرات الأغصان والأقفال, وأبسط طرق صياغة الزجل يتكون فيها الغصن من ثلاث شطرات والقفل من شطرة واحدة أوشطرتين, وقد يكون الزجل بلا مطلع ويسمى “زجل أقرع” وقد يكون له مطلع ويسمى “زجل تام” وتتفق قافية المطلع مع قافية القفل , ومن أمثلة ذلك قول ابى بكر بن قزمان القرطبى فى مطلع وبيت من نص زجلى يتحدث فيه عن واقعة انفصاله عن زوجته حيث يقول :
صرت عازب وكان لعمرى صواب
لس نزوجّ حتى يشيب الغراب
أنا تايب يا لس نقول بزواج
لا جَلُو ولا عروس بتاج
لا رياسه غير اللعب بالزجاج
والمبيت بره والطعام والشراب )7
وفى طريقة أخرى من طرق صياغة الزجل يمكن أن يصل عدد المطلع اٍلى أربع شطرات, وعدد الغصن ست شطرات والقفل أربع شطرات, وعدد شطرات القفل الذى يتفق مع المطلع فى القافية أربع شطرات , ومثلا لذلك قول الغبارى فى مطلع وبيت من زجل :
فى الناس رأينا للخير معادن
والدر يوجد فى كنز مثله
وان رمت جوهر فى الشخص مكنون
فجوهر الشخص أصل فعله
وان كان تريد صحة المعانى
وشرح ما فى البيان محرّر
خد فرع بيدك من أصل حنضل
وازرع جدوره فى أرض عنبر
واسقيه بماء ورد ممزوج
وعقد جلاّب وحلّ سكر
وحين تشوفه عقد ثماره
وأن أوانه و حلّ فصله
دوقه تراه مر والسبب فيه
ما يرجع الفرع اٍلاّ لأصله )8
وكان الزجل ذى المقطوعات بطرق صياغته المتعددة أكثر انتشارا من القصيدة الزجلية ذات الوزن والقافية الواحدة, ولم يرد ذكر القصيدة الزجلية فى كتابات نقاد العصر المملوكى سوى عند صفى الدين الحِلّى فى “العاطل الحالى والمرخص الغالى”, وابن حجة الحموى الذى سار على نهج الحِلّى ونقل أرءاه نقلا, وبخلاف قصائد مدغليس الزجلية التى استشهد بها صفى الدين الحلى فى نشأة فن الزجل لم يقدم صفى الدين فى كتابه “العاطل الحالى والمرخص الغالى” أى نماذج من القصيدة الزجلية لزجالين مشارقة أو مغاربة ممن عاصرهم الحلى فى القرن الثامن الهجرىhttps://elmanshoor.com/محمد-علي-عزب...j9XkqHvEjSArOC7bbNGiHm98z6YbmYun5SW2M3GXN-wo0.
ولم يُعْرَف عن كبار زجّالى العصر المملوكى مثل ابراهيم المعمار وخلف الغبارى وعلى بن سودون وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى, أنهم مارسوا كتابة القصيدة الزجلية, ممّا يؤكد أن الزجل ذى المقطوعات كان هو المُمثل الرسمى لفن الزجل فى العصر المملوكى والعصور التى تليه خاصة فى مصر والشام والعراق .
وتختلف القصيدة الزجلية التى تعتبر أحد طرق صياغة الزجل الأندلسى عن القصيدة النبطية, التى تعتبر نوعا من أنواع الشعر العامى / النبطى فى منطقة شبة الجزيرة العربية, فالقصيدة الزجلية كُتبت بعد استقرار الزجل ذى المقطوعات فى الأندلس وكانت تأتى على أوزان بحور العروض, ولم تكن تتبع تقاليد الشعر العمودى الفصيح فى البداية الطللية أو الغزلية واٍمكانية أن يستقل كل بيت فى معناه عن البيت الآخر, فها هو الزجال الأندلسى عبدالله بن مدغليس يبدأ قصيدته الزجلية بالوصف وتأتى القصيدة كلها بقافية واحدة وعلى وزن بحر الرمل “فاعلاتن” :
ورذاذ دق ينزل
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضفض
وترى الآخر يذهَّب
والنبات يرقص ويسكر
والغصون ترقص وتطرب
وتريد تيجى اٍلينا
ثم تستحى وٍتهرب )9
أمّا القصيدة النبطية / البدوية فلم تتأثر بالقصيدة الزجلية على الأرجح لأن أهل الجزيرة العربية عرفوا الفنون الشعرية العامية العراقية قبل أن يعرفوا الزجل, وكان يطلقون على الفنون الشعرية العامية العراقية مسمى “شعر نبطى” نسبة للأنباط سكان جنوب العراق, وكان الدافع لظهور القصيدة النبطية من وجهة نظرى هو رغبة أهل الجزيرة العربية فى محاكاة الشعر العربى القديم الذى نشأ عندهم, بعد أن رأوا شعرا يُنظَم بالعامية قادما اٍليهم من العراق, فابتكروا هذا الشكل ـ القصيدة النبطية ـ الخاص بهم وببيئتهم, وأضافوه اٍلى باقى فنون الشعر العامى التى كانوا يمارسون نظمها تحت مسمى “شعر نبطى”, وهذا من حيث النشأة والمؤثرات أما من ناحية الاختلافات الفنية, فلم يكن الالتزام بأوزان بحور العروض شرطا أساسيا فى نظم القصيدة النبطية, كما أنها كانت تَتَّبِع تقاليد القصيدة العمودية القديمة فى شعر الفصحى من ناحية البداية الطللية أو الغزلية ومثالا لذلك ( قول عبد الله الفرج الكويتيى, حيث يبدأ بالقصيدة كالشاعر الجاهلى حين يمر بالديار ليرى آثار الحبيب :
على السفحْ للتسليمْ يارَكْبْ عُوجا فِى
عسى بانحراف العيس لى مَشْف أو شافى
دعونى أوادع بالنفوديْن منزلْ
حبيبى بمعهد يا راكب بدرْ الاٍنصافى
لهند شطها البينْ والنوى
وأصبح ينوح اليوم فى رسمها الخافى
وقفت بِجِباها هل رأى فى عِراضِها
خبير يسكن الدار يخبر بها العافى )10
وهكذا يتضح لنا أن القصيدة النبطية / البدوية ليست زجلا أو نوعا من أنواع الزجل, ولكنها نظم شعرى خاص، صاغه أهل شبه الجزيرة العربية بعاميتم الدراجة لمحاكاة تراثهم الشعرى الفصيح, و قد كان الشعر النبطى فى العصور الوسطى يعتمد ( على الرواية والحفظ والذاكرة, وكان أدباء الحاضرة يستهجنونه, ويربأون عنه تدوينه فضاع منه الكثير بل الأكثر )11 , واستقرت فى بوادى المشرق والمغرب العربى, وأصبحت فنا شعريا يخصّ شعراء البادية فى الوطن العربى حتى يومنا هذا .
ومن ناحية تقييد وتدوين فنون النظم العامى فى العصور الوسطى فقد كان هناك اهتماما بتقييد وتدوين الزجل فى حواضر مصر والشام والعراق والمغرب, وكان القُرّاء والمهتمين بالشعر العامى حريصين على اقتناء دواوين الزجالين الكبار مثل ديوان “نزهة النفوس ومضحك العبوس” الذى جمع فيه الزجّال والشاعر على بن سودون اليشغباوى اٍبداعاته فى فنون النظم من زجل ومواليا وشعر هزلى ( وقد وطار اسمه بذلك وتنافس الظرفاء ونحوه فى تحصيل ديوانه )12 .
وقد كان الزجل أكثر فنون النظم العامى التحاما بالواقع وقضاياه وتعبيرا عن روح العصر ويليه فى ذلك فن المَوَاليا, وممّا يؤكد الاهتمام بتدوين الزجل فى العصور العصور الوسطى أنه قد وصلت لعصرنا مخطوطات دواوين زجلية كاملة, وكذلك وصلت لعصرنا العديد من المجاميع والمختارات الزجلية مثل “عقود اللآل فى الموشحات والأزجال” لشمس الدين النواجى, “والدر المكنون فى سبع فنون” لابن اٍياس, “ومجموع أزجال مصرية” محفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 766 شعر تيمور, وكانت تلك المجاميع والمختارات تضم الكثير من نصوص الزجل لكبار زجّالى العصور الوسطى, وأقدم ديوان زجلى كامل وصل لعصرنا هو ديوان أبى بكر بن قزمان الأندلسى “475 ـ 555 هجرية, ومن شعراء العصر المملوكى التى وصلت دواوينهم كاملة اٍلى عصرنا صفى الدين الحلى وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى واٍبراهيم بن على المعمار وعلى بن سودون اليشغباوى, ومنهم من لم يصل ديوانه اٍلى عصرنا ولكن أزجاله انتشرت فى عصره, وتناقلتها كتب مؤرخو الأدب والمجاميع والمختارات الزجلية حتى وصلت اٍلى عصرنا مثل خلف الغبارى وناصر الغيطى وأحمد القماح وغيرهم, واٍلى جانب الدواوين والمجاميع والمختارات الزجلية فقد وردت نصوص من الزجل فى كتب مؤرخى العصور الوسطى مثل كتاب “بدائع الزهور فى وقائع الدهور” لأبى البركات محمد بن أحمد بن اٍياس الذى كان يستشهد فى سرده للوقائع التاريخية بنصوص من الزجل للعديد من زجالى عصره, مثل خلف الغبارى واٍبراهيم المعمار والبدر الزيتونى
الهومش والاٍحالات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتطف من كتابى النقدى “الشعر العامى العربى .. وقضايا الشكل والتاريخ والتدوين” ـ تحت الطبع
1- ئـ صفى الدين الحلى ـ العاطل الحالى والمرخص الغالى ـ تحقيق حسين نصار ـ الهيئة المصرية للكتاب ـ 1982م ص 15
2ـ د. عبد العزيز الأهوانى ـ الزجل فى الأندلس ـ مكتبة الدرسات الشعبية ـ هيئة قصور الثقافة 2002م ص 26
3ـ محمد عباسة ـ اللهجات فى الموشحات والأزجال ـ مجلة اٍتسانيات ـ الجزائر العدد 17ـ 18 سنة2002م
64ـ مقدمة ابن خلدون ـ المطبعة الشرقية ـ مصر 1327 هجرية ـ ص 70
5ـ ديوان ابن قزمان ـ نسخة محطوطة محفوظة دار الكتب المصرية رقم حفظ 1513 أدب ـ ورقة رقم 25
6ـ أزجال الشيخ الغبارى ـ دراسة فى الفن الزجل ـ د. عوض الغبارى ـ الهيئة العامة للكتاب 2012م ص ص 60
ـ مقدمة ابن خلدون ـ المطبعة الشرقية ـ مصر ـ 1327هجرية ص 699 7
8ـ رضا محسن محمود ـ المواليا ـ ذاكرة الكتابة ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة 1999م ص 92
9ـ رضا محسن محمود ـ المواليا ص 91
10ـ السخاوى ـ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ـ دار الجيل بيروت ـ ج 5 ص 229
www.facebook.com
ويتكون البيت الواحد فى الزجل من عدة شطرات بعضها يسمى أغصانا وبعضها يسمى أقفالا, وتختلف قوافى الأغصان من بيت لآخر فى النص الزجلى الواحد بينما تتفق جميع قوافى الأقفال فى كل الأبيات, وكان للزجل ذى المقطوعات عدة طرق فى بنائه الفنى تختلف فيما بينها وفقا لعدد شطرات الأغصان والأقفال, وأبسط طرق صياغة الزجل يتكون فيها الغصن من ثلاث شطرات والقفل من شطرة واحدة أوشطرتين, وقد يكون الزجل بلا مطلع ويسمى “زجل أقرع” وقد يكون له مطلع ويسمى “زجل تام” وتتفق قافية المطلع مع قافية القفل , ومن أمثلة ذلك قول ابى بكر بن قزمان القرطبى فى مطلع وبيت من نص زجلى يتحدث فيه عن واقعة انفصاله عن زوجته حيث يقول :
صرت عازب وكان لعمرى صواب
لس نزوجّ حتى يشيب الغراب
أنا تايب يا لس نقول بزواج
لا جَلُو ولا عروس بتاج
لا رياسه غير اللعب بالزجاج
والمبيت بره والطعام والشراب )7
وفى طريقة أخرى من طرق صياغة الزجل يمكن أن يصل عدد المطلع اٍلى أربع شطرات, وعدد الغصن ست شطرات والقفل أربع شطرات, وعدد شطرات القفل الذى يتفق مع المطلع فى القافية أربع شطرات , ومثلا لذلك قول الغبارى فى مطلع وبيت من زجل :
فى الناس رأينا للخير معادن
والدر يوجد فى كنز مثله
وان رمت جوهر فى الشخص مكنون
فجوهر الشخص أصل فعله
وان كان تريد صحة المعانى
وشرح ما فى البيان محرّر
خد فرع بيدك من أصل حنضل
وازرع جدوره فى أرض عنبر
واسقيه بماء ورد ممزوج
وعقد جلاّب وحلّ سكر
وحين تشوفه عقد ثماره
وأن أوانه و حلّ فصله
دوقه تراه مر والسبب فيه
ما يرجع الفرع اٍلاّ لأصله )8
وكان الزجل ذى المقطوعات بطرق صياغته المتعددة أكثر انتشارا من القصيدة الزجلية ذات الوزن والقافية الواحدة, ولم يرد ذكر القصيدة الزجلية فى كتابات نقاد العصر المملوكى سوى عند صفى الدين الحِلّى فى “العاطل الحالى والمرخص الغالى”, وابن حجة الحموى الذى سار على نهج الحِلّى ونقل أرءاه نقلا, وبخلاف قصائد مدغليس الزجلية التى استشهد بها صفى الدين الحلى فى نشأة فن الزجل لم يقدم صفى الدين فى كتابه “العاطل الحالى والمرخص الغالى” أى نماذج من القصيدة الزجلية لزجالين مشارقة أو مغاربة ممن عاصرهم الحلى فى القرن الثامن الهجرىhttps://elmanshoor.com/محمد-علي-عزب...j9XkqHvEjSArOC7bbNGiHm98z6YbmYun5SW2M3GXN-wo0.
ولم يُعْرَف عن كبار زجّالى العصر المملوكى مثل ابراهيم المعمار وخلف الغبارى وعلى بن سودون وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى, أنهم مارسوا كتابة القصيدة الزجلية, ممّا يؤكد أن الزجل ذى المقطوعات كان هو المُمثل الرسمى لفن الزجل فى العصر المملوكى والعصور التى تليه خاصة فى مصر والشام والعراق .
وتختلف القصيدة الزجلية التى تعتبر أحد طرق صياغة الزجل الأندلسى عن القصيدة النبطية, التى تعتبر نوعا من أنواع الشعر العامى / النبطى فى منطقة شبة الجزيرة العربية, فالقصيدة الزجلية كُتبت بعد استقرار الزجل ذى المقطوعات فى الأندلس وكانت تأتى على أوزان بحور العروض, ولم تكن تتبع تقاليد الشعر العمودى الفصيح فى البداية الطللية أو الغزلية واٍمكانية أن يستقل كل بيت فى معناه عن البيت الآخر, فها هو الزجال الأندلسى عبدالله بن مدغليس يبدأ قصيدته الزجلية بالوصف وتأتى القصيدة كلها بقافية واحدة وعلى وزن بحر الرمل “فاعلاتن” :
ورذاذ دق ينزل
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضفض
وترى الآخر يذهَّب
والنبات يرقص ويسكر
والغصون ترقص وتطرب
وتريد تيجى اٍلينا
ثم تستحى وٍتهرب )9
أمّا القصيدة النبطية / البدوية فلم تتأثر بالقصيدة الزجلية على الأرجح لأن أهل الجزيرة العربية عرفوا الفنون الشعرية العامية العراقية قبل أن يعرفوا الزجل, وكان يطلقون على الفنون الشعرية العامية العراقية مسمى “شعر نبطى” نسبة للأنباط سكان جنوب العراق, وكان الدافع لظهور القصيدة النبطية من وجهة نظرى هو رغبة أهل الجزيرة العربية فى محاكاة الشعر العربى القديم الذى نشأ عندهم, بعد أن رأوا شعرا يُنظَم بالعامية قادما اٍليهم من العراق, فابتكروا هذا الشكل ـ القصيدة النبطية ـ الخاص بهم وببيئتهم, وأضافوه اٍلى باقى فنون الشعر العامى التى كانوا يمارسون نظمها تحت مسمى “شعر نبطى”, وهذا من حيث النشأة والمؤثرات أما من ناحية الاختلافات الفنية, فلم يكن الالتزام بأوزان بحور العروض شرطا أساسيا فى نظم القصيدة النبطية, كما أنها كانت تَتَّبِع تقاليد القصيدة العمودية القديمة فى شعر الفصحى من ناحية البداية الطللية أو الغزلية ومثالا لذلك ( قول عبد الله الفرج الكويتيى, حيث يبدأ بالقصيدة كالشاعر الجاهلى حين يمر بالديار ليرى آثار الحبيب :
على السفحْ للتسليمْ يارَكْبْ عُوجا فِى
عسى بانحراف العيس لى مَشْف أو شافى
دعونى أوادع بالنفوديْن منزلْ
حبيبى بمعهد يا راكب بدرْ الاٍنصافى
لهند شطها البينْ والنوى
وأصبح ينوح اليوم فى رسمها الخافى
وقفت بِجِباها هل رأى فى عِراضِها
خبير يسكن الدار يخبر بها العافى )10
وهكذا يتضح لنا أن القصيدة النبطية / البدوية ليست زجلا أو نوعا من أنواع الزجل, ولكنها نظم شعرى خاص، صاغه أهل شبه الجزيرة العربية بعاميتم الدراجة لمحاكاة تراثهم الشعرى الفصيح, و قد كان الشعر النبطى فى العصور الوسطى يعتمد ( على الرواية والحفظ والذاكرة, وكان أدباء الحاضرة يستهجنونه, ويربأون عنه تدوينه فضاع منه الكثير بل الأكثر )11 , واستقرت فى بوادى المشرق والمغرب العربى, وأصبحت فنا شعريا يخصّ شعراء البادية فى الوطن العربى حتى يومنا هذا .
ومن ناحية تقييد وتدوين فنون النظم العامى فى العصور الوسطى فقد كان هناك اهتماما بتقييد وتدوين الزجل فى حواضر مصر والشام والعراق والمغرب, وكان القُرّاء والمهتمين بالشعر العامى حريصين على اقتناء دواوين الزجالين الكبار مثل ديوان “نزهة النفوس ومضحك العبوس” الذى جمع فيه الزجّال والشاعر على بن سودون اليشغباوى اٍبداعاته فى فنون النظم من زجل ومواليا وشعر هزلى ( وقد وطار اسمه بذلك وتنافس الظرفاء ونحوه فى تحصيل ديوانه )12 .
وقد كان الزجل أكثر فنون النظم العامى التحاما بالواقع وقضاياه وتعبيرا عن روح العصر ويليه فى ذلك فن المَوَاليا, وممّا يؤكد الاهتمام بتدوين الزجل فى العصور العصور الوسطى أنه قد وصلت لعصرنا مخطوطات دواوين زجلية كاملة, وكذلك وصلت لعصرنا العديد من المجاميع والمختارات الزجلية مثل “عقود اللآل فى الموشحات والأزجال” لشمس الدين النواجى, “والدر المكنون فى سبع فنون” لابن اٍياس, “ومجموع أزجال مصرية” محفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 766 شعر تيمور, وكانت تلك المجاميع والمختارات تضم الكثير من نصوص الزجل لكبار زجّالى العصور الوسطى, وأقدم ديوان زجلى كامل وصل لعصرنا هو ديوان أبى بكر بن قزمان الأندلسى “475 ـ 555 هجرية, ومن شعراء العصر المملوكى التى وصلت دواوينهم كاملة اٍلى عصرنا صفى الدين الحلى وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى واٍبراهيم بن على المعمار وعلى بن سودون اليشغباوى, ومنهم من لم يصل ديوانه اٍلى عصرنا ولكن أزجاله انتشرت فى عصره, وتناقلتها كتب مؤرخو الأدب والمجاميع والمختارات الزجلية حتى وصلت اٍلى عصرنا مثل خلف الغبارى وناصر الغيطى وأحمد القماح وغيرهم, واٍلى جانب الدواوين والمجاميع والمختارات الزجلية فقد وردت نصوص من الزجل فى كتب مؤرخى العصور الوسطى مثل كتاب “بدائع الزهور فى وقائع الدهور” لأبى البركات محمد بن أحمد بن اٍياس الذى كان يستشهد فى سرده للوقائع التاريخية بنصوص من الزجل للعديد من زجالى عصره, مثل خلف الغبارى واٍبراهيم المعمار والبدر الزيتونى
الهومش والاٍحالات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتطف من كتابى النقدى “الشعر العامى العربى .. وقضايا الشكل والتاريخ والتدوين” ـ تحت الطبع
1- ئـ صفى الدين الحلى ـ العاطل الحالى والمرخص الغالى ـ تحقيق حسين نصار ـ الهيئة المصرية للكتاب ـ 1982م ص 15
2ـ د. عبد العزيز الأهوانى ـ الزجل فى الأندلس ـ مكتبة الدرسات الشعبية ـ هيئة قصور الثقافة 2002م ص 26
3ـ محمد عباسة ـ اللهجات فى الموشحات والأزجال ـ مجلة اٍتسانيات ـ الجزائر العدد 17ـ 18 سنة2002م
64ـ مقدمة ابن خلدون ـ المطبعة الشرقية ـ مصر 1327 هجرية ـ ص 70
5ـ ديوان ابن قزمان ـ نسخة محطوطة محفوظة دار الكتب المصرية رقم حفظ 1513 أدب ـ ورقة رقم 25
6ـ أزجال الشيخ الغبارى ـ دراسة فى الفن الزجل ـ د. عوض الغبارى ـ الهيئة العامة للكتاب 2012م ص ص 60
ـ مقدمة ابن خلدون ـ المطبعة الشرقية ـ مصر ـ 1327هجرية ص 699 7
8ـ رضا محسن محمود ـ المواليا ـ ذاكرة الكتابة ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة 1999م ص 92
9ـ رضا محسن محمود ـ المواليا ص 91
10ـ السخاوى ـ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ـ دار الجيل بيروت ـ ج 5 ص 229
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.