رشيد سكري - دريدة وأنييس.. قصة قصيرة

عزيز عليَّ أن أراكِ تطلين من شرفة عُمْر هرم ... آفل لا محال .
هكذا قال صاحب صولجان عندما تغرب وتشرق على أديم أرض يباب .
قالها عُمَرُ ، ماسحا جبينه من عرق مالح ، بل شديد الملوحة ، وهو يقلب تراب الحديقة ممزوجا بدبال أرجواني مخصب . فعندما يحس ببرودة بدأت تسري في عروقه و بدنه ، يظهر خيط أبيضُ يفصل جبهته إلى منطقتين معزولتين من صحن وجهه ... فتكون ، لدُرَيْدة ، الفرصة سانحة أن تحذره من الفاست فود أو الماكدونالد .
يوم السبت بالضبط ، تضع دُرَيـْدة على فستان أليكرا رائحة أليفيري الإيطالية الباهضة ، وتمسح عن وجهها ، ببعض المرطبات ؛ فسديم تعب أسبوعي لا يمكن التخلص منه إلا بالجلوس ، في أحد النوادي ، إلى أضواء فيروزية وقرمزية فاتنة ، تتراقص أمامها مخضلة بمياه نـَمرة كاشفة عن سدرة المنتهى .... كان لدريدة إيقاع حياة مذهلة ؛ فهي التي تحب الإطلالات الشاهقة من عل على خلق تائه في متاعبَ لا تنتهي ، يسافر به اللجج بين مطارق وسنادين .
ففي أمكنة متفرقة من البلاد ، تختار دُرَيـْدة هذه المشاهد البانورامية ، فبين مكناس والرباط ومراكش إلى حدود تنجداد ؛ مسافات عشق للإنسان واللوحة والطبيعة . تذكرني دُرَيـْدة بالمرأة ، التي عشقها التشيكي ميلان كونديرا في " الخلود " ؛ جنوح إلى الأماكن العالية كنسور تراقب أحواضا و غياضا و عريشا ، وإصاخة السمع إلى نبض أفئدة بشر تصَّعد في سكون كملائكة في جحيم . في ذات المسبح ، الذي كانت فيه أنييس تنظر ، من خلف النوافذ الزجاجية ، إلى باريس بكاملها ، يقع حب تحت جدار من خلال الإيماءة إلى معلم السباحة . عندما خرجت من الحوض المائي ، وبخاره الكثيف لازال يحجب الرؤية ، دثرها معلم السباحة بإزار أبيض شفيف ومحبب ؛ لتخلد إلى نوم عميق فوق السرير ، كطفلة فزعت من ضوء القمر.
أما دريدة ، فهي كانت تائهة في محرابها القديم بين ألوان حارة وباردة أو بين الواقعيين والانطباعيين ، بينما الذاتيون يسافرون عبر أمكنة ، باحثين عن زمن ضائع كما رسمه بروست . من أعلى جاردان دي روز كانت دريدة تتنفس الرباط في أضوائها البيضاء الصافية ، وواد أبي رقراق ساكن لروحه الأبدية ، وأمامها يتعرش سوق باب الحد ، بمنعرجاته والتواءاته وأقواس نصر بالية ، فاغرة فمها ...هكذا ... للنسيان .
كانت دريدة تراقب ، بعيون نزقة و وطسة ، أصحاب الأكل السريع ، وهم يهشون أدخنة بيضاء تملأ المكان دسما ، ومن تحتها تلطخت أثاف حديدية ببقع سوداء قاتمة كالليل ، كانت تقول دريدة : إنني أعشق الكائن الذي بداخلي عندما يطرحني إلى عبق هذا المكان الساحر ، فتشد رأسها بوشاح أزرقَ ، كما يفعل مرشد سياحي على أعتاب قصبات ورزازات . إن أنييس ربطت تلك العلاقة على مشارف تيه في عاصمة الأنوار ، وهي تؤدي ثمن زيارتها العاشرة للتوريفال الشاهقة الباسقة ، لم يخطر على بال أنييس ، أن ذوي الاحتياجات الخاصة أصبحوا غير معنيين بثمن التذكرة ... كانت تنظر إليهم بفرح طفولي ، وتفسح ولوجيات جديدة ، بل تمد لهم أياد سابغة للدخول إلى مقصورة هذه المعلمة التاريخية ، الشاهدة على غطرسة فرنسية عبر العالم .
فالأشخاص هم الذين يغيرون وجه التاريخ كما قالت دريدة ... فلا مكان ، إذن ، للضعاف و المهزومين ... بل لا وجود لملائكة يصعدون إلى جحيم أو يدخلون مصحاتها

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...