"الشرّ دائماً متطرّف وليس جذريّاً أبداً. الخير هو الجذريّ والعميق".
,هل يمكن للمرء أن يرتكب الشر دون أن يكون شريراً؟ كان ذلك هو السؤال المحير الذي واجهته حنّة آرندت حين قدمت من إسرائيل تقريراً لمجلة النيويوركر عن محاكمة أدولف أيخمان بتهمة جرائم الحرب سنة1961، وقد كان أيخمان هو المسؤول النازي عن تنظيم نقل ملايين اليهود وغير اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازي المختلفة.
وبعد كل هذه السنين مازال اسم حنّة أرندت يثير سجالاً صاخباً في إسرائيل رغم ما كتب الفيلسوف الألماني كارل ياسبر لها ذات يوم: "سيأتي زمان، لن تكوني حية لتشهديه، سينصب اليهود نصباً تذكارياً لك في إسرائيل وسينسبونك بفخر إليهم", لكن شيئاً من هذا لم يحدث, ومازالت أرندت تمثل حالة جدل واستقطاب حادّين بين الأوساط الثقافية والأكاديمية هناك. ولم يغفر لها كونها أحد الناجيات من الهولوكوست وتبنت الصهيونية* ( على الأقل لفترة محددة).
ينطلق الموقف الإسرائيلي الرافض لحنّة أرندت و إنتاجها من كتابها الذي نشرته سنة 1963 بعنوان " أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر"، تنتقد فيها الطريقة التي حاكمت فيها إسرائيل أيخمان. وعلى خلاف صورة الوحش القاتل المعادي للسامية التي أراد الادعاء رسمها لأيخمان، رأت أرندت شيئاً مختلفاً، رأت نوعاً جديداً من مرتكبي المذابح الجماعية، لا تحركه دوافع خبيثة أو قاتلة، ولا يدرك خطورة أفعاله ولا يقبل تحمل مسؤوليتها. وهو ما استفز المجتمع الإسرائيلي المنتشي بمحاكمته لأحد رموز النازية الأحياء فتم النظر إليها كيهودية و أجنبية أي غير إسرائيلية "معادية للصهيونية" و " كارهة للذات" ومنحازة لأيخمان و لجريمته حتى أنها وُصفت بأنها "تفتقد الحب تجاه الشعب اليهودي"
ولكن لماذا غضبت منها إسرائيل؟
لم تنظر أرندت إلى أيخمان على أنه شخص تسيّره إيديولوجيا عنصرية مجرمة, بل اعتبرته موظفاً مهتماً بعمله يسعى للارتقاء المهني, فهو لا يرتكب الجريمة بيديه المجردتين, هو مجرد موظف "بيروقراطي" ينفذ ما يؤمر به ويتابع حياته كمواطن صالح يهتم بشؤونه الخاصة دون ضجة. ولعل شهرة الكتاب لا تعود لمحتواه السجالي فقط, بل ربما لعنوانه الفرعي" تفاهة الشر" الذي لا يظهر في النص سوى مرة واحدة في نهايته, لكنه خضع ومازال يخضع لتأويلات عدة, ربما يعود السبب إلى أن عبارة "تفاهة الشر" لم تظهر في الطبعة الأولى للكتاب, بل ظهرت كتعقيب في الطبعة المنقحة التي نشرت في العام 1965, لم تكن أرندت تسعى, حسب أقوالها العديدة, لصوغ "نظرية شاملة" عن جوهر الشر, بل حاولت الإشارة إلى ظاهرة لاحظتها أثناء المحاكمة وهي أن أيخمان ليس "شريراً" بالمعنى الشيطاني كما أنه ليس معادياً متطرفاً للسامية**, بل هو مجرد شخص عادي كان محاولته كانت بهدف الترقي الوظيفي , نعم أفعاله كانت وحشية, لكنه كشخص كان " تافهاً" وهذا هو جوهر المعضلة التي يخلقها أي مجتمع شمولي*** , أي أن يتحول الشر إلى مجرد " شي تافه", ففي هذا المجتمع تُرتكب أبشع الجرائم على يد أفضل ممثلي النظام البيروقراطي في النظام, ومع ذلك ليسوا هم القتلة . أيديهم نظيفة " غير ملوثة بالدم وهنا ينحدر مستوى الجرية \الشر إلى التفاهة القصوى أي استسهال القتل, مما يشكل تحدياً للمقولة الفلسفية\ الأخلاقية التي ترى بأن أفعال الشر تنبع بالضرورة في نوايا شريرة , وأن مقدار الشر الذي ينتج الجريمة يجب أن يكون متسقاً مع الدوافع الخبيثة و النوايا الشريرة. وهنا لا بد لنا من الاستعانة بمقولات بول ريكور[ الانتقاد و التأويل] بخصوص "المسؤوليّة الإجراميّة" و "المسؤوليّة السياسيّة". فالمسؤولية الإجراميّة تقع على شخص معين بذاته، في حين تلقى المسؤوليّة السياسيّة على نسق سياسيّ بأكمله وعلى أشخاص يشكلون أجزاء عضوية من ذلك النسق الإجرامي، حتى لو لم يتورّط كلّ فرد منهم بتلك الأعمال. أي أن أيخمان هنا ليس سوى مسؤول إجرامي و ليس مسؤولاً سياسياً حسب توصيف أرندت بناء على تصنيف ريكور، هو يمثّل نفسه وجرائمه وليس جرائم النظام النازي الشمولي كلّه. وإذا تمّ الفصل بين المسؤوليتين فإنّ موقف أرندت سيُفهم من المحاكمة، خاصّة أنها اتهمت بمعاداة السامية.
في الواقع لم تنطلق أرندت من فكرة رغبوية في وصولها للتحديد جوهر الشر و تفاهته , بل هي رأت في ايخمان شخصاً تافهاً بكل معنى الكلمة [ تقول عنه حرفياً أنه لا يجيد الكلام ],ويمتاز بـ " ضحالة فكرية" على حد قولها تتمثل في " انعدام مقدرته على النظر إلى أي شيء من منظور الشخص الآخر". وإذن أيخمان شخصي سطحي , ذو بعد واحد, بشبه الكثيرين من أبطال جورج أورويل, ومع ذلك لا تعفيه من مسؤولياته عن الجرائم ويكمن تحميله المسؤولية من كونه ضحالته الفكية لتعني بالضرورة الغباء المجرد بل ذلك النوع من نمط التفكير الذي يتسبب بإحداث قدر كبير من الدمار دون أن يرف له جفن أو إحساس بالجريمة بمعنى أن هذا الشخص البيروقراطي وثلت به التفاهة إلى حد لا يستطيع من خلاله التمييز بين " الخير و الشر" وعدم التمييز لا يعود لأسباب شخصية بطبيعة الحال , بل بسبب الجو العام السائد في المجتمع ( وهنا المقصود ألمانيا النازية), وإذن نحن أمام صنف من المجرمين يقوم بجريمته في ظروف تجعل من شبه المستحيل بالنسبة إليه أن يحكم على سلوكه بمعيار الصح و الخطأ أو حتى مجرد الشعور بأنه ما يقوم به هو عمل خاطئ بالأساس. وهذا يعني أن المجتمع ككل دفعه لأن لا يشعر أنه مذنب حيال ما يقوم به, فالمشكلة ليست في ضمير أيخمان , بل في " ضمير" المجتمع الألماني زمن نا جاء معارضتها لقرار المحكمة التي حمّلت أيخمان مسؤولية النظام ككل. ومن هنا نفذت أرندت إلى اتهام الادعاء بالتحيز و التغاضي عن تعاون قادة المجالس اليهودية Judenräte مع النازيين وذا دفعها أيضاً لانتقاد صورة الهولوكوست التي تروج لها الصهيونية فتقول افتراضاً دون أن تستند إلى إثبات واضح " بالنسبة إلى يهودي، فإن دور قادة اليهود في دمار شعبهم هو بلا شك أكثر فصول القصة سواداً".
تركزت الانتقادات لمقولات أرندت على مقدمة منطقية غاية في البساطة , فإذا كان " تفاهة الشر" يتسق مع وصف الجرام نفسها يمكن القول أن جميع جرائم النازيين هي من هذا النوع و بالتالي لا ينبغي محاكمتهم و إدانتهم , في حين نظر البعض إلى إشارتها بتحميل المسؤولية جزئياً على الزعماء اليهود على أنه مثال واضح على فرضية " لوم الضحية" الشائعة , وبالتالي من ها المثال و ذلك يستنتج البعض أن ثمة غموض والتباس في الحدود الأخلاقية لمعنى تفاهة الشر قد يصل إلى العدمية الأخلاقية في سويات حداثية فاقعة " لا يوجد شيء على ما يبدو. ليس هناك حقيقة، ولا أكاذيب، ولا ضحية، ولا قاتل، ولا أحد مذنب، ولا أحد منهم بريء، وليس هناك تسلسل هرمي للقيم، وليس هناك قيمة مُطلقة".
ولكن لكي يكون للكلام معنى, ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن أرندت لم تقل ببراءة النازيين عموماً و أيخمان خصوصاً مما حصل في فترة الحرب, ولذلك ترفض بشدة اعتبار أيخمان مجرد برغي في الآلة النازية, فأيخمان كائن حي بشري و ليس جزء من آلة وهذا يلقي على عاتقه مسؤوليات محددة تجاه مجتمعه و تجاه من يتعامل معم سواء في الوظيفة أو في الشارع أوفي الحديقة ... إلخ وعلى هذا الأساس فهو ملام بشدة, لكن اعتراضها أن أيخمان وقف وحيداً في المحاكمة و ليس النظام بأسره , والملفت للنظر أنه رغم هذا لم تعترض على حكم الإعدام الذي صدر بحقه . كما أنها لم تزعم أن اليهود هم المسؤولون عن إبادة أنفسهم , ورغم أن هذه النقطة ناقشتها أرندت بإيجاز و بعدد قليل من الصفحات, إلا أنها أخذت حيزاً أكبر من قبل معارضيها لتوجيه أصبع الاتهامات لها, وعموماً كان موقف أرندت في تلك الفترة ( 1963) أي بعد نحو 15 سنة من قيام إسرائيلي يتناسب مع المناخ العام السائد في الأوساط اليهودية و الصهيونية و الإسرائيلية لجهة النهج الانتقادي لسلوك قيادة المجالس اليهودية في ألمانيا النازية وكذلك دور الشرطة اليهودية وضد كل من يشتبه في " تعاونه" مع النازيين و توج هذا النهج بصدور قانون معاقبة النازيين و المتعاونين معهم (1950) ، وفي محاكمات السجناء اليهود المتعاونين مع النازيين (العملاء اليهود الذين عملوا في معسكرات الإبادة، وقاموا بدور جواسيس لإحباط أي محاولة يائسة للرفض أو المقاومة، إذ كان يُعدم مَن يتم الإخبار عنهم مع عائلاتهم بشكل فوري) في الخمسينات، وفي محاكمة رودولف كاستنر عام 1955. وأخيراً لم تُلقِ أرندت باللوم على الضحايا أنفسهم، الذين يُفترَض أنهم اقتيدوا إلى الموت “كقطيعٍ من الأغنام نحو المسلخ”. بل على النقيض من ذلك، انتقدت أرندت المدّعي العام جدعون هاوزنر، بسبب سؤاله المتكرر للشهود الناجين، “لماذا لم تحتج؟ لماذا ركبتَ القطار؟ لماذا لم تتمرَّد وتعترض وتهاجِم؟”، وقالت إن هذه الأسئلة سخيفة وقاسية، وتدل على سوء فهم تام للحياة في ظل إرهاب الدكتاتورية النازية القاتل.
....
*ولدت حنّة أرندت في العام 1906 لعائلة يهودية في ألمانيا، ودرست الفلسفة في سن مبكرة. كانت تلميذة مارتن هايدغر وناقشت رسالة الدكتوراه في جامعة هايدلبيرغ تحت إشراف كارل ياسبرز. اعتقلها الغستابو سنة عام 1933 بسب نشاطها الصهيوني، ليطلق سراحها بعد أسبوع ضابط شاب تمكنت من مصادقته. لتهرب إثر ذلك مع أمها إلى باريس حيث أمضت هناك 8 أعوام كلاجئة, وعملت مع منظمة “شباب عليا”، حيث ساعدت في تنظيم الأطفال والناشئين وتدريبهم للهجرة إلى فلسطين. وبعد احتلال فرنسا، اعتقلت أرندت واحتجزت في معسكر غورس في جنوب غربي البلاد، لكنها تمكنت من الهرب في غضون أسابيع. لتغادر البلاد بعد ذلك هرباً برفقة زوجها هاينريش بلوشر سنة 1941 إلى الولايات المتحدة بتأشيرتي لجوء حصلا عليهما من لشبونة. ثم أصبحت مواطنة أميركية في العام 1951 وبقيت هناك حتى وفاتها عام 1975. ساهمت تجربة اللجوء التي عاشتها أرندت كثيراً في نحت فكرها السياسي. ولعبت هويتها اليهودية ومقاربتها المسألة اليهودية دوراً مهماً في هذا السياق. وارتبطت أرندت بمشاعر حب قوية تجاه الصهيونية رغم نقدها لأيديولوجيتها وحدة هجومها على إسرائيل.
** لم تستطع أرندت التوفيق بين رؤيتها الانطباعية لتفاهة أيخمان و رؤيتها الواعية لسلوك الرايخ الثالث الوحشي, وبدلاً من أن تكون قضية أيخمان مقدمة لتعزيز فهمها لمعنى و جوهر الشر , قررت بصورة قاطعة عبر انتقادات شكلية للمحاكمة أن أيخمان شخص تافه و شره أكثر تفاهةً من شخصه دون تحديد واضح لمعنى هذه التفاهة وكأن تفاهة الشر عصية على الفهم و بالتالي لا توجد قضية و لس لأحد أن يحكم فيما إذا كان أيخمان مذنباً أم بريئاً , في الحقيقة فشلت أرندت في اكتشاف الأسباب العميقة لشر أيخمان, بل أصرت أن ترى فيه مجرد موظف يبدو في الظاهر عاديًا، ولكنها لم تر فيه ابن الحزب المنضوي تحت راية النازية و الرايخ و الفوهرر, رغم عدم تقليلها من ذنبه إذ لطالما وصفته بمجرم حرب، كما أيّدت حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة الإسرائيلية. علماً أن ايخمان نفسه يؤكد باعترافاته عن حالة الغموض تلك التي حكمت حكم أرندت عليه فيصف نفسه بالبيروقراطي الحذر المتفهم لدوره الوظيفي دون أن يغفل تعصبه النازي و كونه محارب من أجل حريته التي هي حق مكتسب عليه أن يعيشه و يدافع عنه, وحتى بعد 10 سنوات من ظهورها كتابها بقيت أرندت على موقفهم من عدم رؤية جانب الشر " الأصيل" لدى ايخمان فتصر على أنه لم يكن هناك "أي إشارة على وجود قناعات أيديولوجية حازمة أو دوافع شرّ محددة عنده".
*** لم تكن النّازيّة في الواقع الغربي الأوروبي كنظام شمولي حركة عاديّة، أو ظاهرة سياسيّة طارئة، أو واقعة منقطعة عن جذورها الميتافيزيقية؛ بل كان لها بلا شك أصولها البنيوية التي ترسّبت حتى لو كانت خافية لشدة تجذرها و عمقها، لتخرج فجأةً على هيئة حزب أو معسكر اعتقال وحجز، أو ظاهرة فاشية كبرى في المجتمع ، أو حل عسكري على هيئة محرقةٍ (هولوكوست) .وإذن النازية ليست مجرّد حزب سياسي في ألمانيا، بل هي كما عبّر عنها زيجمونت باومن [الحداثة والهولوكوست]، قدر ميتافيزيقي لحداثة سياسيّة كانت تعمل منذ قرون عدّة، وليس هتلر سوى حُلم تأجّل تحقيقه لصنع قومية ألمانية متخيّلة تسير نحو تلك الحداثة السياسية تقوم على الدمج و الاستبعاد ضمن علاقة حدية تقوم على الـ " نحن" و الـ "هم", فإذا كانت مقولة "الشرّ الجذري" بمثابة شيء ناجز وسابق في الإنسان، فإذن يمكن للنازية أن تكون تحقيقاً لهذا الشرّ الجذري في الإنسان. والوقائع التاريخيّة عموماً عند وقوعها، وخاصّة الشمولية, كالنازية, لا تأخذ حيّزاً نظريّاً كبيراً من التفكّر فيها إلّا بعد وقوعها وليس في لحظة وقوعها. مثل هذا سوف يقودنا للعديد من الأسئلة التي بحاجة لإجابات أكثر عمقاُ و غير أحادية الرؤية من قبيل هل كان اليهود ضحية تنظير فلسفي تمت شرعنته لاهوتياً؟ هل الشر الجذري تجسد أخيراً في النازية؟ وإن لم يكن كذلك لماذا انقلبت حنّة أرندت هي منظرة الفلسفة السياسية على مفهوم الشر لجذري لتستعيض عنه بتعبير تفاهة الشر الذي لا يخلو من الطرافة والغموض والذي أنتجته واقعة سياسية\ أخلاقية محددة.
www.facebook.com
,هل يمكن للمرء أن يرتكب الشر دون أن يكون شريراً؟ كان ذلك هو السؤال المحير الذي واجهته حنّة آرندت حين قدمت من إسرائيل تقريراً لمجلة النيويوركر عن محاكمة أدولف أيخمان بتهمة جرائم الحرب سنة1961، وقد كان أيخمان هو المسؤول النازي عن تنظيم نقل ملايين اليهود وغير اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازي المختلفة.
وبعد كل هذه السنين مازال اسم حنّة أرندت يثير سجالاً صاخباً في إسرائيل رغم ما كتب الفيلسوف الألماني كارل ياسبر لها ذات يوم: "سيأتي زمان، لن تكوني حية لتشهديه، سينصب اليهود نصباً تذكارياً لك في إسرائيل وسينسبونك بفخر إليهم", لكن شيئاً من هذا لم يحدث, ومازالت أرندت تمثل حالة جدل واستقطاب حادّين بين الأوساط الثقافية والأكاديمية هناك. ولم يغفر لها كونها أحد الناجيات من الهولوكوست وتبنت الصهيونية* ( على الأقل لفترة محددة).
ينطلق الموقف الإسرائيلي الرافض لحنّة أرندت و إنتاجها من كتابها الذي نشرته سنة 1963 بعنوان " أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر"، تنتقد فيها الطريقة التي حاكمت فيها إسرائيل أيخمان. وعلى خلاف صورة الوحش القاتل المعادي للسامية التي أراد الادعاء رسمها لأيخمان، رأت أرندت شيئاً مختلفاً، رأت نوعاً جديداً من مرتكبي المذابح الجماعية، لا تحركه دوافع خبيثة أو قاتلة، ولا يدرك خطورة أفعاله ولا يقبل تحمل مسؤوليتها. وهو ما استفز المجتمع الإسرائيلي المنتشي بمحاكمته لأحد رموز النازية الأحياء فتم النظر إليها كيهودية و أجنبية أي غير إسرائيلية "معادية للصهيونية" و " كارهة للذات" ومنحازة لأيخمان و لجريمته حتى أنها وُصفت بأنها "تفتقد الحب تجاه الشعب اليهودي"
ولكن لماذا غضبت منها إسرائيل؟
لم تنظر أرندت إلى أيخمان على أنه شخص تسيّره إيديولوجيا عنصرية مجرمة, بل اعتبرته موظفاً مهتماً بعمله يسعى للارتقاء المهني, فهو لا يرتكب الجريمة بيديه المجردتين, هو مجرد موظف "بيروقراطي" ينفذ ما يؤمر به ويتابع حياته كمواطن صالح يهتم بشؤونه الخاصة دون ضجة. ولعل شهرة الكتاب لا تعود لمحتواه السجالي فقط, بل ربما لعنوانه الفرعي" تفاهة الشر" الذي لا يظهر في النص سوى مرة واحدة في نهايته, لكنه خضع ومازال يخضع لتأويلات عدة, ربما يعود السبب إلى أن عبارة "تفاهة الشر" لم تظهر في الطبعة الأولى للكتاب, بل ظهرت كتعقيب في الطبعة المنقحة التي نشرت في العام 1965, لم تكن أرندت تسعى, حسب أقوالها العديدة, لصوغ "نظرية شاملة" عن جوهر الشر, بل حاولت الإشارة إلى ظاهرة لاحظتها أثناء المحاكمة وهي أن أيخمان ليس "شريراً" بالمعنى الشيطاني كما أنه ليس معادياً متطرفاً للسامية**, بل هو مجرد شخص عادي كان محاولته كانت بهدف الترقي الوظيفي , نعم أفعاله كانت وحشية, لكنه كشخص كان " تافهاً" وهذا هو جوهر المعضلة التي يخلقها أي مجتمع شمولي*** , أي أن يتحول الشر إلى مجرد " شي تافه", ففي هذا المجتمع تُرتكب أبشع الجرائم على يد أفضل ممثلي النظام البيروقراطي في النظام, ومع ذلك ليسوا هم القتلة . أيديهم نظيفة " غير ملوثة بالدم وهنا ينحدر مستوى الجرية \الشر إلى التفاهة القصوى أي استسهال القتل, مما يشكل تحدياً للمقولة الفلسفية\ الأخلاقية التي ترى بأن أفعال الشر تنبع بالضرورة في نوايا شريرة , وأن مقدار الشر الذي ينتج الجريمة يجب أن يكون متسقاً مع الدوافع الخبيثة و النوايا الشريرة. وهنا لا بد لنا من الاستعانة بمقولات بول ريكور[ الانتقاد و التأويل] بخصوص "المسؤوليّة الإجراميّة" و "المسؤوليّة السياسيّة". فالمسؤولية الإجراميّة تقع على شخص معين بذاته، في حين تلقى المسؤوليّة السياسيّة على نسق سياسيّ بأكمله وعلى أشخاص يشكلون أجزاء عضوية من ذلك النسق الإجرامي، حتى لو لم يتورّط كلّ فرد منهم بتلك الأعمال. أي أن أيخمان هنا ليس سوى مسؤول إجرامي و ليس مسؤولاً سياسياً حسب توصيف أرندت بناء على تصنيف ريكور، هو يمثّل نفسه وجرائمه وليس جرائم النظام النازي الشمولي كلّه. وإذا تمّ الفصل بين المسؤوليتين فإنّ موقف أرندت سيُفهم من المحاكمة، خاصّة أنها اتهمت بمعاداة السامية.
في الواقع لم تنطلق أرندت من فكرة رغبوية في وصولها للتحديد جوهر الشر و تفاهته , بل هي رأت في ايخمان شخصاً تافهاً بكل معنى الكلمة [ تقول عنه حرفياً أنه لا يجيد الكلام ],ويمتاز بـ " ضحالة فكرية" على حد قولها تتمثل في " انعدام مقدرته على النظر إلى أي شيء من منظور الشخص الآخر". وإذن أيخمان شخصي سطحي , ذو بعد واحد, بشبه الكثيرين من أبطال جورج أورويل, ومع ذلك لا تعفيه من مسؤولياته عن الجرائم ويكمن تحميله المسؤولية من كونه ضحالته الفكية لتعني بالضرورة الغباء المجرد بل ذلك النوع من نمط التفكير الذي يتسبب بإحداث قدر كبير من الدمار دون أن يرف له جفن أو إحساس بالجريمة بمعنى أن هذا الشخص البيروقراطي وثلت به التفاهة إلى حد لا يستطيع من خلاله التمييز بين " الخير و الشر" وعدم التمييز لا يعود لأسباب شخصية بطبيعة الحال , بل بسبب الجو العام السائد في المجتمع ( وهنا المقصود ألمانيا النازية), وإذن نحن أمام صنف من المجرمين يقوم بجريمته في ظروف تجعل من شبه المستحيل بالنسبة إليه أن يحكم على سلوكه بمعيار الصح و الخطأ أو حتى مجرد الشعور بأنه ما يقوم به هو عمل خاطئ بالأساس. وهذا يعني أن المجتمع ككل دفعه لأن لا يشعر أنه مذنب حيال ما يقوم به, فالمشكلة ليست في ضمير أيخمان , بل في " ضمير" المجتمع الألماني زمن نا جاء معارضتها لقرار المحكمة التي حمّلت أيخمان مسؤولية النظام ككل. ومن هنا نفذت أرندت إلى اتهام الادعاء بالتحيز و التغاضي عن تعاون قادة المجالس اليهودية Judenräte مع النازيين وذا دفعها أيضاً لانتقاد صورة الهولوكوست التي تروج لها الصهيونية فتقول افتراضاً دون أن تستند إلى إثبات واضح " بالنسبة إلى يهودي، فإن دور قادة اليهود في دمار شعبهم هو بلا شك أكثر فصول القصة سواداً".
تركزت الانتقادات لمقولات أرندت على مقدمة منطقية غاية في البساطة , فإذا كان " تفاهة الشر" يتسق مع وصف الجرام نفسها يمكن القول أن جميع جرائم النازيين هي من هذا النوع و بالتالي لا ينبغي محاكمتهم و إدانتهم , في حين نظر البعض إلى إشارتها بتحميل المسؤولية جزئياً على الزعماء اليهود على أنه مثال واضح على فرضية " لوم الضحية" الشائعة , وبالتالي من ها المثال و ذلك يستنتج البعض أن ثمة غموض والتباس في الحدود الأخلاقية لمعنى تفاهة الشر قد يصل إلى العدمية الأخلاقية في سويات حداثية فاقعة " لا يوجد شيء على ما يبدو. ليس هناك حقيقة، ولا أكاذيب، ولا ضحية، ولا قاتل، ولا أحد مذنب، ولا أحد منهم بريء، وليس هناك تسلسل هرمي للقيم، وليس هناك قيمة مُطلقة".
ولكن لكي يكون للكلام معنى, ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن أرندت لم تقل ببراءة النازيين عموماً و أيخمان خصوصاً مما حصل في فترة الحرب, ولذلك ترفض بشدة اعتبار أيخمان مجرد برغي في الآلة النازية, فأيخمان كائن حي بشري و ليس جزء من آلة وهذا يلقي على عاتقه مسؤوليات محددة تجاه مجتمعه و تجاه من يتعامل معم سواء في الوظيفة أو في الشارع أوفي الحديقة ... إلخ وعلى هذا الأساس فهو ملام بشدة, لكن اعتراضها أن أيخمان وقف وحيداً في المحاكمة و ليس النظام بأسره , والملفت للنظر أنه رغم هذا لم تعترض على حكم الإعدام الذي صدر بحقه . كما أنها لم تزعم أن اليهود هم المسؤولون عن إبادة أنفسهم , ورغم أن هذه النقطة ناقشتها أرندت بإيجاز و بعدد قليل من الصفحات, إلا أنها أخذت حيزاً أكبر من قبل معارضيها لتوجيه أصبع الاتهامات لها, وعموماً كان موقف أرندت في تلك الفترة ( 1963) أي بعد نحو 15 سنة من قيام إسرائيلي يتناسب مع المناخ العام السائد في الأوساط اليهودية و الصهيونية و الإسرائيلية لجهة النهج الانتقادي لسلوك قيادة المجالس اليهودية في ألمانيا النازية وكذلك دور الشرطة اليهودية وضد كل من يشتبه في " تعاونه" مع النازيين و توج هذا النهج بصدور قانون معاقبة النازيين و المتعاونين معهم (1950) ، وفي محاكمات السجناء اليهود المتعاونين مع النازيين (العملاء اليهود الذين عملوا في معسكرات الإبادة، وقاموا بدور جواسيس لإحباط أي محاولة يائسة للرفض أو المقاومة، إذ كان يُعدم مَن يتم الإخبار عنهم مع عائلاتهم بشكل فوري) في الخمسينات، وفي محاكمة رودولف كاستنر عام 1955. وأخيراً لم تُلقِ أرندت باللوم على الضحايا أنفسهم، الذين يُفترَض أنهم اقتيدوا إلى الموت “كقطيعٍ من الأغنام نحو المسلخ”. بل على النقيض من ذلك، انتقدت أرندت المدّعي العام جدعون هاوزنر، بسبب سؤاله المتكرر للشهود الناجين، “لماذا لم تحتج؟ لماذا ركبتَ القطار؟ لماذا لم تتمرَّد وتعترض وتهاجِم؟”، وقالت إن هذه الأسئلة سخيفة وقاسية، وتدل على سوء فهم تام للحياة في ظل إرهاب الدكتاتورية النازية القاتل.
....
*ولدت حنّة أرندت في العام 1906 لعائلة يهودية في ألمانيا، ودرست الفلسفة في سن مبكرة. كانت تلميذة مارتن هايدغر وناقشت رسالة الدكتوراه في جامعة هايدلبيرغ تحت إشراف كارل ياسبرز. اعتقلها الغستابو سنة عام 1933 بسب نشاطها الصهيوني، ليطلق سراحها بعد أسبوع ضابط شاب تمكنت من مصادقته. لتهرب إثر ذلك مع أمها إلى باريس حيث أمضت هناك 8 أعوام كلاجئة, وعملت مع منظمة “شباب عليا”، حيث ساعدت في تنظيم الأطفال والناشئين وتدريبهم للهجرة إلى فلسطين. وبعد احتلال فرنسا، اعتقلت أرندت واحتجزت في معسكر غورس في جنوب غربي البلاد، لكنها تمكنت من الهرب في غضون أسابيع. لتغادر البلاد بعد ذلك هرباً برفقة زوجها هاينريش بلوشر سنة 1941 إلى الولايات المتحدة بتأشيرتي لجوء حصلا عليهما من لشبونة. ثم أصبحت مواطنة أميركية في العام 1951 وبقيت هناك حتى وفاتها عام 1975. ساهمت تجربة اللجوء التي عاشتها أرندت كثيراً في نحت فكرها السياسي. ولعبت هويتها اليهودية ومقاربتها المسألة اليهودية دوراً مهماً في هذا السياق. وارتبطت أرندت بمشاعر حب قوية تجاه الصهيونية رغم نقدها لأيديولوجيتها وحدة هجومها على إسرائيل.
** لم تستطع أرندت التوفيق بين رؤيتها الانطباعية لتفاهة أيخمان و رؤيتها الواعية لسلوك الرايخ الثالث الوحشي, وبدلاً من أن تكون قضية أيخمان مقدمة لتعزيز فهمها لمعنى و جوهر الشر , قررت بصورة قاطعة عبر انتقادات شكلية للمحاكمة أن أيخمان شخص تافه و شره أكثر تفاهةً من شخصه دون تحديد واضح لمعنى هذه التفاهة وكأن تفاهة الشر عصية على الفهم و بالتالي لا توجد قضية و لس لأحد أن يحكم فيما إذا كان أيخمان مذنباً أم بريئاً , في الحقيقة فشلت أرندت في اكتشاف الأسباب العميقة لشر أيخمان, بل أصرت أن ترى فيه مجرد موظف يبدو في الظاهر عاديًا، ولكنها لم تر فيه ابن الحزب المنضوي تحت راية النازية و الرايخ و الفوهرر, رغم عدم تقليلها من ذنبه إذ لطالما وصفته بمجرم حرب، كما أيّدت حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة الإسرائيلية. علماً أن ايخمان نفسه يؤكد باعترافاته عن حالة الغموض تلك التي حكمت حكم أرندت عليه فيصف نفسه بالبيروقراطي الحذر المتفهم لدوره الوظيفي دون أن يغفل تعصبه النازي و كونه محارب من أجل حريته التي هي حق مكتسب عليه أن يعيشه و يدافع عنه, وحتى بعد 10 سنوات من ظهورها كتابها بقيت أرندت على موقفهم من عدم رؤية جانب الشر " الأصيل" لدى ايخمان فتصر على أنه لم يكن هناك "أي إشارة على وجود قناعات أيديولوجية حازمة أو دوافع شرّ محددة عنده".
*** لم تكن النّازيّة في الواقع الغربي الأوروبي كنظام شمولي حركة عاديّة، أو ظاهرة سياسيّة طارئة، أو واقعة منقطعة عن جذورها الميتافيزيقية؛ بل كان لها بلا شك أصولها البنيوية التي ترسّبت حتى لو كانت خافية لشدة تجذرها و عمقها، لتخرج فجأةً على هيئة حزب أو معسكر اعتقال وحجز، أو ظاهرة فاشية كبرى في المجتمع ، أو حل عسكري على هيئة محرقةٍ (هولوكوست) .وإذن النازية ليست مجرّد حزب سياسي في ألمانيا، بل هي كما عبّر عنها زيجمونت باومن [الحداثة والهولوكوست]، قدر ميتافيزيقي لحداثة سياسيّة كانت تعمل منذ قرون عدّة، وليس هتلر سوى حُلم تأجّل تحقيقه لصنع قومية ألمانية متخيّلة تسير نحو تلك الحداثة السياسية تقوم على الدمج و الاستبعاد ضمن علاقة حدية تقوم على الـ " نحن" و الـ "هم", فإذا كانت مقولة "الشرّ الجذري" بمثابة شيء ناجز وسابق في الإنسان، فإذن يمكن للنازية أن تكون تحقيقاً لهذا الشرّ الجذري في الإنسان. والوقائع التاريخيّة عموماً عند وقوعها، وخاصّة الشمولية, كالنازية, لا تأخذ حيّزاً نظريّاً كبيراً من التفكّر فيها إلّا بعد وقوعها وليس في لحظة وقوعها. مثل هذا سوف يقودنا للعديد من الأسئلة التي بحاجة لإجابات أكثر عمقاُ و غير أحادية الرؤية من قبيل هل كان اليهود ضحية تنظير فلسفي تمت شرعنته لاهوتياً؟ هل الشر الجذري تجسد أخيراً في النازية؟ وإن لم يكن كذلك لماذا انقلبت حنّة أرندت هي منظرة الفلسفة السياسية على مفهوم الشر لجذري لتستعيض عنه بتعبير تفاهة الشر الذي لا يخلو من الطرافة والغموض والذي أنتجته واقعة سياسية\ أخلاقية محددة.
Nadia Eilabouni
Nadia Eilabouni ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit Nadia Eilabouni und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...