ينعقد مجلسُ الحُكم في ميسوبتاميا، منذ زمن غير معروف، بأعضائه المؤبدين، خلف الزجاج السميك، المتّسخ بلمسات الجماهير الغاضبة، التي اعتادت محاصرة الموقع الرئاسيّ في خريف كل عام منذ عشرين عاماً.
يتراءى أعضاء المجلس وهم يحكّون جِلودَهم المتقرّنة كلحاء شجرة معمَّرة، بمخالب أظفارهم المعقوفة، كان لقمان الحكيم يحكُّ بها جناحيْ نَسرِهِ (لُبَد)، مدة سبعة قرون، كما تقول الأسطورة، كنايةً عن الدهر الذي ابتلى الرجلَ الحكيم بالعيش الطويل؛ وكذلك ظنَّ المحاصِرون في ميسوبتاميا أعضاءَ المجلس، محبوسين في ناقوس زجاجي، يتوارون ويحتجبون كلما احتدمت الأحداث وماجَ الشعب .
تراءت كتلةُ المجلس اللقمانية آخر مرة، ملتمّةً حول طاولة حجرية، تنتصب فوقها شجرة الحُكم، متحجّرة الأغصان أيضاً. يحكّ اعضاءُ المجلس لحاءَ شجرة الحُكم العجفاء وقد غَرَزت جذورَها في تربة الناقوس؛ وكلُّما مرَّ عام أضافَ على سَحنات وجوه الأعضاء شحوبَ الموتى، وأحال شاشةَ الناقوس إلى برّية مقفرة.
تتسلّق جموعٌ متناثرة قبّةَ الناقوس، في مناخ خريفي، تقترب غيومُه البيض من رؤوسهم، فيما حجَرَ الوباءُ أغلبية السكان قيدَ بيوتهم خشية العدوى. لا يصل صوتُ الاحتكاك إلى سمع أعضاء المجلس، كما لا يخترق الزجاجَ حكيكُ الداخل، الذي يهدر كهمهمة حيرى طال احتباسها وتقرّنت أصواتها، في جوّ مكيَّف الهواء.
فيما مضى، يفتح المجلسيّون المؤبَدون نافذةً خفيّة عن الأنظار في الجدار الزجاجي الشاهق، في ساعات النهار الأولى، كي يدخل نور التغيّرات الجوّية، وهديلُ الحمائم- حمائم سفينة نوح- كما تخيّل أحد أصحاب المخالب المتقرّنة، مصرّحاً أنه أحد أبناء الطوفان. ثم تُسَدُّ النافذة مع حلول الليل، فيبدو الناقوس من بعيد، مثل كبسولةٍ عائمة على مياه الطوفان، مضاءةٍ بمصابيح معلّقة في شجرة الحُكم، كاحتفالٍ بعيد ميلاد أحدهم، ممّن بلغ أعتى سنوات العمر.
وقد تُفتح نافذة أخرى، تحت أضواء الكاميرات برغبة التصريح ببيانٍ مهم، حَكّةٍ جلدية طارئة، صوتٍ أيبستْه العزلةُ في الناقوس؛ وعدٍ بأمر عظيم، من مثل: انتخابات حرّة، دستور عصري، حكومة إلكترونية، صندوق تنمية شاملة، إعلام متخصّص، قضاء نزيه، خطّة سكن وضمان صحيّ وتعليم متطور، بيئة نظيفة، أحزاب علمانية. ثم تُغلق بعد انتشار الصوت فوق السطوح كغيمة مشعّة بالخوف واليأس.
عادة ما ينشفُ الصوتُ المجلسيّ المتقرّن، ويتضاءل مثل صورةٍ تلفزيونية قبل عصر البثّ الفضائي، في بيوت السكّان الهاجعين، فيهمد الناقوسُ قبل إكمال سلسلة التصريحات، وتنسحب الأضواء والميكروفونات، خارج الناقوس. ويعمّ سكون المقابر.
ستمرُّ أعوام- بحساب القُرون الميلادية، على البلاد، تعرّش خلالها الأشناتُ على جدار الناقوس، وتعتم النظرةُ حيث يهرم المحبوسون داخله. ومع مرور السنوات يغدو الجِلدُ الحكومي منيعاً على فيروسات وافدة، وأخرى طافرة من السطح الطحلبيّ المعرّش؛ وكذلك جُلود سكّانها الباقين، المتكاثرين في معادلة حسابية انفجارية، في هجومهم الدوري السنويّ على الناقوس، وانسحابهم المخذول بالأماني والوعود.
أمّا العالم الكبير حول نواقيس المجالس الوطنية، فيتراجع الى عصر الكهوف: الطائرات جاثمة في مدارجها كالعناكب. السفنُ جانحةٌ للسواحل. الغلاف الجوي يرسل بشواظّ حارقة. الحدائقُ الباريسية مُدغِلة. غابات ألمانيا أكثر سواداً. قُبَبُ الكرملين مجلّلة بالثلج. الجُزُرُ اليابانية تغطس في البحر. ناطحاتُ سحاب أميركا والصين خرائب موحشة تعمرها الخفافيش بعد المعركة النووية. الأعلامُ الوطنية منكّّسة في كل مكان. وحتى في حساب هذا الافتراض الكوني، يكون ناقوس ميسوبتاميا وحيداً، ناجياً من لعنة القرون، طافياً على المياه، مثل كبسولةٍ فضائية، مضاءٌ بما خزَنَه من طاقة شمسيّة.
في خريف الفترة الدورية السنوية، من الألفية الرابعة، سيطلّ الرئيس، من نافذة الناقوس، وهو نسخة جينيّة من شعبهِ اللقمانيّ المتشابه في الملبس والكلام والعُرض والطُول، ليقرأ أمام الكاميرات الذكية، بياناً، يعرض فيه قائمةً جديدة من المطالب:
- مدُن ألعابٍ لدفع الضجر.
- مستشفيات لتخفيف السُّمنة.
- استوديوهات تصوير لصنع أفلامٍ عن نهاية العالم.
- مطاعم نباتية.
- مدارس لتعليم الخياطة.
- مطابع لتجديد طبعات القاموس اللقمانيّ السائد في التعليم والأوامر والكتابة في الصحف.
وقتَ ذاك، يكون عالمنا الكبير قد صار حكاية، لا رعب فيها ولا قصائد حبّ ترفعها الى مستوى "الديكاميرون" أو "شفرة دافنشي". وهنا، في ميسوبتاميا، يظلّ الزمن اللقمانيّ، بتوقيت الناقوس الزجاجي الكبير، رازحاً كشجرة مليونيّة الطبقات، تظلل بأفرعها مجثمَ العاصمة (وربما تزحزت قبّة العاصمة قليلاً على نحو غير ملحوظ إلى موقع قريب من النهر الدافق كشلال من الجبال البعيدة)، بينما تباطأت الحركة في الساحات المحيطة بالناقوس، وهُجرت الأحياء القديمة (ولا يعلم مواطنٌ طحلبيّ عددَ النواقيس الشبيهة في المدن المحيطة بناقوس الحُكم الدهريّ). وتبدو الشوارع مقفرةً حولها.
في تلك الأثناء من السُّبات اللا إرادي، وتوارد الأخبار من شاشات التلفاز المشتغلة طولَ اليوم، يولد جيلٌ من شعب الناقوس، فالتٌ من الأوبئة والحروب والمجاعات، بقدرة قادر غير أرضيّ، وجينٍ لقمانيّ طافر، لا يستعمل أفرادُه إلا بضعَ مفردات مادّية متناقصة، باقية من القاموس اللقمانيّ، في طبعته الجديدة، منها (كما تتوالى على ألسنة مذيعات التلفاز ومذيعيه الفضائيين): فايروس، مِخلب، عجلة، سكين، مِقصّ، إزميل، دَرَج، نظّارة، قالب أسنان.. إضافة إلى عددٍ أقل من المفردات الجمالية، الفالتة من موطن الحُكم القديم: قانون، شاشة، فيلم، صورة، دِسك، نصّ، نظرية، طفرة، سلام، حبّ..
ومن حول هؤلاء المبعوثين من شعب الناقوس، ينمو العالمُ المتضائل من جديد، وتُولد نسخٌ من قاموس لُقمان، قليلة الصفحات، مُبهمة اللغات، عصيّة على الترجمة والاتصال.
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1056897134723916&id=100012109175548
يتراءى أعضاء المجلس وهم يحكّون جِلودَهم المتقرّنة كلحاء شجرة معمَّرة، بمخالب أظفارهم المعقوفة، كان لقمان الحكيم يحكُّ بها جناحيْ نَسرِهِ (لُبَد)، مدة سبعة قرون، كما تقول الأسطورة، كنايةً عن الدهر الذي ابتلى الرجلَ الحكيم بالعيش الطويل؛ وكذلك ظنَّ المحاصِرون في ميسوبتاميا أعضاءَ المجلس، محبوسين في ناقوس زجاجي، يتوارون ويحتجبون كلما احتدمت الأحداث وماجَ الشعب .
تراءت كتلةُ المجلس اللقمانية آخر مرة، ملتمّةً حول طاولة حجرية، تنتصب فوقها شجرة الحُكم، متحجّرة الأغصان أيضاً. يحكّ اعضاءُ المجلس لحاءَ شجرة الحُكم العجفاء وقد غَرَزت جذورَها في تربة الناقوس؛ وكلُّما مرَّ عام أضافَ على سَحنات وجوه الأعضاء شحوبَ الموتى، وأحال شاشةَ الناقوس إلى برّية مقفرة.
تتسلّق جموعٌ متناثرة قبّةَ الناقوس، في مناخ خريفي، تقترب غيومُه البيض من رؤوسهم، فيما حجَرَ الوباءُ أغلبية السكان قيدَ بيوتهم خشية العدوى. لا يصل صوتُ الاحتكاك إلى سمع أعضاء المجلس، كما لا يخترق الزجاجَ حكيكُ الداخل، الذي يهدر كهمهمة حيرى طال احتباسها وتقرّنت أصواتها، في جوّ مكيَّف الهواء.
فيما مضى، يفتح المجلسيّون المؤبَدون نافذةً خفيّة عن الأنظار في الجدار الزجاجي الشاهق، في ساعات النهار الأولى، كي يدخل نور التغيّرات الجوّية، وهديلُ الحمائم- حمائم سفينة نوح- كما تخيّل أحد أصحاب المخالب المتقرّنة، مصرّحاً أنه أحد أبناء الطوفان. ثم تُسَدُّ النافذة مع حلول الليل، فيبدو الناقوس من بعيد، مثل كبسولةٍ عائمة على مياه الطوفان، مضاءةٍ بمصابيح معلّقة في شجرة الحُكم، كاحتفالٍ بعيد ميلاد أحدهم، ممّن بلغ أعتى سنوات العمر.
وقد تُفتح نافذة أخرى، تحت أضواء الكاميرات برغبة التصريح ببيانٍ مهم، حَكّةٍ جلدية طارئة، صوتٍ أيبستْه العزلةُ في الناقوس؛ وعدٍ بأمر عظيم، من مثل: انتخابات حرّة، دستور عصري، حكومة إلكترونية، صندوق تنمية شاملة، إعلام متخصّص، قضاء نزيه، خطّة سكن وضمان صحيّ وتعليم متطور، بيئة نظيفة، أحزاب علمانية. ثم تُغلق بعد انتشار الصوت فوق السطوح كغيمة مشعّة بالخوف واليأس.
عادة ما ينشفُ الصوتُ المجلسيّ المتقرّن، ويتضاءل مثل صورةٍ تلفزيونية قبل عصر البثّ الفضائي، في بيوت السكّان الهاجعين، فيهمد الناقوسُ قبل إكمال سلسلة التصريحات، وتنسحب الأضواء والميكروفونات، خارج الناقوس. ويعمّ سكون المقابر.
ستمرُّ أعوام- بحساب القُرون الميلادية، على البلاد، تعرّش خلالها الأشناتُ على جدار الناقوس، وتعتم النظرةُ حيث يهرم المحبوسون داخله. ومع مرور السنوات يغدو الجِلدُ الحكومي منيعاً على فيروسات وافدة، وأخرى طافرة من السطح الطحلبيّ المعرّش؛ وكذلك جُلود سكّانها الباقين، المتكاثرين في معادلة حسابية انفجارية، في هجومهم الدوري السنويّ على الناقوس، وانسحابهم المخذول بالأماني والوعود.
أمّا العالم الكبير حول نواقيس المجالس الوطنية، فيتراجع الى عصر الكهوف: الطائرات جاثمة في مدارجها كالعناكب. السفنُ جانحةٌ للسواحل. الغلاف الجوي يرسل بشواظّ حارقة. الحدائقُ الباريسية مُدغِلة. غابات ألمانيا أكثر سواداً. قُبَبُ الكرملين مجلّلة بالثلج. الجُزُرُ اليابانية تغطس في البحر. ناطحاتُ سحاب أميركا والصين خرائب موحشة تعمرها الخفافيش بعد المعركة النووية. الأعلامُ الوطنية منكّّسة في كل مكان. وحتى في حساب هذا الافتراض الكوني، يكون ناقوس ميسوبتاميا وحيداً، ناجياً من لعنة القرون، طافياً على المياه، مثل كبسولةٍ فضائية، مضاءٌ بما خزَنَه من طاقة شمسيّة.
في خريف الفترة الدورية السنوية، من الألفية الرابعة، سيطلّ الرئيس، من نافذة الناقوس، وهو نسخة جينيّة من شعبهِ اللقمانيّ المتشابه في الملبس والكلام والعُرض والطُول، ليقرأ أمام الكاميرات الذكية، بياناً، يعرض فيه قائمةً جديدة من المطالب:
- مدُن ألعابٍ لدفع الضجر.
- مستشفيات لتخفيف السُّمنة.
- استوديوهات تصوير لصنع أفلامٍ عن نهاية العالم.
- مطاعم نباتية.
- مدارس لتعليم الخياطة.
- مطابع لتجديد طبعات القاموس اللقمانيّ السائد في التعليم والأوامر والكتابة في الصحف.
وقتَ ذاك، يكون عالمنا الكبير قد صار حكاية، لا رعب فيها ولا قصائد حبّ ترفعها الى مستوى "الديكاميرون" أو "شفرة دافنشي". وهنا، في ميسوبتاميا، يظلّ الزمن اللقمانيّ، بتوقيت الناقوس الزجاجي الكبير، رازحاً كشجرة مليونيّة الطبقات، تظلل بأفرعها مجثمَ العاصمة (وربما تزحزت قبّة العاصمة قليلاً على نحو غير ملحوظ إلى موقع قريب من النهر الدافق كشلال من الجبال البعيدة)، بينما تباطأت الحركة في الساحات المحيطة بالناقوس، وهُجرت الأحياء القديمة (ولا يعلم مواطنٌ طحلبيّ عددَ النواقيس الشبيهة في المدن المحيطة بناقوس الحُكم الدهريّ). وتبدو الشوارع مقفرةً حولها.
في تلك الأثناء من السُّبات اللا إرادي، وتوارد الأخبار من شاشات التلفاز المشتغلة طولَ اليوم، يولد جيلٌ من شعب الناقوس، فالتٌ من الأوبئة والحروب والمجاعات، بقدرة قادر غير أرضيّ، وجينٍ لقمانيّ طافر، لا يستعمل أفرادُه إلا بضعَ مفردات مادّية متناقصة، باقية من القاموس اللقمانيّ، في طبعته الجديدة، منها (كما تتوالى على ألسنة مذيعات التلفاز ومذيعيه الفضائيين): فايروس، مِخلب، عجلة، سكين، مِقصّ، إزميل، دَرَج، نظّارة، قالب أسنان.. إضافة إلى عددٍ أقل من المفردات الجمالية، الفالتة من موطن الحُكم القديم: قانون، شاشة، فيلم، صورة، دِسك، نصّ، نظرية، طفرة، سلام، حبّ..
ومن حول هؤلاء المبعوثين من شعب الناقوس، ينمو العالمُ المتضائل من جديد، وتُولد نسخٌ من قاموس لُقمان، قليلة الصفحات، مُبهمة اللغات، عصيّة على الترجمة والاتصال.
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1056897134723916&id=100012109175548